المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413391
يتصفح الموقع حاليا : 225

البحث

البحث

عرض المادة

نظراتٌ في حدودِ العقل.

قال الإمام الشافعي: "إن للعقل حدّاً ينتهي إليه، كما أن للبصر حدّاً ينتهي إليه" [انظر: الآلوسي، روح المعاني (1/142)].

عَرَّف اللغويون العقلَ بعدّةِ تعريفات، فمنهم من عرّفه بقوله: العَقْلُ هو ما يكون به التفكيرُ والاستدلالُ وتركيبُ التصوُّرات والتصديقات؛ ومنهم من ذهب إلى أنّ العَقْلَ هو ما بِهِ يتميز الحسَنُ من القبيح، والخيرُ من الشر، والحق من الباطل.

واختلف الفلاسفةُ والمفكّرون -قديماً وحديثاً- حولَ ماهيةِ العقل، وكُنهِه، وحدودِه، اختلافاً كبيراً. وكان اختلافُهم أكبرَ حول قدرةِ العقل على إدراك حقائق الأشياء وما وراء الطبيعة (الماورائيات) بدون وحْي.

فالفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون (1561 - 1626م)، يرى أنّ العقل يكفي وحده، للوصول إلى الحقيقة بدون الوحي.

وأمّا الفيلسوف الألماني كانت (1724 - 1804م) فيرى أن العقل لا يستطيع فهمَ حقيقة الأشياء.

ويرى توما الإكويني (1225 - 1274م) -من فلاسفة الكنيسة- أنّه بالوحي يعلم الإنسانُ ما هو فوق العقل، وبالعقل نفهم الوجود، وبالعقل والوحي تتمُّ المعرفة؛ لكن العقيدة أولاً.

وقال ابن تيمية في الرسالة العرشية (1 /35): "والعقل كالبَصَر، والنقل كالنُّور؛ لا يَنتفِعُ المـُبْصِرُ بعينِهِ في ظلامٍ دامِسٍ، ولا يَنتفِعُ العاقلُ بعقلِهِ بلا وَحْي، وبِقَدْرِ النورِ تَهْتَدِي العَيْن، وبقدرِ الوحيِ يَهتَدِي العَقْل، وبكمالِ العقلِ والنقلِ تَكتمِلُ الهدايةُ والبصيرة، كما تَكتمِلُ الرؤيةُ حِينَ الظَّهِيرَة ".

ومِمّا يُعابُ على بعض الفلاسفة والمفكرين، أنّهم لا يأتون بالأدلة والحُجَجِ على ما يذهبون إليه من آراء، أو قد يأتون بأدلة ضعيفة أو واهية، وهم لا يشعرون!

فالذين يعتقدون أنّ العقل يكفي وحده للوصول إلى الحقيقة بدون الوحي، لم يأتوا بأجوبةٍ قاطعة على كثير من الأسئلة حول أسرارِ الكون والحياة، ومصيرِ الإنسان بعد الموت؛ بل إنهم عجزوا عن إدراك ماهية المادة، وحقيقةِ الجاذبية، وماهيةِ العقل نفسِه الذي به يفكرون، وطريقة عمله، ومكان وجوده في البدن: فهناك من يرى أنّ العقل يوجد في الدماغ، وهناك من يرى أنه يوجد في القلب.

والعقل-منذ القدم- وهو يتساءل حول حقيقة المكان، والزمان، والمادة، ومن الذي سبق في الوجود: المكان، أو المادة؟ وهل الزمان والمكان حقيقيان يمكن إدراكهما أم أنهما تجريديان؟

إنّ عمل العقل مرتبطٌ بالحواس الخمسة؛ وضعفُها أو فقدانُ بعضها يُؤثّر على عمله؛ وهذه الحواس قد تخدعه، حتى ولو كانت سليمة. بل إنها قد لا تكفيه لكي يبحث ويفكر؛ وعندئذ فإنه يحتاج إلى آلاتٍ (مثل: المجهر، النّظّارات الفلكية...) تُمَكِّنُه من مواصلة عمله. ومن المعلوم أن هذه الآلاتٍ مصنوعةٌ بفضل العقل البشري؛ وهي قد لا تكفيه -أيضاً- لمواصلة أبحاثه مهما كانت دِقّتها؛ ولذلك فهو يحاول تطويرها دائما وباستمرار.

والعقل قد ينطلق في بحثه من مُقدِّمات خاطئة؛ وإذا كانت المقدمات خاطئة، فإنّ النتائج ستكون باطلة حتماً؛ ومِن القواعد المقرّرة في علم المنطق قولُهم: (الحكمُ على الشَّيءِ فَرعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ)؛ ومعنى هذه القاعدة أنه قبل الحكم على شيءٍ ما، فلا بدَّ من معرفته معرفةً تامةً، وتصورِه تصوراً دقيقاً، حتى يكون الحكمُ عليه مطابقاً لواقعه؛ فإذا كان العقلُ جاهلاً بهذا الشيء، أو كانت معرفتُه به ناقصةً أو غيرَ دقيقةٍ، فإنّ الحكم عليه سيكون-عندئذ- غيرَ دقيق أو غيرَ صحيح. وثمَّةَ شيء آخر يؤثر على العقل؛ ذلك أنه يحتاجُ إلى قواعدَ منطقيةٍ صحيحةٍ، مع إعمالِ التفكير والتحليل والاستنتاج؛ وهذا في حَدِّ ذاته دليلٌ على ضعفه ونُقصانه؛ لأنه لو كان كاملاً لما احتاج إلى هذه العمليات أصلاً. وهو معرّضٌ-مع ذلك- إلى سوء استعمال هذه القواعد، وإلى الخطإ في التفكير والتحليل والاستنتاج!

وخيرُ مثال على ذلك، أنّ الطلاب في نفس قسم الرياضيات، تراهم كلَّهم قد درسوا نفس القواعد، ولكن عند البرهان على مسألة ما، فإن البعض يتفوّق في حلها والبعض الآخر يتوقّف!

وقد تأتي العقلَ فكرةٌ، أو جوابٌ عن سؤال كان يُشْغِل بالَه، أو حلٌّ لمسألة في الرياضيات، دون أن يعلم مصدر هذه الفكرة أو الجواب أو الحل! ويقع هذا كثيراً للأدباء، والشعراء، والمفكرين، والعلماء. ففي مجال الرياضيات مثلاً، قد يتوصّل الباحثُ إلى حلّ مسألةٍ عويصة، عجز عن حلها كبارُ العلماء، دون بذل مجهود يُذْكر، ولئن سألته: كيف وجدتها؟ فقد يجيبك: لقد تواردَ عليّ الحل، ولا أعلم بالضبط كيف جاءني! وقد يجيبك -إنْ كان من المؤمنين-: إلهامٌ من الله ونعمة!

وهذا الحلُّ إذا لم يُسجّل في الحين على ورقةٍ، فقد يذهبُ ويُنسى، ولا يعود إلى الذاكرة بعد ذلك؛ حتى ولو أعاد البحث ومَرَّ بنفس المراحل التي مرّ بها من قبل!

فإذا كان العقلُ يعمل بطريقة ذاتية وأوتوماتيكية، وبدون قدرة خارجية؛ لوجب أن يحضر الحلُّ كما حضر أوّلَ مرّة!

وهذا دليل على أنّ العقل وراءَه قُوّةٌ عظيمة، تمُدّه بالعلم عند عجزه أو توقفه عن السير في طريق البحث.

والعقل قد يُخْدعُ بالمظاهر، ويغترّ بالأقوال؛ فتنقلبُ عنده الحقائق، ويرى الحقّ باطلاً، والباطلَ حقّاً! وهذا معلوم عند الناس، ونبَّهَنا إليه القرآن الكريم؛ فقال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَوٰةُ ٱلدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ) [فاطر/ 5].

وقال تعالى: (وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) [العنكبوت: 38].

والشيطانُ -سواء أكان من الجن أم من الإنس- قد يُزيِّن للإنسان ما فيه هلاكُه!

وقال سبحانه: (قل هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا. الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا) [الكهف/ 103-104].

فهؤلاء النّاسُ، انقلبتْ في عقولهم الحقائقُ، وضلّوا الطريق؛ ومع ذلك ظنوا أنهم على صواب!

وقال تعالى: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِالسّعير. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ) [الملك: 10-11].

وأمّا هؤلاءالناس، فكانت لهم عقول؛ ولكنهم لم ينتفعوا بها، بل كانت سبباً في دخولهم جهنّمَ.

وهناك موانعُ أخرى قد تمنع العقل من التفكير السليم، مثل: الأمراض العقلية، والأمراض النفسية والبدنية، والهموم والأحزان.

ومن المعلوم لدى العلماء النُّزهاء، أنّ العقل كلما ازداد علما، ازداد اقتناعا بأنه لازال يجهل عن الكون والحياة أشياءَ كثيرةً؛ وهذا دليل على اعترافه بضعفه وعجزه.

يَتَبيّنُ لنا مِمّا سبق، أنّ العقلَ عاجزٌ عن إدراك أسرار الحياة وعالم الشهادة؛ فأنّى له الوصول إلى إدراك عالم الغيب والماورائيات؟

إنّ النتيجةَ الحتمية التي يجب أنْ نصل إليها، هي كونُ العقلِ البشري له طاقة محدودة، لا يمكن له تجاوزها؛ وصوتُ العقل يدعو إلى الإيمان، وهذا الصوتُ هو الذي دفع العلاّمةَ الأميركي ا. كريسى موريسون إلى تأليف كتابه القيّم «العلم يدعو للإيمان».

وإذا كان صوت العقل يدعو إلى الإيمان، فإن الإيمان يدعو إلى استخدام العقل في تدبُّر آيات الكون، والتأمل في خلق الله تعالى، قال الحق سبحانه: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وقعُودًا وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191].

وقال تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) [الروم: جزء من الآية 8].

وذَمَّ القرآنُ الذين لا يستخدمون عقولهم، ويعطّلونها عن العمل؛ فقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج: 46].

والإيمانُ يأمر بحِفْظ العقل مِمّا يُفسده ويُدمّره؛ ولذلك جاءت الشريعةُ، فأمرت بحفظه من كل ما يؤثر فيه بشكل سلبي؛ فحرّمت عليه كل ما يُؤثر على وظائفه: كالميسر والخمر وكل مسكر ومفتر؛ قال القرطبي: "وأصلُ المصالحُ العقلُ، كما أن أصلَ المفاسد ذهابُه؛ فيجب المنع من كل ما يُذهِبه أو يشوشه" [نقلاعن (المغني)، لابن قدامة 497/12].

والإسلام أعطى للعقل مكانة خاصة، وفي هذا قال عباس محمود العقاد: "والقرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه، ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية، بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة، وتتكرر في كل معرض من معارض الأمر والنهي التي يحث فيها المؤمن على تحكيم عقله، أو يلام فيها المنكر على إهمال عقله وقبول الحجر عليه". [التفكير فريضة إسلامية، ص7-8].

والإسلامَ عندما حَثَّ على إعمال العقل، إنّما حثه على استعماله في ما يستطيع النظرَ فيه، وأمّا ما لا يستطيع إدراكَه، فلقد نهاه عن الخوض فيه: كالتفكر في ذات الله تعالى، أو التفكر في حقيقة صفاته، والخوض في أسرار القضاء والقدر؛ قال العلّامة الألوسي في روح المعاني: "وما لا يحكم العقلُ بإمكانه ثبوتاً أو انتفاءً، لا يلزم أن يكون من الممـتنعات، لجواز مكانه الخافـي من العقل؛ فينبغي أن يُحْمل كلَّ ما عُلم أن الشرع نطق به على هذا القـسم؛ لئلا يلزم كذبه وإبطالِ قطع العقل بصدقه. فالحقُّ أن النقلي يفـيد القطع في العقليات أيضاً".

وقال الإمام الغزالي: "ولا تستبعد أيها المعتكف في عالم العقل، أن يكون وراء العقل طور، قد يظهر فيه ما لا يظهر في العقل" [انظر: مشكاة الأنوار].

وإذا كان العقلُ ناقصاً، وجاهلا بالغيب وبالحكمة الإلهية، وغيرَ مُحيطٍ بعلم الله، فهل يَصِحُّ له أنْ يتطاول على شرع الله، ويرى أنه لا يصلُح للناس في هذا الزمان؟ واللهُ تعالى يقول: (قُل أأنتم أعلمُ أم الله) [البقرة: جزء من الآية 140].

يقول سبحانه وتعالى: (وما بِكُم من نعمة فمِنَ الله) [النحل جزء من الآية 53].

والعقلُ من أعظم النِّعَم التي وهبها الله لعباده، ولكنْ من طبيعة الإنسان، عدمُ الاعترافِ بالنِّعَم، والجحودُ والنُّكران؛ وكثيرٌ من الناس في هذا الزمان، أُصيبوا بالهذيان، ولم يشكروا الرحمن؛ فنسبوا نعمةَ العقل إلى(العقل الكوني)، وهو من اختراع الشيطان؛ هروباً من الخضوع لخالقِ الأكوان!

انتهى البحثُ بفضلِ اللّهِ ونعمته، والحمدُ لِلّهِ ربِّ العالمين.

 

  • الاربعاء AM 09:13
    2020-07-08
  • 4724
Powered by: GateGold