المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409004
يتصفح الموقع حاليا : 370

البحث

البحث

عرض المادة

جناية المعتزلة على العقل و الشرع في مجال منهج البحث و الاستدلال

تبنى المعتزلة منهجا تميزوا به في مجال الفهم و البحث و الاستدلال ، أقاموا عليه مذهبهم الذي ظهر في الثلث الأول من القرن الثاني الهجري استجابة و كرد فعل لما كان يحدث في مجتمعهم من نزاعات مذهبية و سياسية بين طوائفه المتصارعة زمن دولة بني أمية. في هذه الظروف وضع المعتزلة منهجهم الاستدلالي ، فما هي منطلقاته ؟،و ما هي خصائصه ؟ .

أولا: خطأ المعتزلة في تقديم آرائهم على الشرع و العقل:

   أظهر المعتزلة تقديم آرائهم و أهوائهم على الشرع الصحيح و العقل الصريح بصراحة ، و عبّروا عن ذلك بأقوالهم و أفعالهم . فألبسوها ثوب العقل و العقلانية ،و قدموها على الوحي الصحيح طلبا لليقين و تخلصا من الظن حسب زعمهم . فخالفوا بذلك الشرع و العقل و جنوا عليهما جناية كبرى أخرجتهم من الطريق المستقيم، و أوردتهم المهالك !!. فما تفاصيل ذلك ؟ و ما هي الشواهد الشرعية و العقلية التي تُجرّمهم فيما فعلوه ؟؟!! .

  إجابة عن ذلك نورد الشواهد الآتية عرضا و نقدا ، أولها مفاده أن أبا الحسن الأشعري ذكر أن المعتزلة أجمعوا على أن ((الناس محجوجون بعقولهم: من بلغه خبر الرسول ،و من لم يبلغه ))[1] .

     و أقول: نعم إن العقل الفطري حجة، و الإنسان محجوج به في معظم مجالات حياته ، لهذا جعله الشرع الحكيم مناط التكليف، و رفع القلم عمن فقده ، و قد مدحه الشرع كثيرا، و جعل أصحابه من أولي الألباب. لكن لا يصح جعل الإنسان محجوجا بعقله عند غياب الدين الإلهي الحق، أو عدم معرفته به ، بحيث يكون الإنسان مُكلفا مسؤولا عن أعماله و يُحاسب عليها يوم القيامة في غياب وجود الوحي الحق ، أو عدم سماعه به . ففي هذه الحالة لا يصح عقلا و لا شرعا جعل الإنسان محجوجا بعقله تجاه دين الله الحق .

    فأما عقلا فإن الإنسان لا يستطيع أن يعرف بيقين من أين جاء إلى الدنيا ؟ و لا لماذا خُلق ؟ ، و لا ما هو المصير النهائي الذي ينتظره ؟ . فالعقل هنا لن يستطيع أن يُقدم إجابة صحيحة يقينية ، و لهذا اختلف البشر قديما و حديثا في الإجابة عن تلك التساؤلات ، فمنهم المؤمن بدين بلا آخرة ، و منهم المؤمن بدين فيه آخرة ، و منهم الملحد، و منهم اللاأدري المُرتاب . فالعقل هنا لا يُمكنه أن يصدر حكما يقينيا في الموضوع، و من ثم لا يحق له أن يفرض على الإنسان بأن يكون مؤمنا طائعا لخالقه، و لا أن لا يكون كذلك . و عليه لا يُمكن أن يكون الإنسان محجوجا بعقله في هذه القضية ، و لا أحد يستطيع أن يعرف ذلك و يفرضه إلا الخالق عز وجل ، لأنه هو الذي خلق الإنسان و يعرف لماذا خلقه .

   فواضح من ذلك أن المعتزلة زجوا بالعقل في موضوع لا يستطيع الخوض فيه بيقين ، و ليس من حقه أن يبت فيه ، و لا أن يجعل الإنسان محجوجا بعقله في هذه القضية . فهم هنا تقدموا بآرائهم و ظنونهم و رغباتهم على العقل الصريح و الوحي الصحيح .

 

   و أما شرعا فالأمر واضح لا لُبس فيه ، من أن الله تعالى لم يجعل الإنسان محجوجا بعقله في علاقته بخالقه قبل ورود الشرع . قال سبحانه : {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً }الإسراء15- ،و {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء165- . 

 

        فالمعتزلة أخطؤوا عندما جعلوا الإنسان محجوجا بعقله في علاقته بخالقه، فخالفوا ما يقوله العقل الصريح، و ما نص عليه الوحي الصحيح . فهم هنا في الحقيقة لم يتقدموا على الشرع الصحيح فقط ، و إنما تقدموا أيضا على العقل البديهي، تقدموا عليهما ليس بالعقل كما يزعم المعتزلة و كثير من أهل العلم ، و إنما هم في الحقيقة تقدموا عليهما  بآرائهم و ظنونهم و أهوائهم  من دون دليل صحيح من العقل و لا من الوحي !!! .

 

    و الشاهد الثاني  مضمونه أن الخطيب البغدادي روى خبرا يتعلق بشيخ المعتزلة عمرو بن عبيد ، فقال: (( أخبرنا أبو نعيم الحافظ قال : سمعت أبا عمرو عبد الوهاب بن محمد بن أحمد بن إبراهيم العسال يقول : سمعت أبي يقول : سمعت مسبح بن حاتم البصري يقول : سمعت عبيد الله بن معاذ العنبري يقول : سمعت أبي يقول : سمعت عمرو بن عبيد يقول و ذكر حديث الصادق المصدوق فقال : لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته ،ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له : ليس على هذا أخذت ميثاقنا))[2]  .

 

     و حديث الصادق المصدوق الذي رده شيخ المعتزلة عمرو بن عبيد ، رواه البخاري و غيره ، هذا نصه :قال البخاري: ((  حدثنا الحسن بن الربيع حدثنا أبو الأحوص عن الأعمش عن زيد بن وهب قال عبد الله( ابن مسعود) حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق قال : " إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل الله إليه ملكاً فينفخ فيه الروح فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد ، فوالله الذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها  ))[3] .

 

    و أقول: إن صح ذلك عن عمرو بن عبيد فهو قد قدم هواه و جنونه على الشرع و العقل معا ، و لم يُقدم العقل على الشرع من جهة ، و قد نقض إيمانه بدين الإسلام بجهله و هواه من جهة أخرى . فلا للعقل احتكم ، و لا للشرع اتبع، لأن كلامه هذا ليس من العقل ،و لا من العلم ، و لا من الشرع في شيء . إنه تكلم بكلام لا يقوله مسلم، و لا عاقل يعي ما يقول . إنه جنون و غرور، و رعونة نفس و سوء أدب !! .

 

    و تفصيل ذلك أولا إنه لا يُوجد في الحديث ما يُنكر كما سنبينه قريبا، و حتى إذا افترضنا جدلا أن في الحديث ما يُنكر ، و ليس بصحيح ، فإن الرجل قد أخطأ التصرف و وقع في جهل كبير، و ارتكب حماقة جنونية. لأنه كان عليه –عندما أنكر الحديث- أن يُبين سبب عدم صحته إسنادا و متنا ، و يُفرّق بين الحديث و مضمونه أولا ، ثم بينه و بين رواته ثانيا ، ثم بينه و بين الله تعالى و النبي-عليه الصلاة و السلام- ثالثا . لأنه إذا قام الدليل على عدم صحته ، فلا يُمكن أن يكون النبي قد قاله، و لا هو موافق لكتاب الله تعالى ؛ و إنما الخلل من رواته أو من بعضهم .  لكن هذا الرجل المريض عندما أنكر الحديث لم ينقد إسناده و لا متنه ليُبين عدم صحته ، و لم يُفرّق بين رواته ، و بين الله ورسوله . و هذا خطأ فادح و انحراف كبير عن منهج البحث و الاستدلال العلمي . فلا يصح التسوية بين هؤلاء ، لأن عدم صحة الحديث يعني بالضرورة أن سببه من الرواة ،و لا يعني أبدا أن سببه الرسول أو الله تعالى ، و لا يصح نسبة ذلك إليهما . فمن ينسبه إليهما فهو إما أنه جاهل أحمق ، أو أنه صاحب هوى تعمد قول ذلك لغاية في نفسه .  

 

   و ثانيا إن الرجل مُتناقض مع نفسه ، نقض إيمانه بنفسه، و ناقض ذاته بذاته ،و داس على عقله، و جعل الشرع وراء ظهره . فهو عندما قال: " ولو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته " فهو هنا مُتناقض من جهتين: الأولى أنه أنكر الحديث ، و هذا يعني أنه غير صحيح، ثم هو قال بأنه لو سمعه من الرسول لرده . و هذا لا يصح لأنه إذا كان الحديث غير صحيح، فلا يُمكن أن يقوله الرسول ، و إن كان صحيحا فيمكن أن يقوله إذا صحت نسبته إليه، و في هذه الحالة لا يصح الاعتراض عليه. لكن الرجل مع رفضه للحديث افترض أنه لو سمعه من الرسول فإنه سيرده!! . و الجهة الثانية هي أن الرجل نسي أو تناسى أن كلامه متناقض ، فقوله: "  ولو سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا لرددته " . و هذا لا يصح قوله ولا افتراضه ، لأن من يرد كلاما سمعه من رسول الله ، فهذا يعنى أنه لا يُؤمن به رسولا ، و إذا كان يُؤمن به فلا يصح له أن يعترض عليه، و لا أن يفترض أنه يقول كلاما باطلا. فهل يُعقل أن إنسانا يسمع كلام نبي الله منه مباشرة ، ثم يرده؟؟!!. إن رده فهو لا يُؤمن به، أو أنه جاهل أحمق ، و إلا لا يصح رد كلامه شرعا و لا عقلا .

 

      و أما قوله:  "  ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له : ليس على هذا أخذت ميثاقنا "[4] . فهو قول نقض به عمرو بن عبيد إيمانه بدين الإسلام، و لا يصح قوله عقلا و لا شرعا . لأن الذي يرد كلاما لله سمعه منه ، و يعترض عليه فهو شيطان ، و ليس مسلما، ولا عاقلا . و لا يصح افتراض ذلك أصلا، لأنه باطل من أساسه، و لا يُمكن أن يحدث أصلا . فهل يُعقل أن يقول الله كلاما باطلا ؟؟!! ،وهل يصح في العقل افتراض ما افترضه هذا الرجل المريض ا ؟؟!! . إنه صاحب هوى ، لا صاحب عقل و لا شرع !! .

  

    و ثانيا إنه ليس في الحديث ما يُنكر، فهو تكلم عن القضاء و القدر ،و أظهر دور المشيئة الإلهية في ذلك، و في هيمنتها على الكون و تسييرها له ،و في تحكمها في أفعال البشر بحق و عدل و حكمة، و لم ينف دور الإنسان ،و لا أنكر جانبه المُخيّر فيه، و إنما جمع بينهما  كما سبق أن بيناه في الفصل الثاني. 

 

  و يجب النظر إلى هذا الحديث و غيره بنظرة شاملة انطلاقا من كل النصوص الشرعية المتعلقة بموضوع قضاء الله و قدره و مشيئته . و يجب أن نفهم أن أفعال الله تعالى لا ظلم فيها و لا عبث، و أنه سبحانه يفعل بحكمة ، و عدل ،و رحمة ، و عزة  . و عليه فإن ذلك الحديث عندما قال : " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها " . هذا لا يعني أن الله تعالى فعل ظلما و تعسفا ، و إجبارا منه ليُضل بعض عباده ، فحاشا لله من ذلك، فهذا لا يُمكن أن يحدث ، لأن الله تعالى مُنزه عن ذلك، و إنما المقصود من الحديث أن بعض الناس يُظهرون التدين رياءً ، أو نفاقا ، و الناس لا يعلمون ، لكن الله تعالى أعلم بهم فيكشفهم ، و يحرمهم التوفيق لأنهم لا يستحقونه ، و ليس لأنه ظلمهم . و هؤلاء يقعون في ذلك لأنهم غير صادقين في إيمانهم ، و لهذا قيل : إنما يعثر من لم يُخلص . و أما المؤمنون الأتقياء ، فلا يفعل الله بهم ذلك أبدا . و هو القائل سبحانه : {يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ }إبراهيم27 -،و{ فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى{6} فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى  وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى  فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى }سورة اليل: 5-10-.

 

      فواضح من ذلك أن عمرو بن عبيد لا هو احتكم إلى العقل ، و لا اتبع الوحي ، و إنما قدم جهله و غروره و هواه على الشرع الصحيح ،و العقل الصريح، و جنى عليهما و على نفسه من حيث يدري أو لا يدري.

 

  و الشاهد الثالث يتعلق أيضا بموقف لشيخ المعتزلة عمرو بن عبيد ، مضمونه أن الحافظ الدارقطني قال : (( حدثنا محمد بن مخلد ثنا أحمد بن منصور ثنا يحيى بن حكيم قال: حدثني بكر بن الفضل قال: حدثني إدريس بن إدريس ثنا نوح بن قيس اللماني قال:  جاءنا عمرو بن عبيد أتى الحي في مجلس رجل مات عندنا نعرف أهله قال: قد ذكرنا الحديث, حديث بهز بن حكيم أن رجلا أمر أهله إذا مات أن يحرقوه ثم يذروه في يوم ريح, فجمعه الله تعالى فيأت به, فقال عمرو:  ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط وإن كان قاله, فأنا به مكذب, فإن كان التكذيب به ذنب فأنا به مصر.[5]((

 

   و النص الكامل للحديث، هو:  قال البخاري : (( حدثنا عبد الله بن أبي الأسود،  حدثنا معتمر سمعت أبي،  حدثنا قتادة عن عقبة بن عبد الغافر ، عن أبي سعيد عن النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه ذكر رجلا فيمن سلف أو فيمن كان قبلكم قال كلمة يعني أعطاه الله مالا وولدا . فلما حضرت الوفاة قال لبنيه أي أب كنت لكم ؟ ، قالوا : خير أب قال فإنه لم يبتئر أو لم يبتئز عند الله خيرا ، وإن يقدر الله عليه يعذبه فانظروا إذا مت فأحرقوني حتى إذا صرت فحما فاسحقوني ...  فإذا كان يوم ريح عاصف فأذروني فيها. فقال نبي الله- صلى الله عليه وسلم - فأخذ مواثيقهم على ذلك وربي ففعلوا ثم أذروه في يوم عاصف: فقال الله عز وجل: كن فإذا هو رجل قائم ، قال الله :أي عبدي ما حملك على أن فعلت ما فعلت. قال : مخافتك أو فرق منك، قال : فما تلافاه أن رحمه عندها ))[6].

 

   و أقول: إن صح أن عمرو بن عبيد قال ذلك، فإن قوله هذا هو دليل قاطع على أنه رجل مغرور مريض مُتبع لهواه ، قليل العقل و العلم ، معاند للشرع بخلفية مذهبية فاسدة عن سبق إصرار و ترصد. لأنه أولا إن الحديث ليس مستحيلا ، و لا فيه ما يُنكر . فلماذا رفضه عمر بن عبيد من دون دليل صحيح من الشرع و لا من العقل . فالله تعالى على كل شيئ قدير ، و إعادة جمع رفات ذلك المحروق و إحيائه أمر طبيعي جدا بالنسبة لله تعالى . و هذه الشبهة أثارها بعض الكفار قديما بسبب جهلهم بالله تعالى ، فهاهو عمرو بن عبيد يقول بقولهم مع انتسابه إلى الإسلام و أهله . قال تعالى حاكيا عن القائلين بقول عمرو بن عبيد : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} سورة يس :78-79 -.

 

   و ثانيا إن موقفه هذا هو شاهد دامغ على أن شيخ المعتزلة عمرو بن عبيد  جعل الشرع وراء ظهره و تسلّط عليه بجهله و غروره . فقدّم عليه رأيه و ظنه و هواه بدعوى تقديم العقل على الشرع ، و قد عبّر عن هذا بلسان الحال قبل لسان المقال . فقوله: ))ما قال هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قط وإن كان قاله, فأنا به مكذب, فإن كان التكذيب به ذنب فأنا به مصر  )) . هو دليل دامع على أن الرجل مغرور و فيه جهل كبير و حماقة زائدة . لأنه إن كان شك في الحديث أو وجد فيه ما يُنكر، و ما لا يصح  فليُبين ذلك بالدليل الصحيح و يُثبت بطلان الحديث . و في هذه الحالة يكون قد أنكر الحديث من دون ربطه بالنبي –عليه الصلاة-  لأنه بالضرورة في هذه الحالة أنه لا يكون النبي قد قاله . لكن هذا الرجل المريض لغروره و قلة عقله كذّب الحديث ، ثم انتقل إلى النبي- عليه الصلاة و السلام- و كذّبه إن كان قال الحديث ،و أنه مُصر على موقفه . و هذا لا يصح و فيه تناقضان : الأول إن كان الحديث ليس صحيحا فلا يُمكن أن يقوله الرسول، لكن الرجل أنكره حتى و إن كان قاله ... و هذا لا يصح افتراضه لأن الحديث بما أنه غير صحيح لا يصح افتراض أن النبي- صلى الله عليه و سلم- قد قاله ،و إن كان قاله فلابد أن يكون صحيحا ، و لا يكون باطلا. و التناقض الثاني هو أن الرجل افترض إن كان قاله رسول الله ، فهو –مع ذلك- يُكذّبه- و مُصر على موقفه، و هذا لا يصح، لأن وصفه للنبي بأنه رسول الله يُبطل زعمه ، و إلا ما كان محمد رسول الله . لأنه يصح لا شرعا و لا عقلا الاعتقاد بأنه رسول الله من جهة ، ثم الاعتراض عليه و رفض كلامه من جهة أخرى . فهذا الرجل لم يتبع الشرع و لا العقل ، و إنما اتبع ظنونه و هواه ،و ليس عنده من التفكير العلمي الصحيح إلا القليل ، بل افتقده كلية في كلامه هذا  !! .

 

     و ثالثا إن هذا الرجل أقام الدليل الدامغ على تقديمه و أصحابه لآرائهم و أهوائهم على الشرع من جهة ، و على عدم احترام الشرع و الإصرار على مخالفته إن خالف هواهم من جهة ثانية . و دلت الحادثة على قلة فهم الرجل ، لأن الحديث صحيح و قد سبقت إلى ذلك . و الحديث ليس مستحيلا ، فهو ممكن من جهة القدرة الإلهية ، و قد رواه رسول الله تعالى من جهة ثالثة . و الرجل لا يعرف مصلحته ، و لا كان ذكيا في الإجابة ، فكان يكفيه أن يُصر على موقفه بأن الحديث غير صحيح ، و بهذا يكون قد رد الحديث و لم يتعمد مخالفة الشرع و لا أصر على مخالفته من جهة رابعة . و لا ركب رأسه و هواه , و أظهر عناده و غروره و مسارعته إلى العصيان و التكذيب بلا مُبرر من جهة خامسة . فأين العقل و الفهم و الذكاء ، الذي يتظاهر به المعتزلة .

 

 و الشاهد الرابع يتضمن شعرا في مدح العقل للمعتزلي بشر بن المعتمر( ق: 3هـ) يقول فيه[7]:

لله درُّ العقلِ من رائدٍ ... وصاحبِ في العسرِ واليسرِ

وحاكمٍ يقضى على غائبٍ ... قضيةَ الشاهدِ للأمرِ

وإن شيئاً بعضُ أفعاله ... أن يفصلَ الخيرَ من الشرِّ

بذى قوًى قد خصه ربُّه ... بخالص التقديس والطهر

 

     و أقول : أولا إن في شعره هذا حق و باطل ، و باطله أكثر من صوابه ، يتعلق بالانحراف المنهجي الذي أقام عليه المعتزلة مذهبهم ، و المتمثل في تقديم آرائهم و ظنونهم و رغباتهم على الوحي الصحيح ، و العقل الصريح بدعوى أن العقل يقول ذلك ، و هو بريء منه تماما.

 

    و ثانيا إن العقل الصريح يكون حاكما و مرجعا في كل شيء عند غياب الوحي الصحيح ، ففي هذه الحالة يتحمل  العقل كل مسؤولياته للرد على العقائد الفاسدة، و البحث عن الدين الحق للإيمان به و الاستسلام له . فإذا وُجد الدين الحق فلا يصح للعقل أن يكون حاكما و قاضيا على الوحي الصحيح لأربعة أمور : الأول مفاده أن الله تعالى و دينه ليسا غائبيّن عنا حتى يكون العقل حاكما و قاضيا عليهما . فالله تعالى خاطبنا وتجلى لنا في كتابه المسطور بكلامه ، و في كتابه المنظور بأفعاله و عظمته ،و صفاته و أسمائه الحسنى ، و عرّفنا بدينه و شريعته بوحيه و سنة نبيه –عليه الصلاة و السلام- .

 

    و الأمر الثاني هو أن الله تعالى خلقنا لعبادته و فرض علينا  شريعته ، و حذّرنا من التقدم بين يدي الله و رسوله ، و من تعطيل دينه. فمن أطاعه رضي عنه و أدخله الجنة ،و من عصيه سخط عليه و أدخله النار . و عليه فلا يحق للعقل أن يتقدم على الوحي الصحيح ،و لا أن يعطله ، و لا أن يُساوي نفسه به ، و لا أن يُزاحمه ، فإن فعل ذلك فهو مخالف للوحي و العقل ، و مُتبع لأهوائه و ظنونه  . 

 

   و الأمر الثالث مفاده أنه ليس من المنطق أن يتقدم العقل على خالقه . لأن بما أنه لا يصح أن يتقدم الأعمى على البصير ، و لا الجاهل على العالم ، و لا المريض على الطبيب ، فإنه من الأولى ، و من الواجب عقلا أن لا يتقدم المخلوق على خالقه ، و عليه فلا يتقدم العقل على الوحي الصحيح .

 

       و الأمر الأخير- الرابع- مضمونه أن العقل محدود القدرات ، فهو قوة من قِوى الإنسان، و غريزة من غرائزه ، و الإنسان كائن مخلوق محدود القدرات . و من ثم فالعقل بالضرورة محدود القدرات في النهاية ، و عاجز عن معرفة أمور كثيرة جدا مخلوقة مثله ، فما بالك بالأمور الغيبية التي يعجز عن تصوّرها . و في عصرنا أصبح العقل العلمي أكثر تواضعا مما سبق ، بعدما أظهر العلم الحديث عجز العقل و العلم عن معرفة كُنه و حقائق أشياء كثيرة موجودة في الطبيعة ، كالجاذبية ، و الذرة ، و الكهرباء من جهة ، كما أنه عجز في علاج كثير من الأمراض المزمنة ،و الخطيرة التي تتسبب في موت كثير من الناس من جهة أخرى ، كالسكري ، و السرطان ، و الإيدز .

 

     و الشاهد الأخير- الخامس - يتضمن قولين : الأول هو لأبي القاسم الرسي المعتزلي (ق: 3هـ) يقول فيه :((  فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد، وجاء الرسول بمعرفة العبادة. والعقل أصل الحجتين الأخريين، لا نهما عُرفا به ولم يُعرف بهما، فافهم ذلك )) [8] .

 

  و القول الثاني هو للمعتزلي القاضي عبد الجبار يقول فيه : ((" في بيان هذه الأدلة : أولها : دلالة العقل لأن به يميز بين الحسن والقبيح، ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة، والإجماع. ولربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي : الكتاب، والسنة، والإجماع فقط ، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر . وليس كذلك: لأن الله تعالي لم يخاطب إلا أهل العقل؛ ولأن به يعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع ، فهو أصل في هذا الباب. وإن كنا نقول: إن الكتاب هو الأصل، من حيث إن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام . وبالعقل يميز بين أحكام الأفعال وبين أحكام الفاعلين، ولولاه لما عرفنا من يؤاخذ بما يتركه أو بما يأتيه، ومن يحمد ومن يذم؛ ولذلك تزول المؤاخذة عمن لا عقل له. ومتى عرفنا بالعقل إلهاً منفردا بالإلهية، وعرفناه حكيما، نعلم في كتابه أنه دلالة، ومتى عرفناه مرسلاً للرسول، ومميزا له بالأعلام المعجزة من الكاذبين، علمنا أن قول الرسول حجة ، وإذا قال صلى الله عليه وسلم : "لا تجتمع أمتي على خطأ .. وعليكم بالجماعة" .. علمنا أن الإجماع حجة ")) [9].

 

   و أقول: إن كلام الرجلين  فيه حق و باطل ، و هو كلام ناقص ،و فيه غلو في تعظيم العقل من جهة ، و فيه تفضيل للعقل على الشرع، و تقديم له عليه من جهة أخرى . لأنه أولا إن حجة العقل لا تلزم معرفة الله تعالى ، و إنما قد يكون للعقل موقف من موضوع معرفة الله تعالى ، لكنه موقف ليس من باب الوجوب ، و لا اليقين، و إنما هو من باب الرأي و الاحتمال . لأنه يُمكن لإنسان آخر يقول بعقله خلاف رأي الرسي تماما ، كأن يقول: لا إن العقل لا يلزم الإنسان البحث عن خالقه و معرفته و عبادته ، و إنما هو خلقه و أعطى له حرية التصرف في حياته ، و لا يجب على العقل البحث عنه ، و لا معرفته ، و لا عبادته ، و ما عليه إلا أن يعيش حياته حسب مصالحه و ظروفه . و قد يقول آخر : إنه ليس واجبا على الإنسان البحث عن خالقه ، فهو حر في ذلك . و قد يقول آخر : لا ، إن الله خلقنا ، و تركنا لحالنا ، و لا يهمه أبحثنا عنه أم لا، أعبدناه أم لم نعبده !! . و قد يقول آخر: لا ، إن الإنسان مخلوق صدفة في هذا الكون ، و لا فائدة و لا مبرر من البحث في موضوع الله . كل هذه الاحتمالات مع أنها باطلة في ميزان الشرع الصحيح و العقل الصريح ، إلا أنها مُمكنة عقلا ، و قد وُجد في التاريخ و الحاضر من قال بها ، أو ببعضها . فكلام الرسي المعتزلي ليس حجة عقلية لازمة و لا واجبة و إنما هو رأي قاله ، وبهذا يسقط قوله :" فجاءت حجة العقل بمعرفة المعبود " .  

  و ثانيا إن قوله : " وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد " ، هو قول ناقص ،و فيه إغماط للقرآن الكريم . لأن الثابت قطعا أن القرآن جاء بأكثر من ذلك بكثير جدا ، فعرّف الناس بخالقهم ، و أقام لهم الأدلة الدامغة على وجوده ،و عرّفهم بأنفسهم ، و أخبرهم بالغاية التي خلقهم من أجلها ، و وضع لهم الشريعة التي تعبّدهم بها .   

 

    وكذلك الرسول- عليه الصلاة و السلام- ، فهو لم يأت بما قاله الرسي فقط حين قال : " وجاء الرسول بمعرفة العبادة " . فهو قد جاء بذلك وأكثر ، فعرّف الناس بخالقهم ، و أخبرهم بماضيهم و مستقبلهم ،و جادل المشركين و الكتابيين و رد على شبهاتهم ، و ربى المسلمين تربية كاملة شاملة للدين و الدنيا معا. فواضح أن هذا الرجل أنقص من مكانة القرآن الكريم و السنة النبوية ليُعطي مكانة أسبق و أهم لمذهبيته الاعتزالية الزائفة بدعوى حجة العقل !! .

 

   و أخيرا-ثالثا- إن القول بأن العقل أصل الحجتين الأخريين، لأنهما عُرفا به ولم يُعرف بهما، فافهم ذلك  . هو قول غير صحيح في معظمه ، و فيه تلبيس و تغليط . لأن الحقيقة هي أن العقل هو أصل للكتاب و السنة ليس من جهة المكانة و الأهمية ، وإنما هو أصل من جهة الوسيلة فقط ، فهو أداة معرفة الوحي و فهمه ، فبدونه لا يُمكن معرفته . فليس هو الذي أوجدهما ، و لا هو يستطيع أن يتقدم عليهما ، و لا أن يُزاحمهما ، و لا أن يتساوى معهما . فدور العقل كوسيلة أولى لفهم الوحي لا يجعله أسبق من الوحي ،و لا  حَكما عليه ، و لا أصلا له . و لا يصح استخدام مصطلح : العقل أصل الوحي ، فهو مُصطلح ناقص و غير دقيق ، و فيه التباس و تدليس . فلا هو أصل له ، و لا هو أسبق منه . لأن الوحي كلام الله تعالى ، و الإنسان مخلوق لخالقه ، فالوحي أسبق من الإنسان ، و العقل ليس أصلا للوحي ، و لا هو مُتحكم فيه .

 

    و ليس صحيحا أن العقل لم يُعرَف بالوحي ، لأن الثابت شرعا أن الوحي عرّفنا بالإنسان كله ، منه العقل كغريزة فينا ، و بكيفية نموه و اكتسابه للمعارف ، لقوله سبحانه : {وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }النحل78- . و أخبرنا بأهمية دور العقل في عمارة الأرض ، و بأنه لا يحق له أن يشرّع لنفسه ، و لا أن يعبد ذاته . و لا هو الذي يُوجب على الناس عبادتهم لخالقهم . كما أن الوحي جاء لُيربي العقل و يعُلمه منهج الاستدلال الصحيح البعيد أن الأهواء و الظنون من جهة ، و أمره بوجوب التثبت والاحتكام إلى البراهين ؛ كما في قوله سبحانه : {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً }الإسراء36-،{ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }النجم23-،  {  قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ }البقرة111- ،و{قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ }آل عمران137- ، و {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20- . فالوحي جاء إلى الإنسان ليُعرفه بربه و بنفسه ، و يُربيه  روحيا ،وأخلاقيا ، و عقليا و بدنيا ،و علميا و وجدانيا . و عليه فلا يصح قول الرجل بأن العقل لم يُعرف بالوحي !!! . 

 

    و استنتاجا مما ذكرناه و تعقيبا عليه أُشير هنا أولا إلى أن المعتزلة بتقديمهم لآرائهم و ظنونهم و أهوائهم على الشرع ، فهم في الحقيقة قد خالفوا الشرع الصحيح و العقل الصريح و جنوا عليهما . و تفصيل ذلك هو أن تقدُمِهم على الشرع هو مخالفة شرعية صريحة  ، لأن الله تعالى نهانا على أن نتقدم على الله ورسوله ، كقوله سبحانه : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }الحجرات1 - ،و أمرنا بأن نطيعه و لا نتبع السُبل و الأهواء فنظل ، قال سبحانه : {وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }الأنعام153-،و { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً }النساء135- . و لا شك أن تقديم المعتزلة لآرائهم و ظنونهم على الشرع هو تعطيل للوحي، و عصيان لله تعالى  تترتب عنهما انحراف كبير في الفكر و السلوك .

 

   و خالفوا العقل لأن العقل الصريح لا يقول بمنطقهم ، و لا بمذهبهم في تقديمهم لآرائهم و ظنونهم على الشرع . و إنما ينص ببداهة أنه من الطبيعي و البديهي جدا أن يكون الإنسان عبدا لخالقه، و أن يُطيعه بكل جوانبه قلبا و قالبا . و أنه لا يصح للعقل أن يتقدم على خالقه أبدا ، لأنه من الجهل و الغباء و الحماقة أن يتقدم المخلوق على خالقه، و الجاهل على العالم ، و الأعمى على البصير . فمن البديهي  جدا أن يتقدم الخالق على المخلوق ،و يكون المخلوق عبدا لخالقه ، و لا يصح أن يحدث العكس ، فإن حدث فهو انحراف سببه الأهواء و الظنون لا العقل الصريح  . و عليه فمن يقدم رأيه و هواه على  الشرع الصحيح  فهو جاهل و أحمق ، و مُتكبر مغرور ،و ليس موقفه من العقل في شيء .

 

     و جنوا عليهما معا، لأن تقديمهم لآرائهم و رغباتهم على الشرع أدى إلى الجرأة عليه، و إلى تعطيله و تراجعه و تحجيمه من أن يكون حَكما على الإنسان في كل حياته . و جنوا على العقول لأنهم وضعوها في غير مكانها الصحيح ،و حمّلوها ما لا تستطيع، و أخرجوها من مجال العبودية لخالقها ، و جعلوها وثنا معبودا من دون إذن منه . لأن العقل الصريح يستحيل أن يقول بقولهم ، و لا يقرهم عليه .  

 

    و ثانيا فقد تبين أن ما هو شائع بين الناس من أن المعتزلة يُقدمون العقل على الشرع ؛ هو أمر غير صحيح ، و خطأ فاحش ، و فيه تلبيس و تدليس على الناس . و إنما حقيقة موقفهم هو أنهم قدموا على الشرع آراءهم و ظنونهم و أهوائهم ؛ ثم قدّموها أيضا على العقل الصريح من جهة أخرى . فهم لم يأخذوا بالوحي و لا بالعقل ، و لو أنهم التزموا بهما ما قرروا ما يُخالفهما و يُعطلهما .

 

ثانيا: مظاهر انحراف المعتزلة في مجال البحث و الاستدلال:

   نُفرد هذا المبحث لمظاهر انحراف المعتزلة في مجال البحث و الاستدلال العلمي ، و سنتناولها من خلال عرض نماذج متنوعة تُبرز خلل منهجهم و قصوره و انحرافه عن المنهج الصحيح القائم على الوحي و العقل معا.

      أولها يتعلق بدور العقل في معرفة الله عند المعتزلة ، فيرى أبو القاسم الرسي المعتزلي: ( ت: 246هـ) أن حجة العقل جاءت بمعرفة المعبود[10]. و ذكر القاضي عبد الجبار أن معرفة الله واجبة من جهة العقل[11] . و أن أول ما يجب أن يفعله الإنسان هو النظر و التفكير في معرفة الله ، و أن الشرع نص على وجوب النظر و فساد التقليد[12].    

 

  و قال المحسن الجشمي المعتزلي ( ت: 457 هـ) : ((الذي نقول في ذلك: إن أول ما يجب على المكلف النظر في طريق معرفة الله تعالى، ثم النظر في طريق معرفة صفاته، ثم في عدله، ثم في النبوات على الترتيب )) [13]  .

    و يرى محمود الزمخشري أن (( أول الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف هو: النظر في معرفة الله تعالى ))[14] . ثم قرر أنه لا طريق إلى معرفتة إلا النظر، لأنه (( سبحانه لا يُعْلَمُ ضرورةً ولا مشاهدةً، والتقليد ليس بطريق؛ لأنه لا يتميز به حق من باطل، فَلَمْ يبق إلا النظر؛ لأنه طريق التبيين، يُفْزَعُ إليه في المشكلات، ومنه التشاور في الحوادث، وتقادح الأفكار في النوازل ))[15] .

 

   و أقول : أولا إن تلك الأقوال هي شواهد على انحراف المعتزلة في مجال الفهم و البحث و الاستدلال . فلا ينطلقون من وحي صحيح ، و لا من عقل صريح، و إنما ينطلقون من آرائهم و ظنونهم و رغباتهم المذهبية ثم يُلبسونها ثوب العقل، أو الشرع، أو هما معا . فقولهم بأن العقل يُوجب على الإنسان أن يعرف الله أولا ،و ينظر في طرق معرفته ، هو قول لا دليل عقلي يثُبته و لا يُوجبه . 

 

    و إنما الذي يستطيع أن يفعله العقل في هذه القضية هو أن يجتهد و يقترح و يبقى رأيه احتملا مُمكنا ضمن احتمالات أخرى . فبما أن المعتزلي قال ذلك، فقد يقول غيره : لا إن الخالق خلقنا و لم يُوجب علينا عبادته . و يقول آخر: لا ، إنه خلقنا و أهملنا ،و نحن لا نساوي عنده شيئا حتى يهتم بنا و يُكلفنا . و يقول آخر: بل إن الخالق خلقنا عبثا في هذه الدنيا ، فهي عبث في عبث، و لا فائدة و لا معنى للعبادة عنده . و يقول : بل إن هذا الكون أزلي ، لا بداية له و لا نهاية، و لا فائدة من الكلام في العبادة من عدمها . و هكذا كثرت الاحتمالات و التفسيرات ، و هي كلها ممُكنة من الناحية المنطقية ،ولا يوجد دليل قطعي يُعطينا الإجابة اليقينية لكي نعرف لماذا خلقنا الله تعالى ؟، و بماذا كلفنا ؟، و ما هي شريعته التي فرضها علينا ؟؟ ... إلخ . 

 

  و بما أن الأمر كذلك فلن يستطيع العقل أن يُوجب على الإنسان أي احتمال من تلك الاحتمالات ، منها قول المعتزلة . فمن أين لهم بأن العقل يُوجب عبادة الخالق ، و أنه فرض عليه النظر لمعرفته  ؟! . طبعا ليس عندهم دليل قطعي يقيني ، و لن يستطيعوا الظفر به بعقولهم . فهم هنا تكلموا بلا دليل صحيح ، و حكموا على أمر بالوجوب لا يُمكنهم الحكم عليه ، إلا بالوحي الصحيح .  و هم هنا لم يوجبوا ذلك بالشرع و إنما أوجبوه بالعقل حسب زعمهم . و هذا لا يصح ، لأنه سبق أن بينا أن العقل لن يستطيع أن يقطع بذلك بدليل قطعي من دون الوحي الصحيح . فهم إذاً أوجبوا أمرا بدليل ظني بنوه على مذهبهم ، و هذا لا يصح ، و ليس من الاستدلال الصحيح ، الذي يُعتمد عليه في إيجاب أمر من الأمور.

   و يُلاحظ عليهم هنا أنهم أوجبوا على الإنسان معرفة الله بطريقة غير صحيحة ، لكنهم من جهة أخرى قدموا عقولهم المذهبية على خالقهم بلا دليل صحيح من الشرع و لا من العقل . فلماذا لم يُوجبوا عليه أن يخضع لخالقه و لا يتقدم عليه ، كما أوجبوا عليه معرفته بلا حجة صحيحة من عقولهم  ؟؟!!. و أية فائدة ذات قيمة و أهمية من إيجاب معرفة الله عقلا من ناحية ، و إيجاب  تقديم العقل عليه من ناحية أخرى ؟؟ !! . فهذا يكاد يكون نفيا و تعطيلا كليا للمعرفة التي أوجبوها !!

 

     و ثانيا صحيح أنه على المسلم أن يعرف ربه و صفاته و دينه ، و الشرع قد جاء بذلك و أمر به و حث عليه . لكن لا يصح القول أنه يجب على كل مسلم مكلف النظر في ذلك و بالطريقة الاعتزالية . فهذا لا يصح لأن ليس كل مكلف قادر على ذلك ، و لا الشرع أمره به بتلك الطريقة التي ذكرها المعتزلة . و قد أرسل الله تعالى رسوله ليكون نبيا وداعيا ، و مربيا و معلما ، و قد مارس كل ذلك عملياً ، و لم يثبت في سيرته و لا سنته أنه علّم المسلمين بالطريقة التي قال بها المعتزلة  و أوجبوها على المسلمين .

 

     علما أن معرفة الله تعالى لا تتم بالنظر العقلي فقط ، و لا بالنظر المعتزلي ، و إنما هي قد تتم به و بدونه ، و قد تتم بأكثر من طريق . فمعرفة الله قد تتم بالفطرة أساسا ، أو بالنظر البديهي البسيط من دون تعمق نظري، و قد تتم بالشرع ، و قد تتم بالنظر العلمي العميق من دون الرجوع إلى النظر المعتزلي ، و قد تتم بالنظر الفلسفي التأملي دون طريقة المعتزلة، و قد تتم باجتماع كل هذه الطرق . فلا يصح حصر معرفة الله تعالى بالنظر عامة ، و الاعتزالي منه خاصة .

 

     و ثالثا ليس صحيحا أن الله تعالى لا يُعلم ضرورة و لا مُشاهدة . فهذا زعم باطل ، لأن معرفة الناس لخالقهم هي معرفة فطرية ضرورية  فطرهم الله تعالى عليها ، يعرفونه بالفطرة و البديهة . لقوله سبحانه : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }الروم30- ،و {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ }الأعراف172-.  و قال الرسول – عليه الصلاة و السلام – : (( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يُهودانه ،أو يُنصرانه ، أو يُمجسانه ...))[16]. و الشاهد على ذلك أيضا أن المشركين مع شركهم و كفرهم كانوا يُؤمنون بالله كخالق و رب لهذا العالم قبل مجيء الإسلام . قال سبحانه: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ }لقمان25- .

 

   و أخيرا – رابعا- إن قول الزمخشري بأن ((التقليد ليس بطريق؛ لأنه لا يتميز به حق من باطل )) . لا يصح على إطلاقه ، و إنما هو حسب نوعه ، فإذا كان المقلد يُقلد عالما صالحا مستقيما : منهجا و سلوكا ، فإن تقليده يكون صحيحا مستقيما ،و به يسعد المُقلد ،و ينتفع بتقليده ،و به يعرف كثيرا من دينه معرفة صحيحة . و أما إذا قلّد إنسان آخر عالما حاله يخالف حال الأول ، فالنتيجة تكون خلاف ما حصل مع الأول . و هذا الذي حصل مع التقليد ، نفسه قد يحصل مع النظر ، فإذا كان النظر العقلي مُستقيما موافقا للوحي الصحيح و العقل الصريح ، فستكون نتيجته الوصول إلى معرفة الله تعالى و شريعته معرفة صحيحة . و إما إذا كان النظر العقلي مُنحرفا عن الشرع الصحيح و العقل الصريح ، فالنتيجة ستكون  خاطئة و ضارة بصاحبها .

 

     و هذا لا يعني أن التقليد أحسن من النظر العقلي ، أو أنه يُساويه ، و إنما الذي أردتُ أن أقوله هو أن النظر العقلي لا يصلح لكل الناس . كما أن التقليد قد يصلح لكثير من الناس أو لأكثرهم ، لأنه ليس في مقدورهم ممارسة النظر العقلي . و عليه يجب أن يُوجهوا لتقليد العلماء الصالحين الأكفاء من دون تمذهب لشخض واحد معين فقط ،و لا تعصب أعمى له ، لكي لا يتضرروا بتقليدهم لهم . و قد ثَبُت من سنة النبي –عليه الصلاة و السلام- ، و صحابته من بعده ، أن المسلمين كانت منهم طائفة تفرغت للعلم ،و عامتهم تفرغوا لأعمال أخرى من حياتهم العملية . و مع ذلك كانوا كلهم مسلمين شهد لهم الشرع و التاريخ بالإيمان و العمل الصالح .

 

   و النموذج الثاني يتعلق بتقسيم أنواع الموجودات ، و فيه يقول المحسن بن كرامة الجشمي المعتزلي ( ت: 457 هـ) : ((  نقول: الموجودات ثلاثة: الجواهر، والأعراض، والقديم، وكل منها يختص بصفة ويخالف للآخر. فالجوهر: هو المتحيز القابل للأعراض، ويمنع غيره بأن يكون بحيث هو، ويدرك بحاستين، حاسة البصر واللمس.والعرض: لا يتحيز وربما يحتاج إلى محل.والقديم سبحانه: ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض )) [17] .

    و أقول : هذا تقسيم غير صحيح شرعا و لا علما ولا عقلا . فبغض النظر عن أن الرجل وصف الله تعالى بوصف غير شرعي ،و ليس بدقيق ، عندما وصفه بأنه القديم ، فإن الرجل خالف الشرع في تقسيمه للموجدات . و تفصيل ذلك هو أن الله تعالى نص في آيات كثيرة على أنه هو الخالق و غيره مخلوق له . فلا يُوجد في الكون إلا الخالق و المخلوق.

  و أما حكاية الجواهر و الأعراض فهي حكاية لا مبرر صحيح لها ، و هي من ظنون القوم في قولهم بهذا التقسيم . لأن المخلوق مهما كانت ذاته و صفاته فهو مخلوق و يُمثل بذاته و نوعه كائنا من الكائنات . و الشاهد على ذلك أنه ثبُت شرعا و علما أن كل المخلوقات من أصل واحد ، قال سبحانه : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }الأنبياء30-،و {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }النور45-، و {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }فصلت:11-. و من الثابت علميا أن كل المخلوقات تنتهي في تكوينها الدقيق إلى الذرة ، و الذرة ذات تكوين واحد من جهة مادتها ، و إن اختلفت في وزنها الذري[18] . و عليه فإن الذي يُسمونه عرضا هو في ذاته مخلوق ، و يُمثل بنفسه جوهرا مُنفردا ، له ذاتيته التي تميزه عن غيره من المخلوقات . فسواءً كان قائما بنفسه، أو بغيره فهو في الأساس كائن قائم بذاته ، فإذا فصلناه عن الكائن الذي ظهر فيه، فهو سيبقى كائنا منفردا بذاته .

 و أما قوله بأن العرض لا يتحيز و ربما لا يحتاج على محل ، فهذا كلام لا يصح كمبرر لتقسيم المخلوق إلى جوهر و عرض . لأن كل مخلوق لابد له من حيز يُوجد فيه، حتى و إن لم نره ، و لم نستطع قياسه . كما أن المقياس في التفرقة بين الجوهر و العرض ليس هو وجوده في محل من عدمه ، لأن المقياس الصحيح هو الخلق و الحدوث، فكل كائن مخلوق فهو جوهر بمعنى أنه كائن حقيقي بذاته، سواء كان مرئيا بالحواس أو لا . لأن الأجسام التي نراها هي في تكوينها و تحليلها النهائي غير مرئية ، فعندما نحللها إلى أبسط تكونها نصل بها إلى الذرة ، و من ثم لا نستطيع رؤيتها ، و يمكن تحويل الذرة إلى طاقة أيضا ، و هنا يفقد الجسم شكله المادي[19]. لكنه سيبقى مخلوقا يمثل بنفسه جوهرا له مميزاته الذاتية .  

     و النموذج الثالث يتعلق بموضوع الصفات الإلهية ، مضمونه أنه قد   سبق أن بينا في الفصل الأول أن المعتزلة خالفوا الشرع و العقل في موقفهم من الصفات الإلهية ، فلا نعيد ذلك هنا، و إنما نركز فقط على ما يتعلق بمنهج الفهم و الاستدلال في مجال الصفات . و عليه فإن هؤلاء عندما انحرفوا عن المنهج الصحيح  في النظر إلى موضوع صفات الله  فهما و استدلالا ؛ جنوا بذلك على عقولهم و فتنوها ، و أوقعوها في تناقضات و مغالطات ، و مُحالات و إشكالات لا مخرج  منها بطريقة صحيحة شرعا و لا عقلا من جهة؛ و تركوها في محنة داخلية مع ذواتها ،و في تناقض صارخ مع الشرع و العقل من جهة أخرى .

    فمن ذلك أنهم تبنوا أفكارا مستحيلة عقلا ، لكنهم- مع ذلك- قرروها و دافعوا عنها باسم العقل !! .. من ذلك إنهم قالوا : إن من صفات الله أنه لا يتحرك و لا يسكن ، و ليس في مكان [20]. و لو تدبرنا في قولهم هذا جيدا لتبين أنه كلام مخالف للعقل ،و لا يصدق إلا على المعدوم ،و لا يُمكن أن يُوجد موجود بهذه الصفات . فأين الفهم و العقل يا أدعياء العقلانية ؟؟! .  

  و من ذلك أنهم يجمعون النفي و الإثبات في الصفة الواحدة ، و هذا مستحيل عقلا، فقالوا : (( إن الله عالم قادر حي بنفسه ، لا بعلم و قدرة و حياة ))[21] . قال المعتزلي عباد بن سليمان (( : هو عالم قادر حي ولا أثبت له علماً ولا قدرة ولا حياة ولا أثبت سمعاً ولا أثبت بصراً وأقول : هو عالم لا بعلم وقادر لا بقدرة حي لا بحياة وسميع لا بسمع وكذلك سائر ما يسمى به من الأسماء التي يسمى بها لا لفعله ولا لفعل غيره  ))[22]  . و كان يقول أيضا : (( قولي عالم إثبات اسم لله ومعه علم بعلوم وقولي قادر إثبات اسم لله ومعه علم بمقدور وقولي حي إثبات اسم لله وكان ينكر أن يقال للبارئ وجهاً ويدين وعينين وجنباً وكان يقول : أقرأ القرآن وما قال الله من ذلك فيه ولا أطلق ذلك بغير قراءة ))[23] .

 

   و أقول: كلامهم هذا هو من تلاعباتهم و شقشقاتهم ، و سفسطاتهم و تلبيساتهم . إنهم يجمعون النفي و الإثبات في الصفة الواحدة و هذا مستحيل . فهم يزعمون أن الله عالم بلا علم ، و قادر بلا قدرة , .... . و معنى هذا أنه ليس عالما إذا لم يكن له علم ، و ليس قادرا بما أنه بلا قدرة . و مثال ذلك إذا قلنا : فلان مصلٍ بلا صلاة . أو فلان كاتب بلا كتابة . أو فلان آكل بلا أكل . معنى ذلك أنه ليس مُصليا ، و لا كاتبا ، و لا آكلا ،. و إنما عبرنا على عدم حدوث ذلك بتلك العبارات التي جمعت النفي و الإثبات في الصفة الواحدة من الناحية الظاهرية التي هي تناقض صريح صارخ ، مع أن معناها الحقيقي هو النفي لا الإثبات .

 

     فَهُم إما أن يُثبتوا لله تعالى الصفات التي تليق به ، فهو إذن مُتصف بها حقيقة ، و إما أن ينفوها عنه ، فلا يصح وصفه بها ، ثم نفيها عنه . و من جهة أخرى فهم بين أمرين لا ثالث لهما : الأول إن هم نفوها فهذا يوقعهم في مخالفة الشرع و العقل ، و يتطلب منهم سحب قولهم بإثبات الصفات، و يُوصلهم إلى نفي وجود الله تعالى أصلا ، لأن الكائن الذي لا صفات له، هو في الحقيقة غير موجود في الواقع ، فهو معدوم ، لأن المعدوم هو الذي لا صفات له . و الأمر الثاني إن هم أثبتوها ، فهذا هو الصحيح الموافق للشرع و العقل بحكم أنه لا كائن دون صفات ، و بما أن الله تعالى موجود فبالضرورة أنه مُتصف بصفات الكمال ، لكنه موقف يتطلب منهم سحب قولهم بنفي الصفات ،و ترك تلاعباتهم و مغالطاتهم ، كقولهم: عالم بلا علم، و قادر بلا قدرة، و الصفات عين الذات، و العلم هو هو ، و القدرة هي هو ، و غيرها من الشقشقات و السفسطات .  

  و من مظاهر انحرافهم المنهجي في الصفات ، أنهم يستخدمون التغليط و التلبيس لتمرير مقولاتهم و الانتصار لها . من ذلك قولهم : الصفات هي الذات ، و الصفات عين الذات . ثم يعودون و ينفون أن تكون الصفات تُعبر عن معنى حقيقي[24] . و هذه مقولات باطلة ، لأنه من البديهي أن الصفات ليست هي الذات، و هي تابعة لها بالضرورة ، و لا ذات دون صفات ، و لا صفات دون ذات .

 

  و منها قول القاسم الرسي المعتزلي ، ذكر أن من أقسام التوحيد هو (( الفرق بين الصفتين ، حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المُحدثين ))[25] .

     و قوله هذا فيه تغليط و تلبيس ، و يتضمن مفهوما غير صحيح لمعنى الإثبات و التنزيه ، و مخالف أيضا للشرع الصحيح و العقل الصريح ، و يُوقع في تناقض و انحراف كبير لا مخرج منهما . لأن الصواب في  معنى قوله هو أن نقول: الفرق بين صفات الخالق و المخلوق ،يكون بعدم تشبيه و تمثيل صفة كل منهما من جهة طبيعتها و حقيقتها ، لأن صفة كل منهما تابعة لذاتها . و لا نقول كما قال الرجل:"  حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المُحدثين " . فهذا كلام غير دقيق و لا يصح أيضا ، لأن الخالق و المخلوق هناك صفات تجمعهما كصفات بالمعنى والاسم ، و لا تختلف إلا من جهة طبيعتها و حقيقتها . فالله تعالى موجود ، و سميع ، و عالم ، و قادر ، و بصير ؛ و الإنسان مثلا هو أيضا موجود ، و سميع ، و عالم ، و قادر ، و بصير . فنحن وصفنا كلا منهما بنفس الصفات من جهة الإثبات و الاسم ، و الاختلاف يكمن في طبيعة و كنه صفات كل منهما التي هي تابعة لطبيعة الذات . و عليه فالصواب في إثبات الصفات يقوم على عدم المماثلة و عدم التسوية بين الخالق و المخلوق ، و ليس على عدم وصف القديم بصفة من صفات المُحدثين كما زعم الرجل . و كلامنا هذا هو من بديهيات العقل و الشرع . قال سبحانه : {  لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الشورى11- (( ليس كمثله    )) ، و { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ  وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} – سورة الإخلاص:1- . فالله تعالى نفى أولا مماثلة مخلوقاته له في ذاته و صفاته ، ثم أثبت لنفسه اتصافه بصفتي السمع و البصر على أساس التنزيه و عدم المماثلة  ، مع أنها من صفات الإنسان و الحيوان . فهذا هو المعنى الصحيح في الجمع بين الإثبات و التنزيه ، و ليس قول القاسم الرسي الذي غالط به الناس ،و خالف به الشرع و العقل معا .

 

  و منها أيضا أنهم أكثروا الكلام عن التنزيه و نفي التشبيه ،و أنهم أوّلوا الصفات فرارا من التجسيم و التشبيه و التكييف . لكنهم في الحقيقة انطلقوا من التشبيه و عادوا إليه !! . إنهم أوّلوا صفات وصف الله نفسه بها ، فنفوها عنه أولا بدعوى التنزيه ،و هذا لأنهم نظروا إليها بمنظار التشبيه لا التنزيه . ثم ثانيا نفوها عنه و وصفوه بصفات يتصف به البشر ، كوصفهم له بالاستيلاء في تأويلهم الفاسد لصفة الاستواء !! .

 

      و إنهم جعلوا كلام الله من مخلوقاته ، مع أن الصحيح هو من كلامه لا من مخلوقاته ، فهو من صفة الكلام الأزلية . فنفوا عنه هذا ، و شبهوا كلامه بمخلوقاته .

    و عندما أنكروا رؤية الله يوم القيامة و زعموا أنها مستحيلة في حق الله على أساس أن الرؤية تتطلب الجسمية و المقابلة ,و ... إلخ ؛ فوقعوا في التشبيه و انطلقوا منه . فنسوا أو  تناسوا أن هذا الموضوع لا يصح النظر إليه بهذا المنهج ، لأن الأمر يتطلب النظر إليه بمنهج عدم المماثلة زمانا و مكانا و ذاتا .

 

     فواضح مما ذكرناه أن هذا التناقض و التخبط في موضوع الصفات الإلهية سببه خطأ المعتزلة في مفهومهم لمعنى التنزيه و التشبيه من جهة. و انحرافهم عما قرره الشرع الصحيح و العقل الصريح في موضوع الصفات من جهة أخرى .

 

     و النموذج الرابع – من مظاهر انحراف المعتزلة منهجيا- يتعلق بغلو إبراهيم النظّام المعتزلي في مدح الشك . فذكر الجاحظ أن النظّام قال : ((خَمْسُون شكّاً خيرٌ مِنْ يَقِينٍ واحد ))[26] .

 

   و أقول : قوله هذا فيه باطل كثير و صواب قليل ، و لا يصح قوله بهذا الطريقة ، و هو شاهد على انحراف الرجل من جهة منهج البحث و الاستدلال . لأنه أولا إن اليقين هو الأصل و المطلوب و الغاية في العلم و الحياة ، و الشك ليس غاية ، و إنما هو وسيلة للوصول إلى اليقين إذا تعذر الوصول إليه بالبديهة ، أو بالطرق غير المُعقدة .  . فكيف إذن يصبح الشك عند النظّام غاية الغايات ؟؟!! ، و كيف نصل إلى اليقين إذا أهملنا طلبه و أصبح همنا هو الشك ؟؟. و ما ذا نفعل بالشك من أجل الشك ؟؟! , أليس الشك قلق و اضطراب ؟؟!! ، فكيف نطلبه و نترك اليقين المُؤدي إلى الثبات و اليقين و البناء ؟! , و هل يُمكن أن نمارس الشك بلا يقين ؟؟ كلا إن هذا غير مُمكن ، لأن كل ممارسة للشك طلبا لليقين لابد لها من يقين مُسبق تنطلق منه .  و من جهة أخرى فإنه لا يُمكن للعلوم أن تتطور إذا لم تطلب اليقين ، و في طلبها له تستخدم الشك انطلاقا من اليقين .

 

     و ثانيا إن الرجل بذلك الموقف خالف الشرع من جهتين : الأولى مفاده أن الشرع مدح اليقين و أهله و حث على طلبه ، كما في قوله سبحانه : {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ }البقرة2- ،و { قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ }البقرة118- (( ألم ذلك الكتاب لا ريب    يُوقنون )) ،و (  لقوم يوقنون )) ، و {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }الحجرات15-. و الجهة الثانية مفادها أن الله تعالى وصف الكفار و الضالين بإتباع الظن و عدم اليقين و الاستقرار ، و تقليب أحوالهم و ذمهم بها . كقوله : {وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً }النجم28-،{وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ }الجاثية24-،و {  وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ }التوبة45-  (( و ما لهم بذلك من علم إن هم  )) ، و  {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ }الأنعام110 - ،و {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }الحج53-  .

 

   و ثالثا إن الشك الذي فضله إبراهيم النَظّام ليس هو الشك العلمي الذي له مبررات صحيحة تدعوا إليه من أجل الوصول إلى الحقيقة ، و ليس هو من أجل الشك . فالشك العلمي ينطلق من اليقين بواسطة الشك طلبا ليقين لا يعرفه ، ليصل الإنسان إلى اليقين فتستقر نفسه و تسعد به من جهة ، و يبني عليه علومه و يُطوّرها و يُسخّرها لصالح الإنسان من جهة أخرى . و أما الشك الذي دعا إليه النظام و فضّله فهو شك عبثي من أجل الترف الفكري ، الذي يهدم العلم أكثر مما يبنيه ، و يُضيع الأوقات و الجهود من أجل الشك و الحيرة ، لا من أجل اليقين و السعادة و الاستقرار ، و تطوير العلوم . و من يفعل هذا و يدعوا إليه فهو إنسان مريض ، و عدو لنفسه و للعلم .

 

   علما بأن الباحث الذي يُمارس الشك العلمي مُنطلقا من اليقين و طالبا له بممارسته للشك العلمي ، يختلف اختلافا جذريا عن الباحث الذي حاله كحال النظام الممارس للشك العبثي من أجل الشك و الحيرة !! . فالأول هو العالم الباحث الموضوعي الذي يخدم العلم و الإنسانية ، و الثاني هو الباحث الذاتي العابث المُضيع لجهوده و أوقاته ، و المُضر بنفسه ، و المُفسد للعلوم و العقول و السلوكيات . ذ

 

     و أخيرا- رابعا - إن النَظّام بذلك القول يكون مُتناقضا مع مذهبه الاعتزالي. لأن مذهبه يدعي أنه أقام أصوله الخمسة على اليقين ، و أنه يُوصل أصحابه إلى اليقين في الدنيا و الآخرة[27] . فكان على النظام أن لا يتبنى هذا المذهب ، و لا أي مذهب آخر يقول أنه يقوم على اليقين ،و أنه يسعى لأجل اليقين ؛ و إنما كان عليه أن يتبنى مذهبا يقوم على الشك ،و يسعى من أجله .و هذا بحكم انه-أي النظام- جعل خمسين شكا خيرا من يقين واحد ، فماذا يفعل بهذه الشكوك إذا لم تكن شكوكا مشروعة، و لم  يكن اتخذها وسيلة للوصول إلى اليقين ؟؟!! . 

 

  و النموذج الخامس يتعلق بمغالطات معمر بن عباد السلمي(ق:3هـ) في معانيه ، و مفاده أنه قال: (( إن الأعراض لا تتناهى في كل نوع . وقال : كل عرض قام بمحل فإنما يقوم به لمعنى أوجب القيام ، وذلك يؤدي إلى التسلسل )) . وعن هذه المسألة سُمي هو وأصحابه أصحاب المعاني . وزاد على ذلك فقال (( : الحركة إنما خالفت السكون لا بذاتها بل بمعنى أوجب المخالفة وكذلك مغايرة المثل المثل ومماثلته وتضاد الضد الضد كل ذلك عنده بمعنى ))[28] .

 

      و قد شرح الباحث زهدي جار الله كلام مُعمر بقوله : (( إذا نظرنا إلى طاولة فوجدناها حمراء اللون كان ذلك لمعنى آخر، وكذلك إذا كانت كبيرة أو صغيرة يابسة أو لينة حديدية أو خشبية، كان كل ذلك لمعان خاصة حلت ... ويؤخذ من هذا أن الأساس في الطاولة هو ذاتها، لا ما يتعلق بها من الصفات، فالطاولتان لا تختلفان عن بعضهما بالذات، لأن ذاتها واحدة، بل تختلفان فيما يتعلق بهما من الصفات كالحركة والسكون، واللون والحجم، وغير ذلك وهي أمور عرضية لا أهمية لها، وقد فضل معمر أن يدعوها معاني بدل الصفات، لأنه ظن أن في هذا ما يخفف من جوهرية الصفات، ويقلل من أهميتها ))[29] .

 

     و أقول: هذا الرجل يُغالط و يُدلس من أجل الوصول إلى نفي الصفات الإلهية . فمن ذلك أنه أطلق اسم المعاني على الصفات لغاية في نفسه . و زعم أن الأعراض لا تتناهى في كل نوع . و هذا زعم باطل عقلا و واقعا و شرعا . لأن العالم مخلوق كله بكل ما فيه  بجواهره و أعراضه حسب تعبير المعتزلة . و من ثم لابد أن تكون أعراضه وجواهره متناهية بداية و نهاية . و هذا أمر ثابت شرعا و علما . كما أن الرجل لا أدري هل لا يعرف الفرق بين الإمكان العقلي ، و الإمكان الواقعي ، أو أنه يعرف ذلك، و إنما قاله لغاية في نفسه !.  فمن الناحية النظرية يُمكن للأعراض أن لا تتناهي من جهة العدد ، لكنها في الواقع متناهية حتما بحكم أن العالم كله مخلوق .

 

    و مثاله الذي ذكره يخص المخلوقات و لا يصح ذكره و لا تطبيقه في حق الخالق عز وجل ، فهو سبحانه أزلي بذاته و صفاته، و لا يصح  نسبة أعراض المخلوقات إليه سبحانه و تعالى .

 

    و الصحيح هو أن مخالفة الحركة للسكون ليس كما زعم الرجل هو لفرق عرضي سطحي غير أصلي ، بمعنى هو لصفة عرضية لا أصلية . و إنما الصحيح هو أن السكون له صفة أصلية ، و الحركة كذلك، فكل منهما له صفة أصلية يقوم عليها . فكل منهما خالف الآخر بذاته  لصفة هي أصلية فيه .

 

     و أما حكاية مماثلة المثل لمثله ، و مخالفة الضد لما يضاده ، فهما مثلان لا يصحان . لأن الأشياء المتماثلة في جوهرها ، و المختلفة في أعراضها ، عما في الأصل لها ذات واحد لها صفات أساسية أصلية مُتشابهة تجمعها . و الأشياء المختلفة فيما بينها لها ذوات مختلفة بصفات أصلية أساسية . و لا يصح إهمال هذا و التركيز على الصفات العرضية لنفي الذوات و صفاتها الأساسية التي لا يُمكن أن تنفك عنها . و هذه الأمثلة كلها لا تنطبق على الله تعالى ، و إنما هي تنطبق على المخلوقات ،و لا يصح تطبيقها على الخالق بنفس الطريقة . و عليه فإن محاولة معمر هي محاولة تمويهية تدل على تغليطه و تلاعبه، و لا تدل على عبقريته و إخلاصه للعلم .

 

   و النموذج السادس يتعلق بأوهام و تلبيسات أبي هاشم الجبائي البغدادي(ق: 4هـ) في أحواله ، و مضمونه أنه أطلق اسم الأحوال على الصفات ، فأثبت (( أحوالاً هي صفات: لا موجودة ولا معدومة، ولا معلومة ولا مجهولة ))[30].

 

    و أقول: كلامه هذا قول بلا علم منهجا و مضمونا ، فأما منهجا فالرجل تكلم في أمر لا يُمكنه إدراكه، و لا له عليه دليل يُثبته من الشرع و لا من العقل . فمن أين له بأن صفات الله هي كما زعم ؟؟!! . فهذا انحراف كبير عن منهج الاستدلال العلمي ، يكفي وحده لرفض زعمه من أساسه ، و إلحاقه بالأهواء و الظنون ، و الهذيانات و الحماقات.

 و أما مضمونا فَتصوّر كلامه يكفي وحده لإبطاله ، فلا يُمكن أن نثبت صفات ثم هي لا موجودة و لا معدومة ؟؟!! . و هل يُوجد كائن هو وسط بين الموجود و المعدوم ؟؟!! ، كلا لا يُمكن أن يوجد ، فإما أنه موجود، و إما أنه غير موجود . فهذا هو الذي يقوله الشرع و العقل و العلم . فهل هذا الرجل لا يعي ما يقول ، أو أنه يتعمد قوله لغاية مذهبية في نفسه ؟! .

 و من أين له بأن تلك الصفات لا معلومة و لا مجهولة ؟؟، و هل يُمكن أن توجد صفات هذه حالها ؟! ، و هل يُمكن تصوّرها ؟! ،و بما أنه لا يُمكن تصوّرها حقيقة، فلماذا تكلم بلا علم ؟!.

 

   و الحقيقة هي أن هذا الرجل قرر موقف أصحابه في نفي الصفات ، فنفاها بهذا التغليط و الهذيان ، و التلاعب بالألفاظ . فإذا كانت الصفات لا موجودة و لا معدومة ، فالنتيجة النهائية أنها غير موجودة ،و لا يصح وصفها بعد ذلك بأنه لا معدومة، و إذا كانت لا معلومة و لا مجهولة ، فهي في النهاية ليست معلومة ، و لا يصح وصفها بعد ذلك بأنها لا مجهولة . فهذا هذيان و سفسطة و ليس من العلم في شيء .

 

    و النموذج السابع يتعلق بانحراف المعتزلة منهجيا في تقرير أصول الدين حسب رغباتهم و مذهبيتهم . من ذلك أن المحسن بن كرامة الجشمي المعتزلي( ت: 457هـ ) قال : (( أصول الدين أربعة: علوم التوحيد، وعلوم العدل، وعلوم النبوات وعلوم الشرائع    ))[31] .

 

    و أقول: قوله هذا ناقص و لا يصح في مجمله كتعريف لأصول الدين . لأنه أولا كان عليه أن يذكر دليله من الشرع ، لأن الأولى و الأحق بتعريفة هو الله تعالى وحده ، أو رسوله المُبلّغ عنه . و لا يحق لأي إنسان شرعا و لا عقلا أن يتقدم على الله و رسوله بتحديد أصول الدين و أركان الإسلام . فهذا الرجل يزعم العقل و هو قد خالفه هنا و قدم خلفيته المذهبية على الوحي الصحيح و العقل الصريح !!! . فكان من الواجب عليه شرعا و عقلا أن يعود إلى الوحي الصحيح و يذكر النصوص التي تُعرّف أصول الدين و تُحددها . لكنه لم يفعل هذا ، و قرر مباشرة مذهب المعتزلة باسم دين الإسلام ، و كأن مذهبه هو الوحي الصحيح . و هذا  سلوك لا يصح ، و مردود على صاحبه .

 

    و التعريف الصحيح لأصول الدين و أركان الإيمان و الإسلام ، موجود في الشرع وحده و ليس عند المعتزلة ، و لا يحق لهم و لا لغيرهم أن يُعرف أصول الدين و أركان الإيمان و الإسلام من خارج الدين نفسه ، و من يُخالف هذا فهو مُتبع لهواه و ليس متبعا لدين الإسلام . و فيما يخص أصول الدين و الإيمان فهي واضحة مُتجلية في آيات كثيرة ،  منها قوله تعالى : ((  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }النساء136- . فهذه هي أصول دين الإسلام الإيمانية الأساسية  فهي خمسة ، و ليست أربعة كما ذكر الرجل ، و ليس من بينها علوم العدل الاعتزالي ، و لا علوم الشرائع .  لأن الشرائع هي من أركان الإسلام و ليست من أركان الإيمان ، لقوله عليه الصلاة و السلام : ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله و إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان ))[32] . فالرجل كوّن أصولا منها ما هو من أركان الإسلام ، و منها ما هو من أصول الإيمان ، على أساس مذهبه الاعتزالي ، و ليس انطلاقا من الشرع نفسه . و هذا انحراف منهجي خطير معروف عن المعتزلة بسبب تقديمهم لآرائهم و أهوائهم على الوحي الصحيح و العقل الصريح .

 

     و النموذج الثامن يتعلق بالاجتهاد و مفاده أن  المحسن الجشمي قال : ((فإن قيل: هل يجوز أن تستوي الدلائل في مسألة فيها خلاف؟. قلنا: أما في الأصول فلا؛ لاستحالة أن يكون كلامهما حقاً، فأحدهما يكون حجة والآخر شبهة، كما نقول فيما نفى التشبيه أنه أدلة، وما أثبته فشبهة؛ لاستحالة أن يكون لله تعالى شبهٌ ولا شبه له، وكذلك المكان، وكذلك الرؤية، وجميع مسائل التوحيد، فلهذا أبطلنا قول من قال بتكافؤ الأدلة، وكفّرنا القائلين بها. فأما في فروع الشرع ومسائل الاجتهاد، فعند مشايخنا يجوز أن تستوي، ويكون التعبد لكل واحد بما أدّى اجتهاده إليه ويكون كل مجتهد مصيباً )) [33] .

 

    و أقول: الصواب هو أنه لا يُمكن أن يكون كل مجتهد مُصيبا للحق عندما تختلف اجتهادات المجتهدين في حالة اجتهادات التناقض لا التنوّع ، سواء تعلقت بأصول الدين أو بفروعه. ففي حالة الاجتهادات المتناقضة لا يُمكن أن يتعدد الحق، و من ثم لا يكون كل مجتهد مصيبا للحق . و أما في حالة الاجتهادات المتنوعة غير المتناقضة ، فيُمكن أن يكون كل مجتهد مُصيب بما أصاب من الصواب الذي عنده . فهذا الذي يُسمى اختلاف التنوّع لا التناقض . و الشاهد على أنه ليس كل مجتهد مُصيب في الفقه و غيره ، هو حالة اختلاف التناقض ؛ فهو مخالف للشرع و العقل ، فأما من الشرع ، فمنه قوله تعالى : {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ }يونس32-. و قد صح جاء عن النبي- عليه الصلاة و السلام- أنه قال : ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران و إذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد  ))[34] . فهذا الاجتهاد فيه المُخطئ و المُصيب ، فالمصيب له أجران لاجتهاده و إصابته للحق ، و المُخطئ له أجر واحد على اجتهاده لا على خطئه .

  و أما من الناحية العقلية ، فإن تصوّر الاجتهادات من نوع اختلاف التناقض يكفي وحده للحكم على عدم صحة و صواب كل الاجتهاد بدعوى : كل مُجتهد مُصيب . لأن هذا النوع من الاجتهاد قائم على النفي أو الإثبات ، كقولنا: موجود أم غير موجود، حرام أم حلال ، خطأ أو صواب  . و أما النوع الثاني من الاجتهادات ، فهو يقوم على اختلاف التنوع الذي يحتمل عدة أوجه من دون تناقضها  ، و في هذه الحالة يكون كل مُجتهد له نصيب من الصواب بقدر قوة اجتهاده .

    و النموذج التاسع مضمونه أن المؤرخ ابن الجوزي ذكر أن عمرو بن عبيد  كان يقول : إن كانت  {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ }المسد1- ،  فما على أبي لهب من لوم  ))[35] . و في رواية  الذهبي : (( و قال معاذ بن معاذ: سمعت عمراً يقول: إن كانت تبت يدا أبي لهب في اللوح المحفوظ فمالله على ابن آدم حجة ))[36] .

 

     و أقول: هذا نموذج لسوء فهم المعتزلة للشرع و لموضوع قضاء الله و إرادته و مشيئته ، و قد سبق أن توسعنا في هذا الموضوع و بينا خطأ المعتزلة في موقفهم منه ،و ذكرنا الصواب المُؤيد بالشرع و العقل معا ، فلا نعيده هنا . لكن الذي يهمنا منه هنا هو أن شيخ المعتزلة عمرو بن عبيد و أصحابه يفتقدون إلى المنهج الصحيح في مجال الفهم و الاستدلال المتعلقين بالشرع و العقل و العلم عامة . لأن اعتراض عمرو بن عُبيد على القرآن الكريم ، هو اعتراض باطل ،و فيه جهل و غرور ، و رعونة نفس ؛ لأن سبق العلم الإلهي بما سيفعله أبو لهب و غيره من الناس لا يعني جبرا و لا قهرا ، و لا ظلما ،و إنما هو من كمال العلم الإلهي بحكم أنه سبحانه علام الغيوب، فهو انكشاف لا جبر فيه و لا قهر. و لا يصح أبدا أن يكون الإله جاهلا بما سيحدث قبل أن يخلق . و من ينفي عنه هذا فقد سواه بالإنسان الذي لا يعلم إلا أثناء حدوث الأمر و بعده ، بل قد يستطيع أن يتنبأ بأمر ما و يحدث كما تنبأ به ، فما بالك بالله تعالى ؟؟!! . فهو سبحانه أولى أن يكون عالما بما يكون و ما سيكون ، و علمه  مُطلق لا احتمال فيه ولا تنبؤ . لكن هذا الرجل اعترض على خالقه بجهله و غروره و سوء فهمه ، بسبب انحرافه المنهجي القائم على خلفيته الاعتزالية الزائفة ، التي أفسدت عليه فكره و منهجه و سلوكه .

 

   و النموذج العاشر يتعلق بمفهوم عصمة النبي عند المعتزلة ، و فيه يقول المحسن الجشمي : ((  ويُعلم أنه لا يرتكب كفراً وفسقاً وما ينفر من صغيرة أو مباحٍ، ويُعلم أنه كان معصوماً قبل البعثة )) [37] . و ((قد بيّنا أن من صفة الرسول أن يكون معصوماً قبل البعثة وبعدها، ولا تجوز عليه الكبائر والمنفرات، ولا يجوز فيما يؤدي إلى الغلط والنسيان )) [38] .

 

   و أقول : كلامه هذا فيه حق و باطل ، فلا شك أن النبي مُنزه عن الكفر ،و عن الكبائر و التعمد في فعل المعاصي . لكن النبي جائز في حقه الخطأ و النسيان ،و فعل الصغائر قبل نبوته و بعدها ، لكن الوحي يتدخل لإرجاعه إلى الصواب في المواضع التي يُخطئ فيها و لا يُقره على خطأ أبدا . فعصمة النبي ليست ذاتية داخلية قهرية بحيث تجعل النبي مجبورا على الاستقامة فلا يستطيع المُخالفة أبدا من جهة الإمكان ، و إنما هو بشر يبقى عرضة للخطأ و النسيان ،و الوقوع في الصغائر، لكن الوحي هو الراعي و العاصم له يتدخل عندما يتطلب التدخل لتصويب سلوكه . و كلامنا هذا لم نقله من رغباتنا و ظنوننا و خلفياتنا المذهبية كما فعل المعتزلة و أمثالهم ، و إنما أخذناه من الشرع ، و قد دلت عليه نصوص شرعية كثيرة . منها أن أبانا آدم - عليه السلام – صدرت عنه أخطاء فعاتبه الله تعالى عليها ، كقوله سبحانه : { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }طه121- ، و{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً }طه115-. و منها ما فعله النبي يُونس –عليه السلام - ، قال سبحانه : {وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ }الأنبياء87-.

 

  و  منها قتل النبي – موسى- لأحد المصريين ، و اعترافه بذنبه و استغفاره لله و غفرانه ، قال سبحانه : { فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ }القصص15-16- . و منها طلب موسى من الله رؤيته ، فلم يستجيب الله له ، فلو كان معصوما من ذاته ما أخطأ في طلبه . قال سبحانه : {وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ }الأعراف143- . و منها معاتبة الله تعالى لخاتم أنبيائه محمد- عليه الصلاة و السلام- في حادثة الأعمى ابن أم مكتوم ، قال سبحانه:{ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءهُ الْأَعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى  فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى  وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى  وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى وَهُوَ يَخْشَى  فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى }سورة عبس: 1-10-  . فلو كان فعل النبي كاملا لا نقص فيه ما عاتبه الله تعالى بذلك . و منها أنه لو كان عمل النبي- عليه الصلاة و السلام- كاملا صوابا لا نقص فيه لما عتابه الله تعالى في أسرى بدر ، و بل اشتد في معاتبته . قال سبحانه : {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}الأنفال67-68- .

 

    و منها أن القرآن ذكر أن النبي ليس معصوما عصمة جبرية قهرية من ذاته ، بحيث لا يُمكنه أن يخالف الشرع كما زعم المُحسن الجشمي، و إنما هو يستطيع أن يُخالف الشرع من جهة إرادته و قدرته على الفعل . و الشاهد على هذا قوله تعالى : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }الزمر65-  ، و { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى }طه121، و{وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً }الإسراء74-  .

 

 و منها أن القرآن أشار صراحة إلى أن للنبي –عليه الصلاة و السلام- له ذنوب ، و أمره بالاستغفار . كقوله سبحانه : {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً }الفتح 2- ،و{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }محمد19-،و {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }غافر55- . صحيح أن تلك الذنوب هي من الصغائر ، لكنها ذنوب في النهاية ،و لو لم تكن كذلك ما أشار إليها الله تعالى ،و أمر نبيه بالاستغفار منها ،و لو كان الرسول معصوما عصمة داخلية جبرية ما صدرت عنه تلك الأخطاء و النقائص ، فتلك الآيات شواهد دامغات على أن النبي يُمكن أن يُخطئ ،و يرتكب ذنوبا .

 

    و منها أيضا أنه صحت وقائع وردت في السنة النبوية أخطأ فيها نبينا – عليه الصلاة و السلام - . منها أنه سها في الصلاة أكثر من مرة ، فقد روي البخاري بإسناده : ((أخبرنا مالك بن أنس عن ابن شهاب عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله ابن بحينة رضي الله عنه أنه قال: صلى لنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ركعتين من بعض الصلوات ثم قام فلم يجلس فقام الناس معه فلما قضى صلاته ونظرنا تسليمه كبّر قبل التسليم فسجد سجدتين وهو جالس ثم سلم )) . و (( حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن الأعرج عن عبد الله ابن بحينة رضي الله عنه أنه قال:  إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام من اثنتين من الظهر لم يجلس بينهما فلما قضى صلاته سجد سجدتين ثم سلم بعد ذلك )) . و ((  حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن الحكم عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- صلى الظهر خمسا فقيل له أَزِيد في الصلاة فقال:  وما ذاك؟ ،  قال: صليتَ خمسا،  فسجد سجدتين بعد ما سلم )) . و (( حدثنا آدم حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: صلى بنا النبي- صلى الله عليه وسلم- الظهر أو العصر فسلم ؛  فقال له ذو اليدين: الصلاة  يا رسول الله أنقصت ؟، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-  لأصحابه: أحق ما يقول ؟ ، قالوا: نعم فصلى  ركعتين أخريين ، ثم سجد سجدتين ))[39] .

 

   و منها أن النبي –عليه الصلاة و السلام-  قال: ((« إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو مما أسمع منه فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار »[40] .

 

     و منها حديث أنس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- مر بقوم يلقحون فقال: « لو لم تفعلوا لصلح ». قال: فخرج شيصا فمر بهم فقال :« ما لنخلكم ». قالوا قلت كذا وكذا قال « أنتم أعلم بأمر دنياكم »[41] .

 

   و أما إذا قيل : أليس القول بما ذكرته هو نقض للنبوة ، و الرسالة لأننا أُمرنا بإتباعه ، فكيف نتبعه و هو عرضة للخطأ و النسيان ؟؟ . فأقول :  نحن لم ننف عنه العصمة ، و إنما أثبتناها للنبي على أساس أنه ليس معصوما من داخله عصمة جبر و إكراه و قهر ، و إنما هو بشر مُختار معصوم من الله تعالى و موجه منه ، فإذا ما صدرت عنه أخطاء اجتهادية تدخل الوحي و صوّبه و قوّمه ، و لا يُقره على خطأ إما عن طريق تدخل الوحي مباشرة ، و إما عن طريق تذكير الصحابة له ، فيتحقق الهدف من أن النبي-عليه الصلاة و السلام- لا يقٌره الله تعالى على خطأ . فهذا هو الصواب، و ليس قول المعتزلة الذي بينا أنه مخالف للشرع و الحوادث التاريخية الصحيحة ، لأنهم أقاموه على مذهبيتهم و أهوائهم ، و لم يُقيموه على حقائق الوحي و التاريخ ، و الله تعالى أعلم بالصواب .

 

  و  النموذج الأخير- الحادي عشر- يتعلق بخطأ المعتزلة في موقفهم من أفعال العباد ، فهم خالفوا الشرع و العقل و الواقع عندما قالوا بأن الإنسان خالق أفعاله ، كما سبق أن بيناه في الفصل الثاني . لكنهم من جهة أخرى ظهر فيهم من خالفهم في موقفهم هذا ، باتخاذ موقف آخر غير صحيح أيضا ، فكان  ثمامة بن أشرس المعتزلي يقول: (( و أنه لا فعل للعباد إلا الإرادة . و سوى ذلك لا يُنسب إلى فاعل ، بل هو حدث لا مُحدث له في الحقيقة )) . و وافقه على ذلك أبو عثمان الجاحظ بأنه (( لا فعل للعباد على الحقيقة إلا الإرادة )) .و أن (( سائر الأفعال أنها تُنسب إلى العباد على أنها وقعت منهم طباعا ))[42] . فهذا زعم باطل ، قابل به ثُمامة و الجاحظ باطل معظم أصحابهم في قولهم بخلق العباد لأفعالهم . فالطرفان على خطأ ، و كل منهما خالف الشرع و العقل و الواقع في موقفه . أليس من التحريف و التغليط و التلبيس القول بأنه ليس للإنسان فعل على الحقيقة إلا الإرادة ؟؟!! . فمن الذي عمّرّ الأرض و أقام الحضارات قديما و حديثا ؟؟، أليس الإنسان هو الذي فعل ذلك ، و هل كان في مقدوره القيام بذلك لو لم يكن مريدا مختارا فاعلا مؤثرا على الحقيقة في الطبيعة ؟؟!!. و هذا يعني بالضرورة أن ثمامة و الجاحظ تعمدا إنكار الحقائق الثابتة الملموسة و المحسوسة لغايات في نفسيهما !!.

 

   و قبل إنهاء هذا المبحث أذكر هنا ثلاثة مزاعم معتزلية تتعلق بمنهج الفهم و الاستدلال عند المعتزلة ، ثم نرد عليهم فيها . الأول مضمونه أن القاضي عبد الجبار قال : (( فمن فكر في الأسانيد، علم أن طريقة المعتزلة في ذلك أقوى ،لو كان طريق علمهم التقليد، فكيف وطريقهم في ذلك الأدلة القاطعة، و قد بينوها بحجج العقل و الكتاب و السنة و الإجماع ))[43].

 

    و أقول: قوله هذا غير صحيح في معظمه ، و ليس فيه من الصواب إلا القليل ، و قد سبق و أن بينا بالأدلة الدامغة أن المعتزلة خالفوا الشرع و العقل في معظم أصولهم . و أنهم بنوها على الظنون و الأهواء، و على التغليط و التدليس . بل إنهم بنوا بعضها على المستحيلات و إنكار البديهيات . هذا إلى جانب ممارستهم للتحريف و الإغفال و الانتقاء في تعاملهم مع النصوص الشرعية . و كل هذا الذي أشرنا إليه و غيره سبق أن وثقناه و بينا تهافته شرعا و عقلا فلا نعيده هنا .

 

   و الزعم الثاني مفاده أن المعتزلي محمد بن يزداد الأصبهاني  زعم أن من خصائص مذهب الاعتزال و أهله أن المعتزلة أنهم (( هم المقتصدة، فاعتزلت الإفراط و التقصير، و سلكت طريق الأدلة، وذكر أن المعتزلة الأولى هم أصحاب محمد صلى الله عليه، لأنهم كانوا يدا واحدة يتولى بعضهم بعضا، و اتفقوا على هذه الأصول ))[44] .  

 

    و أقول: كلامه غير صحيح كله تقريبا، و هو زعم و ليس دليلا ، و الزعم لا يعجز عنه أحد ، و لا عبرة في المزاعم الجوفاء . و قد سبق أن بينا بالأدلة الدامغة أن المعتزلة غلاة مُتطرفون ،و ليسوا مقتصدة في الشرع و لا في العقل . من ذلك أنهم نفوا الصفات الإلهية ، و أقاموا موقفهم فيها على التناقض و المستحيلات ، و ألّهوا آراءهم و أهواءهم باسم العقل ، و قدموها على الشرع الصحيح ،و العقل الصريح منهم بريء . إنهم كذبوا على الشرع و العقل معا ، و ليس عندهم منهما إلا القليل . لأن انحرافهم المنهجي في الفهم و البحث و الاستدلال أوردهم المهالك ، تجلت في كثرة أخطائهم و انحرافاتهم المنهجية ، مقابل قلة صوابهم .

 

   و اما زعمهم بأنهم أصحاب الأدلة و الشرع و العقل ، فهذا مجرد زعم و ليس حقيقة ، و كل الفرق تدعي لنفسها ذلك ،و ليس هذا خاصا بالمعتزلة . و الحَكَم هنا هو الشرع الصحيح و العقل الصريح ، و العلم الصحيح ، و ليست المزاعم ولا المذاهب هي الحَكَم ؛ و نحن قد سبق أن بينا بطلان معظم أصول المعتزلة و مخالفتها للشرع و العقل معا .

 

   و أما حكاية أن الصحابة هم المعتزلة الأولى ، و كانوا على أصول المعتزلة ، فهذا زعم باطل قطعا تاريخا و شرعا ، و زعمهم هذا لا يجعلهم كذلك، لأن كل طوائف أهل القبلة المنتمية للإسلام تدعي نفس هذا الزعم ، لأنها تعلم أن عدم قولها بذلك يعني أنها حكمت على نفسها بأنها ليست من أتباع الإسلام و لا من أهله . فهذا زعم ، و الزعم ليس دليلا ، و هو زعم باطل قطعا ، لأن الصحابة كانوا على طريقة القرآن الكريم و السنة النبوية الصحيحة الموافقة له ، و لم يكونوا على مذهب المعتزلة ، لأنه سبق أن أقمنا الأدلة القطعية على مخالفة المعتزلة للقرآن الكريم في معظم أصولهم . و بما أن هذا هو حالهم ، فإنه لا يُمكن أن يكون الصحابة سلف المعتزلة في أصولهم .

 

 و الزعم الأخير- الثالث- مفاده أن القاضي عبد الجبار قال : إن أصل مذهب المعتزلة إتباع الدليل، و هذا هو الواجب ، و أن (( من خالفنا في الكثرة ، فطريقهم التقليد ـ و ما يجري مجراه ))[45]

 

     و أقول: هذا مجرد زعم ، و الزعم ليس دليلا ، و لا يعجز عنه أحد . و كل طائفة إلا و تدعي أن مذهبها قائم على الدليل الصحيح من الشرع و العقل . و لم أر طائفة من الطوائف قالت: إن مذهبها يقوم على الأباطيل و الأوهام ، و مخالفة العقل و العلم !! . فالمعتزلة لا يختلفون عن غيرهم من الطوائف في قولها بذلك ، و لا الطوائف المخالفة لها تُقر لها بما قالته المعتزلة . فهم لا يختصون بذلك و لا يتميزون به عن غيرهم من أتباع الطوائف الأخرى .

 

       و قد سبق أن ناقشنا مذهب المعتزلة و تبيّن أن معظم أصوله مبنية على مخالفة الدليل الصحيح من الشرع و العقل معا . و أما حكاية التقليد فلا تصح هي أيضا ، لأن أي مذهب إلا و له علماء مجتهدون نظّروه و قعّدوه ، و دوّنوه و نشروه من جهة ، و له أتباع عوام يُقلدون علماء مذهبهم . و بما أن هذا صحيح فللمذهب المعتزلي عوام مُقلدون ، كغيره من المذاهب  . و هم في معظم أصولهم مُتبعون فيها لأهوائهم و ظنونهم لا للشرع و لا للعقل ، كما سبق أن بيناه .

 

    و استنتاجا مما ذكرناه يتبين أن المعتزلة كانوا أصحاب منهج مُنحرف قاصر لا يصلح أساسا للفهم الصحيح ،و لا للبحث و الاستدلال ، أقاموه على آرائهم و أهوائهم و خلفيتهم المذهبية ، أكثر مما أقاموه على الشرع الصحيح و العقل الصريح  بفارق كبير جدا .

 

   و أُشير هنا إلى أم هام جدا مفاده أن انحراف المعتزلة عن المنهج الصحيح في مجال الفهم و البحث و الاستدلال ، قد أشار إليه بعض علماء الإسلام قديما ، أشاروا إليه في صدد ردودهم على الجهمية و المعتزلة معا في تحريفاتهم للشرع و تأويلاتهم الفاسدة له . أذكر منهم اثنين : الأول هو الإمام أحمد بن حنبل (ق: 3هـ) ، من كلامه في نقد هؤلاء قوله : ((الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب . يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم ، يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جُهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتنة المضلين ))[46] .

   و الثاني هو الفقيه ابن بطة العكبري البغدادي( ق: 4هـ) ، انتقدهم بقوله: (( و لكن قلوب الجهمية في أكنة ، وعلى أبصارهم غشاوة ، فلا يعرفون من الكتاب إلا ما تشابه ، ولا يقبلون من الحديث إلا ما ضعف وأشكل ... والجهمي يقصد لما كانت هذه سبيله ، فيتأوله على المعنى الذي يوافق هواه ، ولا يجعل له وجها غيره ، والله يكذبه ويرد عليه هواه ))[47]  .

 

ثالثا: نقد منهج المعتزلة في مجال نقد الأخبار:

  اُخصص هذا المبحث لعرض طريقة المعتزلة في تعاملهم مع الأحاديث النبوية و الأخبار التاريخية ، من جهة صحتها و ضعفها . فهل حققوها في مواقفهم منها ؟، و هل نقدوها إسنادا و متنا أم من جهة واحد فقط ؟ ،و هل كانوا أصحاب منهج في نقد الأخبار و التزموا به في تحقيقها ، أم لم يكونوا كذلك ؟؟ . هذا ما سيتبين من خلال المطالب الآتية:

 

(أ) نماذج من تعامل المعتزلة مع الأحاديث النبوية:

      ليتبين لنا منهج تعامل المعتزلة مع الأحاديث النبوية من جهة صحة ثبوت نسبتها إلى النبي- عليه الصلاة و السلام- من عدم ثبوتها ، نورد هنا سبعة أحاديث  كنماذج من باب التمثيل لا الحصر، تكشف عن منهجهم في نقد الأحاديث النبوية . منها ستة أحاديث ذكرها القاضي عبد الجبار ، و واحد ذكره المُحسن الجشمي . 

 

      فبالنسبة لأحاديث عبد الجبار فأولها قوله : (( و رُوي عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم- أنه قال: " كان الله و لا شيء ، ثم خلق الذكر ، و ما خلق الله من سماء و لا أرض أعظم من آية الكرسي " )) [48].

 

  و أقول:  إن الرجل استشهد بحديث نسبه إلى النبي-عليه الصلاة و السلام- من دون أن يُحققه إسنادا و لا متنا ،و لا أشار إلى حاله من جهة الصحة و لا الضعف ، لكن بما أنه استشهد به تأييدا لمذهبه، فهذا يعني أنه مال إلى أنه صحيح ، و إن كان قد ذكره بلفظ التضعيف و التمريض لا التأكيد و التثبيت ، فقال: (( و رُوي عن رسول الله – صلى الله عليه و سلم- أنه قال: ... )) . لكن هذا لا يكفي فكان عليه أن يحققه فإما أن يُضعفه، و إما أن يُصححه .

 

     و واضح من الحديث الذي ذكره أنه لم يكن مهتما بالحديث من جهة صحته و ضعفه، و إنما كان همه الاحتجاج به لمذهبه ، بكل ما يستطيع، حتى و إن كان ضعيفا ، أو أنه كان جاهلا بمنهج نقد الخبر عند المحدثين . لهذا لم يهتم بالحديث من جهة صحته أو بطلانه . و الشاهد الدامغ على هذا هو أن الحديث الذي أورده ليس حديثا ، و إنما تضمن جزءاً من حديث ، و قولا مأثورا عن الصحابي عبد الله بن مسعود ، و عبارة زائدة ليست صحيحة . ففيما يخص الجزء من الحديث كما رواه عبد الجبار فهو (( كان الله و لا شيء )). هذا الجزء هو جزء من حديث صحيح ، و ليس جزءاً من الحديث الذي أورده الرجل . و الحديث بكامله كما رواه البخاري : (( كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء .. ))[49] . واضح منه أنه لم يتضمن العبارة الزائدة التي أشرنا إليها ، و هي (( ثم خلق الذِكر )) التي وردت هكذا عند عبد الجبار : (((( كان الله و لا شيء ، ثم خلق الذِكر  )) ، و إنما تضمن العبارة الصحيحة :(( و كتب في الذكر كل شيء )) .   

 

   و أما القول المأثور- الذي جعله الرجل حديثا نبويا- فقد  رواه الترمذي و لم يرفعه : (( حدثنا محمد بن إسماعيل قال : حدثنا الحميدي حدثنا سفيان بن عيينة في تفسير حديث عبد الله بن مسعود قال: ما خلق الله من سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي . ))[50] .

 

   و الحديث الثاني ذكره عبد الجبار بقوله : (( و روى سيف بن عمر في المغازي عنه عليه السلام أنه قال: " إن الله خلق القرآن عربيا في كلامه " [51].

  و أقول : إن الرجل لم يذكر درجة الحديث، و لا ذكر له إسنادا ،و لا حققه سندا و لا متنا . و قد بحثتُ عنه كثيرا في كتب الحديث و شروحه ، و في التفاسير و علوم القرآن ،و في كتب الرجال و التراجم و التواريخ فلم أعثر له على ذكر بلفظه و لا بمعناه .

                

   و الحديث الثالث ذكره عبد الجبار بقوله : (( فأما أبو حذيفة واصل بن عطاء ، فقد رُوي في كتاب المصابيح عن النبي –عليه السلام- أنه قال : " سيكون في أمتي رجل يُقال له واصل يصل بين الحق و الباطل ))[52].

 

   و أقول: لم يذكر عبد الجبار لهذا الحديث إسنادا ،و لا حقق متنه. و قد بحتُ عنه في كتب الحديث و الجرح و التعديل ،و التراجم و السير و التواريخ ، و التفاسير و كتب الأدب و غيرها فلم أعثر عليه، و لا وجدت له ذكرا ، و هذا يعني أننا لا يُمكننا تحقيقه من ناحية الإسناد من جهة ، و عدم وعثورنا عليه يكفي وحده لرد الحديث. من دهة أخرى . و حتى إذا فرضنا جدلا أن الحديث صحيح ، فهو ليس صريحا بأنه يتكلم عن شيخ المعتزلة واصل بن عطاء ، فالحديث ذكر رجلا اسمه واصل و لم يحدده ، فمن الجائز أنه يتكلم عن رجل آخر قد يكون معاصرا لشيخ المعتزلة ، و قد يظهر قبله ، أو سيكون بعده . و قد وُجدت شخصيات كانت معاصرة لابن عطاء هذا ، اسمها واصل ، منهما : واصل بن حيان الأحدب ألأسدي الكوفي ،و واصل بن السائب الرقاشي ، و واصل بن عبد الأعلى بن هلال ألأسدي[53] . فعلى أي أساس جعل عبد الجبار ذلك الاسم خاصا بشيخ المعتزلة واصل ابن عطاء؟! ، ليس عنده أي دليل صحيح يُثبت ذلك ، فأين النقد و العقل يا معتزلي ؟! . واضح أن الحديث صادف هوى في نفسه فاستخدمه انتصارا لمذهبه !! .

 

   و الحديث الرابع مفاده أن عبد الجبار ذكر أن أبا الهذيل العلاف روى حديثا مُتصلا في مدح واصل بن عطاء ، فقال : (( و حُكي أنه وجد لأصحابنا بإسناد متصل عنه صلى الله عليه يقول:" واصل ، و ما واصل ، يصل به الله الدين " )) [54] .

 و أقول: إن قوله هذا فيه تلبيس و تغليط ، لأنه ذكر أن الحديث وُجد مُسندا مُتصلا ، لكنه أورده دون إسناد ، فأين هذا الإسناد لكي نراه ، ثم نحققه لنعرف صحته من سقمه . فلماذا لم يُورده ؟! .

 

    و لا أدري هل هذا الرجل لا علم له بأساسيات علم الجرح بالتعديل فتكلم بلا علم، أم أنه تعمد ذكر ذلك لغاية في نفسه . لأن قوله : ((و حُكي أنه وجد لأصحابنا بإسناد متصل عنه صلى الله عليه ...)) . يشهد على عدم اتصال الإسناد ، فقوله: (( و حُكي أنه وُجد ... )) ، هو قول مبني للمجهول ، فمن الذي حَكى ؟، و من الذي وَجد ؟، و كلمة (( حُكي)) ليس فيها تصريح بالسماع ، و لا بالتحديث ، و لا بالإخبار ، فهي كلمة تمريض و شك ،و ليست كلمة تعبر عن ثبوت السماع  و الاتصال . فأين هذا الحديث المتصل الإسناد حسب ما ذكره الرجل ؟! .

 

   علماً بأن اتصال الإسناد لا يعني أن الحديث صحيح من جهة الإسناد، و إنما يعني انه توفر فيه شرط من شروط الصحية المعروفة في علم الجرح و التعديل . و هي: اتصال الإسناد، و عدالة الراوي، و ضبط الراوي، و خلو الحديث من الشذوذ، و خلوه من العلة . فإذا كان الحديث مُتصلا و لم تتحقق فيه الشروط الأخرى ، فهو ليس صحيحا .

 

    و من جهة أخرى فقد بحثتُ عن ذلك الحديث في كتب الحديث و الجرح و التعديل ،و التراجم و السير و التواريخ ، و التفاسير و كتب الأدب و غيرها، فلم أعثر له ذكر ، و لا على أثر بإسناد و لا بدونه .

 

     و الحديث الخامس مفاده أن عبد الجبار رواه بقوله : (( و رُوي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كنتُ أصب الماء على يدي رسول الله – صلى الله عليه و سلم – فسقط الإناء من يدي فانكسر ، فقلت : الأمر مفروغ منه ، فغضب عليه السلام ، و قال: إن كان الأمر مفروغا منه فلأي شيء بعثتُ ، و لأي شيء بُعثت الأنبياء )) [55] .

 

   و أقول: إن الرجل لم يذكر للحديث إسنادا ،ولا حقق متنه ،و اكتفى بروايته بأسلوب الشك و التمريض ، لكنه من جهة أخرى اعتمد عليه ، و استخدمه لتأييد مذهبه في موضوع القضاء و القدر ، و إرادة الإنسان. و هذا إخلال منه بمنهج الاستدلال العلمي في مجال الأخبار. و قد بحثتُ عن هذا الحديث فلم اعثر له على ذكر ، و لا أثر في كتب الحديث و الرجال ،و التراجم و التواريخ، و التفاسير و الفقه ،و الأدب و اللغة. 

 

    و الحديث السادس- الأخير من أحاديث عبد الجبار- ، مضمونه أن النبي- عليه الصلاة و السلام- سُئل عن تفسير" سبحان الله " ، فقال:" هو تنزيه الله عن كل شر " ))[56] .

 

    يُلاحظ على الرجل أنه لم يذكر للحديث إسنادا ، و لا حققه متنا ، و إنما اعتمد عليه انتصارا لمذهبه . و هذا إخلال بمنهج الاستدلال في مجال صحة الأخبار من جهة صحتها أو سقمها . و قد بحثتُ عن هذا الحديث في مصنفات الحديث و علم الرجال، و التراجم و التواريخ ، و التفاسير و الفقه ، فلم أجد له ذكرا و لا عثرتُ له على أثرا .

 

   و أما الحديث الذي ذكره المحسن الجشمي المعتزلي، فمضمونه أن النبي - صلى الله عليه و سلم – قال : (( تفكُّر ساعة خير من عبادة سنة))[57]

   و أقول: إن الرجل لم يذكر للحديث إسنادا ، و لا توقف ليتكلم فيه من جهة صحته و ضعفه ، و إنما ذكره ليدعم به موقفه و مذهبه، و أهمل تحقيقه.  و هذا لا يصح من جهتين: الأولى إنه نسب حديثا إلى النبي- عليه الصلاة و السلام- من دون أن يتحقق منه ، و هذا خطأ فاحش و كبير ، لأن الدين يجب أن يقوم على اليقين أولا، ثم على الصحيح ثانيا، و لا يقوم على الضعيف . و الجهة الثانية مفادها أن الرجل وجد خبرا فاستخدمه من دون التأكد من صحته ، فكيف سمح لنفسه أن يعتمد على خبر لم تثبت صحته ؟؟!! .

 

    علماً بأن هذا الحديث الذي نسبه إلى النبي- عليه الصلاة و السلام- هو حديث موضوع[58] . فلماذا لم يُحققه ؟، و لماذا لم يرجع إلى أهل الاختصاص ليسألهم عنه ، إن كان هو غير قادر على التحقيق ؟!! .

   و استنتاجا مما ذكرناه يتبين إن هؤلاء ذكروا أحاديث نبوية  بلا أسانيد ، و لا حققوا متنوها بأنفسهم ، و لا استعانوا بغيرهم  لتحقيقها و التأكد من صحتها . لكن هذا لا يعني أن المعتزلة لا يذكرون إلا الأحاديث الضعيفة، و إنما هم يذكرون الصحيح و الضعيف من دون تحقيق انتصارا لمذهبهم . فالجاحظ مثلا ذكر حديثا حسنا في رسالته إلى صاحبه المعتزلي أحمد بن أبي دُؤاد ، فقال: (( ... قال رسول ربِّ العالمين وخاتم النبيّين، محمد صلى الله عليه وسلم: " تهادوا تحابوا )) .
فحث على الهدية وإن كان كراعاً وشيئاً يسيرا ))[59] . و هذا حديث حسن[60].

    و منها حديث ذكره القاضي عبد الجبار بقوله : (( و صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه روى عن ربه "! إني قد حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم فلا تتظالموا. يا عبادي! إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب، ولا أبالي؛ فاستغفروني أغفر لكم ))[61] . و هذا حديث صحيح رواه البخاري في الأدب المفرد . و نصه : (( عن أبي ذر، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- ، عن الله تبارك وتعالى قال: " يا عبادي! إني قد حرمت الظلم على نفسي، وجعلته محرماً بينكم فلا تظالموا. يا عبادي! إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب، ولا أبالي؛ فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته؛ فاستطعموني أطعمكم ... ))[62] .

     لكن الذي يهمنا هنا هو أن المعتزلة لم يكونوا أصحاب منهج  لنقد الأخبار ، و لا مارسوا النقد الحديثي في استخدامهم للأحاديث النبوية . فلم يكن يهمهم هذا ، بقدر ما كان يهمهم استخدامهم للحديث انتصارا لمذهبهم، و ردا على مخالفيهم ، حتى و إن كان الحديث ليس صحيحا !!. و هذا موقف نفعي لا يصح شرعا و لا عقلا، و هو انحراف كبير عن منهج النقد و الاستدلال . 

(ب)نماذج من تعامل المعتزلة مع الأخبار من جهة تحقيقها :

    يتضمن هذا المطلب طائفة من الروايات التاريخية أوردها بعض علماء المعتزلة في مصنفاتهم ، تتعلق برجال مذهبهم . فما هو موقفهم منها ؟، و هل حققوها ، أم أخذوا بها دون تحقيق ؟ . هذا ما سيتبين من خلال النماذج الآتية :

 

      أولها يتضمن أقوالا لسفيان بن عيينة( ت198هـ) في مدح شيخ المعتزلة عمرو بن عبيد و الثناء عليه . ذكرها القاضي عبد الجبار ، بقوله: (( فقد ذُكر في كتاب المصابيح، عن سفيان بن عيينة أنه قال: لم تر عيني مثل عمرو بن عبيد . و روي عن ابن عيينة أنه قال: ما رأيت مثل عمرو بن عبيد، قد كنا ليلة عند المنصور، فقمنا و تركناهما يتحدثان، فاسمع أبا جعفر المنصور يقول لعمرو: ناولني تلك الدواة لشيء اكتبه، فقال: لا أفعل. قال: ولم؟ قال: أخاف أن تكتب بقتل مسلم أو أخذ ماله، فقال أبو جعفر: قطعت و الله الأعناق، اتبعت و الله من بعدك، لله درك يا أبا عثمان. ثم صاح بالربيع، فناوله الدواة و خرج عمرو فكتب ما أراد، ثم قال: أما سمعت ما قال لي هذا الشيخ؟ قلت: نعم، قال: انك إذا فقدت هذا الشيخ لم تر مثله أبدا . و عن ابن عيينة قال: حضرنا مجلس عمرو بن عبيد في المسجد الحرام، و سأله رجل عن مسألة، فأجاب فيها، فقال له الرجل: يا قدري. فقام إليه سفيان الثوري بنعله ثم قال: يا عدو الله أتستقبل الرجل الصالح في وجهه  ))[63] .

 

    و أقول: يتبين من ذلك أن عبد الجبار لم يذكر لأخباره أسانيد، و لا حققها . و قد بحثتُ في كتب الجرح و التعديل، و التراجم و التواريخ، و الفقه و التفاسير ، و غيرها من المصنفات فلم أجد لها ذكرا، و لا عثرت لها عن أثر ؛ و إنما وجدت رواية عن سفيان بن عيينة فيها قدح في عمرو بن عبيد. فقد روى المحدث المؤرخ ابن عدي الجرجاني( ق: 4هـ) بإسناده ((حدثنا إسماعيل بن داود بن وردان ، ويحيى بن زكريا قالا: أخبرنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال : سمعت الشافعي قال: سمعت سفيان بن عيينة يقول: عمرو بن عبيد سمع الحسن( البصري) ، وأنا أستغفر الله إن كان سمع الحسن ))[64] .

 

     و النموذج الثاني يتضمن أخبارا نقلها القاضي عبد الجبار عن الجاحظ تتعلق باجتهاد شيخ المعتزلة عمرو بن عبيد في العبادات . فقال : (( و حُكي عن الجاحظ: أنه صلى أربعين عاما الفجر بوضوء المغرب، وحج أربعين حجة ماشيا، و بعيره موقوف على من أحصر، و كان يحي الليل بركعة واحدة، و ترجيع آية واحدة. )) [65] .

 

   و أقول:  إن الرجل لم يذكر إسناده عمن حكى عن الجاحظ ، و لا ذكر الإسناد بين الجاحظ و عمرو بن عبيد لأن الجاحظ مُتأخر عن عمرو بن عبيد . و هو قد ذكر الخبر بأسلوب الشك و التمريض ، و حتى الذي حكى عن الجاحظ لم يُصرّح بالسماع منه ، و إنما عنعن عنه ، و هذا يحتمل السماع و عدمه .

 

   و كما أنه لم يذكر إسنادا للخبر ،  فإنه لم يُحقق المتن و لا شكك فيه، مع أن ما نسبه إليه فيه غلو ،و ليس من سنة نبينا-عليه الصلاة و السلام- لقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }المزمل20- . و ذلك لا يصدق في حق عمرو بن عبيد . فهل يُعقل أنه لا ينام أربعين سنة لأنه حسب الرواية كان يصلي الفجر بوضوء المغرب طيلة هذه المدة . مع أنه كان كثير الحركة في النهار ، فكان يُناظر ،و يحضر مجالس السلطان . و حج أربعين سنة ماشيا . فمتى ينام هذا الرجل ؟ّّ! ، و هل يستطيع أن يقوم بكل ذلك ؟،و من أين كان يكسب قوته و قوت أهله طيلة أربعة عقود من الزمن ؟! . 

 

   و قد بحثتُ عن تلك العبادات التي نسبها الجاحظ إلى عمرو بن عبيد فلم أعثر لها على ذكر ، و لا على أثر في كتب التراجم و التواريخ، و الجرح و التعديل،و الفقه و التفسير ،و الأدب و التصوف . بل و لم أعثر فيها على خبر ذكر أن عابدا حج أربعين سنة ماشيا، و لا أنه صلى أربعين سنة الفجر بوضوء المغرب . فلو حدث ذلك فإنه من الأحرى و الأولى أن يُروى و تذكره كتب الزهد أولى من أن تروي أخبارا أخرى ، لأن النفوس مولعة برواية غرائب الأخبار و نوادرها .

 

    و النموذج الثالث يتعلق بالمعتزلي ثمامة بن أشرس (ق:3هـ) ، وصفه القاضي عبد الجبار بقوله :  (( و ثمامة كان قد تفرّد بالعبادة ))[66] .و (( و له مذاهب لم تنتشر لقلة اختلاطه بالعامة، و لِما توفر في خدمة الخلفاء صار يُوجد في كلامه بعض الهزل، مما لا تأويل له ، ليجعله طريقا إلى ميلهم إليه ، يُوصله إلى المعونة في الدين )) [67] .

 

    و أقول: إن الرجل لم يذكر إسنادا لخبره، و لا حققه من جهة ، وبالغ في مدح ثمامة بن أشرس ، ثم غمزه من جهة أخرى . و هذا شاهد ضده على أن الرجل لم يكن كما وصفه ((كان قد تفرّد بالعبادة ))[68] . فلا يُمكن أن يكون ثمامة قد تفرد بالعبادة ثم هو قد عاش مدة طويلة في قصر الخليفتين الرشيد و المأمون مخالطا لهما و لرجال الدولة !! . نعم إنه يبدو أن الرجل تفرد بالعيش في قصور الخلفاء ،و ليس بالعبادة كما زعم القاضي عبد الجبار . فأين النقد و التمحيص و التثبت من الأخبار ؟؟! .

 

    و القاضي عبد الجبار قد غمز صاحبه ثمامة بن أشرس لكنه لم يُفصل ذلك ، و حاول تبرير علاقته بالسلطان . و الأمر الخفي من حال هذا الرجل خطير جدا ، على ما ذكرته الأخبار من أحواله . من ذلك أنقل هنا طرفا من ترجمته كما أوردها الحافظ ابن حجر العسقلاني في لسان الميزان . فقال : (( ثمامة بن أشرس أبو معن النميري البصري، من كبار المعتزلة ومن رؤوس الضلالة . كان له اتصال بالرشيد ثم بالمأمون وكان ذا نوادر وملح . وقال بن حزم : كان ثمامة يقول: إن العالم فعل الله بطباعه ، وأن المقلدين من أهل الكتاب وعباد الأصنام لا يدخلون النار بل يصيرون ترابا . و أن من مات مصرا على كبيرة خُلد في النار.  و أن أطفال المؤمنين يصيرون ترابا . وقال بن قتيبة:  كان ثمامة من رقة الدين وتنقيص الإسلام والاستهزاء به، وإرساله لسانه على ما لا يكون على مثله رجل يعرف الله ولا يؤمن به . قال : و من المشهود عنه أنه رأى قوما يتعادون إلى الجمعة لخوفهم فوت الصلاة فقال: انظروا إلى البقر ، انظروا إلى الحمر،  ثم قال لرجل من إخوانه: انظر ما صنع هذا العربي بالناس . ..))[69] .

 

   و قد بحثتُ في كتب الجرح و التعديل و التراجم و التواريخ ،و الفقه و التفاسير، و الأدب و التصوف فلم أعثر على أي خبر وصف ثمامة بن أشرس  بأنه كان قد تفرد بالعبادة . فلو كان كذلك لأشارت إلى حاله تلك المصنفات التي ذكرت أخبارا و مواقف كثيرة تتعلق به . فبما أنها لم تذكر ذلك، بل و ذكرت ما يُناقضه ، فهذا شاهد دامغ على أن ثمامة كان إنسانا مُخلطا مُضطربا مُتناقضا في مواقفه ، و لم يكن مُتفردا بالعبادة كما وصفه عبد الجبار.

 

   و النموذج الرابع مفاده أن القاضي عبد الجبار ذكر أخبارا تتعلق بسعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف تضمنت أمورا رواها و انتصر بها لمذهبه من دون تحقيق ، فقال: (( و منهم سعد ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف . قال أبو عبد الله الشافعي: عن محمد بن إدريس عن مالك قال: قدم غيلان المدينة ؛ فتكلم هو و ربيعة ، و حضرهما سعد ، و الصلت بن زيد حليف قريش. فلما تفرقوا قَبِل سعد مقالة غيلان، و الصلت مقالة ربيعة . و ذُكر عن أحمد بن حنبل رحمه الله أنه قيل له:مالَك لا تروي عن مالك . قال : سعد خير من مالك ، سعد لا يُسأل عنه ))[70] .

  و أقول: إن الرجل لم يذكر إسنادا لأخباره، و لا حققها .و هي رواية ظاهرة البطلان ، بدليل الشواهد الآتية : الأول مضمونه أن  سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف كان ثقة ديّنا عفيفا ، روى عنه أئمة الحديث ،و لم يُجرّحوه ، و لم يثبت أنه كان يقول بالقدر، و إنما وثقوه[71] . و لو كان قدريا لذكر أهل الحديث بأنه كان قدريا .

 

   و الشاهد الثاني مفاده أن قول الرواية : أنه قيل لأحمد (( مالَك لا تروي عن مالك )) هو دليل قاطع على بطلان الرواية . لأن أحمد بن حنبل لم يسمع من مالك ابن أنس أصلا فكيف يٌقال له ذلك ؟! ، لأن أحمد  عندما خرج في طلب الحديث خارج بغداد كان مالك بن أنس قد توفي . فأحمد ولد سنة 164هـ ، و بدأ في دراسة الحديث و حفظه و له 15 سنة ، و خرج في طلبه وله 20 سنة[72] . و مالك توفي سنة 179 . فلا يُصح أن يُقال لأحمد : مالَك لا تروي عن مالك !!.

 

    و الشاهد الثالث هو أن أحمد لم يكن يُضعّف مالكا ، و قد روى عنه  بواسطة من سمع منه . فمسند أحمد تضمن روايات كثيرة من رواتها مالك ابن أنس، و قد أحصيتُ منها 68 رواية  . فلا يصح أن يُقال له : مالك لا تروي عن مالك ؟ .

 

    و الشاهد الرابع هو أنه قد بحثتُ عن عبارة: ( سعد خير من مالك )) ، فلم أجد لها ذكرا في كتب الحديث و الرجال، و التراجم و التواريخ، و الفقه و التفاسير، و لا في غيرها من المصنفات . فلو كان أحمد قال في مالك تلك العبارة ، أو مثلها لحفظتها كتب الجرح و التعديل، و التراجم و التواريخ .

 

     فواضح من ذلك أن القاضي عبد الجبار لو تدبر في الرواية جيدا ، و سعى لتحقيقها لتبين له عدم صحتها بسهولة . فلا أدري لماذا لم يَقم بذلك ؟! . فهل تركها لأنها في صالحه ، أم أنه كان حاطب ليل في أخباره،و  لم يكن للتحقيق عنده أهمية ؟!.

 

   النموذج و الخامس مفاده أن القاضي عبد الجبار ألحق عمرو بن دينار المكي بالمعتزلة ، فقال : ((  و منهم : عمرو بن دينار . حُكي ذلك عن الغلابي. قال في كتاب المصابيح : ومن أهل مكة عمرو بن دينار، وحُكي عن عمر بن الحسن الباهلي قال : شهدته، و مروا عليه برجل قد لببه حرس مكة ، فقال عمرو : ما لهاذا ؟ قالوا : يتكلم في القدر، فقال:أليس قد أضاف الخير إلى ربه والشر إلى نفسه؟ قالوا : بلى، قال : فهو أولى بالحق منكم، فقالوا له : فما يمنعك أن تتكلم؟ فقال : أن أخشى يصنع بي ما صُنع بهذا  ))[73] .

 

   و أقول : لم يذكر عبد الجبار لخبره إسنادا و لا حققه ، و ذكره بأسلوب الشك و التمريض بقوله: (( حُكي ذلك عن ...) . و الحقيقة أن زعمه هذا ظاهر البطلان ، لأن عمرو بن دينار من كبار أعلام أهل السنة ،  وثقه أهل الحديث، و شهدوا له بالاستقامة ،و لم  يذكروا أنه كان معتزليا ، و لا عثرت على إشارة تدل على ذلك[74].و أقواله في أصول الدين موجودة في كتب السنيين ، كقوله: (( أدركتُ أصحاب النبي فمن دونهم منذ سبعين سنة يقولون: الله الخالق وما سواه مخلوق ،والقرآن كلام الله منه خرج وإليه يعود ))[75]. و قوله : ((أدركتُ تسعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم يقولون : من قال القرآن مخلوق فهو كافر ))[76] . فلو كان معتزليا ما استشهد به السنيون في كتبهم العقيدية، و لو كان معتزليا ما كفّر القائلين بخلق القرآن ، فكيف يُكفّرهم و هو منهم؟؟!! .

 

    و النموذج الأخير- السادس- مضمونه أن القاضي عبد الجبار هجم على بعض أعيان أهل السنة المعروفين بتسننهم فخطفهم و ألحقهم بالمعتزلة تكثيرا لطائفته من دون حق. من ذلك أنه ألحق المفسر مجاهد بن جبر ، و سفيان بن عيينة ، و الإمام الأوزاعي ، و الخليفة عمر بن عبد العزيز بالمعتزلة[77] .  

    و أقول: إنه لم يذكر لروايته إسنادا، و لا حققها ،و لا ذكر شاهدا صحيحا على قوله . فألحق أعيانا من أهل السنة بالمعتزلة من دون أي دليل صحيح إلا الزعم ، و الزعم ليس دليلا ،و لا يعجز عنه أحد .

 

    و الثابت أن المفسر مجاهد بن جبر(ق:2هـ) من أهل السنة ، و لم أعثر على ما يدل أنه كان من المعتزلة[78] . و أن سفيان ابن عيينة(ق:2هـ) كان من كبار أهل السنة ، و لم يقل بخلق القرآن و لا نفى الصفات ،و إنما كان على مذهب السلف في ذلك[79] . فلو كان معتزليا لقال بقولهم في الصفات الإلهية . و نفس الأمر ينطبق على الإمام الأوزاعي( ق:2هـ) ، فهو من أهل السنة ، ولم يكن على مذهب المعتزلة ، من ذلك قوله في الصفات : ((نقول: إن الله تعالى فوق عرشه، ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته ))[80] . و هو الذي ناظر زعيم القدرية و سلف المعتزلة غيلان الدمشقي ، ثم أفتى بقتله[81] .

 

   و كيف يكون الخليفة عمر ابن عبد العزيز (ت: 101هـ ) معتزليا ،و قد مات قبل ظهور الاعتزال؟.و كيف يكون قدريا و هو الذي أنكر على زعيم القدرية و سلف المعتزلة غيلان الدمشقي (ق:2هـ  ) قوله بالقدر؟! فطلبه و استتابه عما هو فيه، فأظهر التوبة ، ثم عاد إلى ما كان عليه بعد وفاة عمر بن عبد العزيز ؟؟!! . فرُوي أنه قال له : (( يا غيلان بلغني أنك تتكلم في القدر؛ فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يكذبون علي . قال: يا غيلان اقرأ أول يس فقرأ { يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ }يس:1-2" يس والقرآن الحكيم " حتى أتى على { إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ  وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ  وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } سورة يس : 8-10-" فقال غيلان يا أمير المؤمنين والله لكأني لم أقرأها قط قبل اليوم أشهدك. يا أمير المؤمنين إني تائب مما كنت أقول في القدر . فقال عمر: اللهم إن كان صادقا فثبته وإن كان كاذبا فاجعله آية للمؤمنين ))[82] .

 

  واضح من تلك النماذج أن القاضي المعتزلى و لا الذين روى عنهم من أصحابه لم يحققوا و لا محصوا الأخبار التي ذكرناها عنهم . و قد بينا بالشواهد الصحيحة أنها روايات لم تصح . و هذا لا يعني أن كل ما رووه غير صحيح ، فلا شك أنهم قد رووا أخبارا صحيحة أيضا ، إلى جانب الأخبار الأخرى غير الصحيحة . فمن الروايات الصحيحة التي ذكرها القاضي عبد الجبار، قوله : (( و منهم عبد الله بن أبي لبيد الثقفي . قال ابن عيينة : كان من عباد أهل المدينة ، يرى القدر . و قال أحمد بن حنبل : كان يرى القدر ، فما أعلم بحديثه بأسا ً . روى عنه الثوري ، و ابن عيينة، و محمد بن إسحاق )) [83] . و هذا خبر صحيح كما ذكره المؤلف[84] .

  و قوله :(( و منهم من لا يُختلف فيه : قتادة بن دعامة السدوسي . قال يعقوب بن شيبة ، عن علي ، أبي هاشم ، عن سعيد قال : قال قتادة : الأشياء كلها بقدر، ما خلا المعاصي ))[85] : . و هذا صحيح ، فقد  كان قتادة يقول بالقدر كما ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء[86] .

 

    لكن ذلك لا يعني أنه حقق ما رواه ، و إنما ذكره كما ذكر الروايات الأخرى غير الصحيحة . فالرجل لم يكن يحقق الضعيف و لا الصحيح، و إنما كان ناقلا للأخبار لا مُحققا . فلم يكن صاحب منهج لنقد الأخبار ،و لا كان يهتم بنقدها و تمحيصها طلبا للحقيقة ، و إنما كان ذاكرا لذلك انتصارا لمذهبه و ردا على خصومه ، فلم يكن في صالحه تحقيق معظم الأخبار التي ذكرناها عنه  .

 

(ج) موقف المعتزلة من خبر الآحاد:

    ينقسم الخبر إلى  قسمين : آحاد ، و متواتر  . المتواتر هو ما رواه  عدد كبير تُحيل العادة على تواطئهم على الكذب ،و له أربعة شروط يجب أن تتوفر فيه ، هي : 1- أن يرويه عدد كبير من الرواة  . 2-  أن تُوجد هذه الكثرة في جميع طبقات الإسناد . 3- أن تُحيل العادة تواطؤ الرواة على الكذب ، كأن يكونوا من بلدان و أجناس و مذاهب مختلفة . 4-  أن يكون مُستند خبرهم الحِس من سمع و بصر و لمس . و المتواتر يُفيد العلم الضروري ، بمعنى أنه  يُفيد اليقين . و أما الآحاد فهو ما لم يجمع شروط المتواتر ،و هو يُفيد العلم النظري المتوقف على النظر و الاستدلال[87] .

 

   فواضح من ذلك أن خبر الآحاد في ذاته هو خبر ضني و ليس يقينيا . و هذا يعني أنه خبر يحتمل الصدق كما يحتمل الكذب ، و أن نقده إسنادا و متنا هو الذي يحسم أمره . فما هو موقف المعتزلة منه ؟،و هل أصابوا في موقفهم منه ؟ ، و هل وافقوا العقل فيه أم خالفوه ؟ .

 

    و منهم القاضي عبد الجبار قال في خبر الآحاد : (( و على هذا الوجه لا يجوز علي العقل أن يقول في خبر الواحد : قال رسول الله قطعا ، و إنما يجوز أن يقول : رُوي عنه صلى الله عليه ذلك  ))[88] .

 

    و قال : ((و بعد فان غرض من ينسب هذه الطائفة إلى قلة الحديث، ظنهم أنهم لا يعملون على الأحاديث المروية عندهم، و هذا خطأ عظيم، لأنهم إنما لا يعملون عليها، لأن العمل عندهم على أدلة المعقول التي لا تَحتمِل ، و على أدلة السنة القاطعة ، و الإجماع القاطع  . و الواجب دون أخبار الآحاد، التي قد يعتمد فيها الكذب، و قد يقع فيها السهو و النسيان و التغيير و التبديل، لا لأنهم لم يعرفوا ذلك، و عرفوا ما يصح فيه السند و ما لا يصح، فان الناظر إذا نظر في كتاب « القاضي بين المختلفة» لأبي جعفر الاسكافي، و في كتاب « نقض الشيرجاني» لأبي القاسم البلخي، يعلم أن الأمر كما قلناه. و على أنهم رووا من جهة الآحاد ما يعارض ما أورده القوم من جهة الآحاد أيضا. وقد بينا الكثير من ذلك في أول هذا الكتاب )) [89] .

 

    و قال أيضا: (((( و إنما نذكر هذه الأخبار ، و إن كان أكثرها أخبار آحاد ، ليعرف من قرأ كتابنا أن التمسك بالسنة طريقنا ، و أن هؤلاء القوم إذا أحتجوا بذلك فقد أخطئوا . و إلا فطريقتنا في هذا الجنس التعليق بأدلة قاطعة ، نحو ما ذكرناه من القرآن ، و كنحو إجماعهم على أن الله تعالى صادق في أخباره ،و لا يخلف المعاد ))[90] .

 

   و قال المحسن بن كرامة الجشمي المعتزلي ( ت: 457 هـ ) : (( فأما السنة فهو ما تواتر نقله وصح منه فعله أو قوله، وقد أطلق ذلك على أخبار الآحاد، إلا أنها حجة في فروع الشرع، وليست بحجة في أصول الدين؛ لأن طريقه القطع، فلا بد من دليل مقطوع به ))[91] .

   و أقول: أولا واضح من كلام هؤلاء أنهم لم يُفرّقوا بين حديث الآحاد قبل تحقيقه و بعد تحقيقه . فاتخذوا منه موقفا واحدا هو أنه خبر ظني و ليس قطعيا ، و من ثم لا يصح الاحتجاج به في أصول الدين. و هذا موقف غير صحيح لأنه ليس من العقل و لا من الشرع أن نرفض خبر آحاد لمجرد أنه كذلك . وسبب ذلك هو أن هذا الخبر لم يقم الدليل على صحته ، و لا على عدم صحته ، فلماذا نرفضه ؟!. و عليه فلا يصح رفضه لمجرد ذلك ، و إنما يتطلب منا تحقيقه و تمحيصه لأنه يحتمل الصدق و الكذب معا .و بناءً على ذلك فإنه يُمكن إخراجه من حالته بالتحقيق و القرائن ،و الشواهد الشرعية  و العقلية و العلمية ليصل إلى اليقين ، أو يقترب منه ، أو يصبح راجحا. و بذلك يصح الاحتجاج به في أصول الدين .

   و ثانيا إن هؤلاء اكتفوا بذلك الموقف و لم يقترحوا منهجا و لا حلا لوضعية خبر الآحاد . مع أن العقل يفرض عليهم طرح ذلك لإخراجه من حالته، فهم تركوه مُعلقا يحتمل الصدق و الكذب . و هذه وضعية تتطلب حلا صحيحا لها، لكن القوم أهملوه . لكنهم من جهة أخرى سبق أن بينا أنهم ردوا أحاديث و أخبار آحاد لأنها خالفت مذهبهم، من دون أن يُمحصوها و يُبينوا عدم صحتها ،و استخدموا أخرى لأنها في صالحهم من دون أن يُحققوها لإثبات صحتها !! . و هذا موقف مرفوض شرعا و عقلا و علما .

   و ثالثا أُشير هنا إلى المعتزلي إبراهيم النظام قال : إن حجة العقل قد تنسخ الأخبار ، منها الأحاديث النبوية[92] . و قوله هذا فيه حق وباطل، فهو لا يصدق مع الأخبار المتواترة ، و إنما قد يصدق مع أخبار الآحاد . لأن المتواتر قام الدليل القطعي على صحته ، و من ثم ليس من العقل رده،و لا الشك فيه . و من يشك فيه، فهو مُتبع لهواه و ظنونه ، و ليس مُتبعا للشرع، و لا للعقل، و لا للعلم .

       و قوله يصدق على أخبار الآحاد التي لم يثبت الدليل على صحتها ،. فإذا أثبت التحقيق العلمي صحة خبر ما ، فهنا لا يصح للعقل أن يرفضه . و أما إذا لم يثبت هذا ، فمن حق العقل أن يرفضه ، بل و من الواجب عليه أن يشك فيه ،و ينفيه إذا صح الاستنتاج العقلي و تم بطريقة علمية . عِلماً بأنه لا يُمكن أن يحدث تناقض بين الاستنتاج العقلي الصحيح مع الخبر الصحيح . فإذا حدث فإما أحدهما غير صحيح، أو هما معا .

 

     و استنتاجا مما ذكرناه يتبين منه أن المعتزلة ليسوا أصحاب منهج نقدي لتحقيق الروايات الحديثية و التاريخية ، و لم يكونوا يهتمون بصحتها من عدمها ، لأن تحقيقها لم يكن في صالحهم غالبا ، و لهذا أهملوا تمحيصها ،و لم يهتموا بمنهج نقد الخبر تنظيرا و لا ممارسة .

 

   و اتضح أنهم قبلوا روايات كثيرة من دون تحقيق إسنادا و لا ممتنا ، لمجرد أنها وافقت مذهبهم ، مع أنها قد تكون غير صحيحة ، و قبلوا أخرى من دون تمحيص مع أنها قد تكون مكذوبة . و لهذا وجدناهم  نسبوا أحديث  للنبي –عليه الصلاة و السلام- من دون تحقق ، بل و تبين أنها غير صحيحة . و هذا موقف مرفوض شرعا و عقلا و علما . لأن المفروض على الباحث أن يتأكد من الأخبار التي يرويها عامة ، و الأحاديث النبوية خاصة . و تبين أيضا أنهم أخطؤوا في موقفهم من خبر الآحاد تنظيرا و ممارسة من جهة ، و خالفوا به الشرع و العقل و العلم من جهة أخرى .

 

 و ختاما لهذا الفصل- الثالث- يُستنتج منه أن المعتزلة جنوا على العقل و الشرع و العلم في موقفهم من العقل و منهج الفهم و الاستدلال . فخالفوا الشرع و عطّلوه، و أخلوا بمنهج البحث و الاستدلال ،و تلاعبوا به حسب أهوائهم و ظنونهم و آرائهم . و أفسدوا العقل و حمّلوه ما لا يطيق ، و قدّموه على الوحي الصحيح، و جعلوه وثنا معبودا من دون الله . فاتضح بذلك أن حقيقة المعتزلة ليس أنهم قدموا عقولهم على الشرع كما هو شائع بين أهل العلم، و إنما الحقيقة هي أنهم قدموا أهواءهم و آراءهم و ظنونهم على  الوحي الصحيح ،و العقل الصريح .فافتروا بذلك على الشرع و العقل معا ،و ارتكبوا في حقهما جنايات و حماقات  .

 

   و أتضح أن المعتزلة كانوا أصحاب منهج مُنحرف قاصر لا يصلح أساسا للفهم الصحيح ،و لا للبحث و الاستدلال العلمي السليم . فمارسوا التغليط و التلبيس، و الانتقاء و الإغفال ، و التأويل الفاسد في تعاملهم مع النصوص المخالفة لمذهبهم . فعلوا ذلك لأنهم أقاموا أصول مذهبهم على ظنونهم و رغباتهم و خلفيتهم المذهبية ، أكثر مما أقاموها على الشرع و العقل بفارق كبير جدا .

 

    و تبين أيضا أن المعتزلة لم يكونوا أصحاب منهج نقدي في تعاملهم مع الأحاديث النبوية و الروايات البشرية ، و إنما كانوا أصحاب مذهب زائف انتصروا له بأهوائهم و ظنونهم و مصالحهم في موقفهم من تلك الروايات. فردوا روايات صحيحة لأنها تخالف مذهبهم ،و و قبلوا روايات ضعيفة لأنها توافق مذهبهم . فكانت أهواؤهم و مصالحهم هي مننطلقهم في قبول المرويات و ردها .  

 

    و بذلك يكون المعتزلة قد دخلوا مجال الفكر و العلوم بلا منهج صحيح في الفهم، و لا في البحث  و لا في الاستدلال ،و لا في نقد الأخبار . فجعلوا الشرع وراء ظهورهم، و زجوا بعقولهم في غير مجالها ،و تعاملوا مع القضايا الفكرية و التاريخية بأهوائهم و آرائهم أكثر مما تعاملوا معها بحقائق العقل و الشرع و العلم .

 

[1] الأشعري : مقالات الإسلاميين ، ج 1 ص: 296 .

[2]  الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ، ج 2 ص: 170، ج 6 ص: 184  . و  ابن الجوزي : المنتظم ، ج 8 ، ص:  44 .

[3] البخاري: الصحيح ، ج 4 ص: 111  .

[4]  الخطيب البغدادي : تاريخ بغداد ، ج 2 ص: 170، ج 6 ص: 184  . و  ابن الجوزي : المنتظم ، ج 8 ، ص:  44 .

[5] الدارقطني : أخبار عمرو بن عبيد ، مخطوط ، مجموع 3842 ، الظاهرية/ دمشق ، الورقة: 4 .

 

[6] البخاري: الصحيح ، ج 9 ص: 145 .

[7] الجاحظ : كتاب الحيوان ، ج 7 ص: 87 .

[8]  القاسم بن إبراهيم الرسي : أصول العدل و التوحيد ، ضمن كتاب رسائل العدل و التوحيد من تحقيق محمد عمارة ، ط2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1988 ، ص: 124 -125 .

[9] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ، ص: 139 .

[10]  القاسم بن إبراهيم الرسي : أصول العدل و التوحيد ، ضمن كتاب رسائل العدل و التوحيد من تحقيق محمد عمارة ، ط2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1988 ، ص: 124 -125 .

[11] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: - 183 .

[12]  القاضي عبد الجبار : المختصر في أصول الدين : رسائل العدل و التوحيد  ، تحقيق  محمد عمارة ، ط2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1988 ، ، ص: 197 ، 199 و ما بعدها .

[13] المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، ص: 25 .

[14] الزمخشري : المنهاج في أصول الدين ، ص: 19 .

[15]  نفس المصدر ، ص: 21 .

[16] البخاري: الصحيح ، ج 2 ص: 95 .

[17] المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، ص: 59 .

[18] أنظر مثلا : الموسوعة العربية العالمية ، مادة : الذرة  .

[19] أنظر مثلا : الموسوعة العربية  العالمية ، مادة : الذرة ، المادة  .

[20] أبو الحسن الأشعري : مقالات الإسلاميين ، ج 1 ص: 235 ، 236 . و قد سبقت الإشارة لهذا الموضوع ، و توسعنا فيه في الفصل الأول .

[21]  نفس المصدر، ج 1 ص: 244  ، 245 .

[22]  نفس المصدر ، ج 1 ص:  245 .

[23] نفسه  ، ج 1 ص: 245  .

[24] سبق توثيق ذلك في الفصل الأول .

[25] القاسم الرسي : أصول العدل و التوحيد ، : ضمن رسائل العدل و التوحيد ، تحقيق محمد عمارة ، ط2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 1988 ، ج 1،  ص: 126 .

[26] الجاحظ : كتاب الحيوان ، ج 2 ص: 20 .

[27] أنظر مثلا : القاضي عبد الجبار : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة . و قد سبق أن ذكنا أقولا لكبار المعتزلة في مدحهم لمذهبهم و تفضيلهم له بدعوى أنه مذهب قائم على اليقين .

[28] الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 1 ص: 64 .

[29] نقلا عن الباحث: عواد بن عبد الله المعتق : المعتزلة و أصولهم الخمسة و موقف أهل السنة منهم ، مكتبة الرشيد، الرياض، 1414 هـ ، ص: 94-95 .

[30] الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 1 ص: 77 .

[31] المحسن بن كرامة الجشمي :   تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، حققه عبد السلام عباس الوجيه ، ص: 21 .

[32] البخاري: الصحيح ، ج 1 ص: 11 .

[33] المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، ص: 24 .

[34] الألباني: صحيح و ضعيف الجامع، ج 1 ص: 48  .

[35] ابن الجوزي : المنتظم ، ج 8 ، ص:  44 .

[36] الذهبي : تاريخ الإسلام ، ج 9 ص: 238 .

[37] المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، ص: 128   .

[38] نفس المصدر ، ص: 130 .

[39] البخاري : الصحيح ، ج 2 ص: 65- 66 .

[40] مسلم : الصحيح  ، ج 5  ص: 128 .

[41] نفس المصدر ، ج 7 ص: 95 .

[42] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 73 .

[43] نفس المصدر ، ص: - 164  .

[44] نفس المصدر  ، ص: - 165  .

[45] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ، ص: 213  .

[46] ابن قيم الجوزية : اعلام الموقعين عن رب العالمين ،  حققه عبد الرؤوف سعد ، مكتبة الكليات الأزهرية ، القاهرة ، 1967  ، ج 1 ص: 9 .

[47] ابن بطة العكبري : الإبانة الكبرى ، رقم الحديث : 2389  ج 5 ص: 476 .

[48] القاضي عبد الجبار المعتزلي : المغني في أبواب التوحيد و العدل  : خلق القرآن ، حققه إبراهيم الأنباري  ،   ،   ص: 215 .

[49] البخاري: الصحيح، ج 4 ص: 106 ، ج 9 ص: 124 .

[50] الترمذي : السنن ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ، رقم : 2884 ، ج 5 ص: 161 .

[51] القاضي عبد الجبار المعتزلي : المغني في أبواب التوحيد و العدل  : خلق القرآن ، حققه إبراهيم الأنباري  ،   ،   ص: 215 .

[52] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 234  .

[53] ابن حجر: تقريب التهذيب ، ج 3 ص: 55 .

[54] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة  ، ص: 241 .

[55]  نفس المصدر، ص: 142 .

[56] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة  ، ص: 146  .

[57] المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، ص: 26 .

[58] الشوكاني: الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة ، ط2 ، المكتب الإسلامي، بيروت ، 1407 ، ص: 251 .

[59] الجاحظ : رسائل الجاحظ ، ج 1 ص: 70  .

[60] الألباني: صحيح الأدب المفرد ، دار الصديق ،  1421 هـ ، ص: 235 .

[61] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة  ، ص: 141 .

[62] الألباني: صحيح الأدب المفرد ، ط 1 ، دار الصديّق ، 1421 هجرية  ، ص: 195 .

[63] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة  ، ص: 242 ، 243 .

[64] ابن عدي: الكامل في الضعفاء، دار الفكر، بيروت ، 1988 ، ج 6 ص: 101 .

[65] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 243 .

[66] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 274 .

[67] نفسه ، ص: 274 .

[68] نفسه ، ص: 274 .

[69] ج2 ، ص: 83 .

[70] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 334 .

[71] ابن حجر: تهذيب التهذيب ، ج 2 ص: 299، 300  .

[72] الموسوعة العربية العالمية ، مادة: أحمد بن حنبل .

[73] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 337  .

[74] المزي: تهذيب الكمال ، ج 22 ص: 5 .

[75] عثمان الدارمي: النقض على المريسي ،  ط1 ، مكتبة الرياض، الرياض ، 1998 ، ص: 573 .

[76] هبة الله بن الحسن بن منصور اللالكائي : شرح أصول اعتقاد أهل السنة و الجماعة ، حققه أحمد حمدان ، دار طيبة ، الرياض، 1402هـ ، ج 2 ص: 228 .

[77] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 338  ، 339 .

[78] الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج 4 ص: 449 و ما بعدها. و ابن حجر: تذيب التهذيب ، ج 9 ص: 30 و ما بعدها .

[79] الذهبي: نفس المصدر  ، ج 8 ص: 466  و ما بعدها .

[80] الذهبي: نفس المصدر ، ج 7 ص: 121 .

[81] ابن حجر: لسان الميزان ، ج 4 ص: 319 .

[82] ابن عساكر : تاريخ دمشق ، ج 48 ص: 198 .

[83] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: 335  .

[84] ابن حجر : تهذيب التهذيب ، ج 4 ص: 270 .

[85] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال ، ص: 88 .

[86] ج 5 ص: 271 .

[87] محمود  الطحان : تيسير مصطلح الحديث ، دار رحاب، الجزائر ، ص: 18 ، 19 ، 21 .

[88] أبو القاسم البلخي، و القاضي عبد الجبار ، و الحاكم الجشمي : فضل الاعتزال و طبقات المعتزلة ، ص: - 186 .

[89]  نفس المصدر ، ص: - 195 .

[90] نفس المصدر ، ص: 156 .

[91] المحسن بن كرامة الجشمي: تحكيم العقول في تصحيح الأصول ، ص: 23 .

[92] ابن قتيبة : تأويل مختلف الحديث ، ص: 43  .

  • الاحد PM 03:50
    2021-07-25
  • 3340
Powered by: GateGold