المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413129
يتصفح الموقع حاليا : 245

البحث

البحث

عرض المادة

إنكار عدالة الأعراب

إنكار عدالة الأعراب(*)

مضمون الشبهة:

 ينكر بعض المشككين الأحاديث التي رواها الأعراب؛ بحجة أنهم ليسوا عدولا، ويستدلون على نفي عدالتهم بالآتي:

  • قوله تعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم (97) (التوبة).
  • قوله تعالى: )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4)( (الحجرات)، وقد نزلت في وفد بني تميم.
  • أن من وفد عبد القيس منار تدعنا لإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
  • خبرالأعرابي الذي بال في مسجد الرسول – صلى الله عليه وسلم – يدل على سقوط عدالته.

رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالة هؤلاء الأعراب، ومن ثم رد مروياتهم.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لا مسوغ لرد أحاديث الأعراب طالما أنهم صحابة مسلمون؛ إذ إن الصحابة كلهم عدول، ولو كان الأعراب غير عدول لاستثناهم القرآن ونبه عليهم، وحذر منهم كما فعل مع المنافقين، فضلا عن أنه ليست لهم مرويات في كتب السنة؛ فلم الطعن إذن؟!

2)  المقصود بالأعراب في قوله سبحانه وتعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا( الكفار والمنافقون منهم وليس جميعهم، ولذلك فلا تعد هذه الآية مطعنا في عدالة الأعراب المسلمين؛ بدليل قول الله سبحانه وتعالى: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)( (التوبة).

3) قوله تعالى: )أكثرهم لا يعقلون (4) ( (الحجرات)، نزلت في بني تميم قبل إسلامهم؛ تأديبا لهم وتنبيها لهم ولغيرهم على الآداب الواجبة في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر الله لهم وعفا عنهم.

4) لقد استقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفد عبد القيس وأثنى عليهم ودعا لهم، أما ما حدث بعد موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان نتيجة لصدمتهم ليس إلا، ولقد عادوا سريعا إلى الإسلام.

5) إن بول الأعرابي في المسجد لا يقدح في عدالته؛ لأنه تصرف على طبيعته، وهو لا يعلم حرمة ما فعل، ويقوي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قطع بولته عليه.

التفصيل:

أولا. الأعراب عدول طالما أسلموا وصحبوا النبي صلى الله عليه وسلم:

المسلمون من الأعراب عدول لأنهم صحابة، ولا يحق لأحد كائنا من كان أن يجرحهم أو يرد أحاديثهم، طالما أنهم أسلموا وحسن إسلامهم، كما أن الأعراب ليسوا بدعا من الصحابة، وما كانت التسمية إلا تمييزا لهم عن غيرهم؛ لأنهم يسكنون البادية، قال ابن قتيبة: "الأعرابي لزيم البادية"([1]).

إن الله لما علم آدم الأسماء كلها، كان مما علم من الأسماء: العرب والأعراب والعربية، وقبل فساد اللغة، كان هذا اسم اللسان، واسم القبيلة حتى بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - فأعطى الله من آثر دينه على أهله وماله اسما أشرف من "عرب" ومن "قريش"، فقال: "المهاجرون"، وأعطى من آوى وناضل اسما أشرف من الذي كان، وهو "الأنصار"، وعمهم باسم كريم شريف الموضع والمقطع، وهو "الصحابة"، وأعطى من لم يره حظا في التشريف باسم عام يدخلون به في الحرمة وهو "الأخوة"، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى المقبرة فقال: «... وددت أنا قد رأينا إخواننا، قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد...»([2]) ([3]).

وعليه فالأعراب من الصحابة لهم ما للصحابة وعليهم ما على الصحابة؛ لذا لما دخل سلمة بن الأكوع على الحجاج قال له الحجاج: «يا بن الأكوع، ارتددت على عقبيك، تعربت؟ قال: لا، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أذن لي في البدو»([4]).

وعلى ذلك فإننا لا نستطيع رد أحاديث الأعراب طالما أنهم صحابة مسلمون غير منافقين، في حين أنه يتحتم علينا أن نرد حديث المنافق أيا من كان؛ لذا فإننا لا نقبل مثلا أحاديث عبد الله بن أبي بن سلول - قاتله الله - إن وجدت له أحاديث، مع أنه من أهل المدينة، وما ذاك إلا لأنه منافق، وإذا ثبت النفاق على الأعراب وجب رد أحاديثهم، أما إذا ثبت لهم الإسلام، فلا يحق لأي أحد أن يرد حديثهم، وهذا ما كان بالنسبة إلى وفد عبد القيس؛ فقد ثبت لهم الإسلام، بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أثنى عليهم - وسيأتي تفصيل ذلك - ثم إنه كم من الأحاديث رويت عن الأعراب بجملتهم في كتب السنة عامة، فضلا عن الصحاح، ومن هم الذين رووا عنهم من أهل السنن؟! فإذا لم يكونوا أهل رواية، ولم يوقف لهم على روايات في كتب السنة، فعلام الطعن فيهم إذن؟!

ثانيا. الأعراب المشار إليهم في الآية هم الكفار والمنافقون منهم وليس الأعراب كلهم:

إن قوله تعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله( (التوبة: 97) لا يطعن في مسلمي الأعراب؛ لأنه لا يقصد مسلمهم، وإنما يقصد الكفار والمنافقين منهم الذين كذبوا الله ورسوله، لذلك قرن - سبحانه وتعالى - الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب مع الكفار، والمنافقين الذين تحدث عنهم قبل هذه الآية مباشرة؛ حتى يكون الحديث شاملا الكفار والمنافقين بجميع أجناسهم.

وهذا ما أجمع عليه عامة المفسرين منذ زمن بعيد، وقبل أن يتشدق بعض قليلي العلم بمثل هذا الطعن في الصحابة الكرام.

قال القرطبي رحمه الله: "لما ذكر - عز وجل - أحوال المنافقين بالمدينة ذكر من كان خارجا منها ونائيا عنها من الأعراب؛ فقال: كفرهم أشد"([5])؛ أي: المنافقون منهم وليس المسلمون.

وقال محمد رشيد رضا: ")الأعراب أشد كفرا ونفاقا( بيان مستأنف لحال سكان البادية من المنافقين؛ لأنه مما يسأل عنه بعد ما تقدم في منافقي الحضر من سكان المدينة وغيرها من المنافقين... وقد وصف الأعراب بأمرين اقتضتهما طبيعة البداوة:

الأول: أن كفارهم ومنافقيهم أشد كفرا ونفاقا من أمثالهم من أهل الحضر - ولا سيما الذين يقيمون في المدينة المنورة نفسها - لأنهم أغلظ طباعا، وأقسى قلوبا، وأقل ذوقا وآدابا - كدأب أمثالهم من بدو سائر الأمم - بما يقضون جل أعمارهم في رعي الأنعام وحمايتها من ضواري الوحوش، ومن تعدي أمثالهم عليها وعلى نسائهم وذراريهم، فهم محرومون من وسائل العلوم الكسبية، والآداب الاجتماعية.

الثاني: أنهم أجدر؛ أي: أحق وأخلق من أهل الحضر بألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى في كتابه، وما آتاه من الحكمة التي بين بها تلك الحدود بسنن أقواله وأفعاله، وفهم ألفاظ القرآن اللغوية، لا يكفي في علم حدوده العلمية، وكان أهل المدينة وما حولها من القرى يتلقون عنه - صلى الله عليه وسلم - كل ما ينزل من القرآن وقت نزوله، ويشهدون سنته في العمل به، وكان يرسل العمال إلى البلاد المفتوحة يقيمون فيها ويبلغون القرآن، ويحكمون بين الناس به وبالسنة المبينة له، فيعرف أهلها تلك الحدود التي حدها الله تعالى ونهاهم أن يعتدوها، ولم يكن هذا كله ميسورا لأهل البوادي؛ لذلك كان كفارهم ومنافقوهم أشد على الإسلام من كفار ومنافقي المدينة([6]).

وقال الطاهر ابن عاشور مبينا أن المقصود من الأعراب هم الكفار والمنافقون منهم: "وازديادهم في الكفر والنفاق هو بالنسبة لكفار ومنافقي المدينة، ومنافقوهم أشد نفاقا من منافقي المدينة، وهذا الازدياد راجع إلى تمكين الوصفين من نفوسهم؛ أي: كفرهم أمكن في النفوس من كفر كفار المدينة، ونفاقهم أمكن من نفوسهم كذلك؛ أي: أمكن في جانب الكفر منه، والبعد عن الإقلاع عنه، وظهور بوادر الشر منهم"([7]).

ومما سبق ذكره من آراء المفسرين يتضح أن الأعراب المذكورين في قوله تعالى: )الأعراب أشد كفرا ونفاقا(، هم الكفار والمنافقون منهم فقط وليس كل الأعراب؛ لهذا فلا تطعن هذه الآية في الأعراب الذين أسلموا وصحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا تعد دليلا على إسقاط عدالتهم كما زعم هؤلاء.

ومما يدل على أن الآية خاصة بالمنافقين والكفار من فئة الأعراب فقط - الآيات بعد ذلك؛ إذ توضح جميع أقسام هؤلاء الأعراب: المؤمنين منهم، والمنافقين، والكفار، قال تعالى: )ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما ويتربص بكم الدوائر( (التوبة: ٩٨)، وقال تعالى: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)( (التوبة)، وقال تعالى: )وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم (101) ( (التوبة).

قال ابن عاشور: "كانت الأعراب الذين حول المدينة قد خلصوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأطاعوه، وهم (جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصية)، فأعلم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن في هؤلاء منافقين لئلا يغتر بكل من يظهر له المودة.

وكانت المدينة قد خلص أهلها للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأطاعوه، فأعلمه الله أن فيهم بقية مردوا على النفاق لأنه تأصل فيهم من وقت دخول الإسلام بينهم"([8]).

ثالثا. قوله تعالى: )أكثرهم لا يعقلون (4)( نزلت في بني تميم قبل إسلامهم، وقد عفا الله عنهم وغفر لهم:

نزلت هذه الآية في بني تميم، "ونداؤهم له - صلى الله عليه وسلم - من وراء الحجرات كان قبل إسلامهم، وإنما قال الله: )أكثرهم لا يعقلون (4)( (الحجرات) لأجل ندائهم، هذا هو السابق إلى الأفهام، كما إذا قلت: إن الذين يكفرون بالله لهم عذاب أليم، فإن العذاب الأليم مستحق بسبب الكفر، وهو تنبيه ظاهر على العلة، وقد ذكره أهل الأصول، قالوا: لو قال صلى الله عليه وسلم: من أحدث فليتوضأ، كان ذلك تنبيها على أن الحدث هو الموجب للوضوء، فإذا ثبت ذلك، لم يتوجه عليهم بعد الإسلام الذم الذي صدر على فعلهم قبله، وإنما أنزله الله بعد إسلامهم تأديبا لهم ولغيرهم ألا يعودوا لمثله، كما أنزل بعد توبة آدم عليه السلام: )وعصى آدم ربه فغوى (121)( (طه)، تأديبا لغيره من الأنبياء - عليهم السلام - ولحكمة يستأثر الله تعالى بعلمها، وكما قال تعالى في طائفة من الصحابة يوم أحد: )منكم من يريد الدنيا( مع قوله تعالى: )ولقد عفا عنكم( (آل عمران: ١٥٢)"([9]).

وهذا ما يؤكده الطبري في تفسيره لقوله سبحانه وتعالى: )أكثرهم لا يعقلون (4)( (الحجرات) يقول: "أكثرهم جهال بدين الله، واللازم لهم من حقك وتعظيمك. )والله غفور رحيم (5)( (الحجرات)، إذ يقول تعالى ذكره: الله ذو عفو عمن ناداك من وراء الحجاب، إن هو تاب من معصية الله بندائك كذلك، وراجع أمر الله في ذلك، وفي غيره، رحيم به أن يعاقبه على ذنبه ذلك من بعد توبته منه"([10]).

وقوله تعالى: )لا يعقلون( ليس على ظاهره؛ لوجهين:

أحدهما: أنهم مكلفون، وشرط التكليف العقل.

ثانيهما: أنه - سبحانه وتعالى - أجل من أن يذم ما لا يعقل، كما لا يصح نزول آية في ذم الأنعام بعدم العقل؛ إذ من لا عقل له فلا ذنب له في عدم العقل. إذا ثبت ذلك، فالمراد ذمهم بالجفاوة، وعدم التمييز للعوائد الحميدة، وآداب أهل الحياء والمروءة، وهذا ليس من الجرح في شيء، فإن لطف الأخلاق والكيس في الأمور ليس من شرط الراوي، ومبنى الرواية على ظن الصدق، وأولئك الأعراب - لا سيما ذلك الزمان - كانوا من أبعد الناس عن الكذب، والظن لصدقهم قوي، لا سيما في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما أن صدور مثل هذه القوارع على جهة التأديب للجاهلين، والإيقاظ للغافلين من الله تعالى أو من رسوله صلى الله عليه وسلم - لا تدل على جرح من نزلت فيه، أو بسببه، ما لم يكن فيها ما يدل على فسقه وخروجه من ولاية الله، فقد ينزل شيء من القرآن الكريم، وفيه تأديب لبعض الرسل الكرام، وقد قال الله تعالى لخيار المهاجرين والأنصار: )لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)( (الأنفال)، وأنزل الله أول سورة الممتحنة في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وعلى الرغم من ذلك؛ فإنه لم يكن جرحا في حاطب، فقد عذره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهى عمر عنه، قائلا له: «... إنك لا تدري لعل الله يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال لهم: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»([11]).

وقد نزل الوعيد في رفع الأصوات عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشفق أحد الصحابة من ذلك؛ حيث كان جهوري الصوت، إلا أن ذلك - دونما شك - لم يكن جرحا له أو سبا فيه، وقد عاتب الله تعالى نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - في سورة عبس؛ لأنه عبس في وجه ابن أم مكتوم وتولى عنه، كما أنزل الله تعالى في آدم - عليه السلام - قوله: )وعصى آدم ربه فغوى (121)( (طه).

وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر - وهو من هو عدلا وورعا: «إنك امرؤ فيك جاهلية»([12])([13]).

وعلى ذلك فلا يصح الاستدلال بهذه الآية على تجريح الأعراب ورد أحاديثهم.

رابعا. حسن إسلام وفد عبد القيس وعدالتهم:

إن وفد عبد القيس قد جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما؛ لذا استقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثنى عليهم ودعا لهم، فما حدث منهم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كان بسبب صدمتهم في موته - صلى الله عليه وسلم - ومما يؤكد ذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي جمرة قال: «قلت لابن عباس رضي الله عنهما: إن لي جرة تنتبذ لي نبيذا فأشربه حلوا في جر، إن أكثرت منه فجالست القوم فأطلت الجلوس خشيت أن أفتضح، فقال: قدم وفد عبد القيس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مرحبا بالقوم غير الخزايا ولا الندامى، فقالوا: يا رسول الله، إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في شهر الحرم، حدثنا بجمل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو به من وراءنا، قال: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله - هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله - وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس، وأنهاكم عن أربع: ما انتبذ من الدباء، والنقير، والحنتم، والمزفت»([14]).

فانظر رحمك الله إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لوفد عبد القيس مرحبا بهم: "مرحبا بالقوم غير الخزايا ولا الندامى"، فهل يقبل عقل عاقل أن يثني النبي - صلى الله عليه وسلم - على أناس ويبعدهم عن الخزي والندم، ثم نصفهم بأنهم غير عدول ونرد حديثهم؟!

بل إن منهم من أحب الله - سبحانه وتعالى - خصاله؛ إذ قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل منهم - وهو الأشج: «إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة»([15])، فهل هذا أيضا ساقط العدالة لأنه من الأعراب؟!

ثم إن لك أن تدرك مكانتهم في الإسلام من خلال هذا

الحديث الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: «أول جمعة جمعت - بعد جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في مسجد عبد القيس بجواثا، يعني قرية من البحرين»([16]).

وفي حديث هود بن عبد الله بن سعد العصري أنه سمع جده مزبدة العصري قال: «بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث أصحابه إذ قال لهم: سيطلع عليكم من ههنا ركب هم خير أهل المشرق، فقام عمر فتوجه نحوهم، فلقي ثلاثة عشر راكبا فرحب وقرب، وقال: من القوم؟ قالوا: قوم من عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد؟ التجارة؟ قالوا: لا، قال: فتبيعون سيوفكم هذه؟ قالوا: لا، قال: فلعلكم إنما قدمتم في طلب هذا الرجل؟ قالوا أجل، فمشى معهم يحدثهم، حتى نظر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال لهم: هذا صاحبكم الذي تطلبون؛ فرمى القوم بأنفسهم عن رحالهم، فمنهم من سعى سعيا، ومنهم من هرول، ومنهم من مشى، حتى أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخذوا بيده يقبلونها»([17]).

بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - انشغل بهذا الوفد عن الركعتين اللتين بعد الظهر، وصلاهما بعد العصر مما يؤكد على عظم مكانة هذا الوفد عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتين بعد العصر، فقالت أم سلمة: «يا رسول الله، ألم أسمعك تنهى عن هاتين الركعتين، فأراك تصليهما؟! قال: يا بنت أبي أمية، سألت عن الركعتين بعد العصر، إنه أتاني أناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر، فهما هاتان»([18]).

ولعل سائلا يسأل: إذا كان هذا هو حال القوم فلماذا ارتدوا عن الإسلام؟! فنجيب قائلين: إن ما حدث مع وفد عبد القيس، بل مع أهل البحرين أجمع أنهم صدموا بوفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مصاب عظيم يسلب العقلاء عقلهم، انظر إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو يرفع سيفه قائلا: من قال إن محمدا قد مات ضربت عنقه، وارتد خلق كثير كانوا يعتقدون أن الحبيب - صلى الله عليه وسلم - مخلد، إلى أن جاء أبو بكر - رضي الله عنه - وقام خطيبا في الناس رادا إليهم عقولهم بقوله: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله - سبحانه وتعالى - حي لا يموت، ثم تلا عليهم قوله عز وجل: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا( (آل عمران: ١٤٤)، وهو ما حدث مع أهل البحرين، وقد كان لمن ثبت على الإسلام في البحرين دور كبير في إخماد هذه الفتنة، وكان للجارود بن المعلي دور متميز - كان من الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم - إذ بعث في القوم فجمعهم، ثم قام فخطبهم، فقال: يا معشر عبد القيس، إني سائلكم عن أمر فأخبروني به إن علمتموه، ولا تجيبوني إن لم تعلموا، قالوا: سل عما بدا لك، قال: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى؟قالوا: نعم، قال: تعلمونه أو ترونه؟ قالوا: لا، بل نعلمه، قال: فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال: فإن محمدا - صلى الله عليه وسلم - مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، قالوا: ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأنك سيدنا وأفضلنا وثبتوا على إسلامهم([19]).

وهذا يدل دلالة قاطعة على أنهم - رضي الله عنهم - ما ارتدوا ردة حقيقية، إنما هي من جراء الصدمة، فلما تبينت لهم الحقيقة رجعوا مسرعين، بل سودوا عليهم من أزاح الغمة عنهم.

ومما يدعم هذه الرؤية بقاء بلدة جواثا على الإسلام، وكانت أول قرية أقامت الجمعة - كما ذكرنا آنفا - وقد حاصرهم المرتدون وضيقوا عليهم، ومنعوا الأقوات، وجاعوا جوعا شديدا حتى فرج الله عنهم، وقد قال رجل منهم يقال له: عبد الله بن حذف، أحد بني بكر بن كلاب، وقد اشتد الجوع:

ألا أبلغ أبا بكر رسولا

وفتيان المدينة أجمعينا

فهل لكم إلى قوم كرام

قعود في جواثامحصرينا

كأن دماءهم في كل فج

شعاع الشمس يغشي الناظرينا

توكلنا على الرحمن إنا

وجدنا النصر للمتوكلينا

فهذا موقف يذكر في الثبات على الحق لهؤلاء المسلمين الذين حصرهم الأعداء في (جواثا) حتى كادوا يهلكون من الجوع([20])، وفي هذا الموقف دليل على حسن إسلامهم؛ ومن ثم فليس هناك ما يدعو لرد أحاديث من ثبتت عدالته منهم.

خامسا. جهل الأعرابي بحرمة ما فعل:

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوه، وهريقوا على بوله سجلا من ماء - أو ذنوبا من ماء - فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين»([21]).

إن ما ادعوه من أن بول الأعرابي في المسجد يمنع من العدالة؛ لأنه محرم - ادعاء غير صحيح؛ لأنه لا يعلم بالتحريم، ويقوي هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع من قطع بولته، ولو كان في فعله متعمدا ارتكاب ما حرمه الله تعالى مجترئا معاندا؛ لم يستحق هذا الرفق العظيم.

فإن قيل: إن هذا يقدح في العدالة من أجل دلالته على الخسة وقلة الحياء والمروءة؛ إذ البول في حضرة الناس يدل على ذلك؛ قلنا: إن هذا مما يختلف بحسب العرف، وقد كانت الأعراب في ذلك الزمان وفي غيره لا تستنكر مثل ذلك في باديتها، فكل ما كان يعتاده أهل الصيانة من المباحات في بلد أو زمان لم يقدح في عدالة أحد من أهل ذلك الزمان، ولا من أهل ذلك المكان([22]).

وقد "قال ابن ماجه وابن حبان في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "قام أعرابي فبال في المسجد...": فقال الأعرابي - بعد أن فقه في الإسلام فقام إلى النبي صلى الله عليه وسلم -: بأبي أنت وأمي، فلم يؤنب ولم يسب"([23]). وهذا دال على عدم معرفته حرمة ما فعل في المسجد، ولما فقه جاء واعتذر للرسول صلى الله عليه وسلم.

وفي هذا دليل على عدالته - رضي الله عنه - ومن ثم عدم جواز القدح فيها.

الخلاصة:

  • المسلمونمنالأعرابعدوللأنهمصحابة،ولايحقلأحدكائنامنكانأنيجرحهمأويردأحاديثهم،طالماأنهمأسلمواوحسنإسلامهم؛إذلهمماللصحابة؛فالقرآن والسنة لم يستثنيا الأعراب من عموم العدالة في حق الصحابة.
  • قولهتعالى: )الأعرابأشدكفراونفاقا( (التوبة: ٩٧) ليسمعناهجميعالأعراب،بلالمقصودهمالكفاروالمنافقونمنالأعراب،فذلكلايطعنفيعدالةالمسلمينالمستقيمينمنهم،بدليلقولهتعالى: )ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته إن الله غفور رحيم (99)( (التوبة).

قوله تعالى: )إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون (4)( (الحجرات) نزلت في وفد بني تميم قبل إسلامهم، وقد غفر الله لهم وعفا عنهم لجهلهم قبل الإسلام، وإقرارهم وتوبتهم بعد إسلامهم، وتأدبهم بآدابه، وتخلقهم بأخلاقه، لذلك لا تعد هذه الآية مطعنا فيهم، بل هي تأديب لهم ولغيرهم يبين حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما ينبغي على المسلم نحوه - صلى الله عليه وسلم - من الآداب والحقوق.

  • لقداستقبلالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وفدعبدالقيس،وأثنىعليهمودعالهموأبعدعنهمالخزيوالندامة،فكيفيثنيعليهمالنبي - صلىاللهعليهوسلم - ويدعولهموهمأناسغيرعدول؟!
  • إنلوفدعبدالقيسمكانةعظيمةفيالإسلاموعندالنبي - صلىاللهعليهوسلم - إذإنأولجمعةجمعتبعدالمدينةكانتفيمسجدهم،كماأنالنبي - صلىاللهعليهوسلم - أخربسببهمالركعتيناللتينبعدصلاةالظهرإلىأنصلاهمابعدالعصر،وأثنىعلىأشجعبدالقيسبقوله: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة".
  • إنماحدثمعوفدعبدالقيسمنردةبعدوفاةالنبي - صلىاللهعليهوسلم - إنماكانتبسببصدمتهم،إذإنهمظنواكغيرهمأنالنبي - صلىاللهعليهوسلم - مخلد،وماتوقعواوفاته - صلىاللهعليهوسلم - ولماخطبهم الجارود مبينا لهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كغيره من الأنبياء والرسل، كتب عليهم جميعا الموت؛ عادوا إلى الحق راشدين ثابتين، لم يتزعزعوا عنه، وأبلوا في سبيله بلاء حسنا.
  • إنماوقعمنالأعرابيمنبولهفيالمسجدلايقدحفيعدالته؛إذلميكنيعلمحرمة ما فعل، كما أنه تصرف بطبيعته، وكان الأعراب بحكم مسكنهم في الصحراء يعتادون على فعل ذلك، ولم يكن المسجد مفروشا أو محددا، وما دفعه إلى ذلك إلا شدة حاجته إليه؛ لذا لم يعنفه النبي - صلى الله عليه وسلم - بل طلب من أصحابه ألا يقطعوا عليه بولته ولا يروعوه.

وفضلا عن ذلك كله، فإن هؤلاء الأعراب جميعا لم تكن لهم روايات في كتب السنة؛ حيث إنهم لم يكونوا من أهل الرواية حتى يقدح فيهم أعداء السنة النبوية المطهرة.

 

 

(*) العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م.

[1]. أحكام القرآن، ابن العربي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (4/ 396).

[2]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء، (2/ 762، 763)، رقم (573).

[3]. أحكام القرآن، ابن العربي، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (4/ 397) بتصرف.

[4]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الفتن، باب: التعرب في الفتنة، (13/ 44)، رقم (7087).

[5]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، (8/ 231).

[6]. تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (11/ 8 ) بتصرف.

[7]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (11/ 11).

[8]. التحرير والتنوير، الطاهر ابن عاشور، دار سحنون، تونس، د. ت، (11/ 19).

[9]. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (1/ 262).

[10]. جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ابن جرير الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (12/ 286).

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الجهاد والسير، باب: الجاسوس، (6/ 166، 167)، رقم (3007).

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الإيمان، باب: المعاصي من أمر الجاهلية، (1/ 106)، رقم (30).

[13]. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (1/ 262، 263) بتصرف.

[14]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، (7/ 686)، رقم (4368).

[15]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الإيمان، باب: الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وشرائع الدين والدعاء إليه، (1/ 326)، رقم (117).

[16]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، (7/ 687)، رقم (4371).

[17]. حسن: أخرجه أبو يعلى في مسنده، حديث جد هود عن النبي صلى الله عليه وسلم، (12/ 245)، رقم (6850). وحسن إسناده حسين سليم أسد في تعليقه على مسند أبي يعلى.

[18]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: وفد عبد القيس، (7/ 687)، رقم (4370).

[19]. التاريخ الإسلامي: مواقف وعبر، د. عبد العزيز عبد الله الحميدي، دار الدعوة، الإسكندرية، ط1، 1418هـ/ 1998م، (6/ 105).

[20]. الانشراح ورفع الضيق بسيرة أبي بكر الصديق: شخصيته وعصره، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، 2002م، ص308، 309 بتصرف.

[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الوضوء، باب: صب الماء على البول في المسجد، (1/ 386)، رقم (220).

[22]. العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم، ابن الوزير اليماني، تحقيق: شعيب الأررنؤط، مؤسسة الرسالة ناشرون، بيروت، ط1، 1429 هـ/ 2008 م، (1/ 260، 261).

[23]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 388) بتصرف.

  • الجمعة AM 01:59
    2020-10-23
  • 1666
Powered by: GateGold