المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412283
يتصفح الموقع حاليا : 366

البحث

البحث

عرض المادة

البُـعْـد الصهيـــوني لنظــــرية الأمــــن القومـــي في إســرائيل

البُـعْـد الصهيـــوني لنظــــرية الأمــــن القومـــي في إســرائيل
Zionist Dimension of the Israeli Concept of National Security
تُعَد نظرية الأمن القومي في إسرائيل ذات مركزية خاصة بالنسبة للكيان الصهيوني. فالمشروع الصهيوني مشروع استيطاني مبني على نقل كتلة بشرية لتحل محل الفلسطينيين وتغيبهم (فيما نسميه بمقولة «العربي الغائب») وتلغي تاريخهم وتستولي على أرضهم، وهو ما لن يتحقق إلا من خلال العنف والقوة العسكرية وخلق الحقائق الاقتصادية والسياسية والاستيطانية، وهذا هو الإطار الحقيقي الذي تدور داخله نظرية الأمن الإسرائيلي. وما عقلية الحصار سوى نتاج لهذا الوضع البنيوي، أي أن نظرية الأمن الإسرائيلي والهاجس الأمني يفترض أن الصراع حالة دائمة.


هذا الإدراك يعبِّر عن نفسه في كثير من المفاهيم التي تشكل ركائز نظرية الأمن في إسرائيل التي تدور جميعها حول فكرة إلغاء الزمان والارتباط بالمكان. فهناك فكرة الأمن السرمدي، أي أن أمن إسرائيل مهدَّد دائماً، وأن حالة الحرب مع العرب حالة شبه أزلية، وأن البقاء هو الهدف الأساسي للإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية. وقد عبَّر حاييم أرونسون عن هذه الرؤية في إحدى دراساته بالإشارة إلى ما سماه «حرب المائة عام» (1882 ـ 1982)، أي الحرب الدائمة بين العرب والصهاينة. وهو يذهب إلى أن هذه الحرب لا تزال مستمرة، ويُفسِّر هذا الاستمرار على أساس أن إسرائيل بلد غربي حديث يعيش في وسط عربي لا يزال يخوض عملية التحديث ومن ثم فهو معرَّض للقلاقل ولا يمكن عقد سلام معه. ويتوقع أرونسون أن تستمر الحرب لفترة أخرى إلى حين الانتهاء من تحديث العالم العربي. وقد تحدَّث موشيه ديان عن إين بريرا "لا خيار"، فعلى المستوطنين أن يستمروا في الصراع إلى ما لا نهاية (وأسـطورة ماسـاداه الشمشـونية تعـبير عن هذه الرؤية المظلمة).

وقد استخدم إسحق رابين تعبير "الحرب الراقدة" لوصف العلاقة القائمة بين إسرائيل والمحيط العربي، كما استخدم الكثير من القيادات الإسرائيلية تعبيرات مشابهة مثل تعبير "الحرب منخفضة الحدة"، حيث تشير كلها إلى غياب الحدود الواضحة بين حالة الحرب وحالة السلم في علاقة الدولة الصهيونية بمحيطها.

ويرى كثيرون من أعضاء المؤسسة العسكرية الإسرائيلية أن التوجه نحو السلام مجرد مرحلة انتقالية يلتقط العرب فيها أنفاسهم ليعاودوا القتال (وهو ما أثبته تاريخ الصراع عبر الأعوام المائة السابقة). ومن ثم يصبح من الضروري محاصرة العنصر البشري الفلسطيني وقمعه بضراوة (كما حدث أثناء الانتفاضة، وكما يتبدَّى في المفهوم الإسرائيلي للحكم الذاتي). أما بالنسبة للعرب فلابد من ضربهم باستمرار لبث روح اليأس فيهم وإقناعهم بأن الاستمرار في تبنِّي الصراع العسكري كوسيلة لاستعادة الحقوق غير مجد.

وإذا كان الزمان تكراراً رتيباً لا يأتي بالسلام أو بالتحولات الجذرية، لا يبقى إذن سوى المكان، الثابت الذي لا يعرف الزمان. وبالفعل نجد أن الأرض تشكل حجر الزاوية في الأيديولوجية الصهيونية وفي نظرية الأمن الإسرائيلية، فالأرض الخالية من العرب (بالألمانية: أراب راين Arabrein)، أي من الزمان العربي، هي المجال الحيوي الذي يمكن توطين الشعب اليهودي فيه وتحويله إلى عنصر استيطاني يقوم على خدمة المصالح الغربية في إطار الدولة الوظيفية. وبدون الأرض سيظل الشعب اليهودي شعباً شريداً طريداً، بلا سيادة سياسية أو اقتصادية. والأرض التي يستولي عليها الصهاينة لابد أن تُعقَّم من زمانها التاريخي العربي، لكي تصبح أرضاً بلا زمان، أي أرضاً بلا شعب.

لكل هذا نجد أن نظرية الأمن الإسرائيلية تؤكد البعد المكاني (الجغرافي ـ اللاتاريخي ـ اللازمني) بشكل مبالغ فيه وتهمل البعد التاريخي (الزماني ـ الإنساني) وإن قبلته فإنها تفعل ذلك صاغرة وتحاول الالتفاف حوله تماماً مثلما تلتف الطرق الالتفافية الصهيونية حول القرى العربية. ولذا فنظرية الأمن الإسرائيلي تدور داخل فكرة الحدود الجغرافية الآمنة (ذات الطابع الجيتوي) التي تستند إلى معطيات جغرافية مثل الحدود الطبيعية (نهر الأردن ـ هضبة الجولان ـ قناة السويس). وقد اقترح حاييم أرونسون ما سماه «الحائط النووي»، أي أن تقبع إسرائيل داخل حزام مسلح تحميه الأسلحة النووية. وهي فكرة بسيطة مجنونة، تتجاهل العنصر البشري الملتحم بالجسد الصهيوني نفسه. ولا تختلف فكرة المستوطنات/ القلاع المحصنة كثيراً عن الحائط النووي، وهي سلسلة من المستوطنات التي تحيط بحدود إسرائيل في الضفة الغربية وقطاع غزة ومرتفعات الجولان والنقب، وهي مُستوطَنات أمنية مختلفة عن تلك التي أقيمت لأسباب دينية أو اقتصادية (وهذه المستوطنات تذكِّر المرء تماماً بالشتتلات التي أقامها النبلاء البولنديون [شلاختا] للملتزمين [أرنداتور] اليهود كي يحتموا بها ضد هجمات الفلاحين الأوكرانيين). وتحافظ هذه المستوطنات على العمق الإستراتيجي للمراكز البشرية والاقتصادية وتحول دون تعرُّض إسرائيل للهجمات العربية، كما أنها تحقق النصر في حالة الهجوم بأقل قدر ممكن من الخسائر في الجانب الإسرائيلي، وتوفر الفرصة للقوات الإسرائيلية للقيام بأعمالها الانتقامية والتوسعية في الدول العربية المجاورة.

وتأكيد عنصر الأرض يظهر في انشغال التفكير العسكري الإسرائيلي بمحدودية العمق الإستراتيجي للدولة الصهيونية، فإسرائيل في التصور الصهيوني كلها منطقة حدودية، ومن ثم لا يمكن السماح مطلقاً بأن تدور الحرب في أرض إسرائيل. ولذا لا يوجد مكان لعقيدة دفاعية في الفكر العسكري الإسرائيلي، نظراً لأن أيَّ فشل في العقيدة الدفاعية سيؤدي حتماً إلى اختراق إسرائيل نفسها. ومما عمق هذا الإحساس إدراك القيادة الإسرائيلية ضعف القاعدة السكانية الإسرائيلية بالنسبة للقوة البشرية العربية. ومن هنا ضرورة تفادي الحرب الفجائية وضرورة تحصين الحدود بعدد من المُستوطَنات (كما أسلفنا) وضرورة السبق لتوجيه الضربة الأولى من خلال حرب خاطفة لتجنب الحرب الطويلة والحرب الاستنزافية (لأن إسرائيل لا تتحمل التعبئة العسكرية الشاملة لفترة طويلة)، وضرورة إلحاق خسارة فادحة سريعة بالطرف العربي المهاجم لئلا تُجبَر إسرائيل على تقديم تنازلات سياسية أو إقليمية.

وإزاء مشكلة غياب العمق الإستراتيجي للكيان الصهيوني يُحدِّد الفكر العسكري الإسرائيلي ما يُسمَّى «ذرائع الحرب» على نحو فريد. فالدولة الصهيونية تعتبر كل دولة عربية مسئولة عن أي نشاط فدائي ينطلق من أراضيها، وازدياد هذا النشاط يُعَد ذريعة من ذرائع الحرب. ويضاف إلى هذا الذرائع التالية:

1 ـ قيام حشود عسكرية عربية على أي جانب من حدود إسرائيل.

2 ـ تغيير ميزان القوى العسكرية على حدود إسرائيل الشرقية نتيجة دخول قوات دولة أخرى إلى الأردن، أو قيام وحدة سورية الطبيعية أو إنشاء أو قيام دولة فلسطينية معادية على حدود إسرائيل.

3 ـ تهديد الأمن الإسرائيلي بسبب حصول الأطراف العربية على أفضلية نوعية في سباق التسلح (مثل التسلح النووي).

4 ـ إغلاق المضائق أو الممرات المائية، أو أية خطوط بحرية أو جوية.

5 ـ تحويل مصادر المياه في لبنان أو في الجولان أو الأردن بطريقة ترى إسرائيل أنها تهدد الأمن الإسرائيلي.

لقد حددت الحركة الصهيونية فكرة الأمن بشكل جغرافي وأسقطت العنصر التاريخي، وتصوَّرت أنه عن طريق الاستيلاء على قطعة ما من الأرض أو على هذا الجزء من العالم العربي أو ذاك وعن طريق التحالف مع الولايات المتحدة والقوة العسكرية فإنها تحل مشكلة الأمن وتصل إلى الحدود الآمنة. ولكن الانتصارات الإسرائيلية التي كانت ترمي لتحقيق الأمن كانت تؤدي إلى نتيجة عكسية على طول الخط، حتى وصلت التناقضات إلى قمتها مع انتصار 1967، وكان لابد أن تُحسَم هذه التناقضات، وهو الأمر الذي أنجزت القوات المصرية والسورية يوم 6 أكتوبر 1973 جزءاً منه. ثم اندلعت الانتفاضة لتُبيِّن العجز الصهيوني.

ومع هذا تجدر الإشارة إلى أنه ثمة اختلافات داخل المعسكر الصهيوني في مدى هيمنة مقولة الأرض. ويمكن القول بأن صهيونية الأراضي (الليكودية) تعبير عن هذا التمركز الشرس حول الأرض وإهمال الزمان والتاريخ. أما الصهيونية الديموجرافية أو السكانية (العمالية) فهي تعبير عن إدراك الوجود العربي والزمان العربي وربما استعداد للتعامل معه، وإن كان التعامل يظل في إطار المطلقات الصهيونية، وهي أن أرض فلسطين، أي إرتس يسرائيل في المصطلح الصهيوني، هي ملك خالص للشعب اليهودي وحده (كما تنص على ذلك لوائح الوكالة اليهودية والصندوق القومي اليهودي). ولكن إن اختلف الصهاينة بشأن بعض التفاصيل فثمة إجماع صهيوني راسخ بأن أمن إسرائيل يتوقف على الدعم الغربي لها، وبخاصة الدعم الأمريكي، ولذا لا يوجد أي اختلاف بشأن هذه النقطة.

والحقيقة التي فاتت الزعامات الصهيونية أن أمن إسرائيل يمثل مشكلة كيانية لأن إسرائيل كيان مزروع بلا جذور، ممول من الخارج من قبل يهود الغرب والدول الإمبريالية الغربية، لا يتفاعل مع الواقع التاريخي العربي المحيط به. ولكي تُدافع إسرائيل عن أمنـها، أي كيانها، يضطر الكيان الاستيطاني الشاذ إلى أن يعسكر نفسه عسكرة تامة ليتحول إلى المجتمع/القلعة الذي تجري العسكرية في عروقه والذي لا توجد فيه أية فواصل بين الشعب والجيش. وما تنساه الزعامات الصهيونية أنه بغض النظر عن مقدار الأمن الذي سيصل إليه هذا المجتمع وبغض النظر عن حجم انتصاراته فإن عليه أن يخوض الحرب تلـو الحرب ليدافـع عن أمنه "المهدد" وذلك بسـبب الحركة الطاردة في المنطقة. لقد بدأ الاستيطان الصهيوني مستنداً إلى أسلوب المستوطنات ذات السور والبرج وعاش المستوطنون داخل هذا الأمن المؤقت يحلمون بالأمن النهائي. وقد صعَّدت المؤسسة الصهيونية آمالهم بأن "السلام سيحل عن قريب" وخاض المستوطنون، ومن بعدهم الدولة الصهيونية، عدة حروب ليصلوا إلى الأمن النهائي والحدود الآمنة إلى أن وصل يوم 6 أكتوبر 1973 وكانوا لا يزالون واقفين وراء قناة السويس خلف سور وبرج كانا يعرفان باسم «خط بارليف» الذي كان يحيط بالحدود الآمنة المفترضة. ثم تحولت إسرائيل بأسرها إلى أسوار وأبراج وطرق التفافية يحيط بها حزام أمني في لبنان وسلسلة من المستوطنات في الجولان، ومعابر مسلحة مع السلطة الفلسطينية.

وعبور القوات المصرية والسورية في أكتوبر وانتفاضة الفلسطينيين التي استمرت بشكل حاد حوالي ستة أعوام (ولا تزال مستمرة في صور أخرى في المجتمعات وبعض النقاط الساخنة) واستمرار المقاومة اللبنانية بدرجات متفاوتة من الحدة أثبت أن نظرية الأمن الإسرائيلي، كما حددتها المؤسسة العسكرية، لا أساس لها ولا سند، فسقطت أجزاء كبيرة من العقيدة الصهيونية وانكشف الغطاء عنها.

إن التعريف الصهيوني للأمن شجرة عقيم، فالحدود الجغرافية الآمنة لا يمكنها أن تهزم التاريخ، والأمن لا يتحقَّق داخل المكان وحسب، عن طريق الآلات والردع التكنـولوجي، وإنما يتحقَّق داخل الزمان، فالأمن الدائم والنهائي والحقيقي علاقة بين مجموعات بشرية تعيش داخل الزمان وليس أسطورة لا تاريخية تُفرَض عن طريق الردع التكنولوجي. والدولة الصهيونية غير قادرة على تحقيق الأمن لشعبها أو للآخرين. ومع هذا نجحت في إقناع المؤسسة الحاكمة الجماهير الإسرائيلية أنها لا يمكن أن تتعايش إلا داخل الكيان الصهيوني الشاذ، وعلينا أن نثبت أن العكس هو الصحيح، فصهيونية هذا الكيان هي السبب في انعدام أمنه وهي السبب في الزج بالجماهير الإسرائيلية في حروب متتالية، فلا أمن إلا من خلال إطار ينتظم كل سكان المنطقة ولا يستبعد الإسرائيليين أو الفلسطينيين. أما الأمن الذي يتجاهل الواقع فهو أمن مسلح مؤقت، هو سلام مبني على الحرب يهدف إلى فرض الشروط الصهيونية.

إن الصهيونية تَصدُر عن رؤية تفترض انفصال اليهودي عن الأغيار ووحدته مع كل يهود العالم، وتحاول الدولة الصهيونية أن تترجم هذا الافتراض إلى حقيقة. فإسرائيل تحاول أن تظل بمعزل عن حركة التاريخ في منطقة الشرق العربي وتتحرك في إطار فكرة وحدة «التاريخ اليهودي»، ولذلك فهي تمنع الفلسطينيين من العودة إلى ديارهم ولكنها في الوقت نفسه تقوم بالحملات المسعورة لتهجير يهود الاتحاد السوفيتي (سابقاً)، ثم تبحث عن "الأمن" بعد هذا. وعلى العرب أن يثبتوا للإسرائيليين أن السير عكس الاتجاه الصهيوني هو المخرج الوحيد، أي دولة تعبِّر عن حركة التاريخ في المنطقة وتنتظم كل سكان فلسطين بغض النظر عن انتمائهم الديني أو العرْقي، دولة منفصلة عن ديناميات «التاريخ اليهودي» الوهمية متحرِّرة من التصوُّرات الخاصة بـ «وحدة الشعب اليهودي» في كل زمان ومكان.

وقد شبَّه أحد الكتَّاب الإسرائيليين نظرية الأمن بأنها عبادة وثنية للعجل الذهبي (الشيء ـ المكان) الذي رقص حوله اليسرائيليون والعبرانيون مهملين عبادة الله الحق، المتجاوز للطبيعة والمادة والمكان.

  • الثلاثاء AM 11:36
    2021-05-18
  • 1286
Powered by: GateGold