المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 440024
يتصفح الموقع حاليا : 196

البحث

البحث

عرض المادة

مقال بحثي: طوفان الأقصى بعين التوحيد (عن المعرفة والتوحيد والطوفان)

مقال بحثي بعنوان

طوفان الأقصى بعين التوحيد

عن المعرفة والتوحيد والطوفان

إعداد: فاطمة محب

إهداء:

إلى كل مجاهد في (طوفان الأقصى) : تعلّمونا وتلهمونا يوميا وتستحثون فينا السعي، جزاكم الله عن أمتكم وعن الإسلام خيرا، حفظكم الله، آواكم الله، نصركم الله.

١- المقدمة                  

مع تسارع وتيرة الحياة وتزاحم أحداثها وتناقل الأخبار بسرعة يعجب لها من عاصر أحداثا مماثلة منذ ستين عاما فقط أو أقل، وفي ظل موجات الانحرافات الفكرية والهشاشة النفسية التي تكاد تطال كل بيت في مجتمعاتنا اليوم، ألفنا سماع نغمة من النسبية والسيولة يدندن بها الشباب ويصبغون بها كل معرفة، الأمر الذي نتج عنه التشكيك في أي يقين، وأعني بالتشكيك في اليقين أمرين: التشكيك في وجود يقين من الأساس، والتشكيك في إمكان تحصيل معرفة يقينية عن هذا الموجود يقينًا إن سلّمنا بوجوده.

هي نغمة لا ينبغي أن تصدر عن مسلم يرى الكون بعين التوحيد، ولا ينبغي أن تصدر عن عاقل يتعامل مع مجريات حياته اليومية بقدر من اليقينية إذا كفر به جنّ عقله وتعطلت حياته!

وهذه القراءة المغلوطة عن إمكان تحصيل المعرفة اليقينية تظل كامنة نوعا ما إلى أن ينشطها حدث عظيم، وما أعظم طوفان الأقصى!

حدث يرغم -هو وتداعياته- المرء منا على اجترار كل مخزونه من اليقين، يستحث فينا اليقين لنقبل الأهوال التي نرى، ولنفهم الأحداث، ولنرى الغيب في عالم الشهادة، ولتثبت أفئدتنا، ولنوقن بأن ثمة مشاركة تنتظر كل منا، وليجد الفرد ميدان جهاده ولو بعد مئات الأميال عن ميدان المعركة ثم ليلزم ثغره مرابطا صابرا محتسبا.

من يدّعي أنه يقدر على هذا كله بغير يقين؟!

جاء الطوفان ليجرف معه كل قراءة مائعة تخالف فلسفة المنظور الإسلامي البيّنة للوجود والحياة والسعي والنصر، وليُظهر الحق على الباطل، وذلك لمن أراد تحري الحق والبحث عن الحقيقة واتباعها والتسليم لخالقه تسليما يليق بوحدانيته وعزته وجلاله.

ومن خلال هذا المقال البحثي، نعرض إمكان المعرفة اليقينية والمنظور الإسلامي لهذا المبحث من مباحث نظرية المعرفة، ثم نعرض كيف يدلنا هذا الإمكان على التوحيد دلالة حتمية، ومن ثمّ كيف تعيننا نظارة التوحيد على قراءة المشهد المحتدم لطوفان الأقصى قراءة تعين على الفهم المؤدي إلى العمل بإذن الله. 

(٢)

ما المعرفة؟ وأين يقع مبحث (إمكان المعرفة) من نظريتها؟

لسنا بصدد الإبحار في نظرية المعرفة في مقالنا هذا، لكننا نحتاج إلى الوقوف على نقاط مختصرة مهمة نتفق عليها معا قبل الولوج في صلب موضوعنا، وهي:

* المعرفة لفظة بلا تعريف واحد قاطع، وإنما اجتهد المنشغلون بها في وضع تعريفات لها، ويمكننا الاتفاق على أن المعرفة هي الاعتقاد الصادق المسوغ، وأن الركن الأهم فيها هو الصدق.

* لنظرية المعرفة تاريخ طويل من بحث المهتمين الذي أنتج مؤلفات مهمة، ومباحثها الرئيسة ثلاث:

١- إمكان المعرفة

٢- مصادر المعرفة

٣- طبيعة المعرفة

إذًا، عندما نذكر إمكان المعرفة فإننا نتحدث عن أحد المباحث الرئيسة لنظرية المعرفة، وموضوعها تناوله العديد من الفلاسفة والعلماء من الشرق والغرب، وشأنها شأن باقي مباحث النظرية، ينظر لها المسلم نظرة خاصة لا ينبغي أن تشبه نظرة غيره.

أرى هذه الإشارة كافية وأننا الآن مستعدون للحديث عن صلب موضوع مقالنا بعناصره الثلاث:

- إمكان المعرفة ضرورة وجودية

- التوحيد أصل المعارف اليقينية

- طوفان الأقصى بين قراءة الموحد وغير الموحد

أما لمن أراد الاستزادة في مباحث نظرية المعرفة، أرشح كتاب "مدخل إلى نظرية المعرفة" لأحمد الكرساوي.

بسم الله نبدأ.

—---------

٢- إمكان المعرفة ضرورة وجودية

انقسم المنشغلون بنظرية المعرفة إلى اتجاهين فيما يخص إمكان المعرفة:

١- اتجاه شكي: ينفي القدرة على تحصيل معرفة يقينية

٢- اتجاه اعتقادي: يثبت القدرة على تحصيل معرفة يقينية

وما يهمنا هو المنظور الإسلامي لإمكان المعرفة، فما هو؟

المنظور الإسلامي يقدم رؤية تتفق مع الفطرة والعقل والوحي، وهي الرؤية الصحيحة لا ريب، وهي أن تحصيل المعرفة اليقينية ليس ممكنا فحسب بل هو ضرورة عقلية وتاريخية ووجودية، فالتشكيك في المبادئ العقلية الضرورية -على سبيل المثال- إما سفسطة أو جنون، فمدّعي الاتجاه الشكي لا يجزم بأن الأبيض والأسود لا يجتمعان مثلا، ولا بأن واحدا زائد واحد لا يمكن أن يساوي إلا اثنين، ولا يجزم بأن ما يراه بعينه موجود على الحقيقة، ولمثل هؤلاء نقول ما قاله ابن حزم في "الفصل في الملل والأهواء والنحل": " قولكم أنه لا حقيقة للأشياء حق هو  أم باطل؟  فإن قالوا أنه حق أثبتوا حقيقة ما، وإن قالوا ليس هو حقا أقروا ببطلان قولهم وكفوا خصمهم أمرهم"

والقول -على إجماله- إلا إنه إلزام تام لهؤلاء التشكيكيين، وأقول بأن تبني أي عاقل لعدم إمكان تحصيل معرفة يقينية يفوح بالسفسطة والكِبر والزيف، فكيف له أن يسيّر حياته إن كانت منزوعة اليقين كما يدّعي؟ هل إذا بذر في التربة بذور المانجو قد ينتظر شجرة من الموز أو البازلاء أم أنه يكون على يقين بأن الثمار ستكون ثمار مانجو وعلى هذا الأساس يرتب مواعيد الحصاد وبيع المحصول لتجار المانجو تحديدا؟ هل إذا وضع كوبا فارغا تحت صنبور ماء ليملؤه قد ينتظر ساعة حتى يمتلئ فيعتذر عن موعد له خلال ساعة ليتفرغ لملء الكوب أم أنه يكون على يقين بأن الأمر لن يستغرق سوى بضع ثوان يباشر بعدها مهامه؟

هل  يعق أبويه لأنهما ربما يكونان ليسا أبويه؟ وهل يترك ولده بغير طعام ولا شراب أسبوعا لأنه ليس على يقين بأن هذا يهلكه؟

تفاصيل لا حصر لها تنطق بأن إمكان تحصيل معرفة يقينية ضرورة وجودية بالمقام الأول، لا غنى عنها ولا يقدر أحدنا على الحياة يوما واحدا وهو يكفر بها،

فإلامَ تقودنا المعرفة اليقينية؟

—---------

٣- التوحيد أصل المعارف اليقينية

إن اليقين في وجود الله -سبحانه وتعالى- الواحد الأحد هو أصل المعارف اليقينية ومبتداها ومنتهاها، فإذا سلّمنا بضرورة اليقين، نجد هذا التسليم يقودنا إلى منبعه: وجود خالق واحد لهذا الكون، وإثبات الصفات الكاملة له وحده، وهذا جوهر التوحيد، فلنر كيف تتكاتف الأدلة بأنواعها لتجعلنا متشبعين بحقيقة التوحيد تشبعا معرفيا ووجدانيا يقينيا..

استكمالا للاستدلال بنظرية المعرفة، فالمبحث الثاني فيها "مصادر المعرفة" ولا يهمنا الآن عرض الاتجاهات المختلفة بشأنها، لكن المهم هو أن مصادر المعرفة في المنظور الإسلامي هي: الخبر والحس والعقل، وقد تضاف إليها الفطرة أو نضمّنها مصدر العقل، ومن المهم كذلك التأكيد  على أن هذه الرؤية لمصادر المعرفة هي الأشمل على الإطلاق بين باقي الاتجاهات، مما يعني أننا إن أثبتنا التوحيد من خلال هذه المصادر المعرفية المذكورة فإنه لا احتمال لإثبات ضد التوحيد من خلال أي مصدر آخر لأنه ببساطة غير موجود،

فكيف تقودنا كل مصادر المعرفة إلى التوحيد؟

نستعرض فيما يلي بعض الأدلة التي تندرج تحت كل مصدر:

أولا: الأدلة الفطرية على وجود الله:

كل مخلوق قد فُطِرَ على اليقين بوجود خالق واحد لهذا الكون، ومن يحيد عن هذا فقد انتكست فطرته وطرأ عليها ما أفسدها، ويكفينا باعتبارنا مسلمين قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم - :  (ما من مولود إلا و يولدُ على الفطرة، فأبواهُ يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه ) رواه البخاري .

وأحب تقسيم دكتور عبد الله العجيري -حفظه الله - لمستويات دلالة الفطرة على وجود الله، لأنه تقسيم يستوعب استدلال المسلم وغير المسلم، لذلك أقتبس منه عناوين المستويات وأدرج تحتها رؤيتي باختصار:

١- دلالة المبادئ العقلية الأولية

مثل: مبدأ السببية، وعدم اجتماع نقيضين، وغيرها،

فهي مبادئ مشتركة بيننا، لا ينكرها عقل، العلم بها ضروري لا مكتسب، ويستدل بها ولا يستدل عليها، وكلها تقودنا إلى وجود الله،

وهذه الآية تتجلى فيها دلالة المبادئ العقلية الأولية: " أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) " الطور

- أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ: من يقول بهذا ينكر مبدأ السببية

- أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ: ومن يقول بهذا يجمع نقيضين بأن يكون المخلوق خالقا في الوقت ذاته وبالتالي يقع في مغالطة التسلسل أو الدور الممتنع، فإذا عرفنا أن الخالق مخلوق فمن خلق الخالق؟ وهو سؤال فاسد من الأساس إذ أن الخالق لا يُخلَق

والدلالة الفطرية لها أثر عجيب في القلب، ولهذا لما سمع جبير بن مطعم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ سورة الطور فبلغ هذه الآيات: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون* أم خلقوا السماوات والأرض بل لا يوقنون}(الطور: 35-37).

وكان جبير يومئذ مشركًا قال: "كاد قلبي أن يطير، وذلك أول ما وقر الإيمان في قلبي" رواه البخاري .

٢- دلالة النزعة الأخلاقية

من المعضلات في القرنين الأخيرين محاولة إيجاد منظومة أخلاقية متماسكة خارج إطار الدين، فالنزعة الأخلاقية مكوّن فطري في الإنسان، ولولا كونه فطريا لما كان كل هذا الجدل حوله،

ففي حين رأى البعض ومنهم (ديكارت) إمكان وجود أخلاق صالحة خارج منظومة الدين، قابل طرحه هذا آراء فلاسفة وكتّاب كثر دينيين ولا دينيين ولا أدريين نقضوا نظريته ديكارت.. نكتفي بذِكر شيء من أقوالهم:

⬅ "إذا كان الله غير موجود فإن كل شيء مباح" عبارة ذكرها الكاتب الروسي "ديستويفسكي" على لسان أحد أبطال روايته" الأخوة الأعداء"، ثم اقتبسها الفيلسوف الأمريكي "فيليب كوين" في دفاعه عن النظرية القائلة بأن الأخلاق لا تأتي إلا بأمر إلهي.

⬅ يقول "برلنسكي" وهو باحث أمريكي لا أدري: "إذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن ما ينبغي أن يكون هو ببساطة ما يقرره الرجال والنساء، ولا يوجد مصدر آخر للحكم" 

 ⬅ يقول "تشارلز دكنز" مدافعًا عن الإجهاض واصفًا إياه بأنه (فعل أخلاقي) في تغريدته : "لأن الجنين في بطن أمه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ".

وهكذا نجد النزعة الأخلاقية مرتبكة في ظل غياب الإله، إذ بغيابه يغيب المعيار والمآل،

فأي أخلاق حسنة وأيها سيئة؟ ومن الذي يحدد هذا؟ ما معنى الاستقامة؟ وعلى أيّ صراط تكون؟ وما معنى الميل؟ ما ثواب اتباع الصراط المستقيم؟ وما جزاء الحيد عنه؟ إن كانت الاستقامة اليوم نافعة للمرء منا ثم ضرّته غدًا في دنياه فما يكون موقفه الصحيح تجاهها؟ وإن نفعته في مصر مثلا ثم سافر إلى سويسرا ولحق به أذى بسببها هل يستمر عليها أم يتركها في حقيبة أمتعته حتى إذا عاد إلى مصر مرة ثانية أزال من عليها التراب وعاود استخدامها؟

الحقيقة أن البحث في سؤال الأخلاق مع إقصاء الدين أمر عبثي، لأنه من العبث محاولة تحكيم المادة فيما يتجاوزها، ومن هذا المنطلق أقرّ الفيلسوف الأمريكي اللا أدري (توماس نيجل) في كتابه (العقل والكون: لماذا يكاد يكون التصور المادي الدارويني خطأ قطعًا؟) بقوله: "إن هناك ثلاثة عناصر تعجز الرؤية المادية الكونية أن تقدّم تفسيرًا لها، وهي: الوعي، والإدراك، والقيم الأخلاقية".

وكل هذا يدفع الإنسان الصادق دفعا إلى الاستدلال على وجود الله، فالصادق لا يمكنه إنكار وجود النزعة الأخلاقية داخله، ولا يقدر على إخراس صوتها، وإن اتبعها لقادته إلى وجود خالقها وخالقه لا محالة، وإلا فقدت معناها وماهيتها وفقدنا القدرة على تفعيلها والعيش بها.

٣- دلالة الغريزة

تعرف الغريزة بأنها "التصرف الفطري تجاه سلوك أو نمط معين من السلوكيات" وهي الجزء الأكبر للسلوك الوراثي، فمن فطر الإنسان عليها؟ وهل تمكن العلم التجريبي من فهمها و دراستها بعيدا عن الإيمان بوجود إله؟

أقصى ما توصل إليه العلم التجريبي مثلا تجاه غريزة (الأمومة) أن سببها (الچين الأناني) ويمكنك مراجعة كتاب" The Selfish Gene " لريتشارد دوكينز لفهم المزيد عن الچين الأناني لدى التطوريين، لكن باختصار هم يدّعون بأن خوف الأم على صغارها ورحمتها بهم يرجع لكونهم امتدادها وهذا سلوك واجب كي تمتد چينات الأم وتتكاثر ولا تنقرض!

لك أن تتخيل درجة تسطيح هؤلاء لإحدى أعظم جماليات المرأة وأحد أهم أدوارها منذ خلق الله البشرية إلى قيام الساعة!

كذلك يدّعون بأن إنشاء النحلة لخليتها ماهو إلا نمط سلوكي بُرمِجَت عليه للحفاظ على العسل، والسؤال من المبرمِج؟ كالعادة ينضم السؤال إلى باقي سلسلة أسئلة "مَن؟" التي لا يجيبون عليها ويكتفون بتقديم بعض الأطروحات تصلح بالكاد - وأحيانا كثيرة لا تصلح- جوابا لأسئلة "كيف؟"

وكما جرت العادة فإن هناك من نقد هذه الأطروحات الداروينية عن الغريزة من غير أهل التوحيد، ومن أقوال هؤلاء نذكر على سبيل المثال لا الحصر:

- "لو تساءلنا عن كيفية ظهور أول سلوك غريزي وعن كيفية توارث هذا السلوك الغريزي لما وجدنا أية إجابة"

من كتاب "The great evolution Myster"

Gordon Taylor Rottary للعالم الچيني

- "إن فكرة اتخاذ الأوراق الثابتة المتعددة كوسيلة للتمويه فكرة باهرة، ترى من يكون صاحب هذه الفكرة؟ من صاحب هذه الفكرة الذكية التي تقلل من احتمال عثور الطير على الفريسة التي يبحث عنها؟ ولا بد للدودة أن تكون قد تعلمت بالوراثة من صاحب هذه الفكرة الذكية…كل هذه الظواهر لا بد أن تتوفر لدى إنسان ذكي للغاية يحاول أن يظل على قيد الحياة ولا بد لنا أن نقبل بهذه الحقيقة، علماً أن لدودة القز جهازاً عصبياً بسيطاً للغاية فضلاً عن بدائية سلوكها الحياتي، وتفتقر هذه الدودة إلى القدرة على قابلية تحديد هدف معين والتحرك باتجاه هذا الهدف.

ولكن كيف يتسنى لهذه الدودة أن تخترع هذه الوسيلة للدفاع عن نفسها وهي بهذا الضعف من التكوين؟"

قالها Haimar Von Dithfurth أحد دعاة نظرية التطور تعليقا على سلوك دودة القز.

إذًا، لا مفر من وجود إله فطر الإنسان والحيوان والنبات على غرائزهم، أودعها فيهم وهداهم إلى تكرار أنماط معينة من السلوك سواء كانوا يفقهونها أو لا يفقهون، فمن ينكر دلالة وجود الغريزة على الخالق؟

٤- دلالة الشعور بالغائية

من منّا لم يسأل نفسه ذات يوم: من أنا؟ وما الغاية من خلقي؟ وما رسالتي التي ينتظرها العالم مني؟ لماذا أنا هنا اليوم؟ ولماذا يوما ما سأموت ولن أعود هنا؟ ما أثي أفعالي في هذه الدار على حياتي في الدار الآخرة؟

أسئلة فطرية ما تفلّت منها أحد، وللتفاعل معها أمام الإنسان طريقان لا ثالث لهما: إما أن ينكر على نفسه طرحها من الأساس ويتعامل مع نفسه باعتباره (مادة) تحدث لها مجموعة من التفاعلات، ثم بعد الموت يكون عدمًا أو ترابا كالأنعام، وإما أن يحترم سؤاله ويتبعه ويبحث عن إجابات صادقة تخاطب فطرته وتقنع عقله وتشبع نفسه وحينئذ يجد الله الخالق الواحد الأحد.

والغاية من خلق الإنسان مذكورة في غير آية في القرآن الكريم، مثل:

-"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ" {الذاريات:56-57}

 -"الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" {الملك:2}

-" إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا* إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا "{الإنسان:3}

 -"أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ* فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ "{المؤمنون:116}

الشعور بالغائية على الرغم من أصالته في الإنسان إلا إنه تحت مجهر غير الموحّد شأنه شأن الكائنات الدقيقة وحيدة الخلية التي ستعيش وتموت على هامش الحياة لا يهتم لوجودها أحد بل لا يراها من الأساس، وهنا يتجلى التوحيد جوابا شافيا وحيدا على كل سؤال فطري.

٥- دلالة الإرادة الإنسانية الحرة

" لو أن أحدكم همَّ بإزالة الجبل وهو واثق بالله لأزاله"

قبل أن أذكر قائل العبارة السابقة، هل يمكنك توقع مجرد احتمال ضئيل جدا لأن يكون قائلها داروينيا مثلا أو حتى يؤمن بوجود الله لكنه يشرك به غيره؟

قطعًا لا، فالعبارة لابن القيم يتجلى فيها معنى الإرادة الإنسانية الحرة التي لا تنفك عن عون الله ومدده، أما غير الموحد فهو لا يرى في مد يدك مثلا لتحريك الطاولة إلا إشارة من المخ إلى اليد بهذا الأمر، لذلك فهي تصنع إنسانا منزوع الإرادة وبالتالي منزوع المسؤولية، أما من يؤمن بأنه فُطِر على وجود هذه الإرادة الحرة فإنها توصله إلى خالقها وهاديه إليها ومعينه بها: الله لا شريك له، والطرح الإسلامي هو الوحيد الذي يثبت للإنسان إرادته، وهو الوحيد الذي يتعبد الإنسان من خلاله بأن يستعيذ من مثبطات هذه الإرادة كالعجز والكسل، وهل ثمة دلالة أوضح من هذه على التوحيد؟

ثانيا: الأدلة الحسية على وجود الله:

وهي ما تدركه الحواس، ولن أطيل الحديث عنها لأنها أوضح من أن تحتاج إيضاحا وشرحا، فالأدلة التي نراها ونسمعها ونلمسها ونشمها ونتذوقها يوميا لا حصر لها.

ويمكنني تقسيم الأدلة الحسية إلى ثلاثة أقسام:

١- ما تدركه حواسنا من خلق الله

ننعم بالسماء والأرض وما فيهم من جبال وصحراء ونبات وبحار وأنهار وحيوان وطير...إلخ، كما ننعم بأعيننا وآذاننا وأيدينا وأرجلنا... إلخ،

فمن خالق كل هذا؟ خُلقوا من غير شيء أم هم الخالقون؟ وهل تقدم أي نظرية إلحاديا جوابا واحدا عن الخالق؟

بالطبع لا، وإنما بتأمل صادق بسيط في الكون كذلك الذي تأمله الخليل إبراهيم -عليه السلام- بتجرد تام للحق، نجد أن كل ما في الكون يدلنا على خالقه، على وجوده وكمال صفاته، وتفصيل هذا سيأتينا في تناول الأدلة العقلية.

٢- المعجزات الحسية للأنبياء والكرامات الحسية للصالحين

وما أكثر معجزات الأنبياء من عصا موسى وسفينة نوح وشفاء عيسى للمرضى بإذن ربه ونار إبراهيم -عليهم جميعا السلام- وغيرها وصولا إلى معجزات النبي -صلى الله عليه وسلم - وعلى رأسها معجزة القرآن الكريم، ثم معجزات تكثير الطعام وانشقاق القمر والإسراء والمعراج وسماعه لأهل القبور وغيرها.

و المعجزة هي الشيء الخارق للعادة، فمن يقدر على خرق العادة غير الخالق لها المغيّر لها ب"كن فيكون"؟

٣- إجابة دعاء البشر عموما والأنبياء خصوصا

فلما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يغيث الخلق ، قال اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، ثم نشأ السحاب ، وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، أليس هذا دليلا دامغا على وجود الخالق؟

وكذلك عندما دعا النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن يعز الإسلام بأحد الرجلين أبي الحكم بن هشام وعمر بن الخطاب فأجابه ربه وأعز الإسلام بابن الخطاب ونشهد آثار هذه العزة إلى يوم القيامة

ولا يخفى علينا قول سيدنا زكريا -عليه السلام- مناجيا ربه "ولم أكن بدعائك ربّ شقيّا" ففيه الدلالة على علاقة طويلة بينه وبين ربه من الدعاء والإجابة.

وغير ذلك من الدعاء الذي يجيبه رب العزة، فهل غير الإله الواحد يسمع دعاء عباده ويجيبه؟

والأمر لا يقتصر على دعاء الأنبياء، وإنما لكل منّا حبله الموصول مع ربه، على تقصيرنا وإسرافنا في أمرنا، لكنه القريب المجيب، فمن منّا لم يلقِ يوما بحاجته على باب الرحمن ففتح الباب وأجابه بعدما كان حدوث حاجته مستحيلا بالأسباب المادية؟ ومن منّا لم يدع ربه يوما دعاء المضطر فأجابه وكشف السوء؟

هل تعلم مجيبا غير الخالق ؟

ثالثا: الأدلة العقلية على وجود الله

بعدما مررنا بالأدلة الفطرية والأدلة الحسية يمكننا الحديث عن الأدلة العقلية إذ يتألف الدليل العقلي من المبادئ العقلية الضرورية (الفطرية) والدليل الحسّي، وأشهر دليلين عقليين هما:

١- دليل الخلق والإيجاد

يقوم على مقدمتين:

أ- الحوادث موجودة

برهانها: دلالة الحس

ب- لابد لكل حادث من محدِث

برهانها: دلالة العقل (مبدأ السببية)

ويقودنا دليل الخلق والإيجاد إلى حتمية وجود خالق للكون لا ريب.

٢- دليل الإحكام والإتقان (دليل العناية)

يقوم على مقدمتين:

أ- الكون محكم متقَن

برهانها: دلالة الحس، والبرهان المعلوماتي مثل: الشفرة الوراثية

ب- هذا الإحكام يستلزم وجود خالق عليم حكيم

برهانها: دلالة العقل (السببية)  فالإتقان حادث لابد له من محدِث، فلابد للشيء المتقَن من وجود مصدر متقِن

وما يميز دليل الإتقان أنه يثبت للمحدِث (الإله) الصفات الكاملة، فكل هذا الإحكام يستلزم أن يكون خالقه عليما علما كاملا يسبق إيجاد الحوادث المتقنَة، قديرا قدرة كاملة على هذا النظم البديع، حكيما حكمة كاملة تضع كل محدث في موضعه تماما.

وبالدلالة الفطرية والحسية والعقلية لا شك في وجود إله واحد كامل الصفات، لكننا بالمنظور الإسلامي للمعرفة لا يمكننا إهمال المصدر المميِّز لتناول الموحِّد لقضية المعرفة، وهو (الخبر).

رابعا: الأدلة الخبرية على وجود الله

الخبر الصادق (الوحي) هو أصل علمنا بالله -سبحانه وتعالى- "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ.." (محمد - ١٩) وهو أصل علمنا بأنه واحد لا شريك له " قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)" (الإخلاص)

والوحي منذ نزوله حتى ختمه بالقرآن الكريم والحديث الشريف يزدحم بالأدلة الخبرية القاطعة على وجود الله ووحدانيته، ونكتفي بذكر ثلاث نصوص دالّة على التوحيد من كل من: الكتاب المقدس لدى النصارى، والقرآن الكريم ، والحديث الشريف.

١- نصوص من الكتاب المقدس عند النصارى:

- " كلم يسوع بهذا، ورفع عينيه نحو السماء وقال: أيها الآب قد أتت الساعة، مجد ابنك ليمجدك ابنك أيضاً، إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد، ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته، وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته" (يوحنا 17/ 2 - 3)

- "أنت تؤمن أن الله واحد. حسناً تفعل" (يعقوب 2/ 19)

- "الإله الحكيم الوحيد مخلصنا" (يهوذا 25)

٢- نصوص من القرآن الكريم:

- "وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم" (البقرة ١٦٣)

-"الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم" (البقرة ٢٥٥)

- " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم" (آل عمران ١٨)

٣- نصوص من الحديث الشريف:

- عن طارق ابن أشيم الأشجعي عن النبي -صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من وحد الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله" (صحيح مسلم)

-  عن ابن عمر، عن عمر رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصومَ رمضان، وتحجَّ البيت إن استطعت إليه سبيلًا" (متفق عليه)

- حديث معاذ: عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمن، فقال: ((ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأَعْلِمْهم أن الله افترض عليهم خمسَ صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تُؤخذ من أغنيائهم وتُردُّ على فقرائهم)). (متفق عليه)

إلى غير ذلك من الأدلة الخبرية الدامغة على توحيد الله عز وجل.

من كل ما سبق، يمكننا أن نخلص إلى حقيقتين مؤكدتين، وهما:

١- تحصيل المعرفة اليقينية ضرورة وجودية

٢- توحيد الله أصل كل المعارف اليقينية، وهو مؤكد بكل أنواع الأدلة التي تندرج تحت مصادر المعرفة المتنوعة

حسنًا، فهل لذلك أثر في قراءتنا لأحداث الحياة عموما وطوفان الأقصى وتبعاته خصوصا؟ أم يستوي الموحد وغير الموحد في قراءة المشهد والتفاعل معه؟ هذا ما سنناقشه تحت العنوان التالي.

—-------

٤- طوفان الأقصى بين قراءة الموحّد وغيره

مجموعة (أ)

-لولا  (طوفان الأقصى) ما جن جنون الاحتلال وما ذاقت (غزة) هذه الأهوال.

- يجب النظر إلى إمكانات العدو وإمكاناتنا - يقصدون الإمكانات المادية- وعلينا أن نعرف حجم إمكاناتنا الضئيل ولا نتورط في حروب مهلِكة كهذي.

- الشكل العام لرجال المقاومة سيء فقد هاجموا المدنيين وأسروا  النساء، سيخسرون تعاطف العالم!

- دمار غزة ودماء أهلها في رقبة من بدأ بالعدوان -يقصدون المقاومة-

- تصورات المقاومة الفلسطينية وردية حالمة، أما الاحتلال الصهيوني فله حسابات منطقية مدروسة.

-رجال المقاومة في المعركة وحدهم، بينما تدعم أعظم قوى العالم جيش الاحتلال، إذًا فالنتيجة محسومة.

- حدثني عن النتائج بالأرقام، ولا تزعم انتصارًا إلا إذا كانت أعداد قتلاهم أكبر من أعداد شهدائنا، وما خلفته العملية من دمار في مستوطناتهم أكبر مما خلفه عدوان الاحتلال من دمار في غزة.

- هي معركتهم وعلينا ألا ننجر لنكون جزءًا منها، يسعنا الدعاء لهم، لكن تقديم أي معونات لهم على أرض الواقع قد تمس أمننا القومي ونحن لسنا مستعدين لأي مواجهات عسكرية.

مجموعة (ب)

- لابد أن كواليس اختيار توقيت (طوفان الأقصى) تحمل كثيرا مما لا نعلم، فالمسلمون لا يديرون حروبا عشوائية.

- "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" كلنا يقين بنصر الله لنا وإن كنا قليل، فرب غزوة بدر رب طوفان الأقصى سبحانه القدير!

- لقّن رجال المقاومة العالم درسا في الإنسانية والعدل والإحسان من خلال معاملتهم الطيبة للأسرى الصهاينة، فكانوا خير سفراء للإسلام.

- قطاع غزة محاصَر ذو بنية تحتية متهالكة، وأصوات الغارات وطائرات الاستطلاع يألفها كل فرد فيه، هذا قدرهم منذ سنين، فلم تتسبب المقاومة في قصف القطاع ولا ترويع أهله، وإنما هم قاموا بدورهم في الدفاع عن العقيدة والأرض والعِرض، ولا شأن لهم بإجرام المحتل ووحشيته التي إن دلت على شيء فإنما تدل على ضعف موقفه وارتباك صفه

- تصورات المقاومة نابعة من عقيدتهم، وهي العقيدة الوحيدة الحق، لذلك فإنها التصورات الوحيدة المبصرة لعالَمي الغيب والشهادة، وما سواها قاصر أعمى

- "وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَىٰ ۚ إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَٰذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ ۗ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)" آل عمران

رجال المقاومة ليسوا وحدهم في المعركة، وهذا يقيننا في الله، فالله قدير على تسخير كل خلقه لهم، وبعد هذا كله فإن النصر لا يتوقف على عدد ولا عدة، وإنما هو من عند الله العزيز الحكيم.

- قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، وصدق رب العزة إذ قال: " ...إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا" (النساء ١٠٤)

والنصر في المنظور الإسلامي ليس نتيجة بالأرقام والإحصاءات فحسب، وإنما الصمود نصر، واستدامة المقاومة نصر، وإرهاب عدو الله نصر، وغيظ الكفار نصر، وانتزاع الأسرى المسلمين من سجون العدو الكافر نصر، فهل نكيل بمكيالنا أم بمكيالهم؟!

- "مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم ، وتَرَاحُمِهِم ، وتعاطُفِهِمْ . مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى"

من يباد إخواننا وأهلنا، وما تدمّر أرض فتحها المسلمون ثم اغتصبها الكافرون، فمن الواجب شرعًا علينا استعادتها ومحاربة المغتصبين ونصرة إخواننا والفزعة من أجلهم، وإلا فما معنى أن هذه أمتنا أمة واحدة؟!

مجموعتان من التعليقات على (طوفان الأقصى) وتبعاته لا أظن أحدا منّا لم يتعرض لها منذ السابع من أكتوبر الماضي إلى اليوم.. وجهات نظر متباينة بل متضادة لأناس يعاصرون الأحداث ذاتها وتجمعهم أرض واحدة ولغة واحدة وكلمة واحدة في خانة الديانة في بطاقات هوياتهم الشخصية (مسلم- مسلمة) فأين السر؟

أسمع من يُرجِع السر إلى تعليمهم، فربما منهم من درس علوما شرعية ففهم عن ربه وعقيدته ما لم يفهمه غيره، لكني أزيد من يظن هذا من الشعر بيتا وأخبره بأن مِن أصحاب الآراء المتضادة هؤلاء من تلقوا علوما شرعية في محضن واحد وعلى طاولة واحدة، فما السر إذًا؟!

إنها النظارة. لكل منا نظارة يرى من خلالها نفسه والعالم من حوله، وهي وسط غير حيادي، تؤثر بالضرورة على ما يراه الإنسان وتصوره عنه وحكمه عليه وتحديد دوره تجاهه.. إلخ.

هناك من يرتدي نظارة مهنته، وهناك من يرتدي نظارة تقاليد أسرته وعاداتها، وهناك من يرتدي نظارة الثقافة الغربية المهيمنة، وجميعها تعطي رؤى قاصرة  عما ورائها، لأنها جميعا نظارات بشرية، وفقه النفس والواقع والمسؤولية أمور تحتاج نظارة تتخطاهم وتسبقهم لا تكتفي بمحاولة مجاراتهم واستيعاب مستجداتهم وحسب، نظارة ترى من خلالها كل شيء تحت مظلة واحدة جامعة حقيقية موصولة بالغيب باعتباره مكوّنا رئيسا في منظومة المعرفة وعمودا رئيسا في البناء الإيماني، نظارة مبصرة فطنة ثابتة مرنة، لا تأمن معها سكون العالم ولا تفزع لعواصفه،

وأي نظارة تقوم بهذا غير نظارة التوحيد؟!

خالقها هو خالق السماوات والأرض والموت والحياة والنفس والابتلاءات، وهو رب كل شيء، فمن الطبيعي أن يرى من يوحّد الله كل شيء من حوله متجانسا بنظارة التوحيد، فيبصر ما لا يبصره غيره وكأنه النور المذكور في "..وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ" (النور ٤٠)

** كيف يقرأ الموحّد (طوفان الأقصى) وتبعاته؟

إن المسلم الذي قطع شوطا واسعا في تفعيل توحيده الله والحياة به يعلم أن الله -سبحانه وتعالى- ما فرّط في الكتاب من شيء، لذلك فإنه عند الحوادث الصعاب يهرع إليه يستقي منه الفهم والعلم والحكمة وتثبيت الفؤاد والبصيرة، وإذا نظرنا إلى عملية (طوفان الأقصى) الشريفة التي انطلقت في السابع من أكتوبر لعام ٢٠٢٣، لوجدنا أن إلقاء الضوء في حديث الكثير (مجموعة تعليقات أ)  جاء على أمور أضفوا عليها مركزيات مادية بحتة ما جاء بها الوحي ولا تليق بعمل كهذا لا ينتمي لحسابات المادة ابتداءً ولا انتهاءً، مما يشير إلى انقلاب المركزيات التي يقوم عليها العمل الدعوي- الجهادي ويعايَر بها ويحاكَم إليها عند قطاع من المسلمين، فصرنا نستشف مركزيات دخيلة مثل: 

- مركزية الانبهار بالغرب 

- مركزية الغلو المدني 

- مركزية الافتتان بالقوة المادية 

-مركزية تبني وجهة نظر الغالب

هذا إلى جانب:

- الزهد في مضامين الوحي

"... مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)" سورة يوسف

- ترك الاستعلاء الإيماني

".. وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139)" آل عمران

- النظر القاصر إلى ماهو عاجل مع غياب الحقائق الإيمانية الراسخة عن القلوب

"كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)" سورة القيامة.

- تهميش وحدة الصف والجهود المتكاملة

"إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)" سورة الصف

وكل هذا على حساب مركزيات الجهاد في سبيل الله التي جاءت بها نصوص الوحي لتضبط البوصلة وتهدي إلى سبيل الجهاد الذي يحبه الله -تعالى- ويرضاه وترسم ملامحه بدقة،

ولما وقفت على ما أسلفت، فقد قدمت في كتابي "مركزيات الجهاد الإسلامي وثغوره في ضوء طوفان الأقصى" الذي نشر عبر موقع (الحصن)  طرحا معنونًا لما جاءت به آيات التنزيل من مركزيات الجهاد في الإسلام، وذلك بتدبر مواضع ذكر (الجهاد- القتال- النفير) في القرآن الكريم واستخلاص مركزيات الجهاد وقيمه الحاكمة وبعض الإضاءات حوله، وأحسب أن ختمة تدبر واحدة بصدق التجرد إلى الله واللجوء إليه تصنع فارقًا كبيرًا في قراءة أحداث الطوفان، لذلك أحيل على الكتاب المذكور، وأقتبس منه ما يلائم موضوعنا، فلنر ماذا يرى الموحّد في طوفان الأقصى من خلال تدبره كتاب الله؟ 

**ماذا يرى الموحّد في طوفان الأقصى من خلال تدبره كتاب الله؟

١- يرى الموحّد رجالًا يحيون ما غاب عن الأمة من محكمات الكتاب وذروة سنام الإسلام

-  التوبة ٢٤ : "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)"

- محمد ٢٠: "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20)"

٢- يرى الموحّد حسن ظن المجاهدين وأهل غزة في الله مع قلة الإمكانات والحصار

البقرة ٢١٨ : "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (218)"

٣- يرى الموحّد دروسا في الصبر من المجاهدين وأهل غزة الصابرين المحتسبين

- آل عمران ١٤٢ : "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) "

- محمد ٣١ "وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّىٰ نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)" 

٤- يرى الموحّد إخلاص المجاهدين في نفيرهم

- التوبة ٣٨ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)" 

- التوبة ٤٤ "لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)"

٥- يرى الموحّد صدق أهل غزة من المجاهدين وأهلهم ويقينهم

- الحجرات ١٥ " إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) "

٦- يرى الموحّد التزام المجاهدين بقتال من يقاتلونهم وعدم الاعتداء، والإحسان إلى الأسرى

- البقرة ١٩٠ : "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)"

٧- يرى الموحّد شجاعة المجاهدين وأهلهم وثباتهم وقوتهم، وهي من مركزيات الجهاد التي أشارت إليها جميعا آية سورة البقرة:

- البقرة ٢٤٦  "أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) "

من تفسير السعدي: { فلما كتب عليهم القتال تولوا } (فجبنوا )عن قتال الأعداء و(ضعفوا) عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن { إلا قليلا منهم } فعصمهم الله (وثبتهم وقوى قلوبهم) فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه. 

٨- يرى الموحّد رجالا يحفظون كتاب الله  ويفقهون الجهاد ومقصوده وأجر المجاهدين مما يزيدهم قوة وغلبة

- الأنفال ٦٥  "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65) "

من تفسير السعدي: ‏وذلك بأن الكفار ‏‏قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ‏‏ أي‏:‏ لا علم عندهم بما أعد اللّه للمجاهدين في سبيله، فهم يقاتلون لأجل العلو في الأرض والفساد فيها،‏.

‏وأنتم تفقهون المقصود من القتال، أنه لإعلاء كلمة اللّه وإظهار دينه، والذب عن كتاب اللّه، وحصول الفوز الأكبر عند اللّه.

٩- يرى الموحّد كيف يبارك الله -تعالى- في أعداد المجاهدين مهما قلت، فرأينا بأعيننا مجاهدا واحدا ينفذ عملية بمفرده من الألف إلى الياء ويعود منتصرا وبحوزته الغنيمة، وكذلك فإن الله يبارك في جهودهم وقوتهم ولقيماتهم التي يتغذون عليها مع كل هذه المشقة

- الأنفال ٦٦ "الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)" 

من تفسير الطبري: (فإن يكن منكم مئة صابرة)، عند لقائهم للثبات لهم =(يغلبوا مئتين) منهم =(وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) منهم =(بإذن الله) يعني: بتخلية الله إياهم لغلبتهم، ومعونته إياهم (25) =(والله مع الصابرين)، لعدوهم وعدو الله, احتسابًا في صبره، وطلبًا لجزيل الثواب من ربه, بالعون منه له، والنصر عليه. 

(أي وعد بالبركة أوضح من هذا!)

١٠- يرى الموحّد المجاهدين وكل أهل غزة وكأنهم -جميعا- أخوة أشقاء من قوة وحدة صفهم، كلهم على قلب رجل واحد، لا نزاع ولا انشقاق، وهو أمر ليس بالهين في ظل الأهوال التي يصبحون فيها ويمسون

-التوبة ٣٦ "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

من تفسير الطبري: "أما "كافة"، فجميع، وأمركم مجتمع."

-الصف ٤ " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ (4)"

(ويكفي أن القتال في سبيل الله مذكور في سورة باسم (الصف) مما يشير إلى مركزية الوحدة والاصطفاف في الجهاد الإسلامي)

١١- يرى الموحّد حينما تكون المعركة على الأرض كيف تكون الغلبة للمسلمين المجاهدين وكيف يحصدون أرواح الصهاينة بغلظة في محلها تروي ظمأ أمة أعيتها الميوعة والمداهنة

-التوبة ١٢٣ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) "

١٢- يرى الموحّد شعبا كاملا يجاهد بكل ما يملك، لم نر من يبخل بماله ولا بنفسه ولا بعلمه ولا بلسانه ولا بولده ليضرب مثلا يستحق أن نتدارسه ونقتدي به ونسعى للحاق به

- الحج ٧٨ " وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)"

من تفسير ابن كثير: "وقوله : ( وجاهدوا في الله حق جهاده ) أي : بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم"

١٣- يرى الموحّد في رجال طوفان الأقصى قوما مصطفين أعد الله لهم الأجور العظيمة وكثّرها وضاعفها ووعده الحق، فهم سعداء فائزون فالحون بميزان الآخرة،

ومن وعد الله للمجاهدين في الدارين كما جاء في القرآن: رحمة الله ومغفرته، وتكفير السيئات، وجنات تجري من تحتها الأنهار ، والفلاح، والرزق الكريم الحسن، وعلو الدرجات، والفوز العظيم ، والفتح القريب، والبشرى، والخيرات، والهدى، وصلاح البال، والنصر وتثبيت الاقدام، والأجور الحسنة العظيمة، والحسنى، ومحبة الله، والنجاة من العذاب، والمساكن الطيبة في جنات عدن.

-محمد من ٤ إلى ٧  "..وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)"

-  الصف من ١٠ إلى ١٣ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)"

١٤- يرى الموحّد كيف أن المشاركين في (طوفان الأقصى) قد أحسنوا حمل ميراث الأنبياء وأصابوا شيئا عظيما من عملهم

-التوبة ٨٨ "لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)"

-سورة محمد: ذكرت فيها آيات القتال في سبيل الله وهي السورة الوحيدة التي تحمل اسم خاتم الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم ، مما يشير بوضوح إلى مركزية الجهاد في سبيل الله في عمل الرسول ورسالته التي بعث بها.

مثل آية ٤ "فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ۚ ذَٰلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ۗ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)"

و آية ٢٠ "وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ (20)"

١٥- يبحث الموحّد من خارج أرض غزة عن الميدان الذي يمكنه الجهاد فيه أو الثغر الذي يمكنه الرباط عليه، فهكذا المسلم دائما باحث عن دوره الذي يمكنه القيام به استشعارا للمسؤولية تجاه دينه ونفسه وأمته،

ومن يتدبر كتاب الله ليجد جوابا عن سؤال الميدان والثغر لوجد كثيرا إلى جانب ميدان القتال - مع أولويته لمن يقدر-  مثل:

القيام التام بأمر الله، ودعوة الخلق إلى سبيله بكل طريق موصل إلى ذلك، من نصيحة وتعليم وأدب وزجر ووعظ، والجهاد بالقرآن الكريم بالدعوة به وإليه وتعظيمه والاحتكام إليه والاستهداء به وبجعل مركزيات الحياة وأولوياتها تبعا لما جاء فيه من المركزيات والأولويات، ونصر الحق وقمع الباطل، وطلب العلم الشرعي و رد نزاع المخالفين للحق، والجهاد بالقول واللسان للكفار والمنافقين، والإنفاق في سبيل الله وتجهيز المجاهدين وإعالة أسرهم.

وفي كلٌّ خير، فمن لم يقدر على قتال في سبيل الله لم يعدم باقي ميادين الجهاد فليشمر كل منا عن ساعده في الميدان الذي فتح الله -تعالى- له فيه. 

- العنكبوت ٦٩ " وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)"

من تفسير السعدي:

"دل هذا، على أن أحرى الناس بموافقة الصواب أهل الجهاد، وعلى أن من أحسن فيما أمر به أعانه اللّه ويسر له أسباب الهداية، وعلى أن من جد واجتهد في طلب العلم الشرعي، فإنه يحصل له من الهداية والمعونة على تحصيل مطلوبه أمور إلهية، خارجة عن مدرك اجتهاده، وتيسر له أمر العلم، فإن طلب العلم الشرعي من الجهاد في سبيل اللّه، بل هو أحد نَوْعَي الجهاد، الذي لا يقوم به إلا خواص الخلق، وهو الجهاد بالقول واللسان، للكفار والمنافقين، والجهاد على تعليم أمور الدين، وعلى رد نزاع المخالفين للحق، ولو كانوا من المسلمين."

١٦- ترى الموحّدات في (طوفان الأقصى) نماذجا مشرّفة من النساء المجاهدات، فنجد النساء في الخنادق للقيام على أمور الأسيرات،  ونجدهن في المشافي ينقذن المصابين تحت أعين وأيدي وأسلحة الصهاينة، ونجدهن على رؤوس شهدائهن صابرات محتسبات يقسمن بأنهن سيقدمن مزيدا من الأبناء والأحبة في سبيل الله، ونجدهن مرابطات في الأقصى يؤازرن أهل غزة ويؤرقن الاحتلال بصمودهن،

وإن كان واضحاً أن الجهاد في سبيل الله من أدوار الذكر والأنثى  من خلال الآيات الدالة على مركزية الجهاد في هذا الدين وربطه الوثيق بالإيمان، ويُفهَم الأمر ذاته كذلك من خلال الآيات الدالة على تعدد صور الجهاد وتعدد جبهاته، لكننا نجد في آية (آل عمران ) تأكيداً قاطعاً على هذا الملمح المهم عبر تفسير واحدة من الآيات المركزية في الجهاد في سبيل الله لنجد فيها تصريحًا بلفظيّ (ذكر) و (أنثى) في سياق الحث على الجهاد في سبيل الله:

- آل عمران ١٩٥ "فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)"

من تفسير البغوي: "قوله تعالى : ( فاستجاب لهم ربهم أني ) أي : بأني ، ( لا أضيع ) لا أحبط ، ( عمل عامل منكم ) أيها المؤمنون ( من ذكر أو أنثى ) قال مجاهد : قالت أم سلمة يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية ( بعضكم من بعض ) قال الكلبي : في الدين والنصرة والموالاة".

ثم جاء التفصيل بداية من "فالذين هاجروا.." حتى "وقاتلوا وقُتلوا" التي جاء في تفسيرها في المصدر ذاته:  "(وقاتلوا وقتلوا ) يريد أنهم قاتلوا العدو ثم أنهم قتلوا " وكل هذا إلى آخر الآية تفصيل لما أُجمل من عمل الذكر والأنثى في أول الآية.

فلا معنى لشعور الإناث بالعجز عن الجهاد بعد الآن ولا داع لاستهلاك المشاعر والجهد والوقت في البكاء والحزن المقعِد، وإنما هو وقت عمل وبذل وجهاد بكل ما في الوسع، وتعاون على المشاريع الدعوية والإصلاحية التي تصب في نهر جهاد الأمة في سبيل الله تزيده وتثريه وتعينه على استمرارية الجريان.

١٧- يرى الموحّد في (طوفان الأقصى) تذكِرة كافية لمسؤوليته الفردية تجاه نفسه،

فنسمع هذه الأيام، وفي كل طيف استضعاف يمر بالأمة، عبارات مثل: لا أحد ينتبه لما يحدث لإخواننا في "..." ، ماعاد خير في هذه الأمة، الكل منشغل بحياته الشخصية غارق في همومه... إلخ.

لكن الموحد لا يردد مثل هذا، وإنما يحيي مسؤوليته الفردية ويسأل نفسه ويحاسبها:

ماذا قدمت أنت؟ وما يضيرك لو قعد الجميع وجاهدت وحدك ؟ هل تخرج من زمرة المقصرين المتخاذلين بنقد إخوانك؟

- النساء ٨٤ "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنكِيلًا (84)"

-من تفسير السعدي: "فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ } أي: ليس لك قدرة على غير نفسك، فلن تكلف بفعل غيرك"

فالموحّد ينفض عن نفسه ما قد يسكّن ضميره، ويقوم مجاهدا،  لأنه يعلم أن الميادين للعاملين والثغور للمرابطين، وأنه سيأتي خالقه يوم القيامة فردًا!

١٨- يرى الموحّد معية الله للمجاهدين ومدده لهم، وإلا لما رأينا كل هذه الخسائر في صفوف الصهاينة

-الأنفال ١٧ "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)" 

من تفسير البغوي:

"قوله تعالى : ( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ) قال مجاهد سبب هذه الآية أنهم لما انصرفوا عن القتال كان الرجل يقول : أنا قتلت فلانا ويقول الآخر مثله ، فنزلت الآية . ومعناه : فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكن الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم .

وقيل : لكن الله قتلهم بإمداد الملائكة"

١٩- يبحث الموحّد في أحداث الطوفان عن الغاية من الجهاد في سبيل الله، ليستحضرها دوما في ميدان جهاده، والغاية من الجهاد حبل ممتد يتعلمه الموحّد من أبطال ميدان القتال في غزة ويحيا بها ويستحضرها في أي ميدان قتال آخر في أيّ من بقاع الأرض، فالغاية واحدة لأن الشارع واحد والأمة واحدة، جمالية التوحيد تتجلى دومًا!

ويمكننا تقسيم الغاية من الجهاد إلى قسمين:

أ- الغاية من الجهاد بالنسبة للمجاهِد

تناولتها آيات الأنفال ٦٥ ، ومحمد ٤

وهي: الذب عن كتاب الله وحصول الفوز الأكبر عند الله ، وتبيين الصادق من الكاذب، وترسيخ الإيمان الصحيح وتعزيز اليقين عن بصيرة.

ينضم إلى هذا حصول الأجور العظيمة التي استخلصناها سالفًا.

ب-الغاية من الجهاد بالنسبة للمجاهَد

تناولتها آيات: الأنفال ٣٩ و٦٥ ، والتوبة ٥ و١٢ ، والفتح ١٦

وهي: ليكون الدين كله لله، وتكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصةً دون غيره، وانتهاء الكفار عن الطعن في الدين وكسر شوكتهم وإبطال شرهم، أو يسلمون من غير حرب ولا قتال فلا يحدث القتال من الأساس.

٢٠- يرى الموحّد في طوفان الأقصى مركزية تزكية نفسه وضرورتها، فالموّحد يعلم أن التزكية  عمل الأنبياء وميراثهم ولب دعوتهم:  "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (2) " سورة الجمعة

وقد فطن الأنبياء إلى مركزيتها واحتياج الأمم لها، حتى جاءت في دعاء إبراهيم -عليه السلام- لأمته:

"رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)" سورة البقرة

فجاءت إجابة الدعاء بأن بعث الله -تعالى- رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم - يتلو على الأمة آيات الله ويزكيهم ويعلمهم كما جاء في آية سورة الجمعة،

وإذا نظر الموحّد بعين على جهاد أبطال الطوفان وعين على مركزيات الجهاد المذكورة في كتاب الله، لوجد حزمة من المركزيات يربطها حبل (التزكية)، فأي يقين وصبر وشجاعة وقوة وثبات وإخلاص وصدق بغير تزكية؟

وأي صبر على العلم والامتثال لأوامر الله وعدم الاعتداء رغم الهوى والغضب بغير تزكية؟

وأي جمع بين اللين في القلب والغلظة في ميدان الجهاد، وبين الاستعلاء الإيماني في القلب وقبول الندية أحيانا في ميدان الجهاد بغير تزكية؟

وأي نفس تقدر على حسن الظن بالله والاستبشار خيرًا في أحلك الأوقات - كما هو حال رجال الطوفان-  بغير تزكية؟

فالله الله في تزكية أنفسنا وعدم الانشغال عن هذا العمل العظيم بالسعي المادي البحت وإلا تساوت الصفوف، وما كان لصف المسلمين أن يتساوى مع غيره!

من كل ما سبق نخلص إلى أن الإنسان حين يقصد التوحيد منظورًا لكل ما يجري بالكون عموما ولطوفان الأقصى الذي نحيا خصوصا، يجده المنظور الوحيد الذي لا يخطئ ولا يضل صاحبه، والوحيد الذي يمتاز بمرونة فائقة لا تنفك عن ثبات عجيب، والوحيد الذي يجلّي التفاصيل ولا يطمس أيّا منها، وبميزانه كل شيء له قدر لا يزيد عنه ولا ينقص، وكما أن التوحيد أصل المعارف اليقينية وخلاصتها، فإن قراءة ما يجري اليوم من أحداث استثنائية بعين التوحيد يوصل المسلم إلى مجموعة من المعارف عن ربه  ونفسه و واقع أمته ماكان ليوقن بها إلا بمرحلة كهذي التي فيها العالم على صفيح ساخن والأعين تتوجه من كل حدب وصوب إلى شاشة يطل منها وجه ملثم يجيد مهارات اللغة كما يجيد مهارة التوحيد.

 

**توصيات

١- لضبط مركزيات أمر شرعي علينا الاطلاع على ما جاء حوله في نصوص القرآن والسنة معًا، فالسنة لها دور تكميلي وتبييني وتفصيلي لا غنى عنه، لذلك فما استعرضته هنا من نصوص القرآن هو فقط خطوة أولى، أوصي بعدها بمحاولة قراءة (طوفان الأقصى) بنظارة السنة النبوية الشريفة من صحاح الأحاديث وأحداث الغزوات ولا سيما غزوة بدر.

٢- إلى جانب تدارس مركزيات الجهاد في الإسلام، فمن المهم استحضار أن النصر قادم لا محالة، وليس قادما فحسب، وإنما هو وشيك جدا بإذن الله، وأوصي في هذا السياق بتدارس سورة (الإسراء) وتفسيرها وتدبر معانيها، وكذلك قراءة كتاب " وليتبروا ما علوا تتبيرا" لعمر سليمان الأشقر.

٣- إذا لم تكوّن بعد تصورا كافيا عن طبيعة المشاركة التي تقدر عليها في المعركة الحالية (طوفان الأقصى) يمكنك الاطلاع على بعض المقترحات العملية في كتاب "مركزيات الجهاد الإسلامي وثغوره في ضوء طوفان الأقصى" ربما تجد فيها شيئا من العون، وكذلك يمكنك متابعة المنشغلين بالعمل والمشاركة من شيوخنا وعلمائنا عبر تغريداتهم أو قنواتهم على تيليجرام، وأولا وأخيرا نسأل الله الهدى والاستخدام.

—-----------

 

٥- الخاتمة

من خلال مقالنا البحثي استعرضنا إمكان المعرفة اليقينية وضرورتها، ثم أثبتنا أم المعارف اليقينية (التوحيد) الذي هو الاختبار الأعظم المتجدد في هذه الأرض، ليس تعصبا للتوحيد ذاته ولا عبودية لفلسفته، وإنما لكونه الحق والحقيقة اليقينية، وإن كان الحق في الشرك لكنّا أول المشركين وأول من يدعو للشرك "قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَٰنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ" (الزخرف ٨١) وإنما لأننا علمنا بالتوحيد بالوحي الصادق "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وعلمنا كذلك بأن الله واحد أحد لم يلد ولم يولد "قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *  اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ " (الإخلاص)  ، وصدّق الخبر ما عاينّاه بحواسنا وما أعملنا عقولنا فيه، ووافق كل ذلك ما فطرت عليه أنفسنا،  فكانت وجهتنا التوحيد متشبعين باليقين متسلحين بالثبات، بذلك أُمِرنا فأطعنا، وعلى كلمة التوحيد نحيا ونموت ونلقى الله عز وجل.

وإن كانت كل معرفة يقينية تقتضي العمل، فأم المعارف اليقينية (التوحيد) يقتضي رؤية كل ما يجري بعين الموحدّ الله المعظّم فرائضه  الموقن في وعده المصدق لسننه، ثم يقتضي أن يجد لقدمه موطئا ينصر إخوانه ويغيظ الكفار، وكل هذا مع التسليم لخالقه تسليما يليق بعزته وجلاله وحكمته.

وغاية ما أرجو أن يكون هذا المقال البحثي -مع كتابي الذي أشرت إليه- من جهادي بالكلمة والبيان جهادا مخلصا لوجه الله وأن لا ينهيه القارئ إلا وقد صبغت رؤيته لأحداث (طوفان الأقصى) صبغة التوحيد وبنى عليه عملا يحتسبه جهادا في سبيل الله.

الحمد لله أن لا إله إلا الله، والحمد لله أن علّمنا أن لا إله إلا الله، الحمد لله نور السماوات والأرض وما فيهن الذي يهدينا ويبصّرنا ويجعل لنا نورًا.

 

—----

٦- المراجع

- القرآن الكريم

- تفاسير: السعدي، والطبري، والبغوي، وابن كثير

- كتاب "مدخل إلى نظرية المعرفة" - أحمد الكرساوي

- كتاب "الفصل في الملل والأهواء والنحل" - ابن حزم

-محاضرة "أدلة وجود الله" - د عبد الله العجيري

- كتاب إلكتروني " مركزيات الجهاد الإسلامي وثغوره في ضوء طوفان الأقصى" - فاطمة محب - موقع مشروع الحصن

- David Berlinski: The Devile's Delusion: Atheism and it's scientific pretensions, Basic Books, 2009. P19,40

- مقال "سمعت شيطانًا.. قصة حقيقية معاصرة" - فاطمة محب - موقع مشروع الحصن 

—----

  • الاحد PM 03:23
    2024-10-20
  • 168
Powered by: GateGold