المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415352
يتصفح الموقع حاليا : 301

البحث

البحث

عرض المادة

وعـــد بلفـــور

وعـــد بلفـــور
Balfour Declaration
«وعد بلفور» هو التصريح الشهير الذي أصدرته الحكومة البريطانية عام 1917 تعلن فيه عن تعاطفها مع الأماني اليهودية في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وحين صدر الوعد كان عدد أعضاء الجماعة اليهودية في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان. وقد أخذ الوعد شكل رسالة بعث بها لورد بلفور في 2 نوفمبر 1917 إلى اللورد إدموند دي روتشيلد أحد زعماء الحركة الصهيونية آنذاك. وفيما يلي النص الكامل للرسالة:


"عزيزي اللورد روتشيلد:

يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم، نيابةً عن حكومة جلالة الملك، التصريح التالي تعاطفاً مع أماني اليهود الصهاينة التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء. إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين وسوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. وليكن مفهوماً بجلاء أنه لن يتم شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنية للجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين أو بالحقوق أو الأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.

وسوف أكون مديناً بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التصريح إلى الاتحاد الصهيوني.

) إمضاء(

وفيما يتصل بهذا النص، نلاحظ ما يلى:

1 ـ صيغة الوعد واضحة تماماً هنا إذ تُوجَد هيئة حكومية (حكومة جلالـة الملك) تؤكد أنها تنظر بعين العطف إلى إنشـاء وطن قومي سيضم "الشعب اليهودي"، أي أنه تم الاعتراف باليهود لا كلاجئين أو مضطهدين مساكين، كما أن الهدف من الوعد ليس هدفاً خيرياً ولكنه هدف سياسي (استعماري). كما أن هذه الحكومة التي أصدرت الوعد لن تكتفي بالأمنيات وإنما سوف تبذل ما في وسعها لتيسير تحقيق هذا الهدف. هذا هو الجوهر الواضح للوعد.

2 ـ ثم تبدأ بعد ذلك الديباجات التي تهدف إلى التغطية، فالوعد لن يضر بمصالح الجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين ولا بمصالح الجماعات اليهودية التي لا تود المساهمة في المشروع الصهيوني، بل تود الاستمرار في التمتع بما حققته من اندماج وحراك اجتماعي. وسنلاحظ أن الديباجات تتسم بكثير من الغموض إذ أن الوعد لم يتحدث عن كيفية ضمان هذه الحقوق.

ثم نأتي الآن للأسباب التي يوردها بعض المؤرخين (الصهاينة أو المتعاطفون مع الصهيونية) لتفسير إصدار إنجلترا لوعد بلفور. فهناك نظرية مفادها أن بلفور قد صدر في موقفه هذا عن إحساس عميق بالشفقة تجاه اليهود بسبب ما عانوه من اضطهاد وبأن الوقت قد حان لأن تقوم الحضارة المسيحية بعمل شيء لليهود، ولذلك، فإنه كان يرى أن إنشاء دولة صهيونية هو أحد أعمال التعويض التاريخية. ولكن من الثابت تاريخياً أن بلفور كان معادياً لليهود، وأنه حينما تولى رئاسة الوزارة الإنجليزية بين عامي 1903 و1905 هاجم اليهود المهاجرين إلى إنجلترا لرفضهم الاندماج مع السكان واستصدر تشريعات تحد من الهجرة اليهودية لخشيته من الشر الأكيد الذي قد يلحق ببلاده.

وقد كان لويد جورج رئيس الوزراء لا يقل كرهاً لأعضاء الجماعات اليهوديةعن بلفور، تماماً مثل تشامبرلين قبلهما، والذي كان وراء الوعد البلفوري الخاص بشرق أفريقيا. وينطبق الوضع نفسه على الشخصيات الأساسية الأخرى وراء الوعد مثل جورج ملنر وإيان سمطس، وكلها شخصيات لعبت دوراً أساسياً في التشكيل الاستعماري الغربي.

ويرى بعض المؤرخين أن إنجلترا أصدرت الوعد تعبيراً عن اعترافها بالجميل لوايزمان لاختراعه مادة الأسيتون المحرقة أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو تفسير تافه لأقصى حد لا يستحق الذكر إلا لأنه ورد في بعض الدراسات الصهيونية والدراسات العربية المتأثرة بها. ويبدو أن وايزمان نفسه قد تقبَّل هذا التفسير بعض الوقت. ولذا، حينما توترت العلاقات بين إنجلترا والمستوطنين الصهاينة في الأربعينيات، وضع وايزمان مواهبه العلمية تحت تصـرف الإمبراطـورية، متصـوراً أن بإمكانه ممارسة بعض التأثير عليها. وبطبيعة الحال، لم يُوفَّق وايزمان في مساعيه. وفيما يتصل بجهوده الدبلوماسية نفسها أثناء الحرب، يمكن القول بأنه كان شخصية محدودة الذكاء، فلم يدرك الأبعاد الإمبريالية للمشروع الصهيوني أو لوحشية المشروع الإمبريالي، وغير مدرك حتى لدقائق السياسة البريطانية (وهذا هو وصف موظفي الخارجية البريطانية له في تقاريرهم السرية التي تم الكشف عنها مؤخراً). وحينما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان وايزمان قد وصل لتوه إلى سويسرا في إجازة صيفية. ثم اضطر إلى العودة إلى بريطانيا، فطلب منه لويد جورج أن يقابل هربرت صمويل، فعبَّر عن خوفه من أن يكون صمويل مثل سائر يهود إنجلترا معادياً للصهيونية، ولكنه فوجئ بأن صمويل هذا صهيوني هو الآخر. وحينما تقدَّم بطلباته الصهيونية، أخبره صمويل بأن طلباته هذه متواضعة أكثر من اللازم وأن عليه أن يفكر على مستوى أكبر من ذلك (ويبدو أن هرتزل لم يشف التسلليين تماماً من ضيق الأفق والفشل في إدراك عالمية الظاهرة الإمبريالية ووحشيتها). ثم أخبره صمويل بأن أعضاء الوزارة يفكرون في أهداف صهيونية، ودوَّن وايزمان بعد ذلك العبارة التالية: "لو كنت يهودياً متديناً لظننت أن عودة الماشيَّح قد دنت". ومع هذا، وكما سنبيِّن فيما بعد، أظهر وايزمان شيئاً من الذكاء باكتشافه بريطانيا (لا ألمانيا) باعتبارها القوة الإمبريالية الصاعدة التي يمكنها أن ترعى المشروع الصهيوني. ولعل الأمر لا يدل على ذكاء بقدر ما ينبع من وجوده في إنجلترا بالفعل وتَحرُّكه داخل إطار المصالح البريطانية. ولعله لو وُجد في فرنسا لما أدرك شيئاً.

وهناك نظرية تذهب إلى أن الضغط الصهيوني (واليهودي) العام هو الذي أدَّى إلى صدور وعد بلفور، ولكن من المعروف أن أعضاء الجماعات اليهودية لم يكونوا كتلة بشرية ضخمة في بلاد غرب أوربا، وهم لم يكونوا من الشعوب المهمة التي كان على القـوى العظـمى أن تساعـدها أو تعـاديها، بل كان من الممكـن تجاهلهم. ويمكن القول بأن أعضاء الجماعات اليهودية كانوا مصدر ضيق وحسب، ولم يكونوا قط مصدر تهديد. أما الصهاينة فلم تكُن لهم أية قوة عسكرية أو سياسية أو حتى مالية (فأثرياء اليهود كانوا ضد الحركة الصهيونية). ولكل هذا، لم يكن مفر من أن تكون المطالب الصهيونية على هيئة طلب لخدمة مصالح إحدى الدول العظمى الإمبريالية.

ولعل أكبر دليل على أن الضغط الصهيوني أو اليهودي لا يشكل عنصراً فعالاً في عملية استصدار وعد بلفور وأنه عنصر ثانوي على أحسن تقدير، هو نجاح الصهاينة في إنجلترا وفشلهم في ألمانيا. فقد بذل صهاينة ألمانيا جهوداً محمومة لاستصدار وعد بلفوري، وكانت توجد عنـدهم مقومـات النجـاح، ولكن كل هذا لم يُجد فتيلا:

1 ـ بذل صهاينة ألمانيا قصارى جهدهم ليبينوا للحكومة الألمانية مدى نفع اليهود للمشروع الاستعماري الألماني، وقد كان هناك كثير من المفكرين الألمان غير اليهود يشاركون في هذه الرؤية.

2 ـ كان عدد كبير من الزعماء الصهاينة يقف وراء ألمانيا، وكانت برلين لوقت طويل المقر الرئيسي للمنظمة.

3 ـ كانت ألمانيا حليفة لتركيا التي كانت فلسطين تابعة لها.

4 ـ كانت لغة المؤتمرات الصهيونية هي الألمانية، كما كانت ثقافة مؤسسي الحركة الصهيونية ألمانية.

5 ـ كانت الجماعة اليهودية في ألمانيا مُشرَّبة بالثقافة الألمانية، وكان كثير من أعضاء النخبة الثقافية الألمانية من اليهود، وقد يسَّر هذا على اليهود الحركة داخل المجتمع الألماني.

6 ـ كانت الجماعة اليهودية في ألمانيا ذات ثقل مالي وثقافي وسياسي كبير إذ كانت أهم البنوك الألمانية في أيد يهودية.

7 ـ اشترك أعضاء الجماعة اليهودية في ألمانيا في القوات الألمانية أثناء الحرب بأعداد تفوق نسبتهم القومية.

8 ـ كانت القوات الألمانية في الحرب العالمية الأولى تقوم بما سمته «تحرير» بولندا وليتوانيا وغرب روسيا (مراكز الكثافة البشرية اليهودية) واعتبرت اليهود عنصراً بشرياً ألمانياً تابعاً لألمانيا. وقد أسَّس الزعيم الصهيوني ماكس بودنهايمر لجنة لتحرير يهود روسيا عام 1914. وكان بين أعضائها ليو موتزكين. وقد تم إصدار نشرة بالعبرية كتب ناحوم سوكولوف افتتاحيتها. وكان أمل الصهاينة أن تستولي القوات الألمانية على غرب روسيا حيث كان يوجد معظم اليهود. ومعنى هذا أنه كان ثمة تلاق بين الآمال الصهيونية والآمال التوسعية الألمانية.

9 ـ كانت أرستقراطية اليهود في أمريكا (كبار المموِّلين) من أصل ألماني، وقد كانت هذه الأرسـتقراطية متعـاطفة تماماً مع ألمانيا ومؤيدة لها.

ويمكن أن نقـارن هـذا الوضع بوضـع الجماعة اليهوديـة في إنجلترا، التي كانت صغيرة العدد ومندمجة ومعادية للصهيونية، وكانت الحركة الصهيونية فيها ضعيفة للغاية. ومع هذا، فشل صهاينة ألمانيا في استصدار وعد بلفوري من ألمانيا. وحينما نجحوا، كان ذلك في مرحلة متأخرة من الحرب وكان وعداً باهتاً للغاية، بينما نجح صهاينة إنجلترا فيما فشل فيه صهاينة ألمانيا.

وفي الواقع، يمكننا تفسير الفشل الصهيوني في ألمانيا والنجاح الصهيوني في إنجلترا، لا بالقوة والضعف الذاتيين الصهيونيين، ولا بحجم الضغوط الصهيونية مهما كانت ضخمة ومهمة وحيوية، ولكن بالعودة إلى المصالح الإستراتيجية الغربية. ويبدو أن ألمانيا، بسبب علاقتها الحميمة مع تركيا، لم يكن بإمكانها أن تُصدر مثل هذا الوعد (تماماً كما كان الوضع مع إنجلترا عام 1904 حينما أصدرت وعد شرق أفريقيا البلفوري ولم تذكر فلسطين من قريب أو بعيد لأن علاقتها مع الدولة العثمانية لم تكن تسمح بذلك). ومن المعروف أن وايزمان، كي ينجح في الحصول على وعد بلفور، قطع علاقته مع اللجنة التنفيذية الصهيونية في برلين ورفض التراسل مع زملائه في دول الوفاق Entente ورفض موقف الحياد الرسمي الذي اتخذته المنظمة. كما أنه لم يخبر المقر الرئيسي للمنظمة في كوبنهاجن بمباحثاته مع إنجلترا. ويُقال إن انقسام الحركة الصهيونية لم يُعق جهوده بل ساعدها. والواقع أن نجاحه في إنجلترا، تماماً مثل الفشل الصهيوني في ألمانيا، يمكن تفسيره بإستراتيجية الإمبراطورية الإنجـليزية التي قـررت تقسيـم الدولة العثمانية واحـتلال الشرق العربي. ولعل ذكاء وايزمان يَكمُن في اكتشافه ذيلية الصهيونية وحتمية الاعتماد على الإمبريالية وصعود القوة البريطانية فتبعها بكل قوته وقطع كل علاقاته مع المنظمة الصهيونية ذات الجذور الألمانية والتوجه الألماني.

ويمكننا الآن تناول الديباجات والأسباب الحقيقية لصدور الوعد:

كان وعد بلفور إمكانية كامنة في الحضارة الغربية تريد أن تتحقق لتوجد بالفعل، ولذا يجب ألا ننظر لوعد بلفور بمعزل عن الوعود البلفورية السابقة عليه أو اللاحقة له أو عن المعاهدات الاستعمارية الدولية التي أُبرمت أثناء الحرب العالمية الأولى وكانت تهدف إلى حل المسألة الشرقية عن طريق تقسيم تركيا، وأهم هذه المعاهدات اتفاقية سايكس ـ بيكو واتفاقية ماكماهون ـ حسين. كما لا يجب النظر إلى الوعد بعيداً عن البراءات التي كانت تُعطَى للشركات الاستيطانية في آسيا وأفريقيا، ولا عن تقسيم العالم من قبَل القوى الإمبريالية الغربية وإعادة تقسيمه عام 1917، ولا عن الرؤية المعرفية الإمبريالية، ولا عن الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة التي كانت كامنة في الحضارة الغربية.

ولذا، قد يكون من المفيد أن نحاول فَهْم وعد بلفور في هذا الإطار باعتباره براءة لاستعمار فلسطين، الأمر الذي يتطلب منا أن نزيح الديباجات العلنية لنصل إلى لُب الموضوع، أي المصالح الإستراتيجية الغربية كما تخيَّلها أو توهَّمها أصحابها وكما قاموا بتحديدها، ويمكن أن نتحدث عن بعض الفوائد الجانبية التي سيجنيها أصحاب الوعد من إصداره ومن تأسيس الوطن القومي اليهودي:

1 ـ يتحدث العقد الصامت بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية عن تحويل يهود شرق أوربا عن غربها، حفاظاً على الأمن القومي بالداخل. ولابد أن الحكومة البريطانية كانت تأخذ هذا في اعتبارها، وخصوصاً أنه قد سبق لها إصدار وعد شرق أفريقيا البلفوري لهذا السبب.

2 ـ يتحدث العقد الصامت عن تسريب الطاقة الثورية من شباب اليهود من خلال المشروع الصهيوني. وهذه مسألة لم تكن بعيدة عن أذهان أصحاب وعد بلفـور. وقد نُشر خبـر إصـدار الوعـد في الصحف في 8 نوفمبر 1917، وهـو العـدد نفسه الذي نُشرت فيه أنباء اندلاع الثورة البلشفية، وقامت طائرات الحلفاء بإلقاء ألوف النسخ من وعد بلفور وأنباء صدوره على يهود روسيا القيصرية وبولندا وألمانيا والنمسا.

3 ـ كان ثمة اعتقاد غالب بأن الإعلان سيكون ذا قيمة دعائية على الصعيد الدبلوماسي، ذلك أن وعد بلفور سيَلقى صدى لدى اليهود الروس بحيث يمكن أن يصبحوا بشكل من الأشكال أداة ضغط على الحكومة الروسية المؤقتة حتى لا تتراجع عن رغبتها في متابعة الحرب مع ألمانيا.

4 ـ كان من المتوقع أن يؤدي الوعد إلى عائد مماثل بين يهود أمريكا الذين كانوا قد أصابهم شيء من خيبة الأمل بسبب تحالف الحلفاء الوثيق مع حكومة روسيا القيصرية التي كانت مكروهة عند أعضاء الجماعات اليهودية، فكان من المؤمل أن يشجع الوعد أصحاب الأموال من أعضاء الجماعات اليهودية على المساهمة في الجهود الحربية للحلفاء وعلى عدم الارتماء في أحضان الألمان، وخصوصاً أن أرستقراطية يهود الولايات المتحدة كانت من أصل ألماني. ولكن مسار الأحداث أثبت أن ثمة خطأً فاحشاً في التقدير، فلم يكن يهود روسيا أو الولايات المتحدة مهمين إلى هذا الحد. وكانت المنظمة الصهيونية منقسمة على نفسها، كما أن عدد الصهاينة من اليهود كان لا يزال صغيراً للغاية. وقد أوقفت الحكومة الروسية كل عملياتها العسكرية في أكتوبر 1917 حتى قبل وعد بلـفور، ثم استــولى البلاشفة على الحكم وأنهوا النفوذ الصهيوني فيها. وعلى أية حال، كان يهود روسيا منقسمين ولم يكن بوسعهم أن يحملوا روسيا على الاستمرار في الحرب. أما في أمريكا، فلم يلعب أعضاء الجماعات اليهودية دوراً في الحرب وتم توفير الدعم الأمريكي المطلوب من خلال الحكومة دون أي التفات إلى الصهيونية أو الصهاينة.

ولكن كل هذه فوائد جانبية للحضارة الغربية. أما الفائدة الكبرى، فهي تأسيس دولة وظيفية في فلسطين تُوظَّف في إطارها المادة البشرية اليهودية في خدمة الاستعمار الغربي. فالدافع الحقيقي لوعد بلفور هو رغبة الإمبراطورية البريطانية في زرع دولة استيطانية في وسط العالم العربي في بقعة مهمة جغرافياً لحماية مصالحها الاسـتعمارية، وخصـوصاً في قناة السـويس ولحــماية الطريق إلى الهند.

وكان وايزمان يعرف، رغم بطء إدراكه، أن كل هؤلاء الإنجليز الذين لا يهمهم اليهود ولا اليهودية تُحرِّكهم دوافع المصالح الإمبريالية، وأن مهمته تتلخـص في تقديم المادة البشـرية حتى يمكنهم توظيفها. ولذا، فقد صرح قائلاً: إن وافقت إنجلترا على منحنا فلسطين، فإننا سنحصل على وطن وستحصل هي على سند فعال. وقد قال وايزمان إنه لم يحلم قط بوعد بلفور، وإنه جاء بكل صراحة بشكلٍّ مفاجئ. إذ كان قد أعد نفسه لأن يبدأ نشاطه بعد انتهاء الحرب، ولكن الإمبراطورية الإنجليزية كانت قد قررت أن تُوظِّف اليهود لمصلحتها. ومن ثم، لم يكن هناك مفر من إدخالهم في الصورة. ولذا، وعلى عكس المُتصوَّر، لم يبادر الصهاينة بالمفاوضات مع الحكومة الإنجليزية وإنما نجد أن الحكومة البريطانية هـي التي بادرت بالاتصـال بهم. وقد تَقـدَّم الصهاينة بمطالبهم، ولكن رئيس الوزراء إسكويث كان ملتزماً بسياسة إحلال العرب محل الأتراك. ولكن قبل استقالة إسكويث، كانت الحكومة البريطانية قد درست مستقبل فلسطين وتوصلت إلى مخطط بشأن هذا المستقبل. وهناك لحسن الحظ المذكرة التي تقدَّم بها السير هربرت صموئيل في مارس 1915 للحكومة البريطانية ووضَّح فيها الاحتمالات الخمسة لمستقبل فلسطين بعد انهيار الدولة العثمانية. وما يهمنا هنا الاحتمالان الرابع والخامس في هذه المذكرة. لقد كان الاحتمال الرابع هو "الإقامة المبكرة لدولة يهودية وإنشاء محمية بريطانية". لكن هذا الاحتمال تم رفضه لأن اليهود كانوا لا يشكلون آنذاك سوى أقلية صغيرة لا تُذكَر "الأمر الذي سيؤدي إلى تلاشي حلم الدولة الصهيونية". وتضيف المذكرة أن زعماء الحركة الصهيونية "كانوا على إدراك تام لهذه الاعتبارات".

وأما الاحتمال الخامس فهو الاحتمال الأوحد القابل للتحقيق حسبما جاء في المذكرة، وهو يشكل في رأينا الدوافع الحقيقية والعامة لإصدار وعد بلفور:

1 ـ يشكل إنشاء المحمية ضماناً لسلامة مصر [أي سلامة المصالح الإمبراطورية البريطانية التي كانت مصر تشكل إحدى ركائزها الأساسية أنذاك[

2 ـ سوف يُقابَل إعلان الحماية البريطانية بالترحيب من السكان الحاليين [وسيتم بالتالي تحاشي الصدام مع اليهود[

3 ـ ستُعطَى المنظمات اليهودية تحت ظل الحكم البريطاني تسهيلات لابتياع الأراضي وإنشـاء المسـتعمرات وإقامة المؤسـسات التربوية والدينية، والتعاون في إنماء البلاد اقتصادياً، وستنال مسألة الهجرة اليهودية مركز الأفضلية بحيث يتحول السكان اليهود إلى أكثرية مستوطنة في البلاد [أي توطيد دعائم الاستيطان الصهيوني].

4 ـ ستؤدي هذه الخطوة إلى شعور يهود العالم بالامتنان تجاه بريطانيا وسوف يؤلف اليهود كتلة متحيزة للإمبراطورية البريطانية [توظيف اليهود في الداخل والخارج لخدمة المصالح الإمبريالية البريطانية].

5 ـ يشير صموئيل في المذكرة (وفي أماكن أخرى) إلى أنه، بعد أن يستقل اليهود في دولة خاصة بهم، سوف تشكل هذه الدولة جزءاً من الحضارة الغربية وتدافع عن مصالحها.

وإذا كان هذا هو الإطار العام، فإن التحرك من خلاله كان يتطلب استقالة إسكويث عام 1916، وقد حل محله لويد جورج كرئيس للوزراء وبلفور وزيراً للخارجية. وهنا ظهر السير مارك سايكس (1979-1919 المهندس الحقيقي لوعد بلفور الذي عُيِّن مستشاراً لوزارة الخارجية البريطانية لشئون الشرق الأوسط. ويكاد يكون هناك ما يشبه الإجماع بين المؤرخين على أن الإمبراطورية البريطانية كانت شديدة الاهتمام بفلسطين، وقد أبرمت معاهدة سايكس ـ بيكو لتحديد طريقة تقسيم الدولة العثمانية. ولم يشترك الصهاينة في المفاوضات المؤدية، ولم يُدعَوا إليها، ولم يعرفوا بها حتى بعد توقيعها، أي أن مصير فلسطين تقرَّر دون مشاركتهم.

وكان سايكس يقبل مبدأ تقسيم الدولة العثمانية، ولكنه كان معارضاً لذلك القسم الخاص بتدويل فلسطين. لأن هذا كان "ينفي السيطرة البريطانية عليها" بل كان يعني قيام سيطرة فرنسية، الأمر الذي كان يعني زيادة حجم نفوذ الفرنسيين بشكل لا يتفق مع الواقع، كما قد يؤدي إلى نسـف الموقف الإسـتراتيجي لبريطانيا في الشرق الأوسط برمته. وكان لويد جورج مقتنعاً بحاجة بريطانيا إلى فلسطين للدفاع عن مشارف قناة السويس، ومن هنا برزت أهمية المشروع الصهيوني كوسيلة للانسحاب بلباقة من اتفاقية سايكس ـ بيكو. فهذا المشروع يعني ببساطة تحويل فلسطين إلى وطن قومي يهودي تحت الرعاية البريطانية، وهذه الرعاية تعني في الواقع احتلال بريطانيا لفلسطين، ومن ثم قررت بريطانيا توظيف اليهود حتى تتخلص من البنود الخاصة بفلسطين في اتفاقية سايكس بيكو. ومنذ أن اتصل الصهاينة بهربرت صموئيل، اكتشفهم سايكس الذي أراد أن يستخدمهم في محاولة تعديل الاتفاقية وظلوا هم الجانب المتلقي لما تشاؤه الإرادة الإمبريالية البريطانية. وبعد أن تقرَّر توظيفهم، دُعي الصهاينة لأول مرة للاجتماع مع ممثلي الحكومة في فبراير 1917. وتتالت الأحداث، فقام سايكس بكتابة أولى مسودات الوعد، وتمت الموافقة عليها. وحينما تمت صياغة الوعد (كما لاحظ آحاد هعام) تمت صياغته بدون الالتفات إلى مقترحات الصهاينة أو مقترحات أعداء الصهيونية.

وقد تأخر صدور الوعد بعض الوقت بسبب معارضة يهود إنجلترا المعادين للصهيونية، إذ قاد لوسيان وولف وسير إدوين مونتاجو حملة ضد الوعد وإصداره لأنه يُسقط حق المواطنة عن اليهـود ويجـعلهم مواطنين في دولة أخرى. واسـتجابةً لهذه الضغوط، أُسقطت عبارة "الجنس اليهودي" وحل محلها عبارة "الشعب اليهودي" كما أضيفت عبارة أن الوعد لن يؤدي إلى الإخلال بالحقوق والأوضاع القانونية التي يتمتع بها اليهود في أية دولة أخرى.

ولكن الحكومة الإنجليزية لم تعامل أعداء الصهيونية برفق شديد إذ أن بلفور أخبر وولف وأصدقاءه أن يوقفوا الهجوم على الصهيونية، فالمشروع الصهيوني يشكل جزءاً من المشروع الاستعماري الغربي وعليهم أن يعوا ذلك.

ووعد بلفور صيغة جديدة من البراءات الاستعمارية التي كانت تُمنَح للمسـتوطنين الغربيين في آسـيا وأفريقيا. وحينما أُصدر وعد بلفـور، سماه الصهاينة «الميثاق أو البراءة». وقد كانوا، في ذلك، أكثر دقة من كثير من العرب ومؤرخي الصهيونية، فوعد بلفور كان الميثاق الذي يشبه البراءة التي مُنحت لرودس (وإن كان وعد بلفور أكثر التزاماً بمساعدة اليهود من البراءة التي مُنحت لرودس). وقد مُنحت براءة بلفور لليهود بعد تقسيم تركيا بطريقة لا تختلف كثيراً عن البراءات التي أُعطيَت لبعض الشركات الغربية في أعقاب تقسيم أفريقيا في مؤتمر برلين. وقد أصدرت بريطانيا البراءة بعد التفاوض مع الحلفاء، ووافقت عليه مسبقاً كلٌّ من فرنسا وإيطاليا، ثم أيَّدته الولايات المتحدة، فهو ليس وعداً إنجليزياً وإنما هو وعد غربي، كما أن المستعمرة اليهودية التي ستُؤسَّس لن تكون تابعة لإنجلترا وحسب وإنما ستخدم المصالح الإمبريالية الغربية كافة. ولذا، فإن ثمة مسافة بين الصهاينة والحكومة البريطانية رغم التزام إنجلترا بدعم المُستوطَن الصهيوني، إلا أنه كان من المتوقع أن يقع عبء العمل الاستيطاني نفسه على عاتق الصهاينة أنفسهم (تماماً كما هو الحال مع شركات الاستيطان(.

ويُلاحَظ أن براءة بلفور الاستيطانية، مثل البراءات الأخرى، صدرت دون اسـتشـارة السـكان الأصليين ودون أخذ مصيرهم في الاعتبار.

عقـــد بلفــور
Balfour Contract
«عقد بلفور» مصطلح قمنا بسكه للإشارة إلى وعد بلفور. فوعد بلفور هو بمنزلة «عقد» علني واضح وقِّع بين الحضارة الغربية والمنظمة الصهيونية العالمية باعتبارها ممثلة للجماعات اليهودية في العالم لوضع العقد الصامت والصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة موضع التنفيذ.


  • الجمعة AM 06:55
    2021-04-30
  • 913
Powered by: GateGold