المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415122
يتصفح الموقع حاليا : 276

البحث

البحث

عرض المادة

أســباب شـعبية القبَّالاه وهيمنتهـا عـلى الوجدان الـديني اليـهودي ثم اختفائها

أســباب شـعبية القبَّالاه وهيمنتهـا عـلى الوجدان الـديني اليـهودي ثم اختفائها
Reasons for the Popularity of the Kabbalah, its Domination over the Jewish Religious Imagination, and its Eventual Disappearance
يمكن القول بأن القبَّالاه وتراثها وطريقتها في تفسير النصوص اليهودية المقدَّسة، وإيمانها بالحل السحري وبالخلاص القومي، أخذت تسيطر بالتدريج على الوجدان الديني اليهودي ابتداءً من القرن الرابع عشر، وهيمنت عليه تماماً مع نهاية القرن الثامن عشر، وذلك للأسباب التالية:


1 ـ كانت اليهودية، في الجزء الأول من تاريخها، ديانة تؤمن، رغم الطبقة الحلولية التي تراكمت داخلها، بشكل من أشكال التوحيد، في وسط وثني مشرك: آشوري أو مصري قديم أو يوناني أو روماني. وقد حاولت اليهودية آنذاك أن تُوسِّع الهوة بينها وبين أصحاب الديانات الوثنية الأولى بقدر المستطاع. ولذا، فإننا نجدها ترفض تماماً الفكر الأسطوري وقصص الخلق المستفيضة الموجودة في ديانات الشرق الأدنى القديم، وذلك رغم تأثرها بهذه الديانات في كثير من الوجوه، ورغم أن النسق الديني اليهودي (كتركيب جيولوجي) قد احتفظ بكثير من التراكمات الوثنية. ولكن، ومع ظهور الديانتين التوحيديتين الأخريين (الإسلام والمسيحية)، وسيطرتهما على المحيط الحضاري الذي كانت تتحرك فيه اليهودية، وجدت اليهودية نفسها دون وظيفة خاصة أو هوية مستقلة. ورغم هذا، وربما بسببه، استمر الحاخامات في توسيع الهوة بين اليهود وأصحاب الديانات التوحيدية الأخرى، فتبنوا الأسطورة كوسيلة لاكتشاف الواقع وبدأوا من خلال التلمود، ثم من خلال التراث القبَّالي، في نسج الأساطير. وتُعتبَر القبَّالاه، من هذا المنظور، استجابة اليهود لتغلغل الفكر العقلي والتوحيدي، وتعبيرهم عن محاولات الحفاظ على التماسك وعدم التفكك في وجه التحدي الذي أفقدها تميزها ووظيفتها. وقد أنجزت القبَّالاه ذلك عن طريق التخلي (إلى حدٍّ كبير) عن كثير من العقائد اليهودية الحاخامية، ومن خلال تأكيد بعض الأفكار التي كانت تشغل مكانة هامشية في النسق الديني اليهودي، وعن طريق الأساطير التي نسجها القبَّاليون من خلال منهج تفسيري تأويلي فريد.

2 ـ لم تكن هناك مؤسسات دينية يهودية شاملة تضم كل يهود العالم، كما لم يكن هناك جهاز تنفيذي يضمن شيوع أفكار هذه المؤسسات ويقضي على النزعات الحلولية الوثنية الشعبية ويكبح جماح الهرطقة. وهذا ما سمح للقبَّالاه، بكل ما تشتمل عليه من هرطقات غنوصية، أن تنمو بهذا الشكل المتضخم.

3 ـ كما أن تركيب اليهودية الجيولوجي جعل من اليسير على أي مفكر ديني، مهما كانت درجة تطرفه، أن يجد سنداً وسوابق لآرائه. وقد فتحت فكرة الشريعة الشفوية باب التفسير والتأويل على مصراعيه بحيث أصبح في مقدور كل يهودي أن يفرض رؤيته.

4 ـ ومما لاشك فيه أن اضطلاع أعضاء الجماعات بدور الجماعات الوظيفية عَمَّق الاتجاهات الصوفية. فالجماعات الوظيفية تعيش خارج العملية الإنتاجية في المجتمع. ولكنها، لأنها ليست منه، نمت لديها عقلية مجردة لا علاقة لها بما هو متعيِّن. كما أن اضطلاع اليهود بدور التاجر ساعد في تعميق هذه الاتجاهات، والتجارة الدولية تُحطم فكرة الحدود وتُشجِّع النزعات الصوفية (والواقع أن العلاقة بين التجارة والصوفية أمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة). وتستند رؤية الجماعة الوظيفية إلى العالم إلى مركب حلولي، فتجعل من ذاتها مركز القداسة ومصدر المطلقية (مقابل مجتمع الأغلبية المباحة النسبية). وقد لعبت عقيدة الماشيَّح (الذي سيأتي في نهاية الأيام ليحرر اليهود ويعود بهم إلى صهيون) دوراً في تعميق هذا الاتجاه، فهي عقيدة تفصل اليهودي عن الزمان والمكان وتجعله ينتظر آخر الأيام بحيث يركز عيونه على البدايات والنهايات متجاهلاً التاريخ وتركيبيته. ولذا، يمكن القول بأن ثمة علاقة ما بين تحول الجماعات اليهودية التدريجي إلى جماعات وظيفية وذيوع القبَّالاه التدريجي بينها.

5 ـ والقبَّالاه هي أيضاً رد فعل أعضاء الجماعات اليهودية في العالم الغربي إزاء تدهور وضعهم وفقدانهم دورهم كجماعات وظيفية. فكلما ازدادوا بُعْداً عن مركز السلطة وصنع القرار، وكلما ازدادوا هامشية وطفيلية ازدادوا التصاقاً بالقبَّالاه التي كانت تعطيهم دوراً مركزياً في الدراما الكونية، وتجعل الذات الإلهية مرتبطة بهم ومعتمدة عليهم. والقبَّالاه، بذلك، هي تعبير عن حالة مرضية، ولكنها في الوقت نفسه استجابة لهـذه الحـالة أخذت شـكل الانسحاب من العالم إلى داخل القوقعة. ولذا، فبينما كان بعض الفلاسفة اليهود يؤكدون العناصر المشتركة بين اليهودية والديانات التوحيدية الأخرى (وعلى سبيل المثال، حاول ابن موسى بن ميمون، في مصر، أن يُطهِّر اليهودية من كثير من العنـاصر الغريبة فيـها بإدخال عناصر إسلامية على العبادة اليهودية، مثل السجود)، كان القبَّاليون يحاولون أن يبينوا الاختلافات العميقة بين الدور الذي يلعبه اليهود في عملية الخلاص ودور أصحاب الديانات الأخرى. وهكذا، بررت القبَّالاه لليهود ذلك العذاب، الذي كانوا يتصورون أنه يحيق بهم في كل مكان، باعتباره أمراً منطقياً ينجم عن مركزيتهم.

6 ـ كان طَرْد اليهود السفارد من إسبانيا كارثةً عظمى رجت اليهودية رجاً، وبينت مدى هشاشة موقف أعضاء الجماعات اليهودية. وقد انتشر اليهود السفارد ونشروا معهم تعاليم القبَّالاه في مختلف أنحاء العالم، وبدأت الأيدي تتداول المخطوطات التي كانت مقصورة على العالمين بأسرار القبَّالاه، وخصوصاً أن كتب القبَّالاه تشبه من بعض الوجوه الكتب الإباحية، الأمر الذي زاد شعبيتها.

7 ـ انتقل مركز اليهودية، بعد طرد اليهود من إسبانيا، إلى العالم المسيحي. ومع القرن السادس عشر، استقر أغلبية اليهود فيه. كما أن السفارد أنفسهم كانوا يعيشون، قبل طردهم، في بيئة كاثوليكية ثرية وتشربوا كثيراً من أفكارها. وثمة نظرية تذهب إلى أن اليهودية التي انتشرت في شبه جزيرة أيبريا كانت ذات طابع شعبي صوفي حلولي لا يُفرِّق بين الأنساق الدينية المختلفة كما هي عادة الديانات الشعبية. وقد أدَّى هذا إلى تسرُّب أفكار مسيحية كثيرة إلى الفكر الديني اليهودي. ولعل أخطر ما يمكن أن يحدث لنسق ديني هو أن يتبنى أفكار دين آخر وصُوَره المجازية، فهذه الأفكار مرتبطة بأفكار أخرى، ولها دلالات مختلفة داخل نسقها، ولكنها حينما تُنقَل تصبح مثل الخلية السرطانية. وهذا ما حدث لليهودية، إذ تأثر الفكر القبَّالي بفكرة التثليث المسيحية وتحولت إلى فكرة التعشير، إن صح التعبير، أي أن يتحول الإله إلى عشرة أجزاء في واحد وواحد في عشرة، وهي التجليات النورانية العشرة (سفيروت). كما أن الفكر الديني اليهودي بدأ يتأثر بالمسيحية الشعبية بكل ما تحمل من أساطير واتجاهات غنوصية (وقد لاحَظ أتباع إبراهيم أبو العافية التشابه الشديد بين فكره القبَّالي والمسيحية، فتنصروا).

8 ـ تزامن انتشار القبَّالاه مع ظهور المطبعة العبرية في القرن السادس عشر، فطُبعت من الزوهار طبعتان كاملتان بين عامي 1558 و1560، في كريمونا ومانتوا في إيطاليا، ثم تبعتهما طبعات أخرى في أزمير وسالونيكا وألمانيا وبولندا. وقد أدَّى كل ذلك إلى انتشار القبَّالاه على نطاق واسع يفوق انتشار التلمود. ومع حلول القرن السادس عشر، احتلت كتب القبَّالاه مكان الصدارة بين كل الكتب الدينية.

كل هذه الأسباب المتصلة بأعضاء الجماعات اليهودية (وخصوصاً في الغرب) ساعدت على انتشار الرؤية الحلولية القبَّالية بينهم وهيمنتها عليهم. والرؤية الحلولية القبَّالية هي في جوهرها وحـدة وجود روحـية كاملة تحمل استعداداً للتحول لوحدة وجود مادية. وهذا ما حدث مع تَزايُد نزعات العلمنة في المجتمع الغربي وما واكب ذلك من انتشار الفكر الحلولي وتحوُّله إلى وحدة وجود مادية، وهو الأمر الذي أنجزه إسبينوزا في إطار الفلسفة الغربية. وقد حدث شيء مماثل داخل الفكر الديني اليهودي إذ بدأت وحدة الوجود الروحية تتحول إلى وحدة وجود مادية (من خلال مرحلة شحوب الإله والفكر الربوبي ثم مرحلة موت الإله). وقد دخلت القبَّالاه مرحلة وحدة الوجود الروحية الكاملة في حركات مشيحانية مثل الشبتانية والفرانكية التي تحولت تدريجياً إلى وحدة وجود مادية وبالتالي اختفت الديباجات الروحية ومعها الأساطير والصور المجازية القبَّالية وحلت محلها الأساطير والصور المجازية العلمانية فبدلاً من الصور المجازية الجنسية ظهر فرويد حيث تحل الإيد Id محل اليسود، وظهرت النزعة الطبيعية المادية حيث تحل قوانين الحركة وقوانين العود الأبدي محل الدورات الكونية، وظهرت الصهيونية حيث يحل الاستيطان في الأرض محل الالتصاق بالإله (ديفيقوت)، وظهرت ما بعد الحداثة حيث يحل الاخترجلاف محل تبعثر الشرارات وانفصال الدال عن المدلول محل الجماتريا.

  • السبت AM 10:57
    2021-04-24
  • 1153
Powered by: GateGold