المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409067
يتصفح الموقع حاليا : 248

البحث

البحث

عرض المادة

الجيبان الاستيطانيان في إسـرائيل وجنوب أفريقيا: منظـور مـقارن

الجيبان الاستيطانيان في إسـرائيل وجنوب أفريقيا: منظـور مـقارن
Two Settler Enclaves in Israel and South Africa: Comparative Perspective
يأخذ الاستعمار الاستيطاني شكل هجرة جماعية منظمة لكتلة سكانية من العالم الغربي لأرض خارج أوربا. وتتم هذه الهجرة تحت الإشراف الكامل لدولة غربية لها مشروع استعماري (تُسمَّى «الدولة الأم») أو بدعم مالي وعسكري منها. ويوجد نوعان من الاستعمار الاستيطاني:


1 ـ الاستعمار الاستيطاني الذي يهدف لاستغلال كل من الأرض ومَنْ عليها من البشر، وهذا هو الاستعمار الاستيطاني المبني على التفرقة اللونية (التي يُقال لها الأبارتهايد). وجنوب أفريقيا من أفضل الأمثلة على ذلك النوع من الاستعمار. كما يمكن القول بأن الولايات المتحدة ابتداءً من منتصف القرن التاسع عشر تنتمي هي الأخرى لهذا النمط.

2 ـ الاستعمار الاستيطاني الذي يهدف إلى استغلال الأرض بدون سكانها، وهذا هو النوع الإحلالي حيث يحل العنصر السكاني الوافد محل العنصر السكاني الأصلي الذي يكون مصيره الطرد أو الإبادة. والولايات المتحدة في سنوات الاستيطان الأولى هي أكثر الأمثلة تبلوراً على هذا النوع من الاستعمار. والدولة الصهيونية مثل آخر (وإن كانت الإبادة هي الآلية الأساسية في حالة الولايات المتحدة، بينما نجد أن الطرد هو الآلية الأساسية في حالة الدولة الصهيونية). وكما تحوَّلت الولايات المتحدة من النظام الاستيطاني الإحلالي إلى النظام المبني على الأبارتهايد، تحوَّلت الدولة الصهيونية هي الأخرى بعد عام 1967 من النظام الإحلالي إلى النظام المبني على الأبارتهايد.

وهكذا يمكن القول بأنه رغم الاختلاف العميق بين إسرائيل وجنوب أفريقيا من منظور مرحلة التكوين الأولى، إلا أن التطورات التاريخية اللاحقة جعلت نُقَط التماثل بين الجيبين الاستيطانيين أكثر أهمية من نُقَط الاختلاف بينهما، ولها مقدرة تفسيرية أعلى.

ولنحاول الآن أن نتناول بعض نقط الالتقاء هذه:

1 ـ كلتا الدولتين بدأ كجيب استيطاني يخدم المصالح الغربية على عدة مستويات (قاعدة إستراتيجية وعسكرية ـ استيعاب الفائض البشري ـ عمالة رخيصة ـ مصدر للمواد الخام) نظير الدعم والحماية الغربيين. وليس من قبيل الصدفة أن الشخصيات الأساسية وراء إصدار وعد بلفور هي نفسها الشخصيات التي كانت وراء إصدار إعلان اتحاد جنوب أفريقيا وهم: آرثر بلفور ولويد جورج واللورد ملنر وإيان سمطس.

2 ـ كانت الدولة الإمبريالية الأم عادةً ما تعطي إحدى الشركات حق استغلال رقعة من الأرض ثم تتحول هذه الشركة نفسها إلى حكومة المُستوطَن. وقد قامت المنظمة الصهيونية/الوكالة اليهودية بهذا الدور في حالة المشروع الصهيوني.

3 ـ تستمر العلاقة بين الدولة الأم والجيب الاستيطاني حتى بعد إعلان "استقلال" الدولة، إذ أن الدولة الاستيطانية ترى نفسها جزءاً لا يتجزأ من التشكيل الحضاري الغربي.

ومع هذا لا تتسم العلاقة بين الوطن الأم والدولة الاستيطانية بالمودة دائماً، فرغم ادعاء الرابطة الحضارية إلا أن العلاقة مع الوطن الأم هي علاقة نفعية. فالدولة الاستيطانية دولة وظيفية يستند وجودها إلى وظيفتها، فإن فَقَدت وظيفتها أو أصبحت تكاليف دعمها أعلى من عائدها فَقَدت وجودها (كما حدث مع كل الجيوب الاستيطانية ومنها جنوب أفريقيا). وعادةً ما يحدث الصدام بين الوطن الأم والجيب الاستيطاني بسبب اختلاف رقعة المصالح. فالوطن الأم له مصالح عالمية إمبريالية عريضة، أما الجيب الاسـتيطاني فمصـالحه محليـة ضيقة. وأحياناً يأخذ التوتر شكل مواجهة مسلحة (حرب بريطانيا مع البوير ـ المواجهة العسكرية بين حكومة الانتداب البريطاني وبعض المنظمات العسكرية الصهيونية ـ المواجهة العسكرية بين الحكومة الفرنسية والمستوطنين الفرنسيين في الجزائر)، أو مواجهة سياسية (موقف الدول الغربية من نظام الأبارتهايد ـ التوتر بين الولايات المتحدة وإسرائيل إبان حرب 1956).

4 ـ يُلاحَظ أن الخطاب الاستعماري الاستيطاني خطاب توراتي. فالمستوطنون سواء في جنوب أفريقيا أو إسرائيل هم «عبرانيون» أو «شعب مختار» أو «جماعة يسرائيل»، واعتذاريات المستوطنين عادةً اعتذاريات توراتية، فالأرض التي يستولون عليها هي صهيون، أرض وعد الإله بها أعضاء هذا الشعب دون غيرهم. والسكان الأصليون إن هم إلا «كنعانيين» أو «عماليق»، وجودهم عرضي في هذه الأرض (أو غير موجودين أساساً). ولذا فمصيرهم الإبادة أو الطرد أو أن يتحولوا إلى عمالة رخيصة.

5 ـ عادةً ما ترى الجيوب الاستيطانية نفسها باعتبارها موجودة عرضاً في المكان الذي توجد فيه (أفريقيا أو العالم العربي) ولكنها، في واقع الأمر، ليست منه. وذلك لأنها جزء من التاريخ الأوربي (وإن كان الصهاينة أيضاً يرون أنفسهم جزءاً من التاريخ اليهودي). ومع هذا يمكن القول بأن الكتل الاستيطانية عادةً كتل معادية للتاريخ، فقد جاء المستوطنون من أوربا التي لفظتهم إلى أرض عذراء (صهيون الجديدة) لا تاريخ لها ـ حسب تصوُّرهم ـ يمكنهم أن يبدأوا فيها من نقطة الصفر. (وإنكار تاريخ البلد الجديد مسألة أساسية من الناحية المعرفية والنفسية، لأن المستوطنين لو اعترف بوجود تاريخ لسكانه الأصليين لفقدوا شرعية وجودهم).

6 ـ عادةً ما يتبنَّى الجيب الاستيطاني رؤية قومية عضوية، إذ يرى المستوطنون أن ثمة وحدة عضوية تضمهم كلهم وتربطهم بأرضهم. هذا على مستوى الإدراك والرؤية، أما على مستوى البنية الفعلية فالأمر جدُّ مختلف. ففي جنوب أفريقيا ـ على سبيل المثال ـ نجد أن المستوطنين هناك قد انقسموا إلى شيع وجماعات، ولكن الانقسام بين العنصر الهولندي والعنصر البريطاني يظل أهم الانقسامات. وفي إسرائيل نجد أيضاً انقسامات حادة بين أعضاء الجماعات اليهودية المختلفة التي هاجرت إلى إسرائيل، ولكن مع هذا يظل الانقسام الأساسي هو الانقسام بين السفارد والإشكناز.

7 ـ يتفرع من هذا كله خطاب عنصري يؤكد التفاوت بين الكتلة الوافدة (التي يُنسَب لها التفوق العرْقي والحضاري)، والسكان الأصليين (الذين يُنسَب لهم التخلف العرْقي والحضاري).

8 ـ ويترجم هذا نفسه إلى نظرية في الحقوق. فحقوق الكتلة الاستيطانية حقوق مطلقة، أما السكان الأصليون فلا حقوق لهم، وإن كان ثمة حقوق فهي عرضية (كنعانية) تجُّبُها حقوق المستوطنين (العبرانيين!).

9 ـ انطلاقاً من كل هذا يتحدد مفهوم المواطنة في البلدين، فالمواطن ليـس من يعيـش في الجيب الاسـتيطاني وإنما هـو صاحب الحقوق المطلقـة، أي اليهـودي في الدولة الصهيونية، والأبيـض في جنوب أفريقيا. ويتضح هذا في قانون العودة الإسرائيلي الذي يمنح حق العودة لليهود وحسب، كما يتضح في قوانين الهجرة في جنوب أفريقيا التي تمنع هجرة غير البيض. هذا يعني أن التمييز العنصري في الجيوب الاستيطانية لا يُشكِّل انحرافاً عن القانون أو خرقاً له (كما هو الحال الآن في الولايات المتحدة) وإنما هو من صميم القانون نفسه. فمقولة «يهودي» و«أبيض» هي مقولات قانونية تمنح صاحبها حقوقاً قانونية وسياسية ومزايا اقتصادية تنكرها على من هو غير يهودي في إسرائيل، ومن هو غير أبيض في جنوب أفريقيا.

10 ـ تترجم نظرية الحقوق (والتفاوت) نفسها إلى بنية سياسية واجتماعية وثقافية. فعلى المستوى السياسي ينشأ نظامان سياسيان واحد ديموقراطي حديث مقصور على المستوطنين، والآخر شمولي يحكم علاقة الجماعة الاستيطانية بأصحاب الأرض الأصليين. وبينما يُسمَح لأعضاء الكتلة الوافدة بالتنظيم السياسي والمهني، يُحرَّم هذا على السكان الأصليين. ويُلاحَظ أنه رغم أن النظام الاستيطاني نظام غربي حديث إلا أنه يُشكل عنصراً أساسياً في محاولات إعاقة تحديث السكان الأصليين.

11 ـ أما في المجال الاقتصادي فنجد أن المستوطنين يحاولون الاستيلاء على الأرض إما عن طريق الاستيلاء المباشر أو عن طريق شرائها أو عن طريق إصدار قوانين تُسهِّل عملية الاستيلاء هذه ونقل الأرض من السكان الأصليين للمستوطنين. وهذه عملية مستمرة لا تتوقف إذ أن الجيب الاستيطاني بسبب إحساسه بالعزلة وبسبب خوفه من المشكلة الديموجرافية يسمح لمزيد من المهاجرين بالاستيطان، الأمر الذي يتطلب المزيد من الأرض، فيزداد الصراع. وقد قام المستوطنون البيض في جنوب أفريقيا بالتوسع على حساب السكان الأصليين البوشمان والهوتنتوت والبانتو، تماماً مثلما قام المستوطنون الصهاينة بالتوسع على حساب الفلسطينيين.
ويتقاضى العمال من السكان الأصليين أجوراً أقل كثيراً من التي يتقاضاها العمال الاستيطانيون. كما أن معظم العمال من السكان الأصليين عليهم الانتقال من أماكن انتقالهم إلى أماكن عملهم، وهو ما يعني جهداً إضافياً شاقاً يتجشمه العامل دون مقابل. كما يقوم النظام الاستيطاني بإعاقة تطوُّر اقتصاد محلي للسكان الأصليين أو أي شكل من أشكال التراكم الرأسمالي.

12 ـ ويُلاحَظ على المستوى الثقافي ظهور نظامين قوميين: القومية الأولى قومية أصحاب الأرض الأصليين سواء الفلسطينيين أو الأفارقة في كلتا الدولتين، أما القومية الثانية فهي قومية مصطنعة، وهي قومية المستوطنين الذين لا تتوافر لهم في مجموعهم من البداية غالبية خصائص القومية الواحدة. ومع هذا يُحتفَل "بالقومية" الاصطناعية الواحدة وتصبح رموزها هي الرموز السائدة في الدول الاستيطانية. وفي مجال التعليم، لا تُتاح لأبناء السكان الأصليين فرص تعليمية متميِّزة، خشية أن يحققوا حراكاً اجتماعياً وثقافياً وتظهر بينهم نخبة متعلمة تقود كفاحهم الوطني.

13 ـ تواجه الجيوب الاستيطانية مشكلة ديموجرافية دائمة إذ أن السكان الأصليين يأخذون في التكاثر. ولذا لابد أن يضمن الجيب الاستيطاني تدفُّق الهجرة من الغرب. وتُستصدَر التشريعات المختلفة لهذا الهدف (كما أسلفنا) وتُعدُّ الهجرة قضية أمنية عسكرية.

14 ـ لابد أن تساند نظرية الحقوق هذه ومحاولة ترجمتها إلى بنية اجتماعية وسياسية قدراً كبيراً من العنف الفكري والإرهاب الفعلي والقمع المستمر بهدف إبادة السكان أو طردهم أو استرقاقهم. وآليات الإرهاب تبدأ من عمليات المذابح المباشرة (دير ياسين وشاربفيل) والطرد الجماعي والعقاب الجماعي ووضع السكان في معازل جماعية (البانتوستان في جنوب أفريقيا ـ المناطق العسكرية من الضفة في فلسطين المحتلة)، وفرض شبكة أمنية ضخمة وشبكة مواصلات ومجموعة من القوانين (مثل ضرورة استصدار تصريح من السلطات) بهدف تقييد حرية انتقال السكان الأصليين من مكان لآخر وتقليل الاحتكاك بين السكان الأصليين والمستوطنين.

15 ـ رغم كل عمليات القمع هذه يظهر ما يمكن تسميته «شرعية الوجود»، أي إحساس المستوطنين الوافدين أن السكان الأصليين لا يزالون هناك يطالبون بحقوقهم ويحاربون من أجلها، وتأكيد هذا الوجود يعني في واقع الأمر غياب/اختفاء المستوطنين. ولذا يصر المستوطنون على أن وجودهم مهدد دائماً. ولذا فهدف الأمن القومي في النظم الاستيطانية هو البقاء (وأهم مقومات البقاء القوة العسكرية وتدفُّق المادة البشرية بشكل دائم).

وهذا التوافق والإدراك المتبادل لوحدة المصير أدَّى إلى خلق درجة كبيرة من الاعتماد المتبادل بين الدولتين في عدة مجالات. ففي المجال التجاري كانت العلاقات بين الجيبين الاستيطانيين من القوة بحيث نجد أن جنوب أفريقيا ـ قبل زوال النظام العنصري ـ كانت شريكة إسرائيل الأولى في التجارة. ولم يكن التعاون العسكري بين الدولتين أقل قوة، فقد أرسلت الدولة الصهيونية متطوعين إسرائيليين ليحاربوا جنباً إلى جنب مع قوات جنوب أفريقيا في حربها ضد قوى التحرر الوطني. وشاركت جنوب أفريقيا بدورها في إمداد إسرائيل بالسلاح في حرب إسرائيل ضد العرب. ويُعدُّ التعاون في مجال صناعة الأسلحة من أهم أشكال التعاون، وكانت الدولتان تحاولان تنسيق جهودهما لتحقيق الاستقلال في مجـال إنتاج المعـدات العسـكرية وفي مجـال السلاح النووي.

ومع بداية التسعينيات تمت تصفية كل الجيوب الاستيطانية في أنحاء العالم. ولم يتبق غير إسرائيل وجنوب أفريقيا: الأولى تقبع على بوابة أفريقيا (تفصل بينها وبين آسيا)، والثانية تقبع في أطرافها. فكأنهما كانا يُشكلان ما يشبه الكماشة التي تطبق على أفريقيا. وبزوال الجيب الاستيطاني في جنوب أفريقيا، لم يبق سوى إسرائيل، الحفرية الأخيرة في نظام قضي وانتهى.

  • الاثنين AM 12:27
    2021-05-17
  • 911
Powered by: GateGold