المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412397
يتصفح الموقع حاليا : 374

البحث

البحث

عرض المادة

تحريف الشريعة

فصل الدين عن الدولة:

يحسن بنا قبل الخوض في هذا الموضوع أن نوطئ له بمقدمتين:

الأولى: عن الدين في نظر الروم طبيعته والتزاماته.

الثانية: عن حالة الشريعة الإنجيلية ومدى تطبيقها في واقع الحياة قبل أن يعتنقها الروم رسمياً.

أولاً: الدين في نظر الرومان:

نستطيع أن نقول: إن المجتمع الروماني (أي: الجنس الأبيض المستعمر) لم يكن له دين موحد يتعبد به، ولا فلسفة واحدة يؤمن بها، بل كان غارقاً في دياجير جاهلية كالحة متعددة الألوان مختلفة الأنحاء.

فالطبقة الحاكمة تشارك الشعب في أعياده الوثنية، وتخدم تماثيل الآلهة الكثيرة، بيد أنها لا تدين في الواقع بغير الشهوة العارمة للتسلط والرغبة الجامحة في الاحتفاظ بكرسي المملكة، لا سيما وأن الامبراطور نفسه كان (إلهاً) يعبده الشعب.

أما الطبقة المثقفة فأشتات متفرقة، منها أتباع المدرسة الرواقية الموغلة في التجريد والتصوف، ومنها مريدو المدرسة الأبيقورية المفرطة في البهيمية والحسيات، ومدارس أخرى متأثرة بالفلسفات والوثنيات الإغريقية في تصوراتها وأفكارها.

وأما طبقات العامة من الشعب فهي تميل بطبيعتها إلى التدين، لكن التناحر المزمن بين الآلهة والصراع المرير بين الفلاسفة، أفقدها الثقة في المعتقدات الدينية والفلسفية بجملتها، فآثرت الاستجابة لداعي الهوى والانصياع إلى الملذات الجسدية والإغراق في المتع الحسية.

وخلاصة القول أن الروم لم يعتنقوا ديناً اعتناقاً جدياً يجعلهم يستمدون تصوراتهم وعقائدهم ونظام حياتهم منه وحده، نعم كان لهم آلهة ولم تكن آلهة تقليدية "لم تكن سوى محاكاة شاحبة للخرافات اليونانية، لقد كانت أشباحاً سُكِت عن وجودها حفظاً للعرف الاجتماعي، ولم يكن يسمح لها قط بالتدخل في أمور الحياة الحقيقية" (1).

وبذلك نستطيع أن نجزم بأن المجتمع الروماني كان مجتمعاً مادياً لا دينياً يعانى عزلة حادة عن معتقداته -أياً كانت- وبين واقع حياته العملي.

وقد عبر (سيسرو) عن الانفصال العميق بين الدين ونظام الحياة عند الرومان بقوله: "لما كان الممثلون ينشدون في دور التمثيل أبياتاً معناها: إن الآلهة لا دخل لهم في أمور الدنيا يصغي إليها الناس ويسمعونها بكل رغبة" (2).

ويقول الراهب (أوغسطين): "إن الروم الوثنيين كانوا يعبدون آلهتهم في المعابد ويهزءون بهم في دور التمثيل" (3).


(1) الإسلام على مفترق الطرق: محمد أسد: (38).
(2) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: الندوي: (163).
(3) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: الندوي: (163).

ليس هذا فحسب، بل إن أبيقور (ق4) قبل الميلاد - ليعلن على الملأ دعوة علمانية صريحة، فهو يقول: "إن الآلهة لا يشغلون أنفسهم بأمور بني البشر، إنهم موجودون لأنهم يظهرون من آن لآخر للأشخاص (!) بيد أن مسائل العالم الأرضي لا تعنيهم، وما من علامة تدل على أنهم يعنون بعقاب الآثم وإثابة الصالح؟ أيمكن اعتقاد تدخلهم هذا مع ما نراه في هذا العالم؟ " "إن جوبيتير يرسل الآن بالصواعق على معبده، فهل سحق أبيقور الذي يجدف به"؟ "إن الآلهة يعيشون بعيداً عن العوالم ولا يهتمون إلا بشئونهم فلا تعنيهم أمورنا، إنهم يعيشون حكماء سعداء ويعظوننا بهذا المثال الذي يجب أن نسير على منواله، فلنعتبرهم كمثل عليا يقتدى بها، غير أنه يجب علينا ألا نشغل أنفسنا بما يريدونه منا، فإنهم لا يريدون منا شيئاً، فهم لا يعيروننا بالاً فلنفعل نحوهم كما يفعلون نحونا" (1).

هذا التصور للآلهة تشترك مع أبيقور فيه الغالبية العظمى من الرومان، ومن الطبيعي جداً أن ينشأ عن هذا التصور الخاطئ للإله تصور خاطئ لمهمة الدين في الحياة وواجب المخلوق تجاه خالقه، ولما كان الصراع هو التصور المشترك لطبيعة الحياة عند الرومان، فقد كانوا يتصورون الآلهة وهي تتصارع في الفضاء كما يتصارع أبطالهم على الحلبة، وليس من شأن البطل أن يشرع للجمهور بل كل همه أن يخرج من الحلبة ظافراً منصوراً.

وبما أن آلهة الرومان بطبعها لم تكن لتشرع لهم شيئاً، فقد كان من الضروري أن يقوم بشر متألهون بمهمة وضع نظم الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة، ونتيجة لجهود هؤلاء برز إلى الوجود (القانون الروماني) الذي لا تزال أوروبا تعيش عليه أو على امتداده إلى اليوم، أما النظم الأخلاقية وقوانين الآداب العامة -إن وجدت -فقد كانت أبيقورية محضة.

وهكذا كان للرومان دين لكنه دين وجداني مجرد، لا تأثير له في السلوك العملي ولا يفرض التزامات خلقية معينة، ولا ينظم من شئون الحياة شيئاً، حتى إننا لنكاد نقول: إن الامبراطورية الرومانية نسخة قديمة من الولايات المتحدة الأمريكية اليوم.

كان الفرد الروماني -كالأمريكي اليوم- يخرج من نحلة إلى أخرى، وينتقل من مبدأ إلى نقيضه دون أن يطرأ على حياته العملية وسلوكه الشخصي أي تغيير، فالدين في نظره فكرة مجردة وعقيدة وجدانية فحسب.

ثانياً: حالة الشريعة الإنجيلية إلى سنة (325م):

ليس الإنجيل أول كتاب سماوي أنزله الله ولا هو حتماً آخر كتاب، فهو واحد من مجموعة كتب ابتدأت قبل المسيح بقرون وانتهت بالكتاب الخاتم المنزل على الرسول الخاتم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ومهمة الكتاب السماوي وغاية إنزاله بينها الله تعالى في القرآن الكريم أوضح بيان فقال: ((كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ)) [البقرة:213].

فالحكم بالكتاب في كل اختلاف وتطبيقه في كل منحى من مناحي الحياة، واستمداد كل القيم والقوانين والأنظمة والتشريعات منه هو الغرض المقصود من إنزاله، والكتب السماوية هي -كما في الآية- كتاب واحد بالنظر إلى أن منزلها واحد

 


(1) المشكلة الأخلاقية والفلاسفة، كرسون: (67).

وموضوعها واحد، وهو تقرير حقيقة واحدة لا تختلف أبداً هي توحيد الله وعبادته وحده بالمعنى الواسع الشامل للعبادة، هكذا كانت التوارة ((وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)) [الأعراف:145] فهي شريعة كاملة بالنسبة لعصرها قامت عليها دول تملك خصائص الدولة في ذلك العصر، وكان بعض ملوك هذه الدول من أمثال داود وسليمان عليهما السلام أنبياء يحكمون بما أنزل الله ويقيمون الحياة كلها على شرعه وأمره، وظلت التوراة ما شاء الله أن تظل منهاجاً وشريعة ((يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ)) [المائدة:44] فما كان يجوز لمؤمن بها أن يستمد تصوراته وأفكاره ولا سلوكه وتشريعاته من سواها.

أما ما وقع في حياة بني إسرائيل مما يخالف هذا فهو انحراف لا يقره الله ولا تقبله شريعته، ثم جاء عيسى عليه السلام رسولاً إلى بني إسرائيل، وهو آخر رسلهم ليصلح ما فسد ويقيم ما اعوج من عقائد وأخلاق اليهود، وليردهم إلى الأصل الثابت: توحيد الله وعبادته وحده بتحكيم شرعه واتباع منهجه.

وبما أنه مبعوث إلى بني إسرائيل خاصة، فلم يكن ناسخاً لشريعة موسى وإنما كان متماً لها، وكان الإنجيل مصدقاً لما بين يديه وإن لم يكن مهيمناً عليه (1).

وكان الجديد في شريعة الإنجيل التخفيف من بعض التشريعات التي لم تنزل شرعاً دائماً وإنما جاءت عقوبة مؤقتة لليهود، مع اشتماله على مواعظ بليغة اقتضاها ما جبل عليه اليهود من غلظة في القلوب، وجفاف في الأرواح، وإغراق مفرط تام في عبودية المادة، وحرصٍ مُصرٍّ على التشبث بالحياة الدنيا.

إذن فقد كانت التوراة مضموماً إليها تعديلات الإنجيل شريعة يجب أن تطبق، وعقيدة يجب أن ينبثق منها كل منهج للحياة: ((وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)) [المائدة:46/ 47]، لكن الذي حدث هو أن هذه الشريعة لم يكتب لها التطبيق على المستوى العام لسببين متلازمين:

الأول: أنه لم يقم لها دولة تتبناها وتقيمها في الأرض، إذ من المعلوم أن عيسى عليه السلام، توفاه الله ورفعه إليه وهو لم يزل في مرحلة الدعوة التي تشبه حال الدين الإسلامي قبل الهجرة.

الثاني: أنه، عليه السلام، قد بعث إلى قوم قساة القلوب غلاظ الأكباد، وفي الوقت نفسه كانت المنطقة المبعوث فيها جزءاً من مستعمرات إمبراطورية وثنية عاتية، فكان ميلاد الدين الجديد في محيط معاد كل العداء له ولرسوله ونتج عن ذلك اضطهاد فظيع للمؤمنين به لم يدع لهم فرصة لتطبيقه إلا في النطاق الشخصي الضيق.

وكان أول من وضع العراقيل أمام دعوة المسيح وشريعته اليهود قتلة الأنبياء، وتكاد الأناجيل والرسائل تكون وصفاً للعنت الذي لقيه المسيح وأتباعه من الطوائف اليهودية، وقد جللوا عداوتهم بإغراء الحاكم الرومانى بقتله وصلبه، ولكن الله تعالى رفعه إليه ونجاه منهم ومنه.

 


(1) يقول إنجيل متى عن المسيح: لا تظنوا أنى جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل (81: 5).

وبعد وفاة المسيح عليه السلام، اشتدت المحنة على أتباعه من اليهود والرومان سواءً.

أما اليهود فكانوا كما تحدثت رسالة (أعمال الرسل) يقتلون المسيحيين ويرجمونهم ويغرون بهم الولاة ... وكان من أبرز المضطهدين لهم شاؤل اليهودى، الذي تقول عنه الرسالة المذكورة: "أما شاؤل فكان يسطو على الكنيسة وهو يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساءً ويسلمهم إلى السجن" (1).

على أن أعظم محنة نزلت بالمسيحية -عقيدة وشريعة- هي عملية (الغزو من الداخل) التي قام بها شاؤل: فقد تظاهر باعتناق المسيحية وجاء بتعاليم مناقضة سبق ذكر بعضها، وأخذ يؤلب على المسيحيين الحقيقيين، وبذلك أحدث فوضى عقائدية وبلبلة فكرية، فتضاعف البلاء على المسيحيين، إذ أصيبوا في دينهم وأنفسهم دفعة واحدة.

وأما الرومان فقد أنزل أباطرتهم بأتباع المسيح أشد الأذى، واشتهر باضطهادهم (نيرون 64م) و (تراجان-106م) و (ريسويس-251م) و (دقلديانوس-280م) وبلغ بهم الاضطهاد إلى درجة أن بعض الأباطرة كانوا يضعون المسيحيين في جلود الحيوان ويطرحونهم للكلاب فتنهشهم، أو يلبسونهم ثياباً مطلية بالقار ويوقدونها لتكون مشاعل بشرية يستضيئون بها في مراقصهم (2) وفي وسع المرء أن يدرك الحال التي تكون عليها شريعة يضطهد أتباعها ثلاثة قرون ويطاردون في معتقداتهم وأفكارهم، وهذه المطاردة كيف يمكن أن تقوم عليها دولة تنافح عنها وتلزم بتعاليمها وتثبت للعالم أنها شريعة كاملة.


(1) صح (8/ 4).
(2) انظر: محاضرات في النصرانية: (32)، وتاريخ العالم فصل: (21) واضمحلال الإمبراطورية الرومانية: فصل (15).

وإذا اتضحت لنا هاتان الحقيقتان، نعود إلى فصل الدين عن الدولة الذي مارسته الامبراطورية الرومانية والكنيسة ابتداءً من سنة (325).

إن الكنيسة لتهتز طرباً إذا ذكر لها عام (325)، فهو يمثل في نظرها عام النصر الحاسم على أعداء المسيح وبداية العصر الجديد - عصر السيادة والحرية - بعد عصر الاضطهاد والهوان.

لقد حصلت الكنيسة على ما لم يكن ليحلم به آباؤها الأولون ... فبينما عاش المسيح والتلاميذ تحت تهديد الوالي الروماني ينظرون إلى الامبراطورية الفسيحة نظر من لا يطمع منها بشيء، نرى الكنيسة في القرن الرابع تظفر بالامبراطور نفسه صيداً ثميناً وتعمده بالماء المقدس إيذاناً بدخوله دين المسيح.

إن هذا النصر كبير، بل كبير جداً في حس الكنيسة وأتباعها، لكن الكنيسة نسيت -وما أكثر ما تنسى- قولة المسيح الصادقة: "ماذا ينتفع الإنسان إذا ربح العالم كله وخسر نفسه" (1).

فماذا ينفع الكنيسة إذا ربحت قسطنطين وإمبراطوريته وخسرت دينها وتعاليمها؟

لو أن الكنيسة ربانية حقاً لكان أول عمل عملته بعد انقضاء عهد الاضطهاد المرير هو البحث عن ذاتها هي، ببعث الإنجيل الأصلي ونشره وتحكيمه في شئون الحياة، وكان في إمكانها أن تقنع الامبراطور؛ فإما أن يقبل ذلك فيكون نصرانياً على الحقيقة، وإلا فلتكف منه بصداقته ورعايته وتمارس تطبيق شريعتها على أتباعها الحقيقيين في ظل عطف الامبراطورية، ذلك ما كان مفروضاً أن تضطلع به الكنيسة وأن يرضاه الامبراطور ويتقبله، غير أن الذي


(1) متى: (16 - 27).

حصل فعلاً هو أنه لا الكنيسة كانت مؤمنة جادة تطمع في هداية الناس ابتغاء مرضاة الله والدار الآخرة، ولا قسطنطين كان مؤمناً جاداً يريد أن يخلع عن عنقه ربقة الوثنية ليخلص دينه لله ويقف بين يديه وقوف العابد أمام المعبود.

إن الرابط الذي جمع الكنيسة بالامبراطور هو رابط المصلحة الدنيوية لكلا الطرفين لا غير، وإن كانت مصلحة الامبراطور أرجح وتنازله أرخص.

يقول درابر: "إن هذا الامبراطور الذي كان عبداً للدنيا والذي لم تكن عقائده الدينية تساوي شيئاً، رأى لمصلحته الشخصية ولمصلحة الحزبين المتنافسين ... النصراني والوثني؛ أن يوحدهما ويؤلف بينهما، حتى أن النصارى الراسخين أيضاً لم ينكروا عليه هذه الخطة، ولعلهم كانوا يعتقدون أن الديانة الجديدة ستزدهر إذا طعمت ولقحت بالعقائد الوثنية القديمة، وسيخلص الدين النصراني عاقبة الأمر من أدناس الوثنية وأرجاسها" (1).

كما أدرك هذه الحقيقة المؤرخ الإنجليزي (ويلز)، فقد شرح بدقة حال الامبراطورية معللاً اعتناق قسطنطين للمسيحية وإعلانها ديانة رسمية بأنه محاولة منه لإنقاذ إمبراطوريته المتضعضعة من التفكك والإنحلال، (2) وهو ما قال به جيبون من قبل (3).

هذا بالنسبة للإمبراطور، أما الذين اعتنقوا المسيحية من المواطنين الرومان فلم يتغير تصورهم السابق عن الدين ومهمته في


(1) ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين: (167).
(2) انظر معالم تاريخ الإنسانية: (718 - 719).
(3) انظر اضمحلال الإمبراطورية الرومانية، الفصل العشرون.

الحياة، وكان التغيير الذي طرأ عليهم هو إحلال مسمى (الأب، والابن، وروح القدس) محل (جوبيتير، ومارس، وكورنيوس) فما كانوا ينتظرون من آلهة بولس وكنيسته من تشريع وتوجيه إلا ما ينتظر من آلهتهم الجامدة الشاحبة، ولم يكن مقام الأب الذي نادت به الكنيسة ليزيد عن مقام جوبيتير الذي صوره أبيقور.

وهكذا لم تستطع الكنيسة بتصورها الفاسد أن تقتلع جذور الوثنية المتغلغلة في أعماق النفس الرومانية، ولا أن تسمو بتلك النفوس من عالم الملذات الجسدية إلى عالم الفضيلة والطهر -باستثناء القلة التي ترهبت- ولقد عبر أحد المؤرخين الغربيين عن ذلك بقوله: "إن المسيحية لم تكن عند أكثر الناس غير ستار رقيق يخفي تحته نظرة وثنية خالصة إلى الحياة" (1).

وإذ قد عجزت عن ذلك، فمن الطبيعي أن تعجز عن إقامة الحياة: بنظمها وقيمها وأخلاقها على أساس من الدين، وبقي الدين كما كان هواية شخصية محدودة التأثير لم يتغير فيه، إلا أن المراسم الشكلية كانت تؤدى في معابد، فأصبحت تؤدى في كنائس، ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إن الكنيسة تزحزحت عن مركز التأثير إلى مركز التأثر، فدخلت الخرافات والأساطير والتقاليد الوثنية في صلب تعاليمها وطقوسها، وامتزجت بروايات الأناجيل وآراء المجامع المقدسة، كما حصل امتزاج وتلاقح بين الشريعة والقانون الروماني فأصبحت المسيحية ديانة تركيبية كما وصفها لوبون (2).

وهذا الضلال والخطل الذي وقعت فيه الكنيسة لا يبرره ما ذهب إليه ليكونت دي نوي، حين قال: (قَبِل الدين الكاثوليكى الذي نشأ على شواطئ المتوسط ذات


(1) تاريخ العالم (4/ 330).
(2) مصير الإنسان: (252، 255).

المخيلة الواسعة بعض العادات لأنه لم يجد إلى إزالتها سبيلاً وانتهت -أي: الكنيسة- مرغمة إلى قبول المساومة، وقد طغت عليها أمواج الخرافات القديمة الجارفة) (1) فالمؤمن الحق لا يقبل المساومة على دينه مهما قست الظروف والأحوال.

كما لا يبرره -من باب أولى- ما ذهب إليه فشر في قوله: "إن حكمة الكنيسة المسيحية هدت آباءها الأولين إلى قبول ما لم يستطيعوا له منعاً من قديم العادات والتقاليد والمعتقدات، بدليل استقبال الكنيسة لمبدأ تعدد الآلهة الراسخ بين شعوب البحر الأبيض المتوسط وتطويع ذلك المبدأ لما تقتضيه عقائدها" (2).

قد يكون جرم الكنيسة أهون لو أنها عدت عملها هذا تصرفاً استثنائياً مؤقتاً تفرضه عليها الضرورة الطارئة، ثم لا تلبث الشريعة أن تبرز إلى حيز التنفيذ على كل نشاطات الحياة، غير أن الذي تم -فعلاً- هو أنها اتخذت ذلك قاعدة ومنهجاً وسارت فيه إلى أبعد شوط.

وكان أول من سن سنة التنازل عن الشريعة مقابل قبول العقيدة، هو شاؤل (بولس) يقول برنتن:"كانت العقبة الكبرى في وجه الأمميين الذين وجدوا أسلوب الحياة المسيحية جذاباً قانون اليهود" -أي: شريعة التوراة- ثم يشرح برنتن كيف أن بولس أزال هذه العقبة فأفتى بأن (الإغريق والمصريين والرومان الذين يقبلون المسيحية في حل من الختان وفي حل من التقيد بحرفية القانون) (3).

وبمرور الزمن أصبح هذا الانحراف منهجاً مقرراً اعتمدته الكنيسة بعد مجمع نيقية ففصلت بين العقيدة وبين الشريعة، بين الدين والدولة وقسمت الحياة البشرية دائرتين مغلقتين:

الأولى: (دينية) من اختصاص الله، ويقتصر محتواها على نظام الإكليروس والرهبنة والمواعظ وتشريعات طفيفة لا تتعدى الأحوال الشخصية.

والأخرى: (دنيوية) من اختصاص قيصر وقانونه، ويحوي محيطها التنظيمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعلاقات الدولية ونظم الحياة العامة.

هذه القسمة الضيزى لم تجد الكنيسة غضاضة فيها، ولم تتحرج من جعل قيصر شريكاً لله في ملكه، بل أعظم من شريك، فقسمت الكون شطرين: شطر لله وشطر لقيصر، فما كان لله فهو يصل إلى قيصر وما كان لقيصر فلا يصل إلى الله.

ويرى بعض المؤرخين أن السبب الذي أوقع الكنيسة في ذلك هو نظرتها القاصرة إلى الحياة الدنيا .. يقول صاحب (تاريخ أوروبا في العصور الوسطى): (إن المسيحيين الأولين على وجه الإطلاق لم يعمدوا إلى شيء من الإصلاح في المجتمع الروماني الذي نبتوا فيه برغم ما هو معروف من تحريمهم لكثير من العادات والطقوس القديمة، ولم تكن لهم فلسفة في الدولة وأصول الحكم ولا الإيمان بتجديد المجتمع من طريق الإنشاء والتنظيم، ولم يخطر ببال أحد منهم أن في استطاعة جماعاتهم الصغيرة البعيدة عن السلطة والنفوذ أن تحدث بالسياسة الرومانية أو المجتمع الرومانى شيئاً من التعديل، ذلك أنهم أيقنوا أن الدنيا متاع الغرور والشرور، وتعلموا أن الإنسان طريد جنة الخلد وحق عليه العذاب المقيم.

 


(1) مصير الإنسان: (252، 255).
(2) تاريخ أوروبا في العصور الوسطى: (1/ 80).
(3) أفكار ورجال: (18).

"وتعلموا كذلك أن هذه الدنيا الغرارة لن تلبث حتى تزول، وإن رجعة المسيح إلى الأرض، وهي ما اعتقدها الناس وشيكة الوقوع، سوف تملأ الدنيا عدلاً بعد ما ملئت الدنيا ظلماً وجوراً وخبثاً ونقصاً يمحوه كله المسيح محواً، وإذا كان كذلك فما الذي يحمل المسيحي على إلغاء الرق أو الحرب أو المتاجرة في المحرمات أو الربا أو استعمال القوة الغاشمة التي ساعدت الدولة الرومانية على النهوض، ما دام ذلك كله مقضياً عليه بالزوال، وما دامت المشكلة الكبرى تنحصر في الوسيلة الواقية من العذاب الذي كتبه الله على الناس جزاءً وفاقاً لما ارتكبه آدم من الخطيئة في جنة الخلد، ولذا رضي المسيحيون بجميع ما وجدوا من نظم لا قبل لهم بتغييرها" (1).

وهذا التعليل مصيب، لكنه لا يمثل الحقيقة كاملة، فإن للكنيسة مستندات نقلية من نصوص الأناجيل لابد من عرض نموذج لها ومناقشته، وأهمها نصان:

1 - القول المنسوب للمسيح: "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله".

هذا القول هو أقوى وأصرح حجج الكنيسة، ولقد ظل شعاراً ترفعه أوروبا كلما أملى عليها الهوى أن تخالف شرع الله وتتمرد على شرعه، وبفضل هذا الشعار أخذ الدين ينكمش وينحسر على مر القرون حتى لم يبق له في أحسن الأحوال إلا ساعة في الأسبوع خاوية من كل معنى .. فما قيمة هذا الدليل بالنظرة العلمية المنصفة؟

لقد سبق لنا أن قلنا: إن كل ما روي عن المسيح من أقوال ليست منسوبة إليه يقيناً، بل ولا ظناً راجحاً، فالكنيسة بدلَّت وحرفت وأضافت وحذفت حتى طمست تعاليمه وأقواله ودفنتها إلى الأبد، وهذا القول مما يجوز أن يقال فيه -مبدئياً-: إن المسيح لم يقله، وإنه من إضافات الكنيسة، ومادام البحث العلمي يقرر أن الأناجيل كلها ظنية الثبوت ظنية الدلالة، فكيف يسوغ للكنيسة أن تحتج بهذه الظنيات في مسألة بالغة الخطورة كهذه؟

ولندع القيمة العلمية التاريخية للنص وننظر نظرة موضوعية فاحصة في منطوق العبارة ومدلولها فماذا نجد؟

إن هذه العبارة ظاهرها الأمر الصريح بالشرك "أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله" فهي تجعل قيصر شريكاً لله في التوجه إليه بالعمل، ومن ينفذها على ظاهرها يقع حتماً في شرك الطاعة والاتباع وهو شرك أعظم، لتنافيه مع توحيد الألوهية، وهذه الدلالة تكفي لنفي صدور العبارة من المسيح عليه السلام، لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما بعثوا لتحذير الجماعة البشرية من الشرك وتنفيرها منه جليله ودقيقه، فكيف يأمر نبي من أنبياء الله من أولي العزم بالشرك ويدعو إليه بهذه الصورة؟!

وهذا في الحقيقة كاف لإسقاط حجية العبارة؛ لكننا سنجامل الكنيسة ونجري مع احتمالها الضعيف جداً مفترضين جدلاً أن المسيح عليه السلام تفوه بما نسب إليه، فهل يعني ذلك أن نفهم من العبارة ما فهمته الكنيسة من ظاهرها، ونتخذ من فهمنا هذا قاعدة هي أعظم القواعد الكنسية العملية على الإطلاق؟ لنتتبع معها سياق العبارة فقد يعين على فهمها - إن قبلت - على حقيقتها:

يقول متى في إنجيله: "ذهب الفريسيون وتشاوروا لكي يصطادوه بكلمة، فأرسلوا إليه تلاميذهم مع الهيرودوسيين قائلين: يا معلم إنك صادق وتعلم طريق الله بالحق ولا تبالي بأحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا ماذا تظن: أيجوز أن تعطي جزية لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال:

لماذا تجربونني يا مرآءون، أروني معاملة الجزية، فقدموا له ديناراً فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا له: لقيصر. فقال لهم: أعطوا إذن ما لقيصر لقيصر وما لله لله. فلما سمعوا تعجبوا وتركوه ومضوا".

كان المسيح -عليه السلام- وأتباعه قلة مضطهدة تتبنى دعوة جديدة ناشئة، فلم يكن في مقدورها أن تصطدم بالامبراطورية الطاغية، وتواجهها بعداوة سافرة، ولم تكن هذه المواجهة مطلوبة منها وهي لا تزال في طور الدعوة -يقابل ذلك في الإسلام فترة ما قبل فرض الجهاد- وهذا الطور يقتضي الالتزام بمبدأ (كفوا أيديكم) كيلا يستثار عدو باطش فيفتك بالدعوة في مهدها.

هذا المنهج في الدعوة لاحظه الفريسيون -أعدى أعداء المسيح- فسولت لهم أنفسهم الحاقدة أن يدبروا مكيدة للمسيح ودعوته، بحيث تخرج الدعوة عن منهجها ومسارها المقرر وتناوئ الأوضاع القائمة مباشرة، وبذلك يجدون طريقة للإيقاع بالمسيح لدى الحاكم الروماني فكان هذا السؤال الخبيث.

والواقع أنه ليس في استطاعة المسيح -عليه السلام- والقلة المسلمة معه ولا من منهج دعوته أن يرفضوا دفع الجزية للجابي الروماني، الذي يجمعها من كل رعايا الامبراطورية ويدفعها للطاغوت قيصر، ولكن هذا لا يعني أبداً أن المسيح عليه السلام يقر ذلك الواقع الظالم، ويعترف لقيصر بحق مساواة الله في خلقه ويجعله شريكاً له في ألوهيته كما فهمت الكنيسة.

فالمسيح عليه السلام -لو صحت العبارة- وافق على إجراء مؤقت تقتضيه ضرورة الواقع وطبيعة الدعوة المرحلية.

وإذا كانت دعوة الأنبياء في جوهرها واحدة، فإن أول فرض الجهاد في الإسلام كان إذناً وليس أمراً ((أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)) [الحج:39].

وذلك أن القلة المسلمة في مكة كانت تطمع في الثأر لنفسها من الاضطهاد المرير الذي تلقاه من جبابرة مشركي قريش؛ كأن تغتال بعض المضطهدين مثلاً، أو تسلبهم شيئاً من أموالهم وراحتهم، واستأذنوا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذلك، فكان الأمر من الله بكف اليد، ولذلك أجابهم الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {إني لم أومر بهذا}.

وذلك كي تظل الدعوة سائرة في منهجها المرسوم لا تستفزها تحركات الأعداء للإيقاع بها وإبادتها في مهدها.

ولو قدر للمسيح -عليه السلام- أن تبلغ دعوته من القوة ما بلغت الدعوة الإسلامية عند الإذن بالجهاد لأذن لقومه بأن يرفضوا دفع الجزية لقيصر، بل لأمرهم بجهاد الرومان وإشهار عداوتهم.

وبذلك يتضح أنه حتى في حالة ثبوت العبارة فإنها ذات مدلول جزئي مؤقت في مسألة فرعية، ولا يجوز أن يستنبط منه قاعدة أبدية عامة يفضي تطبيقها إلى إهمال شريعة الله، والتخلي عن إقامة دينه في واقع الحياة وإقرار أحكام الطاغوت.

2 - "مملكتي ليست من هذا العالم" بقطع النظر عن صحة نسبة هذه العبارة إلى المسيح عليه السلام أو عدمها، نجد أن الكنيسة فهمتها فهماً خاصاً، وجعلت هذا الفهم منهجاً وأصلاً من أصول عقيدتها تقاوم بها الفطرة البشرية والعقل السليم والتطور الإيماني المستقيم.

 

 


(1) (2/ 109 - 110).

فهمت الكنيسة من قول المسيح: "مملكتي ليست من هذا العالم" -إن كان قالها- أن الدنيا والآخرة ضرتان متناحرتان وضدان لا يجتمعان، الدنيا مملكة الشيطان ومحط الشرور والآثام، وعمل الإنسان فيها لتحسين أوضاعه المعاشية ومحاولة تحقيق القسط الملائم من السعادة والرفاهية والتمتع بطيبات وخيرات الكون، كلها أعمال دنسة يمليها الشيطان ليصرف الإنسان عن مملكة المسيح الخالدة (الآخرة)، والفقر وشظف العيش - حسب المفهوم الكنسي- هما مفتاح الملكوت الضامن، وتنسب الأناجيل إلى المسيح قوله: "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" (1).

وبمقتضى ذلك لا يسأل الإنسان الله شيئاً من متاع الدنيا أو خيراتها العاجلة، بل يقتصر على ما طلبه المسيح حسب رواية الأناجيل (خبزنا كفافا) (2).

والإنسان -حسب هذا المفهوم- يولد موصماً بالخطيئة الموروثة ويدخل إلى الدنيا دخول المجرم إلى السجن، وكما أن أباه أكل من الشجرة فعوقب بالطرد من الجنة وقضي عليه بالحرمان والنكد، فكذلك إذا تمتع بطيبات الدنيا وملاذها فسيعاقب بحرمانه من نعيم الملكوت.

إذا كان هذا هو حال الدنيا وحال الإنسان فيها ففيم العناء لإصلاح ما وجد بطبيعته فاسداً؟ وما جدوى تقويم ما خلق من أصله معوجاً؟ ليتحكم الجبابرة في الناس وليستعبدوهم وليعبثوا في الكون كما يريدون، فسوف يحاسبهم المسيح يوم الدينونة! وليجمع الناس المال ويتمتعوا بالحياة الدنيا ويتزوجوا وينجبوا، فسوف يحرمهم ذلك من الدخول في ملكوت الله والفوز في الملأ الأعلى، أما المسيحي الكامل الإيمان، فما له ولهذه الأمور، أليس كل همه الخلاص من هذا المأزق! مأزق وجوده في هذه الأرض في مملكة الشيطان؟


(1) متى: (19/ 25).
(2) متى: (6/ 12).

هكذا استخلصت الكنيسة من تلك العبارة وأشباهها مفهوماً سلبياً ضيقاً للحياة الدنيا، وبالتالي لمهمة الدين فيها، يائسة من إمكان إقامتها على الحق والعدل الإلهي، فحرفت المسيحية من عقيدة شاملة ذات منهج رباني كامل نزلت لتغيير الواقع الجاهلي المنحرف الذي يعيشه الناس، وإقامة واقع جديد تحكمه الشريعة المنزلة إلى نظرة بوذية قاصرة للدنيا، مشفوعة بآمال وأحلام مرتقبة في الآخرة، ورأت أن تنظيم شئون الدولة وتقويم النظم السياسية والاقتصادية وإصلاح الأوضاع الاجتماعية، ليس من دينها في شيء، لأن مملكة المسيح ليست من هذا العالم.

ولا يعني هذا أن الكنيسة لم تمارس سلطات سياسية أو نفوذاً اجتماعياً، فقد كان منها ما لم يكن من أعتى القياصرة (1) لكن هذه الممارسة تظل محدودة بنطاق المطامع الشخصية لرجال الدين، وكانت الرغبة في إشباع هذه المطامع، وليست الرغبة في إقامة دين الله وشرعه هما الدافع من ورائها، فكان البابا يهمه بالدرجة الأولى أن يتولى تتويج الملوك ويحصل منهم على الضرائب والجنود ولا يسمح بأدنى تساهل في ذلك، أما حكمهم بغير ما أنزل الله فلا شأن له به؛ لأن ذلك من اختصاص قيصر؛ ولأن مملكة المسيح ليست في هذا العالم.

والواقع أن هذه العبارة كسابقتها لا تنهض دليلاً لما زعمته الكنيسة، بل إن لها -إن صحت- معنى آخر يوضحه السياق، وها هو سياقها كما ورد في إنجيل يوحنا: "دخل بيلاطس -أيضاً- إلى دار الولاية، ودعا يسوع وقال له: أنت


(1) انظر الباب الثانى: فصل طغيان الكنيسة -لا سيما- الطغيان السياسي، (ص:133).

ملك اليهود. أجابه يسوع: أمن ذاتك تقول هذا أم آخرون قالوا لك عني؟ أجابه بيلاطس: العلي أنا يهودي؟ أمتك ورؤساء الكهنة أسلموك لي ماذا فعلت؟ أجاب يسوع: مملكتي ليست في هذا العالم، لو كانت مملكتي في هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلَّم لليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (1).

إن القضية لتبدو واضحة العيان، لقد دبر اليهود مكيدة أخرى، حيث رأوا أنه يمكن إيغار صدر (بيلاطس) على المسيح بتلفيق تهمة ضده، مفادها: أنه يدعي أنه ملك على اليهود، وزعيم سياسي يهدف إلى استقلال أمته عن الاستعمار الروماني والتبعية لقيصر، وهي تهمة كفيلة بتعريض المسيح ودعوته لأقسى العقوبات.

تظاهر اليهود بالنصح للحاكم الروماني، والحدب على دولته، فحملوا المسيح إليه موجهين إليه هذه التهمة. حينئذ وقع بيلاطيس بين تيارين نفسيين: تيار النخوة الوطنية الرومانية، وتيار التعقل والروية الذي يبعثه في نفسه علمه بخبث طوية اليهود من جهة، وتيقنه من براءة المسيح من جهة أخرى، لذلك تردد كثيراً في الأمر وهم أخيراً بأن يطلق المسيح، فصرخ اليهود قائلين: (إن أطلقت هذا فلست محباً لقيصر، كل من يجعل نفسه ملكاً يقاوم لقيصر) (2).

ولما رأى إصرارهم على صلب المسيح دفعه إليهم قائلاً: إن لكم شريعة تحاكمون إليها أبناء شعبكم فخذوا ملككم واصلبوه وفق شريعتكم، فصرخوا قائلين اصلبه أنت أما نحن فـ"ليس لنا ملك إلا قيصر" (3).

وأخيراً نجحت المكيدة، بل على الصحيح: هكذا ظن اليهود.


(1) (18:34 - 37).
(2) يوحنا: (19/ 12).
(3) يوحنا: (19/ 15).

ذلك موجز القصة كما رواها إنجيل يوحنا، وخلال التحقيق مع المسيح وردت هذه الكلمة عنه "مملكتي ليست من هذا العالم" كما يقول الإنجيل - وهو إن قالها، فإنما كان يريد أن يقول لبيلاطس: لست ملكاً من النوع الذي تتصوره أنت واليهود، على طراز قيصر وكسرى؛ فإن الملك الذي تتخيلونه أنتم بمعنى العزة والمجد العريض والشرف الباذخ، ليس حظي منه في هذه الدنيا وإنما هو عند الله في دار كرامته الخالدة، وما دمت لست طامعاً في مناصبكم الدنيوية ومظاهركم الكاذبة، فما الذي يحملكم على تجريمي وبأي حق تدينوني؟

لم يقل المسيح ولم يرد أن يقول: إنني بعثت إلى الضعفاء والعجزة لأعظهم في الكنائس، ولأعمر بهم الأديرة، وتعاليمي ليست سوى طقوس روحانية لا علاقة لها بالحياة، كما فهمت الكنيسة، فقد أعلن دعوته صريحة على الملأ: "لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض، ما جئت لألقى سلاماً بل سيفاً" (1).

ولم يقل كما قال اليهود: ليس لي ملك إلا قيصر، ولو قال ذلك أو شيئاً منه لربما سلم من الأذى وبرئ من التهمة، لكن حاشا أن يقول ذلك، وهو رسول الله الذي أرسله لهدم كل سلطان لغير الله في الأرض، ومهما ظل عاجزاً عن هدمه فلن يقر ويعترف به.

ومع ذلك فقد كان يعلم من الله أن نهايته قد أوشكت، وأنه لن يكون له سلطان في هذه الحياة الدنيا، ولذلك لم يأمر أحداً من أتباعه بالدفاع عنه، بل أمر رجلاً منهم سل سيفه أن يغمده، وقال ذلك لبيلاطيس صريحاً: "لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلَّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا".

وهكذا نرى -كما رأينا- أن الكنيسة تعمد إلى عبارات تنسبها الأناجيل إلى المسيح قيلت مجازاً، أو وردت في ظروف مؤقتة وملابسات خاصة لتقرر منها قواعد أصولية تؤسس عليها دينها المحرف دون مراعاة لمنطق الاستدلال ومقتضى التحقيق العلمي.

 


(1) متى: (10: 35).

  • الثلاثاء AM 06:08
    2022-07-12
  • 1181
Powered by: GateGold