المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415424
يتصفح الموقع حاليا : 282

البحث

البحث

عرض المادة

تاريخ اليهودية

اليهـودية: تاريــخ
Judaism: History
من الشائع أن يقرن الدارسون تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية من جهة بتاريخ العقيدة (أو العقائد) اليهودية من جهة أخرى، وكذلك أن يوحدوا بينهما وكأنهما شيء واحد. وهو اتجاه ساعد عليه ما يمكن تسميته «التاريخ المقدَّس» أو «التاريخ التوراتي»، أي القصص التي وردت في التوراة على هيئة تاريخ. ونحن نرى ضرورة فصل تواريخ الجماعات اليهودية في العالم عن تاريخ العقيدة أو العقائد اليهودية، وذلك لاعتبارات منهجية وموضوعية، إذ أن الخلط بينها هو خلط بين مجالين مختلفين يؤدي إلى كثير من التشوش وعدم الفهم. وقد اعتاد الكثيرون النظر إلى اليهودية كما لو أنها عقيدة متكاملة وبناء ديني متكامل اتضحت معالمه الأساسية منذ ظهوره، وكما لو أن هذا البناء ظل محتفظاً بهذه السمات حتى الوقت الحاضر (كما هو الحال إلى حدٍّ كبير مع الإسلام والمسيحية على سبيل المثال). وهذا مناف للواقع، فتاريخ اليهودية طويل إلى أقصى حد. وقد مرت اليهودية كعقيدة بعدة تطورات عميقة غيَّرت طبيعتها وتوجهاتها شكلاً ومضموناً. هذا على الرغم من وجود أطروحات أساسية متواترة، مثل العهد والشعب المختار، تخلع عليها نوعاً من الوحدة. بل إن ثمة ظاهرة تنفرد بها اليهودية وهي ما يمكن تسميتها «الخاصية الجيولوجية التراكمية»، أي أن اليهودية تشبه التركيب الجيولوجي المكوَّن من طبقات مختلفة غير متجانسة تراكمت الواحدة فوق الأخرى عبر الزمان دون أن تمتزج. فاليهودية استوعبت عناصر مختلفة عديدة، ولكنها لم تمزجها ولم تفرض عليها حداً أدنى من الاتساق الداخلي. ولذا فإننا نجد أن هناك أفكاراً توحيدية متطرفة عند الأنبياء، وأفكاراً حلولية متطرفة عند القبَّاليين وصفها الحاخامات بأنها شكل من أشكال الشرك. ونجد رؤى متناقضة تماماً للإله فيما يتصل بمفاهيم مثل البعث والثواب والعقاب. كما دخل اليهودية كثير من المعتقدات الشعبية التي هي أقرب إلى الفلكلور. وربما كانت هذه السمة الجيولوجية هي التي أدَّت، في نهاية الأمر، إلى تعريف اليهودي في الشريعة اليهودية بأنه من وُلد لأم يهودية، وهو تعريف يضم الملحدين الذين لا يؤمنون بالإله، كما يضم (من الناحية النظرية على الأقل) اليهود الذين تنصروا أو أسلموا.


ويمكن تقسيم تاريخ اليهودية، باعتبارها نسقاً دينياً وعقيدة، بعيداً عن تاريخ العبرانيين وتواريخ الجماعات اليهودية، إلى عدة مراحل أساسـية، وتقسـيم كل مرحلة إلى فترات. وفي محاولتنا توصيف اليهودية، سنبين تتابُع ظهور كتب اليهود المقدَّسة، كما سنشير إلى المواجهات الخمس الكبرى بين اليهودية والحضارات الوثنية والتوحيدية المختلفة.

والمراحل الثلاث الأساسية في تاريخ اليهودية هي:

أولاً: يهودية ما قبل التهجير إلى بابل (حتى عام 587 ق.م)، أو العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية، تمييزاً لها عن اليهودية نفسها: وهي تقريباً المرحلة نفسها التي أطلقنا على اليهود فيها مصطلح «العبرانيون»، باعتبارهم جماعة عرْقية إثنية، و«اليسرائيليون» أو «جماعة يسرائيل» باعتبارهم جماعة دينية. وهذه المرحلة الكبرى تقسَّم بدورها إلى عدة فترات، وهي مرحلة يختلط فيها التاريخ بالأسطورة، وتُسقَط مفاهيم فترات لاحقة على فترات سابقة.

ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى الفترات التالية:

1 ـ فترة الآباء: (2100 ق.م ـ 1250 ق.م):

وتمتد ابتداءً من إبراهيم حتى يوسف. وحسبما جاء في التوراة، وقد قطع الإله على نفسه عهداً لإبراهيم بأن يكون الشعب الذي سينحدر من صلبه شعباً عظيماً، وأن تكون أرض كنعان من نصيبه. وحسب ما ورد في التوراة يمكن القول بأن عبادة الآباء تأثرت بالتراث الديني السامي القديم بتقديسها القوى الطبيعية والإيمان بالروح والشياطين والتحريمات (التابو)، وتمييزها بين الطاهر والنجس. ويُلاحَظ وجود عناصر وثنية كما هو الحال في قضية الترافيم (الأصنام).

2 ـ فترة موسى والخروج من مصر (فترة سيناء) (1275 ق.م ـ 1250 ق.م):

تلقَّى موسى، في سيناء، الوحي الإلهي من يهوه، والأمر بألا يُعبَد إلاّه باعتباره الإله الواحد، وبعدم تجسيده أو تشبيهه بشيء واحد من خلقه، أي أن الخالق يُصبح خالق التاريخ والطبيعة منزَّهاً عنهما. وقد صاحبت هذا الوحي مجموعة من الطقوس والقوانين الاجتماعية تحكم القبائل العبرانية في محيطها الصحراوي، أي نزل قانون ديني دائم ينظم المجتمع وعلاقات أعضائه. وفي هذه الفترة تَجدَّد العهد الإلهي المُعطَى للآباء. ويُعَدُّ الخروج نفسه تحقيقاً لهذا الوعد، وتُعَدُّ حادثة الخروج اللحظة التي وُلدت فيها جماعة يسرائيل، أي العبرانيون باعتبارهم جماعة دينية متميِّزة.

3 ـ المواجهة الأولى مع حضارة كنعان، والصراع بين يهوه وبعل (1200 ق.م ـ 587 ق.م):

حينما تغلغل العبرانيون في كنعان وجدوا عبادة بعل، وهي عبادة حلوليـة من عبـادات الطبيعة كانت سـائدة هناك (في ذلك المجتمع الزراعي). وقد حملوا معهم من المجتمع الصحراوي عبادة يهوه، وهي عبادة توحيدية أو شبه توحيدية. وحينما امتزجوا وتزاوجوا مع السكان الأصليين وتبنوا لسانهم حدث الامتزاج بين العقيدتين. وقد أصبح التناقض بين عبادة يهوه (رب التاريخ والشعب) وعبادة بعل (رب الطبيعة والحياة اليومية) التوتر الأساسي الذي تَحكَّم في حياة العبرانيين الدينية، وذلك حتى سقوط الدولتين الشمالية والجنوبية. وشهدت هذه الفترة ظهور الأنبياء المدافعين عن عبادة يهوه. والإصلاح التثنوي (621 ق.م) تعبير عن التوتر بين الحلولية والتوحيد الذي كانت له أبعاده السياسية. وحسب التصور الديني اكتمل الوعد الإلهي بالأرض والخلاص في مرحلة الملوك، كما تم تشييد الهيكل في تلك المرحلة (مرحلة الهيكل الأول) وتحوَّل إلى محور العبادة القربانية المركزية التي كان يشرف عليها الكهنة. ورغم تأكيد وحدانية الإله، فقد ظهرت مفاهيم أخرى ذات طابع حلولي، مثل الاختيار بتضميناته العرْقية والتركيز على الأرض، وهي مفاهيم تحد من عالمية الإله وتجعله مقصوراً على شعبه وأرضه، الأمر الذي ينتقص وحدانيته. وقد ظل هذا توتراً أساسياً في النسق الديني اليهودي. فإله العالمين لا يحتاج إلى أرض أو شعب، أما الإله القومي فيحتاج إلى شعب وأرض. وهو توتر بين النزعة الدينية الأخلاقية التي تبحث عن الخلاص في الزمان، والنزعة الوثنية القومية التي تبحث عنه في المكان، وهي ما يمكن تسميته «نزعة صهيونية» بالمعنى العام والبنيوي. وقد أصبح داود الملك النموذجي الذي يحكم باعتباره حاكماً دينياً يساعده الكهنة، وارتبط اسمه بالماشيَّح المخلص الذي يأتي من نسله (إلا أن عقيدة الماشيَّح نفسها لم تكن قد ظهرت بعد في هذه الفترة). وقد ظهرت في هذه المرحلة بعض القوانين الأخلاقية والشعائر، مثل: الختان، وشعائر الطعام والزراعة والسبت، وعيد الفصح، وعيد الأسابيع، وعيد المظال. وتتميَّز تلك المرحلة بأن الدين كان مرتبطاً بالجماعة الإثنية أو العرْقية ارتباطاً كاملاً، كما هو الحال في الشرق الأدنى القديم، وبأن اليهود تحوَّلوا تدريجياً، من خلال الاندماج مع السكان الأصليين، إلى جماعة زراعية بعد أن كانوا يشكلون جماعة صحراوية متنقلة. ويُلاحَظ وجود شعائر كثيرة مرتبطة بالزراعة. وتنتهي المرحلة بهدم الهيكل والتهجير إلى بابل (الذي يُطلَق عليه «السبي البابلي» في المصطلح الديني).


ثانياً: مرحلة ما بعد التهجير (بعد 587 ق.م):

وهي المرحلة التي اكتسبت خلالها العبادة القربانية المركزية، وهي المرحلة الثانية من عبادة يسرائيل، الملامح التي حولتها إلى العقيدة اليهودية في نهاية الأمر. وحينما نذكر اليهودية، فنحن عادةً ما نشير إلى يهودية ما بعد التهجير. وقد شهدت هذه المرحلة التعديل التدريجي للشريعة بحيث تحولت من كونها شريعة تشمل كل جوانب الحياة إلى شريعة تغطي بعض جوانبها وحسب، إذ تم تَقبُّل قوانين الدولة الحاكمة في عدة مجالات باعتبار أن «شريعة الدولة هي الشريعة» وهو ما أدَّى إلى تقلُّص مجال الشريعة اليهودية واقتصاره على الجوانب الدينية فقط وعلى الجوانب الخاصة بالعلاقات الداخلية لأعضاء الجماعات اليهودية.

ويمكن تقسيم هذه المرحلة إلى الفترات التالية:

1 ـ الفترة البابلية (والمواجهة الثانية مع الحضارة البابلية) والفارسية والهيلينية (والمواجهة الثالثة مع الحضارة الهيلينية) والرومانية (578 ق.م ـ 175 ق.م):

شهدت هذه المرحلة تفتُّت وحدة اليهود الجغرافية وانفتاحهم على الأفكار الدينية البابلية التي تعرفوا إليها أثناء فترة التهجير (أو السبي)، وهو ما ترك أثراً عميقاً في بنية العقيدة بحيث أخذت العبادة اليسرائيلية تتحول بالتدريج إلى اليهودية. وقد سمح قورش لليهود بالعودة إلى مقاطعة يهودا وأمر بإعادة تشييد الهيكل، وهذه بداية مرحلة الهيكل الثاني في المصطلح الديني. ومع قيام الإسكندر بغزو الشرق الأدنى القديم، دخلت اليهودية مرحلة جديدة إذ تأثر المفكرون اليهود تأثراً عميقاً بالأفكار الدينية والفلسفة الهيلينية. ويُلاحَظ أن عمق تأثر اليهود بالحضارة الهيلينية مرتبط باختفاء السلطة الدينية المركزية. وقد ساعد تسَامُح الحضارة الهيلينية، ثم السلطة الرومانية، تجاه اليهود على تَزايُد اندماج أعضاء الجماعات اليهودية ومن ثم على تأثرهم بالمنظومات الدينية والمعرفية والفلسفية السائدة في المجتمعات التي يعيشون فيها. ولم تتعاون السلطة الحاكمة (البطلمية أو السلوقية أو الرومانية) مع القيادات الحاخامية للهيمنة على أعضاء الجماعات كما فعلت السلطة الفارسية وإنما أتاحت لهم مجال الاندماج، فانتشرت أنماط التفكير الهيليني بسرعة، ونسي اليهود الآرامية وتعلموا اليونانية التي تُرجم إليها العهد القديم. وقد حل الكاهن الأعظم محل الملك في الرئاسة الدينية، وأُعيد تشييد الهيكل بحيث أصبح الهيكل مركز العبادة مرة أخرى. وشهدت هذه الفترة إصلاحات عزرا ونحميا، وبداية تدوين العهد القديم. ويمكن القول بأن الفترة السابقة يمكن تقسيمها إلى ما قبل ما بعد الرؤى (أبوكاليبس)، والكتب الخارجية أو الخفية (أبوكريفا) في نهاية العصر الهيليني، وبدايات الشريعة الشفوية وتَرسُّخ عقيدة الماشيَّح، وظهور عقائد مثل: خلود الروح والبعث. وشهدت هذه الفترة أيضاً الانقسام السامري، وظل الدين في هذه الفترة مرتبطاً بالجماعة الإثنية رغم انتشار الجماعات اليهودية خارج فلسطين.

2 ـ فترة ما قبل ظهور اليهودية الحاخامية (أو المعيارية أو الكلاسيكية) حتى القرن السادس، ظهور الفريسيين وهدم الهيكل وظهور الأكاديميات (يشيفا) والمعبد اليهودي:

يُعَدُّ ظهور الفريسيين قمة التطور الذي بدأ مع التهجيرالبابلي والذي أخذ شكل انفتاح مستمر على العناصر العالمية، وهي النقطة التي تحولت فيها العبادة اليسرائيلية والعبادة القربانية المركزية اليهودية بشكل نهائي. وجوهر الفريسـية هـو هجومهـا على طبقـة الكهنة المرتبطة بالهيكل، والعبادة القربانية المركزية مُمثَّلة أساساً في الصدوقيين وطرحها تصوراً لليهودية منفصلاً عن المكان، وعن الدولة، وعن الأرض، وإن لم يكن منفصلاً عن الجماعة الإثنية. وقد طوَّر الفريسيون مفهوم الشريعة الشفوية لتوسيع مجال التفسير، وحتى يمكن تحرير اليهود من قبضة العبادة القربانية. وشهدت هذه المرحلة ظهور المعبد اليهودي (سيناجوج). وواكب كل هذا انتشار الحضارة الهيلينية وقيمها بين اليهود الذين لم يعودوا يعرفون العبرية، كما كان عدد اليهود خارج فلسطين أكثر من عددهم داخلها. ولذا، أدَّى هدم الهيكل، على يد تيتوس، إلى تكريس اتجاه موجود بالفعل.

وقد ظهرت المسيحية في هذه الفترة فمثلت تحقيقاً لعملية فصل الدين عن مؤسسات الدولة ثم عن الجماعة الإثنية، بحيث صار باب الخـلاص مفتــوحاً لجماعة المؤمنين بأسرها، وليس للمنتمين إلى جمــاعة إثنية محـددة. وقد أدَّى انتشار المسيحية إلى ضمور اليهودية.

وفي القرن السادس، تم تدوين التلمود الذي يتسم بزيادة الاتجاه نحو الحلولية والنزعة القومية، والذي ينسب إلى الإله صفات بشرية عديدة. ولم تَعُد القدس مركزاً دينياً وحيداً، بل أصبحت هناك مراكز عديدة منفصلة يقودها الحاخامات. ويُعدُّ هذا تاريخ ظهور اليهودية الحاخامية، وهي اليهودية التي انتشرت بين أعضاء الجماعات اليهودية حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن المشاكل الأساسية التي واجهتها اليهودية بدءاً من هذه الفترة أنها كانت ديانة توحيدية أو شبه توحيدية في تربة وثنية تكتسب هويتها من وحدانيتها وتحارب ضد الأسطورة والحلولية، ولكنها وجدت نفسها في تربة توحيدية، إسلامية أو مسيحية، ولذا عدَّلت إستراتيجيتها، وأخذت تتجه نحو الأسطورة والتعددية. ووصل هذا الاتجاه إلى قمته في القبَّالاه.

3 ـ اليهودية الحاخامية، من القرن السابع الميلادي (بعد تدوين التلمود) حتى منتصف القرن السابع عشر (هيمنة القبَّالاه) (المواجهة الرابعة مع الديانات التوحيدية: المسيحية والإسلام).

في هذه الفترة، تحوَّل اليهود إلى جماعات متفرقة لا تعمل بالزراعة، الأمر الذي ترك أثراً عميقاً في التركيب الطبقي والوظيفي لليهـود إذ أصبحـوا جماعات وظيفية وسـيطة، خصوصاً في العالم الغربي. وقد تدعَّم مركز الحاخامات، الذين حلوا محل الكهنة، واكتملت المعالم الأساسية للتفسيرات الحاخامية التي تُسمَّى «الشريعة الشفوية». وأخذ الفكر الديني اليهودي في الضمور في الغرب خلال العصور الوسطى في الغرب، بينما نجده ينفتح ويتطور نتيجة احتكاكه بالفكر الإسلامي التوحيدي، العقلاني والصوفي، وهذه هي المواجهة الرابعة مع الحضارة الإسلامية. وبلغ الانفتاح والتطور ذروته في كتابات موسى بن ميمون الذي قدَّم أول تحديد لأصول الدين اليهودي. وقد ظهر، تحت تأثير الفكر الإسلامي، الاحتجاج القرّائي (العقلاني) ورفض الشريعة الشفوية.

ويُلاحَظ في هذه الفترة أن اليهودية لم تَعُد مرتبطة بالمكان، وذلك رغم أنها ظلت ديانة جماعة إثنية محددة. وأصبحت العودة مفهوماً دينياً وعملاً من أعمال التقوى، وأصبحت صهيون صورة مجازية دينية وكان على المؤمن ألا يحاول العودة إلى صهيون (فلسطين)، وأن ينتظر حتى يشاء الإله عودة الشعب. ونظراً لوجود اليهودية الغربية في حالة العزلة داخل الجيتو باعتبارها عقيدة جماعة وظيفية وسيطة، فقد أصابها الجمود وأصبحت عاجزة عن الوفاء بحاجات اليهود الدينية. وأخذت الأزمة تتفاقم مع القرن السادس عشر، مع بدايات الثورة العلمانية الكبرى، ومع هجمات شميلنكي عام 1648. وأخذ الاحتجاج على اليهودية الحاخامية (ويُقال لها أيضاً «التلمودية» أو «الربانية») شكل ثورات المشحاء الدجالين، مثل شبتاي تسفي، الذين يطالبون بإسقاط الشريعة والتلمود، وبالعودة الفعلية والفورية إلى فلسطين.

وقد أخذت الثورة ضد اليهودية الحاخامية شكلاً آخر، وهو ظهور تراث القبَّالاه الصوفي المفرط في الحلولية مثل كتاب الزوهار وكتابات إسحق لوريا المتأثر بشكل مشوَّه ببعض المفاهيم المسيحية مثل التثليث والصلب. ويرى جرشوم شوليم أن القبَّالاه اللوريانية حققت هيمنتها الكاملة في منتصف القرن السابع عشر. كما ظهرت الحركات الشبتانية والحركة الحسيدية. ولم ترفض المؤسسة الحاخامية القبَّالاه تماماً، بل استوعبتها بعد حين، وجعلت الإيمان بها واحداً من أركان العقيدة اليهودية. لكن التوتر ظل قائماً بين المؤسسة الحاخامية التلمودية والمؤسسة القبَّالية الحسيدية، وتَمثَّل هذا في الصراع بين المتنجديم والحسيديين، وإن كانوا قد وحدوا صفوفهم في مواجهة الحركات التجديدية والإصلاحية الحديثة.

ثالثاً: العصر الحديث (مع منتصف القرن السابع عشر تقريباً): وهي مرحلة المواجهة الخامسة مع الحضارة العلمانية في الغرب:

بينما كانت اليهودية متخندقة في الجيتو، كان المجتمع الأوربي آخذاً في التطور السريع، وهو تطوُّر لم يشارك فيه أعضاء الجماعات اليهودية في الغرب (رغم أنه ترك فيهم أعمق الأثر). ومع ظهور الدولة القومية التي طالبت بفصل الولاء القومي عن الانتماء الديني، ومع تَصاعُد معدلات العلمنة، وجد أعضاء الجماعات اليهودية أنفسهم في العصر الحديث، غير مهيئين على الإطلاق لإنجاز هذه العملية. ولقد بدأت المرحلة الحديثـة في هـولندا في القرن السابع عشر، في أمستردام، ثم فرنسا وألمانيا في القرن الثامن عشر، ومعظم بلاد أوربا في منتصف القرن التاسع عشر، والعالم العربي والعالم الإسلامي في القرن العشرين. وتسبَّب هذا الوضع في ظهـور أزمـة هــويـة عميقـة، وأخـذت ردود الفعــل أشكالاً كثيرة مثل:

1 ـ حركة التنوير اليهودية وظهور اليهودية الإصلاحية، أواخر القرن الثامن عشر: تُعَدُّ حركة التنوير واليهودية الإصلاحية إحدى الاستجابات اليهودية للعصر الحديث، وهي استجابة تتقبل معطيات هذا العصر وعقلانيته المادية وتنطلق منه، وتحاول فصل الدين لا عن الدولة الحاكمة وحسب، وإنما عن الجماعة الإثنية تماماً بحيث يصبح «اليهودي يهودياً في منزله مواطناً في مدينته» (على حد قول يهودا جوردون).

2 ـ الحركات الأرثوذكسية والمحافظة، أوائل القرن التاسع عشر: لم تكن كل قطاعات اليهود راغبة في ـ أو قادرة على ـ دخول العصر الحديث، وتَقبُّل قيمه. ولذا، انخرطت أعداد كبيرة منها في حركات دينية هي في جوهرها رد فعل للعصر الحديث يأخذ شكل الإمساك بتلابيب الصيغة الدينية القومية التقليدية، مثل: الحسيدية (التي بعثت التراث الصوفي) واليهودية الأرثوذكسية والمحافظة والتجديدية. ولا تزال الفرق اليهودية كلها مختلفة حول أمور شعائرية وعقائدية عديدة، وتبلورت الخلافات في موقفها من الشريعة، أهي ملزمة لليهودي في العصر الحديث أم يمكنه إعادة تفسيرها على طريقته، أو حتى التخلي عنها؟

3 ـ الحركة الصهيونية بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر: رغم أن الصهيونية في جوهرها حركة علمانية لا دينية، فإن ظهورها أثر تأثيراً عميقاً في اليهودية والفكر الديني اليهودي إلى درجة أن اليهودية الأرثوذكسية التي بدأت بمعاداة الصهيونية، أصبحت العمود الفقري للاستيطان الصهيوني. واستفادت الصهيونية من الاتجاه القومي داخل اليهودية وحوَّلت كثيراً من المفاهيم الدينية الروحية إلى مفاهيم فيزيقية بحيث تحولت العودة في نهاية الأيام إلى الاستيطان الصهيوني هذه الأيام. كما تمت علمنة المفاهيم الدينية بحيث أصبح هناك ما يشبه التماثل البنيوي بين اليهودية الحاخامية والصهيونية. فهناك كثير من علماء الدين اليهودي يتحدثون عن دولة إسرائيل كما لو كان لها معنى أخروي ميتافيزيقي، وأنها علامة على تَدخُّل الإله في التاريخ لينقذ شعبه ويأتي له بالخلاص تماماً كما فعل في واقعة الخروج. وقد قرن أحد المفكرين الدينيين اليهود بين الإله والدولة إلى درجة أنه صرح عام 1967 بأن الإله نفسه مُهدَّد في هذه الحرب! وقد ظهر إلى جانب الصهيونية ما يُسمَّى «اليهودية الإثنية» التي أعادت تعريف اليهودية بحيث أفرغتها من محتواها الديني والأخلاقي أو جعلته في المرتبة الثانية وأكدت محتواها الإثني، فأصبح بإمكان اليهودي الذي لا يؤمن بالإله ولا يمارس التحريمات الخاصة بالطعام أن يصر على تسمية نفسه يهودياً. ورغم انتصار الصهيونية الكاسح، فلا تزال توجد جيوب مقاومة بين اليهود الأرثوذكس والإصلاحيين.

4 ـ اليهودية في الولايات المتحدة: انتقل مركز اليهودية إلى الولايات المتحدة، وهو ما كان يعني انتقال اليهودية إلى تربة علمانية كاملة. فعمَّت الاتجاهات الإصلاحية والمحافظة، وضَعُفت اليهودية الكلاسيكية أو المعيارية (الأرثوذكسية). كما ضَعُف دور الحاخام تماماً بحيث أصبح اليهود العاديون يسيطرون على الجماعة، وأصبح المعبد اليهودي جزءاً من النشاط الاجتماعي لأعضائها، كما هيمنت الصهيونية، في مستوى من المستويات، على الجماعة اليهودية وعلى فكرها الديني.

5 ـ لاهوت موت الإله: ظهر بعد الحرب العالمية الثانية تيار كاسح بين المفسرين الدينيين اليهود يَصدُر عن تقديس الشعب اليهودي وتاريخ هذا الشعب باعتباره سجلاً لما يقع له من أحداث وما يقوم به من أفعال. فكأن اليهودية سقطت مرة أخرى وبحدة في الحلولية الوثنية القديمة حيث يترادف الديني والقومي وحيث يستحيل تجاوز سطح المادة، فهي وثنية دون إله تحل فيها الذات القومية محل الذات الإلهية.

وأهم أحداث التاريخ اليهودي (المقدَّس) من منظور هؤلاء المفكرين هو الإبادة النازية ، فهي دليل على فشل اليهودية الحاخامية تماماً، إذ جعلت اليهود شعباً مختاراً يقف شاهداً على الشعوب الأخرى لا يشارك في السلطة السياسية ولا سيادة له. والإبادة دليل أيضاً على اختفاء أو موت الإله، فحضور معسكرات الاعتقال دليل على غياب الإله. ويُلاحَظ أن الخطاب المستخدم هو خطاب ما بعد الحداثة، الذي يركز دائماً على عدم وجود مطلقـات تتجـاوز الواقع وغياب المركز، ومن ثم غياب علاقة الدال بالمدلول. ولكن اختفاء الإله كمطلق لا يعني اختفاء كل المطلقات إذ يظهر الشعب اليهودي باعتباره المطلق، ويصبح بقاؤه بأي ثمن القيمة الأخلاقية الكبرى، كما تصبح دولة إسرائيل التعبير الأمثل عن إرادة هذا الشعب وعن تَخلُّصه من عجزه وتأكيده سيادته. وشعائر هذا اللاهوت هي تَذكُّر الإبادة، وكتبه المقدَّسة هي الكتب اليهودية التي تُذكِّر اليهود والعالم بهذه الحادثة والمؤسسات الصهيونية (الكنيست الإسرائيلي ـ مؤسسات الجباية) هي مؤسسات العقيدة الجديدة. والأوامر والنواهي لم تَعُد لها أهمية، فأهم واجب ديني يهودي هو الدفاع عن بقاء الشعب اليهودي والدولة الصهيونية (مهما ارتكبت من آثام) والدفاع عن إسرائيل (ومن هنا يُسمَّى لاهوت موت الإله «لاهوت البقاء»، و«لاهوت ما بعد أوشفيتس»). وبطبيعة الحال، نجد أن الأخلاقيات الناجمة عن الإيمان بهذه الرؤية أخلاقيات براجماتية لا علاقة لها بالقيم المطلقة. وإذا كان هدف اليهود البقاء والإبقاء على دولتهم بأي ثمن، فإن البقاء يُعَدُّ قيمة طبيعية أو داروينية وليس قيمة أخلاقية أو إنسانية. ولاهوت موت الإله تعبير عن الهيمنة الصهيونية الكاملة أو إنسانية، وعلمنة النسق الديني اليهودي، إذ صفِّي النسق الحلولي تماماً من كل شائبة (وحتى من كلمة الإله)، وأصبح نسقاً خالياً من أي شيء سوى الذات القومية، وهو يشكل بالتالي عودة شبه كاملة للعبادة القربانية المركزية، ولكنها كما قلنا عبادة دون إله، الأمر الذي يعني تأليهاً متطرفاً للذات القومية.

6 ـ إعادة تأكيد الانتمـاء الديني مقـابل الانتماء الإثني: في السبعينيات، بدأت تظهر مؤخراً حركات بين اليهود لا ترفض الصهيونية علناً، ولكنها تحاول التملص منها، وتؤكد ضرورة الاحتفاظ بالانتماء الديني مستقلاً عن الانتماء الإثني أو القومي أو السياسي. وأعضاء هذه الحركات يخشون اقتران اليهودية بالصهيونية اقتراناً كاملاً قد يقضي عليها. ولذلك، فهم يصرون على مركزية الدياسبورا (الجماعات) مقابل المفهـوم الصهيوني الخـاص بمركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، ومن أهم دعاة هذا الاتجاه الحاخام جيكوب نيوزنر أكبر علماء التلمود المعاصرين. كما ظهر ما يُسمَّى «لاهوت التحرير» الذي يُطوِّر كثيراً من هذه المفاهيم، فدعاة لاهوت التحرير يرفضون تقديس التاريخ اليهودي والمزاوجة بين القومي والمقدَّس، وهم من ثم يرفضون اعتبار العقائد أو الدولة الصهيونية مطلقات. بل إنهم يطالبون اليهود بألا يتذكروا ضحايا الإبادة من اليهود وحسب وإنما أن يتذكروا أيضاً الضحايا من غير اليهود. أما الدولة الصهيونية، بالنسبة لهم، فهي قد حلت بالفعل مشكلة العجز بسبب غياب السيادة ولكنها استخدمت سلطاتها في حرق البشر وفي كسر عظام الأطفال، وأصبح بقاؤها مرهوناً بموت الأطفال الفلسطينيين، ولذا يتعيَّن على اليهود أن يتذكروا ضحايا الصهيونية، وإذا كانوا يساندون هذه الدولة فيتعيَّن عليهم أيضاً التمسـك بالقيم الأخلاقية المطلقـة ومحاكمة هـذه الدولة من خلال هذه القيم.

ويُلاحَظ أن التناقض بين لاهوت موت الإله ولاهوت التحرر هو نفسه التوتر القديم بين الكهنة والأنبياء وبين دعاة الانغلاق الوثني والانفـتاح الأخــلاقي العالمي، فكأن اليهودية لا تزال في حالة التوتر الأولى، وهذا يعود ولا شك إلى تركيبتها الجيولوجية التراكمية.

  • الخميس PM 06:47
    2021-04-22
  • 1281
Powered by: GateGold