المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413975
يتصفح الموقع حاليا : 310

البحث

البحث

عرض المادة

بيان مخالفة الأشاعرة للسلف في أنه لا يلزم من صفات الله ما يلزم من صفات المخلوق والرد على شبهاتهم فيه

خلاصة الفصل:

أولاً: أن من أصول معتقد السلف: أن صفات الله تعالى التي جاءت في الكتاب والسنة، سواء الصفات الخبرية كالوجه واليد والعين، أو الفعلية كالنزول والإتيان والضحك، أو الذاتية كالسمع والبصر والعلم، لا يستلزم إثبات شيء منها لله تعالى تشبيهاً له بخلقه ولو اتصف بأصل معناها المخلوق، لأن الله تعالى {ليس كمثله شيء} لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله. والصفة تابعة للموصوف، فإذا كانت له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فكذلك صفات ذاته لا تماثل الصفات.

ثانياً: أن الذين يُلزمون صفات الله تعالى أو بعضها ما يلزم من صفات المخلوق، ويتخذون هذا ذريعة إلى صرفها عن ظاهرها وحقيقتها هم المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ويدخل فيهم كل من مشى على أصلهم في هذا ولو في بعض الصفات.

ثالثاً: مخالفة الأشعريّيْن لمذهب السلف في هذا، وسلوكهما طريق المعطلة الذين اشتد نكير السلف عليهم.

[[بطلان دعوى استلزام الجسمية في إثبات الصفات]]

فقد قالا عمن يثبت صفات الله على ظاهرها من غير أن يُلزموها لوازم صفات المخلوق (ص192): (وكونهم لا يُقرّون بهذه اللوازم أمرٌ لا يُقضى منه العجب، لأن إثبات الملزوم وهو المعنى الظاهر هنا ثم نفي اللازم وهو الجسمية ونحوها لا يُعقل لأنه لازم لا ينفك) اهـ.

وهذا كلام ظاهر البطلان والفساد شرعاً وعقلاً ولغةً لأمور كثيرة:

أولها: ما سبق تقريره من كلام السلف في بطلان هذا الأمر، وأنه لا يلزم من صفة الله تعالى ما يلزم من صفة المخلوق، وأن الإضافة تقطع التشبيه والاشتراك. وهو كاف في بطلان دعواهما.

الأمر الثاني: أن هذا تأباه اللغة، لأن الصفة تابعة للموصوف، فإذا قلنا: وجه زيد، ووجه عمرو، لم يكن الوجهان متماثلين بوضع اللغة، وإنما عُلم التماثل والتقارب بالمعاينة والمشاهدة، لأن الصفة للموصوف ولا اشتراك في ذلك، وإنما يقع الاشتراك في أصل الصفة، وهو أمر موجود في الأذهان لا في الأعيان، ولذلك لا يُفهم من قول القائل: وجه زيد، ووجه الماء، تماثلٌ ولا تشابهٌ، لأن الإضافة قاطعة للاشتراك، مع كون زيدٍ والماء مخلوقين، فالتباين بين وجه الخالق ووجه المخلوق أعظم وأعظم.

قال ابن الزاغوني في "الإيضاح" في تقرير قاعدة مهمة: (فأما قولهم: إذا ثبت أنها صفة إذا نسبت إلى الحي ولم يُعبر بها عن الذات وجب أن تكون عضواً وجارحة ذات كمية وكيفية، فهذا لا يلزم: من جهة أن ما ذكروه ثبت بالإضافة إلى الذات في حق الحيوان المحدث لا من خصيصة صفة الوجه ولكن من جهة نسبة الوجوه إلى جملة الذات فيما يثبت للذات من الماهية المركبة بكمياتها وكيفياتها وصورها، وذلك أمر أدركناه بالحس من جملة الذات، فكانت الصفة مساوية للذات في موضعها بطريق أنها منها ومنتسبة إليها نسبة الجزء إلى الكل، فأما الوجه المضاف إلى الباري تعالى فإنا ننسبه إليه في نفسه نسبة الذات إليه، وقد ثبت أن الذات في حق الباري لا توصف بأنها جسم مركب من جملة الكمية، وتتسلط عليه الكيفية، ولا يعلم له ماهية، فالظاهر في صفته التي هي الوجه أنها كذلك لا يوصل لها إلى ماهية ولا يوقف لها على كيفية، ولا تدخلها التجزئة المأخوذة من الكمية، لأن هذه إنما هي صفات الجواهر المركبة أجساماً، والله يتنزه عن ذلك، ولو جاز لقائل أن يقول ذلك في السمع والوجه والبصر وأمثال ذلك في صفات الذات لينتقل بذلك عن ظاهر الصفة منها إلى ما سواها بمثل هذه الأحوال الثابتة في المشاهدات لكان في الحياة والعلم والقدرة أيضاً كذلك، فإن العلم في الشاهد عرض قائم يقدر نفيه بطريق ضرورة أو اكتساب، وذلك غير لازم مثله في حق الباري لأنه مخالف للشاهد في الذاتية غير مشارك في إثبات ماهية، ولا مشارك لها في كمية ولا كيفية، وهذا الكلام واضح جلي) (1) اهـ.

وقال العلامة الألوسي: (قيل: هو مراد مالك وغيره من قولهم: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" أي: الاستواء معلوم المعنى، ووجه نسبته إلى الحق تعالى المجامع للتنزيه مجهول، لأن الصفات تنسب إلى كل ذات بما يليق بتلك الذات، وذات الحق ليس كمثله شيء، فنسبة الصفات المتشابهة إليه تعالى ليست كنسبتها إلى غيره عز وجل، لأن كنه ذات الحق ليس من مدركات العقول لتكون صفته من مدركاتها) (2) اهـ.

الأمر الثالث: أن الصفات التي يزعم الأشعريان أنه يلزم منها الجسمية والحد كالنزول، والمجيء، والوجه، واليد، ونحوها، يتصف بها ما ليس بجسم.

فيقال: وجه الأمر، ووجه الماء -والماء ليس جسماً لغة وسيأتي الكلام على معنى الجسم والجسمية-، ويقال: نزول البائع بالثمن، ومجيء الشتاء، ويد الليل، ونحو ذلك، وهذه الأمور ليست أجساماً لا لغةً ولا في اصطلاح أهل الكلام والأشاعرة، ومع ذلك صح وصفها بالمجيء، والنزول، والوجه، واليد، وهذا يبطل دعوى لزوم الجسمية لمن اتصف بهذه الصفات.

الأمر الرابع: أن دعوى الجسمية، وتنزيه الله عنها يحتاج إلى تحرير معنى الجسم، وهل هذا اللفظ مما يصح إثباته أو نفيه عن الله تعالى؟

[[تحرير معنى الجسم]]

فنقول:

إن مسمى الجسم في اصطلاح المتفلسفة وأهل الكلام أعم من مسماه في لغة العرب. فأهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن.

قال ابن منظور في اللسان (3): (الجِسْمُ: جماعة البَدَنِ أَو الأَعضاء من الناس والإِبل والدواب وغيرهم من الأَنواع العظيمة الخَلْق .... أَبو زيد: الجِسْمُ الجَسَدُ، وكذلك الجُسْمانُ، والجُثْمانُ الشخص. وقد جَسُمَ الشيءُ أَي عَظُمَ، فهو جَسِيمٌ وجُسام، بالضم)

فأهل اللغة لم يستعملوا الجسم إلا فيما كان غليظاً كثيفاً، فلا يسمون الهواء جسماً ولا جسداً، ويسمون بدن الإنسان جسماً. كما قال تعالى: {وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} المنافقون4، وقال: {وزاده بسطة في العلم والجسم} البقرة: 247.

 


(1) الإيضاح في أصول الدين (ص282) وقد نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية (1/ 37 - 38).
(2) غرائب الاغتراب ونزهة الألباب في الذهاب والإقامة والإياب (ص؟؟؟).

(3) لسان العرب/مادة "جسم".

وأما المتفلسفة وأهل الكلام فهم مختلفون في مسمى الجسم: فمنهم من يقول الجسم هو الموجود، ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر الفردة، ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، ومن هؤلاء من يقول: إنه مشار إليه إشارة حسية، ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه (1).

وقد ذكر الأشعري في مقالاته اختلاف أهل الكلام في مسمى الجسم على اثنتي عشرة مقالة (2).

وما عرّفه به أهل الكلام والمتفلسفة لا يُعرف في لغة العرب البتة، لا في أشعارهم، ولا في كتبهم. فالروح مع كونها يشار إليها وتنزل وتصعد، وهي قائمة بنفسها ومع ذلك لا يسميها أهل اللغة جسماً، ولذلك يفرقون بينهما فيقولون: جسم وروح، وهذا يعني أن الجسم في اللغة أخص من المشار إليه.

والهواء والسحاب يعلو الأرض ويصعد وينزل ويجيء ولا يسميه أهل اللغة جسماً.

وبناءاً عليه فإن ادعاءهم أن اتصاف الله تعالى بالنزول والمجيء ونحوها من الصفات الفعلية أو الخبرية يستلزم الجسمية باطل، لأنها أمور يتصف بها الجسم وغير الجسم.

والأشاعرة يثبتون لله تعالى ذاتاً حقيقة متصفة بالصفات قائمة بنفسها، ولا يلزم عندهم أن تكون جسماً، وأما إثبات اليد، والوجه، والقَدَم، والنزول، والضحك، ونحوها من صفات الذات فإنها تستلزم التجسيم عندهم، وهذا تناقض منهم!!.

قال ابن أبي يعلى وهو يحكي اعتقاد والده: (ومما يدل على أن تسليم الحنبلية لأخبار الصفات من غير تأويل، ولا حمل على ما يقتضيه الشاهد، وأنه لا يلزمهم في ذلك التشبيه: إجماع الطوائف من بين موافق للسنة ومخالف أن الباري سبحانه ذات وشيء وموجود، ثم لم يلزمنا وإياهم إثبات جسم ولا جوهر ولا عرض، وإن كانت الذات في الشاهد لا تنفك عن هذه السمات، وهكذا لا يلزم الحنبلية ما يقتضيه العرف في الشاهد في أخبار الصفات.

يبين صحة هذا: أن البارىء سبحانه موصوف بأنه: حي عالم قادر مريد، والخلق موصوفون بهذه الصفات، ولم يدل الاتفاق في هذه التسمية على الاتفاق في حقائقها ومعانيها، هكذا القول في

 


(1) انظر مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية (3/ 32 - 33).
(2) مقالات الإسلاميين (2/ 4).

أخبار الصفات، ولا يلزم عند تسليمها من غير تأويل إثبات ما يقتضيه الحد والشاهد في معانيها.) (1) اهـ.

وقد ذكرنا رد أبي الحسن الأشعري نفسه على هذه الدعوى آنفاً.

وأما أهل السنة والسلف فلا يتكلمون في نفي الجسم عن الله أو إثباته، ولا في غيره من الألفاظ التي لم ترد في كتاب ولا سنة كالجهة والتحيز ونحوها، وإنما يصفون الله تعالى بما وصف به نفسه في كتابه وما وصفه رسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يتجاوزون القرآن والحديث.

كما قال الإمام أحمد: (ولا يبلغ الواصفون صفته، ولا نتعدى القرآن والحديث، فنقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه، ولا نتعدى ذلك) (2) اهـ.

ونقل أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: (لا ينبغي لأحد أن ينطق في الله بشيء من ذاته، بليصفه بما وصف به نفسه، ولا يقول فيه برأيه شيئاً، تبارك الله رب العالمين) (3) اهـ.

وقال البربهاري: (ولا يُتكلم في الرب، إلا بما وصف به نفسه عز وجل في القرآن، وما بيّن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه .. ) (4) اهـ.


(1) طبقات الحنابلة (2/ 211).
(2) سبق تخريجه حاشية 32.
(3) كتاب الاعتقاد لأبي العلاء صاعد بن محمد (ص123 - 124).
(4) شرح السنة (ص69).

وبين رحمه الله أن هذه الألفاظ المحدثة هي أساس ظهور البدع فقال: (واعلم رحمك الله لو أن الناس وقفوا عند محدثات الأمور، ولم يتجاوزوها بشيء، ولم يولّدوا كلاماً مما لم يجيء فيه أثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا عن أصحابه: لم تكن بدعة) (1) اهـ.

وقال الحافظ عبد الغني المقدسي رحمه الله في تقرير هذه القاعدة: (فمن السنن اللازمة: السكوت عما لم يرد فيه نص عن رسوله، أو يتفق المسلمون على إطلاقه، وترك التعرض له بنفي أو إثبات، وكما لا يُثبت إلا بنص شرعي، كذلك لا يُنفى إلا بدليل سمعي) (2) اهـ.

بل بَدَّّع السلف أهل الكلام بهذه الألفاظ وذموهم غاية الذم لما فيها من الاشتباه ولبس الحق.

كما قال الإمام أحمد: (يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يلبِّسون عليهم) (3).

وقال نوح بن الجامع: (قلت لأبي حنيفة: ما تقول فيما أحدث الناس من الكلام في الأعراض والأجسام؟ فقال: مقالات الفلاسفة، عليك بالأثر وطريقة السلف، وإياك وكل محدثة، فإنها بدعة) (4).

ولم يذم أحدٌ من السلف أحداً بأنه مجسم، ولا ورد عنهم ذم المجسمة، وإنما ذموا الجهمية المعطلة الذين ينفون حقائق الصفات، وذموا أيضاً المشبهة الذين يقولون: صفاته تعالى كصفات خلقه.

 


(1) المرجع السابق (ص105).
(2) عقائد أئمة السلف (ص132).
(3) الرد على الزنادقة والجهمية (ص85).
(4) رواه أبو إسماعيل الهروي في ذم الكلام وأهله (4/ 213).

 

  • الاربعاء AM 07:44
    2022-06-01
  • 1265
Powered by: GateGold