المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 411829
يتصفح الموقع حاليا : 296

البحث

البحث

عرض المادة

دعوى أن كثرة مزاح أبي هريرة مما يسقط العدالة

دعوى أن كثرة مزاح أبي هريرة مما يسقط العدالة(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان مهذارا، كثير المزاح كثرة تسقط عدالته؛ لأن كثرة المزاح من خوارم المروءة، بل من خوارقها، كما أن كثرة المزاح تميت القلب، ومن مات قلبه سقطت عدالته، ويستدلون على ذلك بما ادعوه من إجماع المؤرخين على أن أبا هريرة كان رجلا مزاحا مهذارا يتودد إلى الناس ويسليهم بكثرة الحديث والإغراب في القول ليشتد ميلهم إليه.

ويرمون من وراء ذلك إلى الطعن في عدالته - رضي الله عنه - توصلا إلى الطعن فيما جاء عنه من مرويات؛ إذ العدالة شرط لصحة الرواية.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن دعوى إجماع المؤرخين على أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان مزاحا مهذارا - افتراء على التاريخ والمؤرخين؛ لأنه لم يقل بهذا أحد من العلماء الأثبات، ولم تأت رواية صحيحة في هذا الشأن؛ فهي إذن دعوى لا دليل عليها.

2) إذا كان المزاح نوعين: نوع ساقط مبني على المجازفة وعدم الاحتراز في اللفظ، وهذا النوع ترفع عنه أبو هريرة وأبته تقواه وعدالته التي عدله بها الله ورسوله. ونوع ثان عال طريف ليس فيه إسفاف ولا إيذاء لأحد، وأكثره من المعاريض التي تدعو إلى إعمال الفكر، فهو من قبيل الدعابة والروح المرحة الخفيفة التي لا تسقط بها العدالة، وهذا النوع هو ما استخدمه أبو هريرة أحيانا فلماذا الطعن بسببه وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقا؟!

3) المزاح في الشريعة الإسلامية ليس مكروها بإطلاق، وإلا لكانت غلاظة الحس وفظاظة الطبع والقلب وثقل الروح أمرا محبوبا؛ ولذا لم يخل عصر من العصور من وجود علماء أجلاء فيهم روح الدعابة والمرح الذي لا يخل بالمروءة، فلماذا ينقمون على أبي هريرة؟! وما ينقمون منه شيئا إلا شيئا لا يعاب به شخص أصلا.

التفصيل:

أولا. الإجماع على عدالة أبي هريرة - رضي الله عنه - ومروءته:

إن دعوى إجماع المؤرخين على أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان مهذارا مزاحا بدرجة تسقط العدالة - افتراء على أبي هريرة - رضي الله عنه - وعلى التاريخ؛ "لأن أحدا لم يصف أبا هريرة قط بأنه كان مهذارا، ونحن نتحدى المدعين بأن يأتونا برواية صحيحة في هذا الشأن، ومازلنا ولا نزال نتحدى المدعين بأن يأتونا بصحابي أو تابعي أو مؤرخ موثوق به وصف أبا هريرة - رضي الله عنه - بالهذر"[1].

إن هذه دعوى كاذبة كبقية دعاوى الخراصين التي يتفوهون بها بلا دليل يقوم عليها ولا صحة يستند إليها، ولم نجد أحدا من العلماء الأثبات قال شيئا من هذا، فهذا ابن عبد البر في "الاستيعاب"[2] لم يذكر شيئا منه، وهذا الحافظ ابن حجر في "الإصابة "[3] لم يذكر إلا ما أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب "المزاح" والزبير بن بكار فيه، من طريق ابن عجلان عن سعيد عن أبي هريرة أن رجلا، قال له: "إني أصبحت صائما فجئت أبي فوجدت عنده خبزا ولحما فأكلت حتى شبعت ونسيت أني صائم، فقال أبو هريرة: الله أطعمك، قال: فخرجت حتى أتيت فلانا فوجدت عنده لقحة تحلب فشربت من لبنها حتى رويت، قال: الله سقاك، قال: ثم رجعت إلى أهلي وثقلت فلما استيقظت دعوت بماء فشربته، فقال يابن أخي: أنت لم تتعود على الصيام"[4]، وبعد أن أورد ابن حجر هذه الإجابة على طرفتها وحسن صنيع أبي هريرة مع السائل لم يصفه ابن حجر بأنه مزاح مهذار، أو أن ذلك يقدح في شيء من مروءته وعدالته - حاشاه أن يفعل ذلك؛ إذ إنه من مناقب أبي هريرة ولطائف أخلاقه في إجابة السائل، وهل في هذه الإجابة الصائبة - على ما فيها من الطرافة والدعابة - شيء من المزاح الخارج أو الهذر الخارم للمروءة المسقط للعدالة؟!

وأما ابن كثير في "البداية والنهاية"[5] فقد ذكر ما جاء عن أبي هريرة من قصص، ولم يذكر قط أنه كان مزاحا مهذارا، وأنى لهؤلاء العلماء الأجلاء أن ينطقوا بمثل هذا القول في حق صحابي جليل؟[6].

إن أبا هريرة لم يكن إنسانا عاطلا أو يعيش بلا هدف وغاية حتى يكون مهذارا مزاحا - كما يود أعداء السنة أن يوهموا الناس - بل كانت وظيفته التي ارتضاها لنفسه من أجل الوظائف وأسمى الأعمال، وهذه الوظيفة لم تبق له فراغا في حياته حتى يحتاج إلى ملئه بالمزاح المذموم، وإن استخدم الطرفة - نادرا - كأداة لتنشيط أذهان الناس من أجل توصيل العلم إليهم بلا سآمة، ولتقبلها النفوس بلا ملل، فلم تكن الدعابة لذاتها بل لغرض نبيل وراءها.

لقد كان أبو هريرة - رضي الله عنه - واحدا من علماء الصحابة الذين تحملوا أمانة الدعوة وتبليغ العلم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل كان من أكثرهم نشاطا في هذا المجال؛ ذلك لسعة علمه وتصدره لتبليغ العلم وتعليمه للناس؛ خوفا من تبعات كتمان العلم؛ فقد روى عنه أنه قال: «وايم الله لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم بشيء أبدا، ثم تلا: )إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون (159)( (البقرة)»[7].

ولهذا سلك أبو هريرة - رضي الله عنه - كل السبل الممكنة للدعوة إلى الدين، وتبليغ ما تلقاه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من علم ومعرفة، فتراه يعظ ويحدث في كل مكان يتسنى له التحديث فيه، في البيت والمسجد، والسوق وغيره من الأماكن التي يستطيع التحديث والوعظ فيها.

فقد روى الإمام أحمد عن عكرمة، قال: «دخلت على أبي هريرة في بيته، فسألته عن صوم يوم عرفة بعرفات، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صوم يوم عرفة بعرفات»[8].

وروى الحاكم عن عاصم بن محمد عن أبيه، قال: «رأيت أبا هريرة - رضي الله عنه - يخرج يوم الجمعة فيقبض على رمانتي المنبر قائما، ويقول: حدثنا أبو القاسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصادق المصدوق فلا يزال يحدث حتى إذا سمع فتح باب المقصورة لخروج الإمام للصلاة جلس»[9].

وروى البخاري في تاريخه الكبير عن محمد بن عمارة بن عمرو بن حزم: "أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل أبو هريرة يحدثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم " [10].

وروى أحمد والبخاري عن سالم بن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهم - قال: «ما أدري كم رأيت أبا هريرة قائما في السوق، يقول: يقبض العلم، وتظهر الفتن، ويكثر الهرج[11]، قال: قيل: يا رسول الله، وما الهرج؟ قال: "بيده هكذا، وحرفها»[12].

وعن مكحول قال: "تواعد الناس ليلة إلى قبة من قباب معاوية، فاجتمعوا فيها، فقام فيهم أبو هريرة يحدثهم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أصبح [13].

ولم يقتصر أبو هريرة - رضي الله عنه - في التحديث والوعظ والإرشاد على الرجال، وإنما تعداهم إلى النساء فحدثهن ووعظهن بما يحتجن إليه ويتعلق بهن من أمور.

فقد روى ابن ماجه عن عبيد مولى أبي رهم «أن أبا هريرة لقي امرأة متطيبة تريد المسجد، فقال: ياأمة الجبار، أين تريدين؟ قالت: المسجد، قال: وله تطيبت، قالت: نعم، قال: فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيما امرأة تطيبت، ثم خرجت إلى المسجد لم تقبل لها صلاة حتى تغتسل»[14].

وروى الأوزاعي عن إسماعيل بن عبيد الله عن كريمة بنت الحسحاس، قالت: سمعت أبا هريرة في بيت أم الدرداء يقول: «ثلاثة هن كفر: النياحة، وشق الجيب، والطعن في النسب»[15].

وهكذا بين أبو هريرة - رضي الله عنه - للمرأة المتطيبة عدم مشروعية خروجها من بيتها متطيبة متزينة ولو كان خروجها لأداء الصلاة في المسجد، وأمرها بالرجوع إلى بيتها والاغتسال من الطيب إن هي شاءت العودة إلى المسجد وحري بنسائنا المؤمنات اليوم أن يحرصن على هذا.

كما حذر النساء اللاتي وجدهن في بيت أم الدرداء التابعية الفاضلة زوج أبي الدرداء الصحابي الجليل رضي الله عنه "من ثلاثة أمور تتعاطاهن النساء، وهن من عادات الجاهلية التي حرمها الإسلام وساواها بالكفر، لأنها توصل من يتفوه بها إلى النار، كما يوصل الكفر صاحبه إليها، وقد نهج في ذلك المنهج التربوي الدعوي الأول، الذي أرسى دعائمه الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد تفنن - رضي الله عنه - في أساليب الدعوة"[16] كما ترى.

فهل بعد ذلك النشاط الدعوي والاجتهاد الفقهي - ومدارسة العلم وتدريسه وتبليغه للناس - يمكن أن ينطلي على أحد من المسلمين أن أبا هريرة كان لا عمل له إلا المزاح المخل بالمروءة أو غير ذلك من مزاعم أعداء السنة وافتراءاتهم الباطلة؟!

هذه كلمة الحق في راوية الإسلام أبي هريرة - رضي الله عنه - وهذا هو ما ذهب إليه أئمة الهدى وأعلام التقى، وكبار فقهاء الإسلام ومحدثيه، وهو الصحابي الذي ظل يحدث الناس؛ فقد بلغ الآخذون عنه ثمانمائة من أهل العلم والمعرفة، وكلهم يجمعون على جلالته والثقة به، ثم تأتي شرذمة لا حظ لها من العلم والمعرفة لتدعي أنه كان مهذارا مزاحا، لا لشيء إلا أنهم لم يجدوا ما يعيبونه به، بعد أن بطل كيدهم ورد عليهم في نحورهم، فجعلوا من لطافة أخلاقه، وطيب معشره مدخلا للنيل منه، فوصفوه بأنه كان مزاحا مهذارا مع أنه ذو خلق كريم أكرمه الله به، وحببه به إلى المؤمنين، ومتى كان المزاح المباح، والتلطف إلى الناس والتودد إليهم خلقا معيبا عند كرام الناس؟ وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس خلقا، ومع هذا كان يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقا، وكذلك كان الصحابة رضي الله عنهم، فما هو الحرج في المزاح إذا كان مباحا، لا بذاءة فيه، ولا تنابذ بالألقاب، أو انتقاص من أحد؛ وهو من الدعابة والفكاهة المشروعة، وكل الذي ثبت عن أبي هريرة - رضي الله عنه - إنما هو من هذا القبيل، وأما المزاح الساقط المشتمل على المجازفة ورديء القول والفعل فحاشا - وكلا - أن يكون أبو هريرة ممن عرف به.

 وضح - إذن - أن ما ادعاه المغرضون إن هو إلا تجن وجدال بالباطل ليدحضوا به الحق، وليس له أساس من الصحة.

ثانيا. مزاح أبي هريرة إنما هو من المرح الخفيف الذي لا يسقط العدالة.

لقد كان مزاح أبي هريرة مزاحا عاليا مفيدا طريفا لا إسفاف فيه ولا إيذاء لأحد، ومما ينبغي أن يعلم أن المزاح نوعان: نوع ساقط مبني على المجازفة وعدم الاحتراز في اللفظ، وهو الذي يخل بالصدق والأمانة، ولم يكن لأبي هريرة منه شيء، ونوع عال طريف لا إسفاف فيه ولا إيذاء لأحد، وأكثره من المعاريض التي تدعو إلى إعمال الفكر والروية، وتبين مقدار الذكاء والفطنة وهذا مقبول، وهو ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعض صحابته الكرام في الحديث الشريف «إني لا أقول إلا حقا»[17].

وقد قال الإمام النووي: "قال العلماء: المزاح المنهي عنه هو الذي فيه إفراط، ويداوم عليه، فإنه يورث الضحك وقسوة القلب، ويشغل عن ذكر الله تعالى والفكر في مهمات الدين، ويئول في كثير من الأوقات إلى الإيذاء، ويورث الأحقاد ويسقط المهابة والوقار.

فأما ما سلم من هذه الأمور فهو المباح الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعله في نادر من الأحوال، لمصلحة وتطييب نفس المخاطب ومؤانسته، وهذا لا منع فيه قطعا، بل هو سنة مستحبة إذا كانت بهذه الصفة، فاعتمد ما نقلناه عن العلماء، وحققناه في هذه الأحاديث وبيان أحكامها، فإنه مما يعظم الاحتياج إليه، وبالله التوفيق "[18].

إن المزاح الذي لا يخل بمروءة ولا بدين ليس نقيصة تستوجب تضعيف الرواة أو جرحهم، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقا، وقد أذن - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن عمرو أن يكتب عنه الحديث في الرضا والغضب، وقال «فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق»[19][20].

وعلى هذا النهج الواضح سار أبو هريرة - رضي الله عنه - فلم يكن جافا قاسي الفؤاد، خشن الطباع، سيء المعشر، بل كان طيب النفس، حسن الخلق، صافي السريرة، وربما كان الفقر والصبر عليه هما اللذان جعلا منه الإنسان المرح، يسري عن نفسه أحيانا همومها ومصابها، ومع هذا فقد كان يعطي لكل شيء حقه، لا يخاف في الله لومة لائم، سواء أكان أميرا أم فردا من الرعية فقيرا؛ فقد نظر إلى الدنيا بعين الراحل عنها، فلم تدفعه الإمارة إلى الكبرياء، بل أظهرت تواضعه وحسن خلقه.

لقد كان رضي الله عنه "يحب مداعبة أصحابه بلطف وأدب دعابة تقبلها النفوس الطيبة وترى فيها ما يجدد النشاط، وما يدخل عليها السرور والحبور، فهو بذلك يروح عن نفسه وعن غيره، من غير أن يمس شعور الآخرين بما يسيء إليهم"[21].

وكما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلم أصحابه كثيرا من أمور العلم خلال المداعبة والممازحة، فكذلك كان يفعل أبو هريرة - رضي الله عنه - اقتداء به صلى الله عليه وسلم.

وهذا مثال من مزاح أبي هريرة - رضي الله عنه - لنرى أن مزاحه ما كان يخلو عن علم وحكمة، روى الإمام أحمد "أن أبا هريرة كان في سفر، فلما نزلوا أرسلوا إليه وهو يصلي، فقال: إني صائم، فلما وضعوا الطعام وكاد أن يفرغوا، جاء، فقالوا: هلم فكل، فأكل، فنظر القوم إلى الرسول، فقال: ما تنظرون؟! والله لقد قال إني صائم، فقال أبو هريرة: صدق، وإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «صوم شهر الصبر وصوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله؛ فقد صمت ثلاثة أيام من أول الشهر، فأنا مفطر في تخفيف الله، صائم في تضعيف الله»[22] فانظر إلى هذا المزاح العالي، وقد وصل منه إلى غرضين شريفين:

الأول: أن يتركوه يتم ما يريد.

الثاني: إفادتهم هذا الحكم الشرعي، وتعليمهم هداية من هدايات رسول رب العالمين - صلى الله عليه وسلم - بهذا الأسلوب المشوق البارع، فأي هذر فيه؟! وهل الدعابة التي اتخذها أداة لتوصيل المعلومة في جو من الأريحية تعاب عليه أم تعد من لطائفه ومحاسن مسالكه في التعليم والرواية؟!

ومثال آخر: عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن يزيد بن زياد القرظي: حدثني ثعلبة بن أبي مالك القرظي، قال: "أقبل أبو هريرة في السوق يحمل حزمة حطب، وهو - يومئذ - خليفة لمروان على المدينة، فقال: أوسع الطريق للأمير يابن أبي مالك، فقلت: يكفي هذا، فقال: أوسع الطريق للأمير والحزمة عليه"[23].

فهل يقتضي هذا أن يكون مزاحا مهذارا؟! وهل قال الرجل إلا الصدق؟! أليس نائب الأمير أميرا؟ ألم يكن يحمل حزمة الحطب؟ ثم أليس حمله حزمة الحطب من التواضع الجم؟![24].

لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أكثر الناس تبسما وضحكا في وجوه أصحابه فكان - صلى الله عليه وسلم - يداعبهم في بعض الأحيان ويمازحهم، ولكنه ما كان يقول إلا حقا، وما أعذب الدعابة المعلمة، والإحماضة الهادية المبصرة، فإن الجد الدائم يورث رهق الذهن، وكلل الفكر، فالمزاح اللطيف الهادي بين الحين والحين، يعيد إلى الإنسان نشاطه وانتباهه.

وقد قال العلامة ابن قتيبة - رحمه الله: "إنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمزح؛ لأن الناس مأمورون بالتأسي به والاقتداء بهديه، فلو ترك الطلاقة والبشاشة، ولزم العبوس والقطوب، لأخذ الناس أنفسهم على ما في مخالفة الغريزة من المشقة والعناء؛ فمزح ليمزحوا، وكان لا يقول إلا حقا"[25].

فهل فعل أبو هريرة - رضي الله عنه - إلا الاقتداء بالنبي - صلى الله عليه وسلم - والتأسي به، والمؤمنون مأمورون بذلك، قال سبحانه وتعالى: )لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (21)( (الأحزاب).

لقد تناسى المدعون - بل تعمدوا إغفال - ثناء العلماء الأجلاء الذين شهدوا لأبي هريرة - رضي الله عنه - بالفضل والدين والعلم، قال الذهبي: "هو رأس في القرآن، وفي السنة، وفي الفقه، وقال: أين مثل أبي هريرة في حفظه وسعة علمه؟!"[26].

يقول الحافظ ابن كثير: "وقد كان أبو هريرة من الصدق والحفظ والديانة والعبادة والزهادة والعمل الصالح على جانب عظيم"[27].

وقال يحيى بن أبي بكر العامري (ت: 893هـ) عنه: "وكان حافظا متثبتا ذكيا مفتيا، صاحب صيام وقيام"[28].

وقال المؤرخ عبد الحي بن أحمد ابن العماد الحنبلي (ت: 1089هـ) عنه أيضا: "كان كثير العبادة والذكر، حسن الأخلاق"[29].

أندع - إذن - ثناء هؤلاء العلماء الأجلاء وكلام هؤلاء الأثبات، ونأخذ بكلام لا دليل عليه؛ إنما هو مرض في القلوب وهوى في النفوس، ولكن يأبى الله إلا أن يفضحهم، قال تعالى: )أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم (30)( (محمد).

ثالثا. المزاح في الشريعة الإسلامية:

إن الدعابة اللطيفة "تروح عن الإنسان وتلطف من ثقل المتاعب التي تنتابه أو تصاحبه، فإن الحياة لا تخلو من المرارة والمكاره؛ فالدعابة تخفف من وطأة ذلك على النفس، والمرء يتعلم بالابتسام والبشر أكثر مما يتعلم بالعبوس والقطوب"[30].

إن الإسلام دين واقعي لا يحلق في أجواء الخيال المثالية الواهمة، ولكنه يقف مع الإنسان على أرض الحقيقة والواقع، ولا يعامل الناس كأنهم ملائكة، لا يخطئون ولا يعصون الله ما أمرهم؛ لذلك لم يفرض على الناس أن يكون كل كلامهم ذكرا، وكل صمتهم فكرا، وكل فراغهم في المسجد، وإنما اعترف بهم وبفطرهم وغرائزهم التي خلقهم الله عليها.

 والمزاح - بكسر الميم: مصدر للفعل "مازح " بمعنى: داعب في مباسطة وتلطف، والمزاح - بضم الميم: مصدر للفعل " مزح " بمعنى: داعب" أيضا،كمايطلقالمزاحعلىوسيلةالمداعبةوالمباسطة[31]،فالمزاحيدورمعناهحولالمباسطةوالملاعبةوالتلطفووسائلهمتنوعة،فقديكونبابتسامة،أونادرة،أوفكاهة،أوملحة[32] أوبإشارةأوحركةيرادبهاالمباسطةوإدخالالسرورعلىقلبالمسلم·قالصلى الله عليه وسلم: «وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة»[33].

 فالمزاح أمر مشروع في الإسلام، يعد صدقة من الصدقات يؤجر عليها المسلم، ولكن لذلك شروط وضوابط، والحكمة من مشروعيته؛ أن فيه إدخالا للسرور على قلب المسلم ويستعان به على التخلص من السأم والملل، وطرد الوحشة، ودفع الهم والخوف والقلق ونحوه عن قلب المسلم، وفيه تأليف القلوب، فتنشط النفوس وتتهيأ الأجساد لأداء الأعمال الصالحة·

 الهدي النبوي في المزاح:

 وتستمد مشروعية المزاح أولا من أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقواله، فعن عبدالله بن الحارث - رضي الله عنه - قال: «ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم»[34]، وروى البخاري أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مازح صحابيا فقال: «يا أبا عمير، ما فعل النغير»[35]، كما روى الترمذي من حديث أنس - رضي الله عنه - أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا رسول الله، احملني، فقال: «إني حاملك على ولد ناقة»، قال: وما أصنع بولد الناقة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وهل تلد الإبل إلا النوق»[36].

 وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى مزاح صحابته، ولم ينكر عليهم ذلك، وربما شاركهم مزاحهم؛ فقد روى أبوداود عن أسيد بن حضير، قال: «بينما رجل من الأنصار يحدث القوم وكان فيه مزاح بينا يضحكهم فطعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصرته بعود، فقال: أصبرني[37]! فقال: اصطبر[38]، قال: إن عليك قميصا وليس علي قميص؛ فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قميصه، فاحتضنه وجعل يقبل كشحه، قال: إنما أردت هذا يا رسول الله»[39].

عن عائشة قالت: «رجع إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم من جنازة بالبقيع وأنا أجد صداعا في رأسي، وأنا أقول وارأساه، قال: بل أنا وارأساه، قال: ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك ثم صليت عليك ودفنتك قلت: لكني أو لكأني بك والله لو فعلت ذلك لقد رجعت إلى بيتي فأعرست فيه ببعض نسائك. قالت: فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم بدئ بوجعه الذي مات فيه»[40].

وعن أنس رضي الله عنه: «أن رجلا من أهل البادية كان اسمه زاهرا، كان يهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من البادية فيجهزه - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن زاهرا باديتنا[41]، ونحن حاضروه[42]، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه، وكان رجلا دميما، فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما، وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه وهو لا يبصره، فقال الرجل: أرسلني، من هذا؟ فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرفه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله إذا والله تجدني كاسدا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لكن عند الله لست بكاسد، أو قال: أنت عند الله غال»[43].

وعن الحسن - رضي الله عنه - قال: «أتت عجوز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز، قال: فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله - عز وجل - يقول: )إنا أنشأناهن إنشاء (35) فجعلناهن أبكارا (36) عربا أترابا (37)( (الواقعة)»[44].

ومن هنا كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يمزحون ويضحكون ويلعبون ويتندرون؛ معرفة بحظ النفس، وتلبية لنداء الفطرة، وتمكينا للقلوب في حقها في الراحة واللهو البريء المباح؛ لتكون أقدر علي مواصلة السير في طريق الجد، وإنه لطريق طويل.

قال على بن أبي طالب رضي الله عنه: "روحوا القلوب وابتغوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان، فإنها إذا أكرهت عميت"[45]، وقال أيضا: "روحوا عن القلوب ساعة فإنها إذا كرهت عميت"[46]. وقال أبو الدرداء: "إني لأستجم نفسي بالشيء من الباطل - يقصد بالباطل: ما لا فائدة فيه إلا مجرد اللهو - ليكون أعون لها على الحق"[47].

 وقد عرف المزاح عن صحابته - صلى الله عليه وسلم - حتى اشتهر بعضهم بكثرة قصصه ودعاباته مثل: نعيمان بن عمرو بن رفاعة الذي قال عنه ابن عبدالبر: "شهد بدرا، وكان من كبار الصحابة، وممن آمنوا في أول ظهور الإسلام، وكانت فيه دعابة زائدة، وله أخبار طريفة في دعاباته"[48].

 وكان الصحابة يمتدحون المزاح مع الأهل، ويكثرون منه مع أهليهم دون أن يروا في ذلك ما ينقص المروءة، أو يتنافى مع كمال الرجولة والوقار أو حسن التدين والالتزام كما يظن بعض المتنطعين في زماننا هذا، فها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: "إنه ليعجبني أن يكون الرجل في أهله مثل الصبي، ثم إذا ابتغى منه وجد رجلا"[49].

وقد ترسم السلف خطى الصحابة في الاسترواح بالمزاح؛ فقد اشتهر الإمام الشعبي بملحه وطرائفه، وقيل لسفيان بن عيينة: "المزاح هجنة، قال: بل سنة، ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه"[50].

 شروط المزاح:

يقصد سفيان بالسنة - هنا - طريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلا فالمزاح يكون واجبا أحيانا؛ إذا استعين به على دفع الملل ومواصلة العبادة وأداء الواجبات، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب·

 ولنا وقفة مع قوله: "ولكن الشأن فيمن يحسنه ويضعه مواضعه"؛ حيث يشير سفيان إلى أن للمزاح شروطا ينبغي الالتزام بها، وإلا كان محذورا منهيا عنه، ومن هذه الشروط:

  1. ألا يقترن بمعصية أو يؤدي إلى مخالفة شرعية، كالكذب؛ فقد يلجأ بعض المازحين إلى المبالغات والكذب، فيدخل على النكتة أو النادرة زيادات من عنده وصياغات خاصة كأنه يعيد إخراجها، كل ذلك ليعطي لمزاحه نكهة ومذاقا خاصا، فيشتد الناس في الضحك، ويتعجبون لمزاحه، وقد توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولئك الصنف من الناس، فقال: «ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له»[51].
  2. أن يخلو من الغيبة؛ لقوله تعالى: )ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم (12)( (الحجرات).

ألا يكون فيه استهزاء بالآخرين أو سخرية منهم، فإن ذلك حرام؛ لقوله سبحانه وتعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا الألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون (11)( (الحجرات).

وقال صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره... بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه»[52].

  1. ألا يلهي عن أداء الفروض والواجبات أو يشغل عن ذكر الله، وإلا كان محرما شرعا.

 آداب المزاح:

من آداب المزاح الاقتصاد فيه، إلا في السفر فيستحب الإكثار من المزاح دون معصية لقول "ربيعة الرأي"[53] وقد عد المزاح المشروع في السفر مروءة، فقال: "إن المروءة من خصال: ثلاث في الحضر، وثلاث في السفر، والتي في السفر: فبذل الزاد، وحسن الخلق، وكثرة المزاح من غير معصية"[54]، وكان الصحابة ينهون عن الإفراط في المزاح، قال سعد بن أبي وقاص لابنه ناصحا: "اقتصد في مزاحك؛ فإن الإفراط فيه يذهب البهاء، ويجرئ عليك السفهاء، وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تكثر الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب»[55].

ومن آدابه كذلك ألا يكون في المزاح ترويع لأحد من المسلمين؛ لما رواه أبوداود عن ابن أبي ليلى، قال: حدثنا أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أنهم كانوا يسيرون مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنام رجل منهم، فانطلق بعضهم إلى حبل معه فأخذه، ففزع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلما»[56].

ويحرم المزاح إذا كان فيه شيء من الاستهزاء بالدين أو بشعائره؛ لقوله تعالى: )ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون (65) لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم( (التوبة) فقد يروق لبعض المسلمين الغافلين أن يطلق نكتة أو نادرة فيها استهزاء ببعض شعائر الإسلام وفرائضه، أو يتمازح وهو في معصية دون أن يعلم أن ذلك جرم عظيم قد يؤدي به إلى الكفر والعياذ بالله، قال ابن عباس - رضي الله عنهما: "من أذنب ذنبا وهو يضحك، دخل النار وهو يبكي"[57].

ولكل مقام عنده مقال، وما أحسن الجد في موعظة، وما أجمل المزاح الذي لا تقع به إلا الألفة ولا يحصل به إلا الإيناس.

فالمزاح المباح بلسم لحياة الإنسان المسلم وتخفيف لمصاعب الحياة ولو بطلاقة الوجه أو حسن الكلام.

 قال - سبحانه وتعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم: )ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك( (آل عمران: ١٥٩) أي: لو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - شديدا جافا مع أصحابه آمرا لهم ناهيا على الدوام لكان حالهم الابتعاد عنه، ولكنه كان مثالا يحتذى به في كل أحواله ومعاملاته وسلوكه صلى الله عليه وسلم.

وما القصد بمزاحه - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يقرب أصحابه إليه، ويستميل قلوبهم فيحفظوا عنه ما يقول ويفهموا كل ما يريد.

نخلص مما سبق أن المزاح أمر مشروع ومباح في الإسلام إذا كان الغرض منه الاسترواح عن النفس ودفع الملل والسأم والكرب عن النفوس، ويثاب عليه صاحبه إذا ابتغى من ورائه وجه الله، ويصل إلى مرتبة الواجب؛ إذا كان للاستعانة به على أداء الواجبات، كل ذلك شرط خلوه من أية مخالفات شرعية، وإلا فهو حرام منهي عنه، وعلى المسلم أن يكون مقتصدا فيه فيوازن بين الجد والمزاح؛ إذ التوازن أمر مطلوب في الإسلام، وهو ناموس كوني، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "خير الناس هذا النمط الأوسط: يرجع إليهم التالي، ويلحق بهم الغالي"[58]. وبذا تستمر الحياة، وتتحقق الغاية من خلق الإنسان، ويفوز المسلم بالسعادة في الدارين.

فلا بأس على المسلم أن يمزح ويتفكه بما يشرح صدره، ولا حرج عليه أن يروح عن نفسه ونفوس رفقائه بلهو مباح، على ألا يجعل ذلك ديدنه وخلقه في كل أوقاته، ويملأ بها صباحه ومساءه؛ فينشغل به عن الواجبات ويهزل في موضع الجد؛ ولذا قيل أعط الكلام من المزح بقدر ما يعطى الطعام من الملح، ولا يجعل - أيضا - من أقدار الناس وأعراضهم محل مزاحه وتندره، ولا يجره المزاح أيضا إلى الكذب"[59].

 وإن الناظر فيما جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - في مزاحه، يجد أنه لم يخرج عن هذا المزاح المباح الذي لا يخرج عن حدود الدين والأخلاق، والذي لا يخرق مروءة ولا يعيب دينا، ولم نجد ذلك المزاح - رغم مشروعيته وبراءته - إلا في روايات قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة، فهو مزاح ليس بالمخل فضلا عن أن يكون خارما للمروءة.

فلماذا ينقمون على أبي هريرة أنه كان رجلا فيه دعابة وفكاهة ومزاح لا يخل بدين ولا مروءة؟

ونخلص مما سبق ذكره من آداب المزاح وشروطه وهدي النبي فيه إلى أن المزاح في الشريعة الإسلامية ليس مكروها - ما دام بضوابط شرعية - وإلا لكانت غلاظة الحس وفظاظة الطبع والقلب وثقل الروح أمورا محببة ومحبوبة، وهذا ما لا يقول به عاقل، إلا إذا كان الله قد نزع من قلبه الرأفة والرحمة فاستعاض عنهما بتجهمه وعبوسه وقطوب وجهه في تعامله مع الناس، وماذا نفعل لمن نزع الله من قلبه الرحمة فصار قلبه أقسى من الحجر؟!

إننا "لا نعلم أحدا عاب هذا الأمر أو طعن فيه على أحد من أهل الدين والمروءة، فأي شيء يجرح أبا هريرة - رضي الله عنه - وعدالته وكرامته؟ لعل كل جريمة أبي هريرة - رضي الله عنه - في نظر الطاعنين أنه كان خفيف الروح مما لم ينسجم مع روحهم"[60] الكئيبة وطباعهم الفظة الغليظة.

الخلاصة:

  • إنماادعاهالمغرضونمنإجماعالمؤرخينعلىأنأباهريرة - رضياللهعنه - كانمهذارامزاحادعوىلادليلعليها؛لعدموجودروايةصحيحةتثبتذلك،فلميقلبذلك أحد من العلماء الأثبات، فعمن حكى المدعون هذا الإجماع؟!
  • العلماءالذينذكروامرحأبيهريرةوقصصهكابنكثيروابنحجر،لميصفوهبأنهكانمهذارامزاحا،وإنماذكرواطرفخفيفاتمنالمزاحالمحمودالذيلايطعنفيصاحبهأبدا،وكيفيكونأبوهريرةكثيرالمزاحمهزارا، وقد كان كثير العبادة وتعليم الناس الحديث فلا يجد فراغا لذلك أبدا؟!
  • إنعدالةأبيهريرة - رضياللهعنه - التيعدلهبهااللهورسولهتأبىأنيكونمازحامهذارابشكليسقطعدالتهومرءوته.
  • أثنىكثيرمنالعلماءالأجلاءعلىأبيهريرة - رضياللهعنه - وأشادوا بعبادته وورعه وزهده وتواضعه، فهل نترك كلام هؤلاء الأثبات ونأخذ بكلام أصحاب هذه الدعاوى الكاذبة التي لا تمت إلى الحقيقة بصلة؟!
  • المزاحفيالشريعةالإسلاميةليسمكروها - مادامبضوابطشرعية - وإلالكانتفظاظةالطبعوغلاظةالحسأمورامحبوبة،وإنمايبيح الإسلام الدعابة اللطيفة التي تروح عن الإنسان وتلطف من ثقل المتاعب التي تنتابه؛ لأن الإسلام دين واقعي يراعي فطرة الإنسان وغريزته، ولذا كان الصحابة يمزحون ويتندرون في غير معصية الله؛ تلبية لنداء الفطرة، وتمكينا للنفس على مواصلة السير في طريق الجد، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «قالوا: يارسول الله إنك تداعبنا، قال: نعم إني لا أقول إلا حقا».
  • لايخلوعصرمنالعصورمنعلماءفيهمدعابةولهمروحخفيفةلاتخرممروءةولاتطعنفيعدالةولاتمسدينا،فلماذاينكرونعلىأبيهريرة - رضياللهعنه - أمرالايعاب به شخص أصلا؟! بل العيب فيمن نزعت الرأفة والرحمة من قلبه فصار عبوسا متجهما لا تتفق طبيعته والدعابة والمرح.
  • الممازحةوالمداعبةبينالأصدقاءوالزملاءأمرلاحرجفيه،بلقديكونسببالتقريبالنفوسوائتلافالقلوب،وزيادةالترابطوالمعرفة،وربمارفعالكلفة وإزالة الحواجز الجليدية بين الأصدقاء.
  • الممازحةوالملاطفةوالترويحعنالنفسبالطرفوالمسامرةبالحديثأمريحققللنفسالاسترخاء،ويجلوعنهاالكآبةويزيلالجمودوالكسل،وربماأدخلعليهاالسروروالنشاطالداعيإلىالعملوالإنتاجواستغلالالأوقات،وإنجازالمهام بروح عالية وهمم متقدة؛ فقد روي عن علي - رضي الله عنه - قوله: "اجمعوا هذه القلوب وابتغوا لها طرائف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان".
  • إنمايخشىمنهعلىالخيرينوالمصلحينالمغالاةفيالممازحةوالإفراط،فيذكرالطرفحتىتتحولمجالسهمإلىنوادرللفكاهة يقضي المرء جل وقته مستمعا لطرفة دونما فائدة مرجوة، فيذهب بذلك وقار الصالحين وسمت المصلحين.

ويؤلم أيضا أن تكون مدارات الحديث حول سفاسف الأمور ومحقراتها من متاع الدنيا وزينتها فيظن الرائي أن لا هم لهؤلاء إلا هذه القضايا، ولا غاية لهم إلا تحقيقها، وليس ذلك فحسب، بل يتجاوز الأمر - أحيانا - حدا يخشى على المتحدثين أن يقعوا في الويل الذي توعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم "من يحدث بالحديث؛ ليضحك به القوم، فقال: "ويل له... ويل له".

 

 

(*) الحديث النبوي ومكانته في الفكر الإسلامي الحديث، محمد حمزة، المركز الثقافي العربي، المملكة المغربية، ط1، 2005م. السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، سوريا، ط1، 1419هـ/ 1999م. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد بن محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م.

[1]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص39 بتصرف.

[2]. انظر: الاستيعاب، ابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، نهضة مصر، القاهرة، (4/ 1768: 1772).

[3]. انظر: الإصابة، ابن حجر، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1383هـ/ 1970م، (7/ 425: 445).

[4]. الإصابة، ابن حجر، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار نهضة مصر، القاهرة، 1383هـ/ 1970م، (7/ 443).

[5]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، (4/ 587: 599).

[6]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص186،185 بتصرف.

[7]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (14/ 122: 123)، رقم (7691). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[8]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (15/ 180)، رقم (8018). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[9]. صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب: معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب: ذكر أبي هريرة الدوسي، (3/ 585)، رقم (6173). وصحح إسناده الذهبي في التلخيص.

[10]. التاريخ الكبير، البخاري، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، 1407هـ/ 1986م، (1/ 186).

[11]. الهرج: القتل.

[12]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، (14/ 257)، رقم (7859). وصحح إسناده أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[13]. انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/599).

[14]. صحيح: أخرجه ابن ماجه، في صحيحه، كتاب: الفتن، باب: فتنة النساء، رقم (4002). وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم (2703).

[15]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/586).

[16]. أبو هريرة صاحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وخادمه، د. حارث سليمان الضاري، ص29.

[17]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في المزاح، (6/107، 108)، رقم (2058). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1990).

[18]. كتاب الأذكار، النووي، دار الفكر، بيروت، 1414هـ/ 1994م، ص326.

[19]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: العلم، باب: كتابة العلم، (6/57)، رقم (3641). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (3646).

[20]. كيف ولماذا التشكيك في السنة، د. أحمد عبد الرحمن، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1428هـ/ 2007م، ص21 بتصرف.

[21]. أبو هريرة راوية الإسلام، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1402هـ/ 1982م، ص95، 96.

[22]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، رقم (10673). وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[23]. حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1405هـ، (1/ 384، 385).

[24]. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مطبعة الأزهر الشريف، القاهرة، 1991م، ص188، 189.

[25]. الفتوحات الربانية على الأذكار النووية، ابن علان، ( 6/297)، نقلا عن: الرسول المعلم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأساليبه في التعليم، عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، القاهرة، ط3، 1424هـ/ 2003م، ص162.

[26]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 609).

[27]. البداية والنهاية، ابن كثير، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث، ط1، 1408هـ/ 1998م، (8/ 110).

[28]. الرياض المستطابة في جملة من روى في الصحيحين من الصحابة، يحيى العامري اليمني، ص70.

[29]. شذرات الذهب، ابن العماد، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت، (1/ 57).

[30]. الرسول المعلم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأساليبه في التعليم، عبد الفتاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلامية، القاهرة، ط3، 1424هـ/ 2003م،ص161.

[31]. انظر: تاج العروس، الزبيدي، مادة "مزح".

[32]. ملحة: طرفة.

[33]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: البر والصلة، باب: صنائع المعروف، (6/75)، رقم (2022). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1956).

[34]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: في بشاشة النبي صلى الله عليه وسلم، (10/86)، رقم (3885). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3641).

[35]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الأدب، باب: الانبساط إلى الناس، (10/543)، رقم (6129). والنغير: تصغير نغر، وهو طائر يشبه العصفور أحمر المنقار.

[36]. صحيح: أخرجه الترمذي (بشرح تحفة الأجوذي)، كتاب: البر والصلة، باب: المزاح، (6/108، 109)، رقم (1991). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (1991).

[37]. أصبرني: قدني من نفسك أو أقدرني ومكني من استيفاء القصاص حتى أطعن في خاصرتك كما طعنت في خاصرتي.

[38]. اصطبر: استقد أو استوف القصاص.

[39]. صحيح: أخرجه أبو داود في سننه (بشرح عون المعبود)، كتاب: الأدب، باب: القبلة في الجسد، (14/90)، رقم (5224). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود برقم (5224).

[40]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند عائشة رضي الله عنها، رقم (25950). وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[41]. أي: يستفيد معه ما يستفيد الرجل من باديته.

[42]. أي: حاضرو المدينة له وهذا من حسن المعاملة.

[43]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك، رقم (12669). وقال عنه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند: إسناده صحيح على شرط الشيخين.

[44]. حسن: أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، باب: ما جاء في صفة مزاح النبي صلى الله عليه وسلم، ص128، رقم (205). وحسنه الألباني في مختصر الشمائل المحمدية برقم (205).

[45]. الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الخطيب البغدادي، تحقيق: د. محمد عجاج الخطيب، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط2، 1414هـ/ 1994م، (2/ 183).

[46]. إحياء علوم الدين، الغزالي، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (2/ 30).

[47]. تاريخ دمشق، ابن عساكر، تحقيق: علي شيري، دار الفكر، بيروت، ط1، 1419هـ/ 1998م، (46/ 501).

[48]. الاستيعاب، ابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، نهضة مصر، القاهرة، (1/ 482).

[49]. شعب الإيمان، البيهقي، تحقيق: محمد السعيد بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1410هـ، (6/292).

[50]. شرح السنة، الإمام البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، د. ت، ط2، 1403هـ/ 1983م، (13/184).

[51]. حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث معاوية بن جبرة، رقم (20067). وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[52]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره، (9/3694)، رقم (6421).

[53]. ربيعة الرأي: هو ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فروخ القرشي التيمي، وهو من صغار التابعين، ويصنف في الطبقة الخامسة.

[54]. شرح السنة، البغوي، تحقيق: زهير الشاويش وشعيب الأرنؤوط، المكتب الإسلامي، بيروت، ط2، 1403هـ/ 1983م، (13/184).

[55]. صحيح لغيره: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أبي هريرة، رقم (8081). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[56]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، أحاديث: رجال من أصحاب صلى الله عليه وسلم، رقم (23114). وصححه شعيب الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[57]. حيلة الأولياء، أبو نعيم، حلية الأولياء، أبو نعيم الأصفهاني، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1405هـ، (4/ 69).

[58]. أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه، كتاب: الزهد، باب: كلام علي بن أبي طالب، (7/100).

[59]. انظر: الحلال والحرام في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط16، 1405هـ/ 1985م، ص278: 281.

[60]. السنة المطهرة والتحديات، د. نور الدين عتر، دار المكتبي، سوريا، ط1، 1419هـ/ 1999م، ص26.

  • الجمعة AM 01:32
    2020-10-23
  • 1454
Powered by: GateGold