المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415979
يتصفح الموقع حاليا : 330

البحث

البحث

عرض المادة

يهود المارانو كعنصر تحديث وعلمنة في المجتمعات الغربية وبين الجماعات اليهودية

The Marranos as Agents of Modernization and Secularization in Europe and among Jewish Communities
كانت بعض الدول الغربية تشجع يهود المارانو على الاستيطان فيها، إذ كان كثير من الدول الغربية، خصوصاً البروتستانتية، ترى أن اليهود بوسعهم أن يضطلعوا بدور الجماعة الوظيفية التجارية النافعة. وكانت هذه الرؤية تطابق، إلى حدٍّ ما، رؤية المارانو لأنفسهم. فكثير منهم، ممن كانوا يبطنون اليهودية، كان يستمر في التخفي حتى يستفيد من الفرص الاقتصادية المتاحة أمامه، إذ كان تهوُّده يعني فقدانه إياها. ولذا، نجد أن كثيراً من المارانو بقوا في شبه جزيرة أيبريا بحثاً عن الفرصة الاقتصادية وحفاظاً على أملاكهم من المصادرة، مؤثرين ذلك على الهجرة إلى بلد بروتستانتي أو إسلامي يمنحهم حرية العبادة ولا يمنحهم الفرصة الاقتصادية نفسها. كما أن كثيراً من يهود المارانو الذين هاجروا إلى دول جديدة، بقوا على علاقاتهم مع المؤسسات التجارية في إسبانيا والبرتغال ومع أعضاء أسرهم الذين تنصَّروا بالفعل. وكان الحكم الإسباني أو البرتغالي يستفيد من خبراتهم واتصالاتهم الدولية، وبنفوذهم ورأسمالهم، برغم اضطهاد محاكم التفتيش. وثمة حالات عديدة قام فيها يهود المارانو بالتجسس لصالح الدولتين الإسبانية والبرتغالية. وثمة حالات كان يهود المارانو يهاجرون فيها من إسبانيا أو البرتغال ثم يعودون إليها للقيام بالأعمال التجارية، وهو ما يعني أنهم كانوا يضطرون إلى اعتناق المسيحية مرة أخرى، لفترة وجيزة، أو على الأقل التظاهر بذلك.

ولعب المارانو دوراً مهماً وفعالاً في تأسيس الشركات التجارية والاستيطانية الكبرى، مثل شركة الهند الشرقية وشركة الهند الغربية (الهولنديتين)، وساهموا أيضاً في شركات منافسة أسسها البرتغاليون ليخرجوا الهولنديين من البرازيل.

كما أسس المارانو، بما كان لهم من خبرة مالية، شركات تأمين وعديداً من المصارف، حيث كانوا ذوي شهرة في التعامل في بورصات الأوراق المالية. وأسسوا مصانع للصابون والأدوية، وساهموا في سك المعادن وصناعة السلاح وبناء السفن. واحتكر المارانو تقريباً التجارة الدولية في سلع مثل: المرجان والسكر والطباق والأحجار النفيسة، كما اشتغلوا بتجارة الرقيق بسبب وجود أعداد منهم في أوربا، وفي العالم الجديد، وفي مستعمرات البرتغال في أفريقيا، التي كانت تُعَدُّ مصدراً أساسياً للعبيد. وكان عـدد من يهـود البلاط من أصل ماراني. وساعدهم على تبوُّء مكانتهم المالية واضطلاعهم بهذه الوظيفة عاملان أساسيان: أولهما أن المارانو، بانتشارهم وهامشيتهم واحتفاظهم بالروابط بينهم وباللادينو كلغة مشتركة للتجارة الدولية، كوَّنوا أول شبكة تجارية عالمية وأول نظام ائتماني في العصر الحديث كان يربط بين معظم أطراف العالمين الإسلامي والمسيحي بشقيه الكاثوليكي والبروتستانتي. وامتد نشاطهم إلى العالم الجديد، حيث ارتبطوا بكثير من المشروعات التجارية للاستعمار الغربي. وتم كل ذلك في غيبة نظام ائتماني عالمي، أو نظام ثابت لعلاقات دولية. كما تزامن انتشارهم في العالم مع بداية علمنة المجتمع الغربي وظهور الحكومات المطلقة التي كانت تأخذ بالمنفعة والولاء لها (وليس الانتمـاء الديني أوغيره من الانتماءات) معياراً للحكم على الأفراد.

وتجب ملاحظة أن التجارة التي اشتغل بها المارانو كانت التجارة الدولية، وأن الأعمال المصرفية التي اضطلعوا بها كانت أعمالاً مصرفية متقدمة فكانت كلتاهما (التجارة والأعمال المصرفية) لا تشبه من قريب أو بعيد التجارة البدائية التي كان يعمل بها يهود الإشكناز أو الربا الذي كانوا يشتغلون به.

وكانت الصناعات التي طوروها واستثمروا فيها أموالهم ـ إلى حدٍّ كبير ـ صناعات رأسمالية بالمعنى الحديث للكلمة. كما أن ثقافتهم العالية، وأعدادهم الصغيرة، وعدم انغلاقهم، سهَّلت عملية اندماجهم في المجتمعات الغربية. ومن هنا، فإن المارانو كانوا يعيشون في صلب المجتمع الغربي، أوفي جسده، وليس في مسامه على طريقة الإشكناز. ولذا أيضاً، لم تظهر بينهم مسألة يهودية، إذ كانت المسألة اليهودية مسألة إشكنازية أساساً. ويتجلى هذا في فرنسا حيث طبَّق نابليون قوانينه بشأن إصلاح اليهود، على الأشكـناز وحدهـم دون السـفارد. وينطـبق الشيء نفسه على إنجلترا إذ أن يهـود إنجلـترا السفارد من عائلات مونتيفيوري ومونتاجو ودزرائيلي، وغيرها، اندمجوا تماماً في المجتمع وأُعطوا حقوقهم كافة. وبدأت الهجرة الإشكنازية من شرق أوربا، فظهرت مسألة يهودية أدَّت إلى صدور قانون الغرباء، ثم مشروع شرق أفريقيا، ثم وعد بلفور، وذلك لإبعاد الهجرة الإشكنازية عن إنجلترا.

لكل هذا، قال عالم الاجتماع الألماني سومبارت « إن يهود المارانو كانوا عنصراً أساسياً في تشكيل الاقتصاد التجاري الصناعي الجديد في أوربا ». ورفض سومبارت أطروحة فيبر الخاصة بعلاقة الرأسمالية والبروتستانتية، والتي ترى أن دور اليهود فيها كان ثانوياً بسبب ارتباطهم بالحكومات والنخبة الحاكمة. ويطرح سومبارت بدلاً من ذلك نظريته الخاصة بعلاقة اليهود، خصوصاً المارانو، بقيام النظام الرأسمالي الحديث، فيرى أن اليهود لعبوا دوراً أساسياً وحاسماً في تحديث وعلمنة أوربا بإدخالهم أشكالاً جديدة من الاقتصاد المجرد الذي هدم العلاقات الإقطاعية المتعينة.

هذا هو دور المارانو التحديثي في العالم الغربي ككل، وهو أمر معروف وربما مُتَّفق عليه. أما دورهم في تحديث الجماعات اليهودية فهو أكثر غموضاً ويحتاج إلى إيضاح وتفسير. وقد أشرنا من قبل إلى أن هوية يهود المارانو كانت هامشية، حيث كانوا يقفون بين المجتمع المسيحي والجماعات اليهودية ولا ينتمون إلى أيٍّ منهما. وكانوا يعرفون التقاليد الحضارية لكلا المجتمعين، كما كانوا على مستوى ثقافي رفيع على عكس يهود اليديشية. ولذا، أمكنهم أن يكونوا قناة توصيل بين المجتمعين. لكن أكبر إسهام ليهود المارانو في عملية تحديث اليهود واليهودية هو هجومهم على اليهودية الحاخامية وعلى مؤسساتها كافة.

وقد كان كثير من يهود المارانو يُضفون غلالة من المثالية على اليهودية أثناء تخفيهم لأنهم كانوا يرفضون السلطة الكنسية والكهنوتية، كما كانوا يتصورون أن اليهودية دين تَسامُح وحرية وعقلانية تتقبَّل النقد بسماحة. وقد اعتادوا، أثناء فترة تخفيهم، انتقاد الكنيسة وممارساتها بينهم، الأمر الذي طوَّر عقليتهم النقدية بعيداً عن أي شكل من أشكال الحوار. ولكنهم حينما ذهبوا إلى أمستردام، وجدوا صورة مغايرة تماماً لأحلامهم. فالجماعة اليهودية في الوسط البروتستانتي كانت تحاول الابتعاد قدر الإمكان عن عالم الأغيار الذي كان يتهددها بالاندماج، ولذا كانت تبذل قصارى جهدها في السيطرة على كل أعضاء الجماعة اليهودية، وفي المحافظة على التفرقة بين السفارد والإشكناز. ويرى بعض المؤرخين أن قيادات المارانو (السفارد) ومؤسساتهم (الماهاماد) كانت متأثرة وبعمق بأساليب محاكم التفتيش والدولة الإسبانية، وطبقتها على أعضاء الجماعة. لكل هذا، كان من العسير على المارانو، برؤيتهم النقدية، تقبُّل المؤسسة الحاخامية بكل انعزاليتها وتعصُّبها، فهي من وجهة نظرهم لا تختلف كثيراً عن محاكم التفتيش. ولذا، فقد استمروا في توجيه سهام نقدهم نحو المؤسسة الحاخامية وضد كثير من جوانب التراث اليهودي، الأمر الذي أضعف سيطرة القيادة الدينية وهزَّ شرعيتها.

ولكن ثمة جانباً آخر في تجربة المارانو هو الذي أدَّى إلى هز اليهودية الحاخامية من جذورها، وقسَّم يهود أوربا إلى طوائف وفرق. ذلك هو الدور الذي لعبوه في الحركات المشيحانية. وكما بيَّنا، كان المارانو ينكرون أن المسيح هو الماشيَّح ولكن وجودهم في كنف حضارة مسيحية، عمَّق إحساسهم بأهمية شخصية المسيح ومركزيتها. ولذا، ظلت العقيدة المشيحانية حية قوية بينهم، وأدَّى وضعهم وخوفهم الشديد من محاكم التفتيش إلى تعميق النزعة المشيحانية بينهم وزاد من حرارتها. كما ظل المارانو، بسبب كونهم يهوداً متخفين، غير قادرين على تنفيذ الأوامر والنواهي كافة، ولذا أخذوا في تأكيد أهمية الإيمان المجرد وعدم أهمية الالتزام بالعبادات والشعائر. بل إن بعضهم جعل من خرق الشريعة فضيلة. وثمة بُعد اجتماعي سياسي لتعاظم النزعة المشيحانية بينهم، فقد كان للمارانو وضـع متميز في شبه جزيرة أيبريا قبل طردهم حيث كان منهم الوزراء والملتـزمون وكبار التجـار. وقـد تدنَّى وضعـهم في البلـدان الأوربيـة الجديدة التـي استـوطنوا فيها. كمـا أنهم، حتى بعـد أن أحرزوا مكـانة عاليـة، ظلوا بعيدين عن المشاركة في السلطة السياسية.

وساهم المارانو في نشر القبَّالاه اللوريانية التي تجعل اليهود عمـاد الخـلاص في العالم، والتي ربطت بين التصـوف والنزعة المشيحانية، والتي تعوِّض اليهودي عن عدم مشاركته في السلطة السياسية بجعله شريكاً مع الخالق في خَلْق العالم، بل وفي تحقيق الرب لذاته ولوجوده. ولذا يمكن القول بأن المارانية شكل من أشكال العلمنة لا يختلف كثيراً عن الربوبية التي تؤمن بالإله الخالق وترى أنه يمكن التوصل إليه بالعقل دون حاجة إلى وحي أو رسل (وهذا هو أيضاً جوهر الماسونية الربوبية).

وإذا أضفنا إلى كل هذا ما ذكرناه من قبل عن ضعف الهوية، فيمكننا أن نرى لماذا أصبحوا تربة خصبة للنزعة المشيحانية. وقد كان شبتاي تسفي، الذي أظهر غير ما أبطن، يتبع نمط المارانو في هذا. وكان تسفي من أصل سفاردي، وانتشرت دعوته بين المارانو، بخاصة في مدينة سالونيكا التي أصبحت فيما بعد مركزاً للدونمه. وحينما ظهر تسفي، خرق الشريعة على طريقة يهود المارانو، وأبطل الأوامر والنواهي، ووعد أعضاء الجماعات اليهودية بأن يصبحوا سلطة سياسية مستقلة في فلسطين، بل ووزع كثيراً من الممالك على أتباعه على طريقة المشحاء المخلِّصين. وقد تأثر به يعقوب فرانك («فرانك» تعني «سفاردي» باليديشية) صاحب الحركة الفرانكية المشيحانية.

ويرى البعض أن الصهيونية هي شكل من أشكال المارانية أيضاً، فهي عملية تحديث لليهودية تُسقط الشريعة وتحل إشكالية عدم المشاركة في السلطة. كما يرون أن حركة التنوير اليهودية، وفكر مندلسون، كلاهما فكر ماراني يحتفظ بالجوهر اليهودي الموسوي ويُسقط الشعائر كافة. ومن المعروف أن بعض قيادات يهود السفارد كانوا من أكثر المتحمسين لحركة الاستنارة، وأن إسبينوزا من أصل ماراني. بل يمكن أن نرى التراث الماراني مستمراً في شخصيات مثل دزرائيلي ودريدا (فيلسوف التفكيكية).

  • الجمعة PM 10:42
    2021-04-02
  • 1239
Powered by: GateGold