المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409106
يتصفح الموقع حاليا : 259

البحث

البحث

عرض المادة

الصُّدفة في ميزان الفلسفة والعلم والدين دراسة تحليلية نقدية - المبحث الثالث - المطلب الثاني

بقلم أ.د عماد العجيلي
استاذ ورئيس قسم العقيدة بجامعة الازهر والجامعة الإسلامية بمنيسوتا

المطلب الثاني

 نقد علماء الإسلام لدعوى فَرضِية الصُدفة

إنّ هذا الكون المخلوق على هذا الوجه من الحياة، والنظام، والعقل، والتدبير، لا يكون صادرًا عن قانون ضروري مجرد، أو مادة صماء، أو صدفة عشوائية، فهذا كمن يتصور أنّ حيوانًا أعجمًا، أو طفلًا رضيعًا؛ يبرمج حاسوبًا ذكيًا! ولو ادعى أحد من الناس هذا لرُمِيَ بالجنون، فكيف بمَن يدعيه في الكون جملة أنه نشأ دفعة من العدم، فيجعل استمداد الوجود من العدم، لكنها تطورت وصممت كل ما في الكون من مخلوقات بطريق الصدفة والعشوائية كما هو ادعاء القائلين بها.

لقد جعل العلماء من عناية الله تعالى بالكون دليلًا واضحًا على فساد القول بالصُدفة، فالكون المادي يسوده النظام، وهذا الدليل شائع ومنتشر، بين فلاسفة الإسلام، والمتكلمين على اختلاف فرقهم.

قال الكندي: " فإن في نظم هذا العالم وترتيبه، وفعل بعض لبعض، وتسخير بعض لبعض، واتفاق هيئته على الأمر الأصلح في كون كل كائن، وفساد فاسده، وثبات كل ثابت، وزوال كل زائل لأعظم أدله على أتقن تدبير، ومع كل تدبير مدبر، وعلى أحكم حكمه، ومع كل حكمة حكيم"([1])

معنى هذا الكلام، أن الكون قد صيغ على صورة تجمع بين التعقيد والوظيفة، إذ أنّ النظر في ائتلاف الكون يقود إلى العلم أنه وجد لغاية، ولذلك يُسمي أصحاب هذه الرؤية هذا البرهان الغائي كما عند توما الإكويني، أو" برهان العناية" كما عند ابن رشد قبله، ويقوم عند ابن رشد على " أصلين: موافقة جميع أجزاء العالم لوجود الإنسان، وأنّ ما كان مُسدَّدًا نحو غاية واحدة، فهو مصنوع لحكمة ضرورة فهو أثر عن إرادة وحكمة " ([2]) أي أن جميع أجزاء العالم مهيأ في خلقه وتركيبه لوجود الإنسان، وأن العالم يسير بعناية إلهية.

 برهان الضبط الدقيق المعاصر و الذي عبر عنه ابن رشد من قبل ب  (برهان العناية)؛ لكنه صيغ مجددًا في ضوء علم الاحتمالات، وأضحى أوسع من جهة أنه معنى بوجود كل صورة للحياة ممكنة، لا الإنسان فقط.

ويروق لنا شرح الإمام الباقلاني؛ وهو بصدد حديثه عن علم الله تعالى حيث قال: " ويدل على أنه عالم: صدور الأفعال الحكيمة المتقنة الواقعة على أحسن ترتيب ونظام، وإحكام واتقان، وذلك لا يحصل إلا من عالم بها، ومن جوَّز صدور خط معلوم منظوم مرتب من غير عالم بالخط؛ كان عن المعقول خارجًا، وفي عمل الجهل والجًا! "([3])

وهذا مسلك من مسالك المتكلمين في إثبات وجود الله، فقد استدل به الإمام الغزالي على وجود الله حيث يقول: "فليس يخفي على من معه أدنى مسكة من عقل، إذا تأمل بأدنى فكرة مضمون هذه الآيات، وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسموات، وبدائع فطرة الحيوان والنبات، أنّ هذا الأمر العجيب، والترتيب المحكم، لا يستغني عن صانع يدبره، وفاعل يحكمه، ويقدره، بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره، ومصرفة بمقتضى تدبيره"([4]).

  فالصُدفة لا معنى لها ولا قدرة لها، وكيف ينسب إلى الصُدفة الإحياء أو الإماتة؟ إنها " لا تجري على نسق، ولا تسير بنظام، وكل ما في هذا العالم يجري على نسق عجيب ونظام بديع " (5)

  ووجود الإنسان يأتي على هذا النسق العجيب، فخلق الإنسان، وإماتته يحتاج إلى قدرة وإرادة، وهذا ليس متوفرًا في الصُدفة، فهل الصُدفة هي التي أوجدتني وأوجدتك من العدم؟ وهل خلق آدم أبو البشر صدفة؟

  ولا يستطيع أحد أن يدعي أنّ الصُدفة تعني الخلق والعقل والعلم والحكمة، والقدرة المطلقة والنظام والترتيب، والصُدفة فعل بدون قصد، ولا هدف، ولا غاية، والحقيقة أنّ كل ما في الوجود مقصود وموجه إلى غاية وهدف.

  والحق أننا أمام اختيارين: إما القول بالإرادة الإلهية، أو القول بالمصادفة، "ومن الواضح أنّ القول الأول هو الذي يميل إليه كل ذي عقل صحيح أو قلب سليم، ولا دافع يدفع إلى القول الثاني من العقل أو القلب إلا أن يكون كراهية محضة لله سبحانه وتعالى"(3).

  ونتساءل: "لماذا نجد أنّ أشكال الناس وبصمات أصابعهم وبصمات صوتهم، وكذلك رائحة كل منهم مميزة، ولها خاصية تختلف من إنسان لآخر ولا يوجد اثنان من البشر يتحدان في هذه الصفات؟ فمن الذي جعل لكل واحد مميزاته وصفاته المنفردة؟ ولماذا؟ وكيف؟"(1)، بل نجد اختلاف في بصمة العين.

   الجواب لكل تلك التساؤلات، بلا شك يوجد خالق حكيم وراء خلق الإنسان، فالتباين والاختلاف بين الناس يدلان على القصد والحكمة، ولو كان خلق الإنسان بالصُدفة لجاء متشابهًا لا اختلاف فيه.

لقد عجزت النظريات المادية، بما في ذلك نظرية التطور الداروينية، بعد أن ظهر بطلانها عن تفسير البعد الإنساني في ظاهرة الإنسان.

إن فكرة الصُدفة إنما هي فكرة تخمينية، ليست نتيجة عملية تجريبية، أو ملاحظة علمية، وإنما هي نتيجة عملية عقلية محضة، وتدعى أنها علم.

إذن، القول بالصُدفة يتنافى مع تدخل الإرادة الإلهية في الخلق والإماتة، ذلك لأنّ المصادفة لا قدرة لها، ولا معنى لها، ولا تتكرر، وتتنافى مع القوانين العلمية، والآيات القرآنية.

*****

([1]) الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريده، دار الفكر العربي، 1950م، صـ215.

([2]) ابن رشد: الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة، تصحيح: مصطفي عبد الجواد عمران، المطبعة العربية، ط3/ 1388ه-1968م، ص62.

([3]) الباقلاني، الانصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به، تحقيق محمد زاهد الكوثري، مؤسسة الحانجى للطباعة ط2، 1963م، 34 – 33. وانظر أيضًا الباقلاني التمهيد، تحقيق: محمود الخضري، ومحمد عبد الهادي أبو ريده، ط: القاهرة 1947م، صـ44-والانصاف، صـ30-31.

([4]) الغزالي، إحياء علوم الدين، ط ، دار المعرفة، بيروت، ط1، 1432هـ، 1/190.

(1) سامي محمد شهاب، الإسلام يتصدى لأباطيل المستشرقين والملحدين، المؤسسة العربية الحديثة 1988، ص 143.

  • الخميس PM 02:42
    2023-06-08
  • 813
Powered by: GateGold