المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415457
يتصفح الموقع حاليا : 222

البحث

البحث

عرض المادة

تعريف وتاريخ الصهـيونية التوطينيــة

الصهـيونية التوطينيــة: تعـريف
Settlement Zionism: Definition

»الصهيونية التوطينية« هي صهيونية اليهودي الذي يرفض الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، ومع هذا يستمر في الادعاء بأنه صهيوني وتأخذ "صهيونيته" المزعومة شكل دَعْم الدولة الصهيونية مالياً وسياسياً والمساهمة في توطين اليهود الآخرين. ونحن نضع «الصهيونية التوطينية» مقابل «الصهيونية الاستيطانية». وتاريخ الصهيونية التوطينية منفصل إلى حدٍّ كبير عن تاريخ الصهيونية الاستيطانية، كما أن جماهير الأولى مختلفون بشكل جوهري عن جماهير الثانية. وترجمة كلمة «توطينية» باللغة الإنجليزية صعبة بعض الشيء ويمكن أن تكون «ستلنج Settling» بمعنى «من يقوم بتوطين آخر»، ولكننا ترجمناها بكلمة «ستلمنت Settlement» نظراً لسلاستها، ونظراً لأنها استُخدمت بهذا المعنى في أسماء المنظمات الصهيونية التوطينية على أن نترجم كلمة «صهيونية استيطانية» بـ «ستلركولونيال زايونيزم Settler Colonial Zionism».

الصهـيونية التوطينيـة: تاريـخ
Settlement Zionism: History
»الصهيونية التوطينية« مصطلح قمنا بسكه لنشير إلى الصهيوني الذي يؤمن بأن الصيغة الصهيونية الأساسية (َقْل بعض أو كل يهود أوربا خارجها) تنطبق على يهودي أو صهيوني آخر ولا تنطبق عليه هو شخصياً. وتقف صهيونية مثل هذا الصهيوني عند حد الدعم المالي والسياسي للمشروع الاستيطاني دون الهجرة بنفسه، أي أنه يتخلى عن التطبيق الفعلي لأحد أهم جوانب الصهيونية (الاستيطانية) دون التخلي عن تأييده ودعمه. ولذا، فإن الصهيونية التوطينية هي أهم أشكال التملص اليهودي من الصهيونية. والواقع أن تاريخ الصهيونية التوطينية مواز تماماً لتاريخ الصهيونية الاستيطانية وينقسـم إلى مرحلتين أيضـاً: مرحــلة ما قبل هرتزل وبلفور وما بعدها.


المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور.

1 ـ صهيونية غير اليهود: وهي صهيونية توطينية بطبيعتها، إذ أن المادة البشرية المُستهدَفة هي اليهود وهم جماعة لا ينتمي إليها الصهيوني غير اليهودي.

2 ـ صهيونية الأثرياء اليهود المندمجين وتُسمَّى أيضاً الصهيونية الخيرية: تبنَّى بعض أثرياء الغرب الصيغة التوطينية بهدف إبعاد يهود اليديشية المهاجرين إلى بلدهم. وقد أُسِّست مؤسسات توطينية لهذا الهدف.

ثم ظهر هرتزل وطوَّر الخطاب الصهيوني المراوغ وطرح صيغته الصهيونية والعقد الصهيوني الصامت الذي يسمح للصهاينة التوطينيين من الغرب والاستيطانيين من يهود اليديشية من الشرق بالانخراط في حركة سياسـية واحـدة (رغم تباين الأهداف) تحت مظلة الإمبريالية الغربية. ويتبنَّى الجميع (الصهاينة اليهود والصهاينة غير اليهود التوطينيون والاستيطانيون) الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة، ويُسقط عليها اليهود منهم الخطاب الحلولي الكموني العضوي. وقد أخذ وعد بلفور في الاعتبار هذا الانقسام حين أسقط كلمة «الجنس اليهودي» وحين أكد أن الوعد لم يخل بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.

المرحلة الثانية: مرحلة ما بعد هرتزل وبلفور.

أصبحت الصهيونية التوطينية هي صهيونية الشتات أو الدياسبورا إذ تحوَّلت الصهيونية التوطينية من صهيونية الأثرياء إلى صهيونية كل صهاينة العالم الغربي، وأصبحت مهمتهم العمل من أجل دعم المُستوطَن الصهيوني (مالياً وسياسياً). وقد كانت هناك توترات بين الاستيطانيين والتوطينيين في هذه المرحلة ولكنها ظلت تحت السطح بسبب حاجة المستوطنين للتوطينيين، وبسبب انشغالهم في قضية الاستيطان وطَرْد العرب وبسبب عجزهم عن الحركة بسهولة بين أعضاء الجماعات اليهودية في العالم وفي أروقة الحكومات الغربية. وبعد عام 1913 (المؤتمر الصهيوني الحادي عشر)، تتغير الصورة بعض الشيء، إذ يصبح الاستيطانيون (من شرق أوربا) قادة الحركة الصهيونية بلا منازع وتكتسب صهيونية الدياسبورا مضموناً جديداً وهو قضية الهوية إذ يصبح تقسيم العمل كما يلي: يدعم الصهاينة التوطينيون المُستوطَن الصهيوني ويصبح هو مركزاً للهوية اليهودية وركيزة أساسية لها.

وفي هذه الموسـوعة، حينـما تكون الإشـارة للصهيونية التوطينية، فإن الإشارة تكون عادةً للمرحلة الثانية التي تتضمن الدعم المالي والضغط السياسي من أجل المُستوطَن الصهيوني وتدعيم هوية يهود الخارج. وينقسم الصهاينة التوطينيون إلى اثنيين دينيين وإثنيين علمانيين.

الصهيوني اليهودي غير اليهودي
Non-Jewish Jewish Zionist
«الصهيوني اليهودي غير اليهودي» مصطلح قمنا بصياغته لوصف بعض زعماء الحركة الصهيونية في مرحلة تأسيسها، كما يمكن استخدامه لوصف كثير من جماهير الصهيونية في الوقت الحالي. و«اليهودي غير اليهودي» هو يهودي فقد الإيمان الديني، ومن ثم فإنه لا يمارس شعائر دينه، كما أنه اندمج تماماً في مجتمعه بحيث لم يَعُد يتسم بأية سمات إثنية يمكن أن يُطلَق عليها «يهودية» إذ لم يبق من هذه الهوية إلا قشرة رقيقة لا أهمية لها، ولكنه رغم ذلك يُصنَّف باعتباره يهودياً إما لأن الآخرين يقومون بتصنيفه كذلك رغماً عنه أو لأنه يدَّعي ذلك.


ونحن نذهب إلى أن مؤسسي الحركة الصهيونية من ذوي الخلفية الألمانية (هرتزل ونوردو ونوسيج) هم يهود غير يهود فقدوا كل ما يربطهم باليهودية، ولكنهم وجدوا أنفسهم، بسبب هجرة يهود اليديشية، قد أُعيد تصنيفهم كيهود. وبدأ الهمس بشأن تهديد «اليهود» للأمن القومي، ولذا فقد بدأ هؤلاء في البحث عن حل لمسألتهم اليهودية التي فُرضت عليهم فرضاً. وقد كانت الصيغـة الصهيونية الأساسـية مطروحة في أوربا، فقام هرتزل باكتشافها واكتشاف الإمبريالية كآلية لتنفيذها وطوّر صياغته الهرتزلية المراوغة التي جعلت بإمكان يهود شرق أوربا قبول الصيغة الأساسية الشاملة وتهويدها. وكان بإمكان هرتزل اليهودي غير اليهودي أن يلعب هذا الدور لأنه كان يُعَد يهودياً في نظر عالم غير اليهود (بسبب القشرة اليهودية المتبقية)، كما كان يُعَد غربياً من قِبل يهود شرق أوربا إذ لم يروا فيه شيئاً يهودياً. ولذا، أمكن هرتزل أن يقوم بدور الجسر الموصل بين هذين العالمين.

ورغم الاختلاف بين هرتزل وأثرياء الغرب المندمجين، فإن هؤلاء أيضاً كانوا صهاينة يهوداً غير يهود وجدوا أنفسهم مشغولين بحل المسألة اليهودية رغم أنفهم ومتورطين في الحلول الصهيونية. ويُلاحَظ أن القيادة الصهيونية اليهودية غير اليهودية كانت دائماً مشغولة بإفراغ أوربا من اليهود وفي أسرع وقت وكانت لا تكترث إلا قليلاً بطبيعة الدولة الوظيفية المزمع إنشاؤها بتوجهها الإثني أو الديني أو العقائدي.

ويمكن القول بأن صهيونية هؤلاء اليهود غير اليهود لا تختلف كثيراً عن صهيونية غير اليهود، فكلاهما ينظر للمادة البشرية المُستهدَفة من الخارج، وكلاهما يحاول تخليص أوربا منها وتوظيفها لصالحها ولا يرى لها أية قيمة في حد ذاتها. وحينما تم تهويد الصيغة الصهيونية الأساسية واستبطنتها المادة البشرية، استولت القيادات من يهود شرق أوربا على المنظمة الصهيونية وتخلَّى الصهاينة اليهود غير اليهود عن القيادة بالاستمرار في الدعم المالي والمعنوي، شأنهم في هذا شأن دول العالم الغربي.

وبعد تأسيس الدولة، وبعد استيلاء الصهيونية على مقاليد الأمور بالنسبة للجماعات اليهودية والغرب، حَدَث تطوُّر من نوع آخر إذ ظهر في الغرب اليهودي غير اليهودي مدَّعي اليهودية. وقد انضمت أعداد كبيرة من هؤلاء للحركة الصهيونية للحفاظ على بقايا هويتهم. وقد قبلتهم الحركة الصهيونية حتى يمكنها الاستمرار في ابتزازهم مالياً وتوظيفهم في دعم المُستوطَن الصهيوني وفي الضغط السياسي من أجله. ومثل هؤلاء الصهاينة اليهود غير اليهود على استعداد تام للقيام بهذه المهمة ما دامت لا تؤدي إلى وضع ولائهم لأوطانهم موضع الشك وما دامت لا تضطرهم إلى الهجرة، وهو ما يعني أن نشاطهم الصهيوني يدور في نطاق المصالح الغربية والعقد الاجتماعي الغربي. ولذا، يمكن القول بأن صهيونية اليهود غير اليهود (رغم اختلاف جذور اليهودية المزعومة من القسر الخارجي إلى الادعاء الذاتي) لم تتغيَّر، وهي امتداد غربي داخل اليهود واليهودية وليست امتداداً يهودياً داخل الحضارة الغربية.

صهيونية الصالونات
Salon Zionism
«صهيونية الصالونات» اصطلاح سكه المفكر الصهيوني العمالي بوروخوف، ويشير إلى صهيونية أعضاء الطبقة الوسطى اليهود الذين لا يوجد لديهم حافز قوي لتأسيس الدولة الصهيونية، ولذا فهم يتحدثون عنها ولكنهم، بسبب موقعهم الطبقي، لن يبحثوا بشكل جذري عن طريقة عملية لتأسيسها. ولم يجد المصطلح رواجاً ولم يستخدمه أحد في الأدبيات الصهيونية رغم أهميته، وهو يكاد يرادف مصطلح «الصهيونية التوطينية».


صهيونية أثرياء الغرب اليهود المندمجين (لتوطينية(
Settlement Zionism of the Assimilated Wealthy Jews of Western Europe
«صهيونية أثرياء الغرب» شكل من أشكال الصهيونية التوطينية (بين اليهود في مرحلة ما قبل هرتزل وبلفور) ظهرت بين أثرياء الغرب اليهود المندمجين. وقد كان هؤلاء الأثرياء بمنزلة قيادة ليهود العالم بسبب نفوذهم المستمد من ثروتهم وتواجدهم في مواقع مهمة داخل التشكيل الحضاري الغربي، فهم كانوا لا يزالون يلعبون دور الوسيط (شتدلان) التقليدي، ويتشفعون لأعضاء الجماعات اليهودية عند الحكام والسلطات الرسمية. ولعل حادثة دمشق وتدخُّل موسى مونتفيوري من أهم الأمثلة على ذلك.


ومع النصف الأخير من القرن التاسع عشر، تدفَّق يهود اليديشية من شرق أوربا على غربها وتحوَّلت القضية بالتدريج من مجرد تشفُّع لهذا اليهودي أو تلك الجماعة إلى قضية توطين اليهود في أماكن متفرقة من العالم، أي أنها أصبحت قضية الصهيونية التوطينية. والواقع أن تبنِّي أثرياء الغرب المندمجين أحد أشكال الصهيونية ينم عن تناقض عميق، إذ أن طبيعة وضعهم في مجتمعاتهم كان يستند إلى تصوُّر أنهم أعضاء أقلية دينية وحسب لا يربطهم بأعضاء الجماعات اليهودية الأخرى سوى رباط واه، وأن ولاءهم يتجه لأوطانهم بالدرجة الأولى والأخيرة، وأن هويتهم القومية (الإنجليزية أو الفرنسية مثلاً) لا علاقة لها بانتمائهم الديني ولا تتأثر به. وهم في اندماجهم هذا يُعدُّون مثلاً حياً لانتصار المُثُل الليبرالية وعلى مدى عظمة الحضارة الغربية. ولكنهم بتورُّطهم في مشروع صهيوني (حتى لو كان توطينياً)، يقرون ضمناً بوحشية الحضارة الغربية التي تقتلع أعضاء الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها وبفشل المُثُل الليبرالية ومُثُل الاندماج والتحديث. ولكن أثرياء الغرب المندمجـون وقعـوا في هـذا المأزق لأسباب خارجة عن إرادتهم، فرغم عدم تَماثُل تجربة أثرياء الغرب مع التجربة اليديشية الحضارية والسياسية، ورغم أن مصير أعضاء كل جماعة كان مرتبطاً تماماً بالحركيات التاريخية لمجتمعهم، ومع تعثُّر التحديث في شرق أوربا (وهو تعثُّر صاحَبه انفجار سكاني حاد بين أعضاء الجماعات اليهودية) خرج مئات الألوف بل الملايين من اليهود الفائضين من شـرق أوربا ووصـلت جحـافلهم إلى النمـسا وفرنسا وشواطئ بريطانيا. وقد هدَّد هؤلاء اليهود المواقع الطبقـية والمكـانة المتميِّزة الجديدة التي كان يشغلها يهود الغرب المندمجون. بل يُقال إنهم كانوا يهددون الأمن الاجتماعي للدول التي يهاجرون إليها. وهنا حدث التشابك بين «مصير» يهود شرق أوروبا وأثرياء يهود الغرب (و«تشابك المصير» يختلف عن وحدة المصير التي يتحدث عنها الصهاينة)، فيهود الغرب نظروا إلى القادمين على أنهم (على أسوأ تقدير) خطر يتهددهم أو على أنهم (على أحسن تقدير) إخوة في الدين سيئو الحظ يستحقون الإحسان. وقد عبَّر ذلك عن نفسه من خلال مشاريع صهيونية توطينية يمولها يهود الغرب لإغاثة يهود الشرق وللتخلص منهم في الوقت نفسه.

وقد كان أثرياء اليهود في الغرب، مثل روتشيلد وهيرش ومونتفيوري، على استعداد لتمويل مشروعات لتوطين يهود شرق أوربا في أية بقعة خالية (أو يُتصوَّر أنها خالية) خارج أوربا (مثل الأرجنتين) وظهرت المؤسسات التوطينية اليهودية المختلفة التي كان يدعمها هؤلاء الأثرياء (مثل الأليانس وجمعية الإغاثة التي كانت تهدف إلى توطين اليهود في مختلف أنحاء العالم وإلى تحسين أحوال أعضاء الجماعات اليهودية، وخصوصاً في شـرق أوربا في أوطـانهم بما يكفُل عدم هجرتهم). وكانت هذه المؤسسات تقوم بتدريب أعضاء الجماعات اليهودية حتى يمكنهم إما التكيف مع الأوضاع الاقتصادية الجديدة في أوطانهم الأصلية أو العمل في مهنة جديدة تحتاج إليها الأوطان الجديدة التي وُطِّنوا فيها.

ويجب تأكيد أن هذه المشاريع والمساعدات التي يمكن أن نطلق عليها «الصهيونية الخيرية» أو «صهيونية الإغاثة والإنقاذ» كانت تتسم بما يلي:

1 ـ قلّصت الصهيونية التوطينية نطاق اهتمامها، فهي لا تهتم باليهود ككل، وإنما بيهود شرق أوربا وحسب، وخصوصاً الفقراء الذين يتم توجيه عملية الإنقاذ والإغاثة إليهم وحدهم (أما يهود الغرب أنفسهم فيتم إنقاذهم من يهود اليديشية. وقد لاحَظ هرتزل أن الصهيونية التوطينية تتضمن نزعة معادية لليهود(

2 ـ تتم عملية الإنقاذ بشكل عملي برجماتي خارج أي مشروع قومي أو سياسي يهودي مستقل، فالصهيونية التوطينية معادية لما يُسمَّى «القومية اليهودية»، ولذا فإن مشاريعها لم تكن مرتبطة بفلسطين أو أرض الميعـاد ولا بالأفكـار الدينية اليهـودية التقـليدية ولا باللغة العبرية، وكانت الأليانس (على سبيل المثال) تدافع عن استخدام الفرنسية.

3 ـ يُلاحَظ أن كل شخصية، وكل جمعية صهيونية خيرية، كانت تتبع في نشاطها الدولة الأوربية التي تنتمي إليها، فالأليانس كانت تتبع فرنسا وتحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الفرنسية، على عكس جمعية الإغاثة التي كانت تحاول الدفاع عن المصالح والثقافة الألمانية، وبهذا يؤكد الصهاينة التوطينيون انتماءهم الكامل لأوطانهم.

4 ـ لا يمكن إنكار أن روتشيلد، أو غيره من أثرياء الغرب، استفادوا كأفراد من نفوذهم في العالم الغربي ومن علاقتهم مع الحكومات الاستعمارية المختلفة في عملية شراء الأرض لتوطين الفائض اليهودي من شرق أوربا. ولكن هذا لا يغيِّر بتاتاً التوجُّه الكلي ذا الطابع الخيري الإغاثي الذي ينفر من الإطار العقائدي الصهيوني.

5 ـ لما كانت عملية التوطين عملية إنقاذ وإغاثة بدون ديباجة قومية، فإنها ستتم في أية بقعة من العالم )لأرجنتين أو شرق أفريقيا أو فلسطين)، وبشكل قانوني عن طريق شراء الأرض. ولم يول صهاينة الغرب المندمجون مشكلة السكان الأصليين أي اهتمام لأن الأمر لم يكن يعنيهم كثيراً، ولأن اهتمامهم كان ينصب بالدرجة الأولى على تخليص أوربا من فائضها اليهودي وتوطينه في أي مكان وبأية شرط (تجدُر الإشارة هنا إلى أنه، على مستوى الممارسة، كان مندوبو روتشيلد وجماعة أحباء صهيون يشترون الأرض في فلسطين ويطردون سكانها منها ويوطنون فيها اليهود(

ويمكننا أن نقول إن أولى الاتجاهات الصهيونية بين اليهود هي صهيونية الأثرياء المندمجين في غرب أوربا. وقد توجَّه إليهم صهاينة شرق أوربا التسلليون. ويمكن أن نضع داخل هذا الإطار محاولات السير موسى مونتفيوري، والبارون موريس دي هيرش المليونير اليهودي الذي ساهم بتبرعات سخية للأليانس وموَّل مشروعات توطين اليهود في الأرجنتين وغيرها من البلدان وأسَّس جمعية الاستيطان اليهودي (إيكا) لهذا الغرض، وإدموند جيمس دي روتشيلد، وجمعية الإغاثة اليهودية في ألمانيا، وجمعية الأليانس، والمحاولات المختلفة الرامية إلى توطين اليهود في الأرجنتين والبرازيل.

وقد ظهرت عدة مؤسسات توطينية استمرت في نشاطها حتى الحرب العالمية الثانية. بل لا يزال بعضها يمارس نشاطه في الوقت الحالي رغم اعتراض المنظمة الصهيونية العالمية.

ورغم أن يهود الغرب وأثرياءهم هم الذين مولوا عمليات التوطين الأولى، فإنهم لم يكونوا قط مرشحين لقيادة الحركة الصهيونية لعدة أسباب:

1 ـ لم يوافق هؤلاء اليهود قط على المضمون القومي للتوطين الذي كان يهود الشرق يحاولون فرضه.

2 ـ بعد أن أصبح المشروع الصهيوني جزءاً لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الغربي، رضخ يهود الغرب للأمر الواقع. ولكنهم آثروا، مع هذا، الاحتفاظ بمسافة بينهم وبينه، فهم في نهاية الأمر مستفيدون من المُثُل الليبرالية السائدة في مجتمعاتهم، وهي مُثُل تتناقض مع المُثُل التي ينطلق منها المشروع الصهيوني.

3 ـ لم يكترث يهود الغرب بيهودية المشروع الصهيوني، فما كان يعنيهم أساساً هو إبعاد يهود شرق أوربا عنهم. وهم، في هذا، كانوا أقرب للصهاينة غير اليهود منهم للصهاينة من اليهود، ولذا فهم صهاينة يهود غير يهود.

4 ـ لم تكن هذه القيادات تعرف شيئاً عن المادة البشرية اليهودية المستهدفة التي كان يُراد نَقْلها إلى فلسطين، كما لم تكن تدرك لغتها ولا طموحاتها أو آلامها، ولذا فقد كانت تنظر إليها من الخارج شأنها في هذا شأن صهيونية غير اليهود.

5 ـ كانت قوة أثرياء الغرب في نهاية الأمر محدودة، فقد كانوا يملكون أن يتوسطوا لدى السلطان العثماني ليُحسِّن أحوال اليهود أو ليمنحهم قطعة أرض، ولكن لم يكن بوسعهم أن يطلبوا لليهود أرضاً ينشئون عليها دولة، كما أنهم لم يكن عندهم أي إدراك لحتمية الاستعانة بالإمبريالية في أية عملية توطينية.

وحينما ظهرت الصهيونية التسللية، حاول الصهاينة التسلل إلى فلسـطين لإنشـاء دولة يهودية دون مظلة إمبريالية (أي أن التسلليين ـ رغم اختلاف مقاصدهم عن مقاصد أثرياء اليهود في الغرب ـ وقعوا في الخطأ نفسه، فقد نظروا إلى قضية الاستيطان دون إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية). ولذا، فقد توجَّهت الصهيونية التسللية إلى روتشيلد وغيره طالبة منهم العون. ولعل عدم إدراك حتمية الاستعانة بالإمبريالية في عملية الاستيطان والتوطين هي الرقعة المشتركة بين التسلليين وأثرياء الغرب المندمجين، وذلك رغم أن التسلليين استيطانيون والأثرياء توطينيون. ثم ظهر هرتزل الذي أدرك حتمية الاستعانة بالإمبريالية الغربية لإنشاء الدولة اليهودية، فتخطى يهود الغرب وأثرياءهم وتسلليي الشرق، وتوجَّه إلى الدول الاستعمارية مباشرةً فسقطت القيادة في يده منذ البداية.

ويتفق هرتزل مع أثرياء الغرب التوطينيين في عدم اكتراثه بمشاكل الهوية والوعي، فهو ينظر إلى يهود اليديشية من الخارج تماماً كما ينظر إليهم أثرياء الغرب. ولكنه، مع هذا، طوَّر الصيغة المراوغة التي تركت الباب مفتوحاً أمامهم ليلقوا بالصدقات على الاستيطانيين دون أن تطأ أقدامهم أرض الميعاد نظير ألا يهاجمـهم أحد أو يتهمـهم بالتنكر ليهوديتهم. والواقع أن هذا جزء من العقد الصهيوني الصامت.

ومع صدور وعد بلفور، دخلت الصهيونية التوطينية مرحلة جديدة تماماً، فقد سقطت تهمة ازدواج الولاء إذ تحولت الصهيونية نفسها إلى مشروع تابع للحضارة الإمبريالية الغربية، وتأييد مثل هذا المشروع يمكن أن ينبع من الولاء للوطن الأم ولا يتناقض مع وطنية المرء، وهذا ما كان يعنيه برانديز حين قال: "كي أصبح مواطناً أمريكياً صالحاً، يجب أن أصبح يهودياً أفضل، وكي أصبح يهودياً أفضل يجب أن أصبح صهيونياً"، ذلك أن الصهيونية واليهودية والوطنية الأمريكية أمور مترادفة بالنسبة له ولصهاينة الغرب التوطينيين، ومن ثم أصبح بالإمكان اندماج الصهيونية الدبلوماسية الاستعمارية وصهيونية الأثرياء المندمجين لتظهر صهيونية الشتات التوطينية.

  • الاربعاء AM 01:26
    2021-05-05
  • 1114
Powered by: GateGold