المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415976
يتصفح الموقع حاليا : 326

البحث

البحث

عرض المادة

رؤية ماكس فيبر (1864-1920) للعلاقة بين الرأســمالية والجماعات اليهودية

Max Weber on the Relationship between Capitalism and Jewish Communities
ساهم عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 ـ 1920) في دراسة اليهود واليهودية من عدة جوانب. وأهم مفهوم في كتاباته هو مفهوم «الترشيد»، أي توظيف الوسائل بأعلى درجة من الكفاءة في خدمة الأهداف، وذلك عن طريق إخضاع الظواهر بشكل متزايد للمنطق الرياضي والهيمنة المنهجية المنظمة على كل جوانب الحياة على أساس قوانين عامة ومبادئ تستبعد الالتفات إلى المعايير التقليدية أو الحماسة الكاريزمية، أو الالتفات إلى أية قيم أخلاقية أو عاطفية أو إنسانية. وهو يرى أن الترشيد هو السمة الأساسية لتاريخ البشرية المعاصرة، بل وتاريخ البشرية العام، فتاريخ الحضارة هو التقدم المستمر نحو مزيد من الترشيد.

والترشيد ـ حسب رأيه ـ ليس سمة معزولة من سمات الحضارة الغربية، بل هو السمة الأساسية، وهو مصدر خصوصيتها. ويربط فيبر هذه السمة بظواهر أخرى، مثل معمار الكاتدرائيات القوطية وظهور العلم الطبيعي المبني على التحليل الرياضي، ويرى أنها عملية كامنة في الحضارة الغربية، فهي كامنة في القانون الروماني، وفي مفهوم الملكية باعتباره حقاً مطلقاً، وفي انفصال الكنيسة في الغرب عن العالم الدنيوي بحيث تركت ما لقيصر لقيصر وما لله لله، ثم في بنية المدينة الغربية واستقلالها عن التشكيل الإقطاعي.

ولعبت اليهودية بوصفها ديانة توحيدية دوراً أساسياً في عملية الترشيد هذه. إذ تضع الديانات التوحيدية مسافة بين الخالق والمخلوق. ولذا، لم يَعُد هدف المؤمن هو الاتزان مع الدنيا (عالم الطبيعة) كما هو الحال في الديانات الحلولية وإنما التحكم فيها. هذه المحاولة للتحكم في كل العالم بكل تفاصيله، باسم مثل أعلى مُوحَّد، هي خطوة أولى نحو الترشيد، إذ لا يتعامل المرء مع الواقع على أساس ارتجالي وإنما يتعامل معه بشكل متكامل. وهذا ترشيد تقليدي مُتوجِّه نحو القيمة التي تحددها المعايير الأخلاقية المطلقة، ولكن هذا النوع من الترشيد حل محله الترشيد الحديث، وهو الترشيد المتحرِّر من القيم، والمتوجه نحو أي هدف يحدده الإنسان بالطريقة التي تروقه أو حسبما تمليه عليه رغباته أو مصلحته. فالترشـيد التقلـيدي كان يتم في إطـار المطلق الديني، أما الترشيد الحديث فلا علاقة له بأيِّ مطلق ويتم في إطار نسبي كامل، ولذا نسميه «الترشيد الإجرائي» (ويُسمَّى أيضاً «الترشيد الأداتي»).

ولكن فيبر يرى أن اليهودية لم تصل بعملية الترشيد إلى نهايتها المنطقية، ومن ثم لم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً مهماً ومركزياً في تطوُّر الرأسمالية. أي أن فيبر ـ على عكس سومبارت ـ يقول إن الجماعات اليهودية لم تساهم بشكل مباشر وأساسي في نشوء الرأسمالية الرشيدة حتى وإن كان لها إسهامها غير المباشر من خلال عناصر الترشـيد الموجـودة في النسـق الديني (وبخـاصة كتب الأنبياء) ومن خلال تقويضها دعائم المجتمع التقليدي بإدخال عناصر اقتصاد التبادل. ويعود ذلك إلى الأسباب التالية:

1 ـ لم يكن تَوجُّه اليهود إلى هذه الحياة الدنيا بحدة تَوجُّه الجماعات البيوريتانية البروتستانتية التي جعلت هزيمة العالم وتَراكُم الثروة شاهداً على الرضا الإلهي، وهو تَوجُّه أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور المجتمع العلماني الرأسمالي.

2 ـ يرى فيبر أن المثل الأعلى اليهودي هو العالم التلمودي الذي يدرس النصوص المقدَّسة وليس التاجر الذي يراكم الثروات. والعالم التلمودي كان في معظم الأحيان تاجراً أو مرابياً، ولكنه كان يعمل بالتجارة والربا بعض الوقت وحسب، ولذا لم يكن بوسعه الوصول بعملية الترشيد إلى منتهاها.

3 ـ ولكن أهم الأسباب هو وجود عناصر غير رشيدة في الرؤية اليهودية للخلاص (مثل خصوصية يهوه وفكرة الشعب المختار والأخلاقيات المزدوجة) أدَّت إلى عزلة اليهود النفسية، التي عمقتها العزلة الشعائرية. وحينما حضر اليهود إلى أوربا احتفظوا بالوضع نفسه.

وقد حلَّ اليهود غرباءً أو ضيوفاً على المجتمع المضيف لا حقوق لهم بل يتحدَّد وضعهم من خلال المواثيق المحددة بزمن، والتي تمنحهم المزايا وتزوِّدهم بالحماية. ولم يتمكَّن اليهود من الانضمام إلى نقابات الحرفيين ولم يعملـوا في عـدد كبير من المهن، ولذا أصبحوا شـعباً منبوذاً. ولأنهم شعب منبوذ، كانت الأشكال الرأسمالية التي ظهرت بينهم هي رأسمالية المنبوذين؛ رأسمالية تستند إلى المعايير المزدوجة ومرتبطة بالجماعة اليهودية وشعائرها الدينية وتستفيد من أواصر القرابة وتنمو في أحضان الحاكم والنظام الإقطاعي وتتركز في المضاربات والمشاريع الرأسمالية المضمونة التي تضمنها الحكومة، وهي كلها عمليات غير رشيدة ولا تؤثر في كل مجالات الحياة (كما هو الحال مع الرأسمالية الرشيدة). ووصف فيبر لرأسمالية المنبوذين والرأسمالية التقليدية هو وصف دقيق لنشاط أعضاء الجماعات الوظيفية المالية الوسيطة. ولم يظهر بين اليهود حب للعمل في ذاته أو حب للثروة كهدف في ذاته، وإنما كان الهدف من العمل ومراكمة الثروة هو تحقيق الراحة لليهود حتى يمكنهم دراسة التوراة. وهم لم يقيموا استثمارات بعيدة الأمد، بل ظلت استثماراتهم تهدف لتحقيق الربح السريع. ولذا، فإنهم لم يساهموا في إنشاء الصناعة الغربية الحديثة. كما لم يكن أمامهم مجال للتجريب، فالمؤسسات القائمة كانت تحقِّق لهم ما يريدون من ثروة. ولم يكن بوسعهم، كغرباء، أن يجربوا إلا بإذن السلطة الحاكمة أو القوي التي يتبعونها (وقد كان البيوريتان يحتقرون هذا النوع من الرأسمالية الذي يركز على العقود الحكومية واحتكارات الدولة ومشاريع الأمراء والمضاربات).

ويُبيِّن فيبر كذلك أن اليهودي لا يشعر بانعدام الأمن الداخلي الذي يشعر به المؤمن بتعاليم كالفن. فانعدام الأمن الذي يشعر به اليهودي كان خارجياً، أي الخوف من عالم الأغيار. أما في داخل الجيتو، بين جماعته الوظيفية الوسيطة، فقد كان اليهودي يشعر بالأمن تماماً لأنه داخل الجيتو يعرف أنه فرد من الشعب المختار ولا يخطر بباله أنه قد لا يُكتَب له الخلاص حتى بعد تنفيذ الوصايا التي وردت في التوراة. فالعلاقة التعاقدية تؤكد له إمكانية الخلاص. وهو لم يكن في حاجة لعلامة من الخالق ليفهم الإرادة الربانية الغامضة، فقد كانت لديه الشريعة التي يمكنه أن يدرسها ويعرف كل شيء فيها. ورغم أن النشاط الاقتصادي لليهودي كان يتم في عالم الأغيار، فقد كان هناك عالمه المقدَّس الذي يعود إليه. ومن هنا ظهرت هوة بين النشاط التجاري والقيم الدينية، فالعمل التجاري لا يصب في الموقف الديني، والعمل لكسب الرزق لا يُعَدُّ في اليهودية نهاية في ذاته ولا هو وسيلة لتمجيد الخالق. ويمكن القول بأن تراكم الثروة هو دليل على عدالة الخالق، ولكن الهدف الأساسي والنقطة المرجعية يظلان بالنسبة إلى اليهودي الحياة التقية بحسب الوصايا والأوامر والنواهي، بل إن فكرة غزو العالم ذاتها تم الاستغناء عنها عن طـريق فكرة انتظار المـاشيَّح، وعدم الانغماس في التعجيل بالنهاية. وكان ضرورياً لليهودي أن ينتظر في صبر وأناة حتى يعود الماشيَّح، وهو ما يعني موقفاً انسحابياً من الدنيا.

ويضيف فيبر عنصراً آخر في دراساته عن المدينة، فهو يفسر عدم نشوء الرأسمالية الرشيدة بين أعضاء الجماعات اليهودية بأنها نشأت في المدينة المسيحية، حيث كانت هذه المدينة في العصر الوسيط مؤسسة دنيوية مستقلة عن الكنيسة وعن الدولة، وكانت تضم أفراداً يقسمون يمين الولاء كأفراد لا كأعضاء في قبيلة أو عائلة، وهذا يعني ضمور وتهميش علاقات القرابة التي ترتبط بشعائر محددة (مثل عبادة الأسلاف). ورغم أن نقابات الحرفيين والتجار كانت أساساً مسيحية ورموزها مسيحية، فإنها ظلت مؤسسات دنيوية يمكن لأي غريب أن ينتمي إليها بعد أن يقسم يمين الولاء لها. وقد ساهمت المدينة بهذه الطريقة في فصل شئون العمل والتجارة عن شئون الأسرة والعشيرة. وكان من شأن هذا كله أن يساهم في عملية الترشيد الآنفة الذكر. ومن المعروف أن اليهود لم يصبحوا قط جزءاً من المدينة. ورغم أنهم كانوا يحصـلون على حـق الإقامة فيـها، فإنهم ظلوا غرباء عنـها لا ينتمون إليها، بل كانوا أعدى أعدائها في بعض المناطق نظراً لتبعيتهم للنخب الإقطاعية الحاكمة.

وانطلاقاً من هذا، يرى فيبر أن الرأسمالية الرشيدة (أي التي تستند إلى أسس عامة موضوعية رشيدة بالمعنى الإجرائي والتي يهدف الإنتاج فيها إلى تعظيم الأرباح وليس إشباع الرغبات) لم تُولَد بين اليهود وإنما وُلدت في صفوف البروتستانت، خصوصاً البيوريتان (المستوطنين البروتستانت في الساحل الشرقي من الولايات المتحدة) وغيرهم من أتباع المفكر الديني البروتستانتي كالفن، فهم الذين لعبوا الدور الأساسي في ظهور الرأسمالية الرشيدة. فالأخلاقيات البروتستانتية التي هيمنت عليهم جعلتهم يؤمنون بالعمل كغاية في ذاته وخلقت فيهم إحساساً عميقاً بعدم الطمأنينة (لأن الإله بعيد تماماً لا يمكن فهمه أو الوصول إليه أو التواصل معه). وبسبب هذا الإحساس بالبُعد والعزلة،يجعل المؤمن الهدف من حياته هو غزو العالم وغزو ذاته وتوظيفهما لخدمة الإله (بما ينتج عن ذلك من عملية ترشيد كاملة) والهيمنة على العالم لإدخال الإحساس بالطمأنينة على ذاته.ومراكمة الثروة في هذه الدنيا هي أهم النشاطات باعتبارها علامة على الاختيار والنجاح الذي سيؤدي إلى النعيم في الآخرة.ولأن الثروة علامة من الإله، فإن على المؤمن ألا يبددها بل عليه أن يراكمها،أي أن الإنسان البروتسـتانتي ينكر على نفسـه المتعة ويقـوم بمراكمة الثروة كغاية في ذاتها.

وأطروحة فيبر بشأن علاقة أعضاء الجماعات اليهودية بعملية الترشيد أو بنشأة الرأسمالية خصبة للغاية ولها مقدرة تفسيرية عالية، فهي لا تحاول فقط تفسير جانب مهم في التاريخ الاقتصادي لأوربا، بل تحاول أيضاً تفسير تطوُّر اليهودية كنسق ديني وتطوُّر وضع اليهود داخل الحضارة الغربية، وهي بذلك أكثر تركيبية من كتيب ماركس المسألة اليهودية الذي كتبه في شبابه قبل نضوجه.

ونشير هنا إلى كثير من نقط النقص في تناول فيبر للموضوع، وهو أمر متوقع نظراً لاتساع حدود الموضوع:
1 ـ ربما كان أهم نقط النقص في تصوُّرنا هو إغفال فيبر أهمية فكرة التوحيد باعتبارها فكرة تشكل قفزة نوعية للفكر الديني، وبدلاً من ذلك كان تركيزه على عناصر ثانوية (مثل العهد بين يهوه واليهود)، وهي عناصر مهمة ولكنها لا ترقى في أهميتها إلى فكرة التوحيد. كما لم يدرك فيبر أن التوحيد في العقيدة اليهودية ظل مشوباً بعناصر حلولية وثنية، وأن اليهودية سقطت في الواحدية الكونية التي تنبذها العقائد التوحيدية الحقة.

2 ـ يُفرِّق فيبر بين عبادة يهوه وعبادة بعل مع أن من المعروف أن اليهودية دخلها كثير من العناصر من عبادة بعل حتى أصبحت عبادة يسرائيل خليطاً غير متجانس من العبادتين.

3 ـ يفترض فيبر وجود قدر كبير من الوحدة في أسفار الأنبياء، وهو الأمر الذي لا تسانده قراءة متعمقة لهذه الأسفار.

4 ـ يتسم تحليل فيبر للفريسيين بالابتسار الشديد كما أنه لم يشر إلى الاتجاهات الأخرى، خصوصاً الأسينيين والغيورين الذين عبَّروا عن مصالح ومطامح الجماهير الشعبية.

5 ـ معرفة فيبر بالتلمود سطحية للغاية، ولذا فهو لم يدرك أنه كتاب متناقض وأن كثيراً من أفكار الأنبياء اختفت وحلت محلها صيغ سحرية أبعد ما تكون عن الترشيد. ويبدو أن معرفة فيبر بالتيارات الفلسفية المختلفة التي ظهرت بين الجماعات اليهودية في التشكيل الحضاري الإسلامي، بل والمسيحي أيضاً، كانت ضعيفة.

6 ـ لم يذكر فيبر القبَّالاه من قريب أو بعيد رغم أنها سيطرت على التفكير الديني اليهودي منذ القرن السابع عشر.

7 ـ يفصل فيبر، وبحدة، بين الأشكال الرأسمالية في المجتمع التقليدي والرأسمالية الرشيدة. ومع الإقرار بالأهمية المنهجية والتفسيرية لهذا الفصل، يظل من الضروري أن ندرك أن الظاهرتين تتداخلان على مستوى التاريخ المتعين وأن اليهود لعبوا بالفعل دوراً في تحطيم المجتمع التقليدي القديم كما بيَّن ماركس.

8 ـ ينظر فيبر إلى تواريخ الجماعات اليهودية من الداخل كما لو كان هناك تاريخ يهودي مستقل عما حولهم من تشكيلات حضارية، ومن هنا محاولته تفسير فكرة «الشعب المنبوذ» بأنها نتاج الجيتو الداخلي الذي فرضه اليهود على أنفسهم.

9 ـ لم يتعرض فيبر لقضية يهود المارانو وإسهامهم في نشأة الرأسمالية. وحاول سومبارت أن يطرح وجهة نظر مختلفة، حيث بيَّن أن اليهود هم أهم القطاعات البشرية التي أدَّت إلى ظهور الرأسمالية الرشيدة في الغرب.

وغنيٌّ عن القول أن فيبر وماركس وسومبارت، وغيرهم من المفكرين الغربيين، يتناولون وضع الجماعات اليهودية في الغرب وكأنه وضع عالمي. وربما يعود هذا إلى جهلهم بأحوال يهود الدولة العثمانية ويهود الهند والفلاشاه والصين بل ويهود جورجيا في روسيا. ومن هنا كان جنوحهم نحو التعميم المخل وحديثهم عن اليهود بشكل عام ومجرَّد.

  • الجمعة PM 10:39
    2021-04-02
  • 1319
Powered by: GateGold