المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 408921
يتصفح الموقع حاليا : 331

البحث

البحث

عرض المادة

معنى الشفاعة عند المعتزلة

1- الشفاعة لغة: الشفاعة لغة مأخوذة من الشفغ الذي هو ضد الوتر. وهو جعل الفرد زوجاً يقال كان وتراَ فَشَفَعهُ من باب قطع، وتسمى الركعتين شفعاً؛ والشفاعة الدُّعاءُ والشَّفاعةُ كلام الشَّفِيعِ لِلْمَلِكِ في حاجة يسأَلُها لغيره، وشَفَعَ إِليه في معنى طَلَبَ إِليه، والشَّافِعُ الطالب لغيره يَتَشَفَّعُ به إِلى المطلوب يقال تَشَفَّعْتُ بفلان إِلى فلان فَشَفّعَني فيه.([1]) وجاء في تاج العروس:"الشَّفاعَة هي:كلامُ الشَّفيع للمَلِكِ في حاجةٍ يسألُها لغيرِه. وَشَفَع إليه : في معنى طَلَبَ إليه . وقال الراغب: الشَّفْع :ضَمُّ الشيءِ إلى مِثلِه والشّفاعَة : الانضِمامُ إلى آخَرَ ناصراً له وسائلاً عنه وأكثرُ ما يُستعمَلُ في انضِمامِ مَن هو أعلى مَرْتَبةً إلى من هو أدنى ومنه الشَّفاعَةُ في القيامة. وقال غيرُه :الشَّفاعَة:التَّجاوُزُ عن الذُّنوبِ والجرائم".([2])

2- الشفاعة اصطلاحا:هي سؤال الغير أن ينفع غيره، أو أن يدفع عنه مضره، ولا بد من شافع ومشفوع له، ومشفوع فيه، ومشفوع إليه.([3]) أو هي:"السؤال في التجاوز عن الذنوب من الذي وقع الجناية في حقه".([4]) أي هي التوسط في جلب الخير أو دفع الضر، فتكون الشفاعة دائرة على أمرين:جلب المنفعة ودفع البلاء. ([5])

المبحث الأول: مذهب أهل السنة:

المطلب الأول: أقوال أئمة أهل السنة

      إن أهل السنة والجماعة يثبتون الشفاعة بأنواعها الثمانية، ومنها الشفاعة لأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويردون قول المعتزلة المنكرين لها. ([6])

       يقول الإمام أبو حنيفة:"شفاعة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حق، وشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم للمؤمنين المذنبين، ولأهل الكبائر منهم المستوجبين للعقاب حق ثابت".([7])

       ويقول أبو الحسن الأشعري:"وقال أهل السنة والاستقامة بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته...وقال أهل السنة والاستقامة أن الله يخرج أهل القبلة الموحدين من النار ولا يخلدهم فيها".([8])

      ويقول في موضع آخر:"إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ([9])

        وذكر أبو الحسن الأشعري إجماع أهل السنة والجماعة على شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمته، وعلى أنه يشفع عند الله تعالى فيخرج قوم من أمته من النار بعدما صاروا حُمَما.([10])

      ويقول عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي:"ويشفع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار من أمته من أهل الكبائر فيخرجون بشفاعته بعد ما احترقوا وصاروا فحما وحمما فيدخلون الجنة بشفاعته ولسائر الأنبياء والمؤمنين والملائكة شفاعات قال تعالى:(ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون) ولا تنفع الكافر شفاعة الشافعين".([11])

        ويقول عضد الدين الإيجي:"أجمعت الأمة على أصل الشفاعة وهي عندنا-يقصد أهل السنة- لأهل الكبائر من الأمة لقوله صلى الله عليه وسلم:(شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ([12])، ولقوله تعالى:(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) سورة محمد:19، أي ولذنب المؤمنين لدلالة القرينة وطلب المغفرة شفاعة".([13])

         وقال أبو عثمان الصابوني:"ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمذنبي أهل التوحيد ومرتكبي الكبائر كما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودلَّ على ثبوت الشفاعة الكتاب والسنة والإجماع".([14])

ويقول ابن تيمية:"ومذهب سلف الأمة وأئمتها وسائر أهل السنة والجماعة إثبات الشفاعة لأهل الكبائر، والقول بأنَّه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان".([15]

ويقول في موضع آخر:"ومذهب الصحابة والتابعين..أنَّه صلى الله عليه وسلم يشفع في أهل الكبائر، وأنه لا يخلد في النار من أهل الإيمان أحد؛ بل يخرج من النَّار من في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال ذرة من إيمان".([16])

        ويقول أبو العز الحنفي:"والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الكبائر، وأما أهل السنة والجماعة فيقرون بشفاعة نبينا ص صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً".([17])

المطلب الثاني: ثبوت الشفاعة بالقرآن الكريم:

        قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ:مَذْهَبُ أَهْلِ السَّنَةِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ عَقْلًا وَوُجُوبُهَا سَمْعًا بِصَرِيحِ قَوْلِهِ تَعَالَى:(يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا). وَقَوْلُهُ تَعَالَى:(لَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى) وَأَمْثَالُهُمَا.([18])

        وذكر فخر الدين الرازي عدة أدلة من القرآن الكريم في إثبات الشفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في إخراج عصاة الموحدين من النار، نورد بعضها هنا وبتصرف بسيط.([19])

الدليل الأول: قوله الله سبحانه وتعالى:حكاية عن عيسى عليه السلام:(إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم) سورة المائدة:118.

        يقول فخر الدين الرازي:"احتج بعض الأصحاب بهذه الآية على شفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم في حق الفساق قالوا: لأن قول عيسى عليه السلام (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) ليس في حق أهل الثواب، لأن التعذيب لا يليق بهم، وليس أيضاً في حق الكفار لأن قوله (وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) لا يليق بهم فدل على أن ذلك ليس إلا في حق الفساق من أهل الايمان ، وإذا ثبت شفاعة الفساق في حق عيسى عليه السلام ثبت في حق محمد صلى الله عليه وسلّم بطريق الأولى لأنه لا قائل بالفصل".([20])

           ووجه الاستدلال بهذه الآية أن هذه الشفاعة من نبي الله عيسى عليه السلام إما أن يقال إنها كانت في حق الكفار، أو في حق المسلم المطيع، أو في حق المسلم صاحب الصغيرة، أو المسلم صاحب الكبيرة بعد التوبة، أو المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة. والقسم الأول باطل، لأن قوله تعالى:(وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم )المائدة:118، لا يليق بالكفار، والقسم الثاني والثالث والرابع باطل، لأن المسلم المطيع والمسلم صاحب الصغيرة والمسلم صاحب الكبيرة لا يجوز بعد التوبة تعذيبه عقلاً عند المعتزلة، وإذا كان كذلك لم يكن قوله:(إِن تُعَذّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) لائقاً بهم. وإذا بطل ذلك لم يبق إلا أن يقال:إن هذه الشفاعة إنما وردت في حق المسلم صاحب الكبيرة قبل التوبة، وإذا صحَّ القول بهذه الشفاعة في حق نبي الله عيسى عليه السلام صح القول بها في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ضرورة إذ لا فرق بينهما، فكلاهما نبي.([21])

 الدليل الثاني: قول الله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:(فَمَن تَبِعَنِى فَإِنَّهُ مِنّى وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) سورة إبراهيم:36.

      قوله تعالى:(وَمَنْ عَصَانِى فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) لا يجوز حمله على الكافر لأنه ليس أهلاً للمغفرة بالإجماع، ولا حمله على صاحب الصغيرة ولا على صاحب الكبيرة بعد التوبة، لأن غفرانه لهم واجب عقلاً عند المعتزلة فلا حاجة له إلى الشفاعة، فلم يبق إلا حمله على صاحب الكبيرة قبل التوبة.

ومما يؤكد دلالة الآيتين السابقتين على ثبوت الشفاعة للنبي عليه الصلاة والسلام ولأهل الكبائر من العصاة ما رواه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ:(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) سورة : إبراهيم آية:36، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام:(إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) سورة: المائدة آية: 118، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي وَبَكَى فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالَ وَهُوَ أَعْلَمُ فَقَالَ اللَّهُ يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ".([22])([23])

الدليل الثالث: قول الله تعالى:(يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً) سورة مريم:85-87.

     ليس في ظاهر الآية ما يدل على أن المجرمين لا يملكون الشفاعة لغيرهم أو أنهم لا يملكون شفاعة غيرهم لهم، لأن المصدر كما يجوز ويحسن إضافته إلى الفاعل يجوز ويحسن إضافته إلى المفعول، إلا أنا نقول حمل الآية على الوجه الثاني أولى، لأن حملها على الوجه الأول يجري مجرى إيضاح الواضحات، فإن كل أحد يعلم أن المجرمين الذين يساقون إلى جهنم ورداً لا يملكون الشفاعة لغيرهم ، فتعين حملها على الوجه الثاني. إذا ثبت هذا فنقول: الآية تدل على حصول الشفاعة لأهل الكبائر ، لأنه قال عقيبه :(إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً)، والتقدير أن المجرمين لا يستحقون أن يشفع لهم غيرهم إلا إذا كانوا اتخذوا عند الرحمن عهداً، فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً وهو التوحيد والإسلام، فوجب أن يكون داخلاً تحته أقصى ما في الباب أن يقال:واليهودي اتخذ عند الرحمن عهداً وهو الإيمان بالله فوجب دخوله تحته لكنا نقول ترك العمل به في حقه لضرورة الإجماع فوجب أن يكون معمولاً به فيما وراءه.

الدليل الرابع: قول الله تعالى في صفة الملائكة:(وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى) سورة الأنبياء:28.

        يقول فخر الدين الرازي في الاستدلال بهذه الآية:"واعلم أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر:وتقريره هو أن من قال لا إله إلا الله فقد ارتضاه تعالى في ذلك، ومتى صدق عليه أنه ارتضاه الله تعالى في ذلك فقد صدق عليه أنه ارتضاه الله، لأن المركب متى صدق فقد صدق لا محالة كل واحد من أجزائه، وإذا ثبت أن الله قد ارتضاه وجب اندراجه تحت هذه الآية، فثبت بالتقرير الذي ذكرناه أن هذه الآية من أقوى الدلائل لنا".([24])

      ويقول فخر الدين الرازي في موضغ أخر:"وجه الاستدلال به أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى، وكل من كان مرتضى عند الله تعالى وجب أن يكون من أهل الشفاعة، إنما قلنا:إن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله تعالى لأنه مرتضى عند الله بحسب إيمانه وتوحيده وكل من صدق عليه أنه مرتضى عند الله بحسب هذا الوصف يصدق عليه أنه مرتضى عند الله تعالى لأن المرتضى عند الله جزء من مفهوم قولنا:مرتضى عند الله بحسب إيمانه ، ومتى صدق المركب صدق المفرد، فثبت أن صاحب الكبيرة مرتضى عند الله، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون من أهل الشفاعة لقوله تعالى:(وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى) نفي الشفاعة إلا لمن كان مرتضى والاستثناء عن النفي إثبات، فوجب أن يكون المرتضى أهلاً لشفاعتهم، وإذا ثبت أن صاحب الكبيرة داخل في شفاعة الملائكة وجب دخوله في شفاعة الأنبياء وشفاعة محمد صلى الله عليه وسلّم ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق".([25])

 

 

الدليل الخامس:(وَإِذَا حُيّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا) سورة النساء:86.

      لقد أمر الله تعالى كلَّ المسلمين بأنَّه إذا حياهم أحد بتحية أن يقابلوا تلك التحية بأحسن منها أو يردوها، ثم أمر المسلمين بتحية رسول صلى الله عليه وسلم حيث قال تعالى:(يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً) الأحزاب:56، ومن المعلوم أنَّ الصلاة من الله تعالى رحمة، ولا شك أن هذا تحية، فلما طلبنا من الله الرحمة لرسول الله عليه الصلاة والسلام وجب بمقتضى قوله:(فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، أن يفعل رسول الله عليه الصلاة والسلام مثله وهو أن يطلب لكل المسلمين الرحمة من الله تعالى، وهذا هو معنى الشفاعة، ثم توافقنا على أن رسول الله عليه الصلاة والسلام غير مردود الدعاء، فوجب أن يقبل الله شفاعته في الكل وهو المطلوب.

الدليل السادس:قوله تعالى:(وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَاءوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً) سورة النساء:64.

     ليس في الآية الكريمة ذكر التوبة، والآية تدل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام متى استغفر للعصاة والظالمين فإن الله تعالى يغفر لهم، وهذا يدل على أن شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام في حق أهل الكبائر مقبولة في الدنيا، فوجب أن تكون مقبولة في الآخرة، لأنه لا يقول قائل بوجود الفرق بين شفاعته في الدنيا وشفاعته في الآخرة.

الدليل السابع: (فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) سورة المدثر:48.

      لقد ذكر الله تعالى أوصاف الكافرين ثم أعقب بقوله:(فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ)،أي أن الكفار محرومون من الشفاعة، فدل هذا على أن الشفاعة تنفع غيرهم وهم المؤمنون، يقول ابن جرير الطبري في تفسيره للآية الكريمة:"يقول:فما يشفع لهم الذين شفعهم الله في أهل الذنوب من أهل التوحيد، فتنفعهم شفاعتهم، وفي هذه الآية دلالة واضحة على أن الله تعالى ذكره مشفع بعض خلقه في بعض".([26]) وقال فخر الدين الرازي:"واحتج أصحابنا على ثبوت الشفاعة للفساق بمفهوم هذه الآية، وقالوا:إن تخصيص هؤلاء بأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين يدل على أن غيرهم تنفعهم شفاعة الشافعين".([27])

المطلب الثالث: ثبوت الشفاعة بالحديث الشريف:

         يقول ابن الوزير اليماني:"وأحاديث الشفاعة المصرحة بخروج الموحدين من النار قاطعة في معناها بالإجماع، وهي قاطعة في ألفاظها..لورودها عن عشرين صحابيا أو تزيد في الصحاح والسنن والمسانيد، وأما شواهدها بغير لفظها فقاربت خمسمائة حديث".([28]) وقال:أحاديث الشفاعة متواترة وفيها التصريح بدخول عصاة الموحدين النار ثم بخروجهم منها بالشفاعة.([29])

        يقول أبو الحسن الأشعري":إن الله عز وجل يخرج قوما من النار بعد أن امتحشوا بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديقا لما جاءت به الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".([30]) ويقول الجويني:إن الشفاعة شهدت لها السنة التي بلغت الاستفاضة، وهي مصرحة بالتشفيع في أهل الكبائر، وأن الأخبار المأثورة شاهدة بتعلق الشفاعة بأصحاب الكبائر. ([31])

يقول ابن تيمية:"فقد تواترت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في أنه يخرج أقوام من النار بعدما دخلوها، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع في أقوام دخلوا النار، وهذه الأحاديث حجة على الوعيدية الذين يقولون: من دخلها من أهل التوحيد لم بخرج منها".([32])

ويقول ابن تيمية في موضع آخر:"وقد ثبت بالنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم إخراج قوم من النار بعد ما امتحشوا، وثبت أيضا شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من العصاة، والآثار بذلك متواترة عند أهل العلم بالحديث أعظم من تواتر الآثار بنصاب السرقة ورجم الزاني المحصن ونصب الزكاة ووجوب الشفعة وميراث الجدة وأمثال ذلك".([33])

ويقول يحيى بن أبى الخير اليمانى:"والأخبار في الشفاعة كثيرة وإن اختلفت ألفاظها، إلا أنها متفقة المعنى، وأطبق سلف هذه الأمة على تصحيح هذه الروايات ، لم ينكرها أحد من الصحابة والتابعين، ولو كانت غير صحيحة لكان الصحابة والتابعون أشد إنكارا لها من المعتزلة..".([34])

ومن الأحاديث الشريفة التي تثبت الشفاعة صراحة للمذنبين من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلي:-

1- حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئا".([35])، ولا شك أن من زنى أو سرق أو شرب الخمر لم يشرك بالله فهو ممن تناله الشفاعة إن شاء الله كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

2- حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم -أو قال– بخطاياهم، فأماتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن بالشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل:يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل".([36])

3- حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال:سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمتي".([37])

4- حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتدرون ما خيرني ربي الليلة، قلنا: الله ورسوله أعلم، قال:فإنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة، وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة، قلنا يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها، قال:هي لكل مسلم".([38])

5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا كان يوم القيامة شفعت فقلت يا رب أدخل الجنة من كان في قلبه خردلة فيدخلون ثم أقول أدخل الجنة من كان في قلبه أدنى شيء"، فقال أنس كأني أنظر إلى أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم".([39])

6-عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"يخرج من النار بالشفاعة كأنهم الثعارير".قلت وما الثعارير؟ قال الضغابيس" وكان قد سقط فمه فقلت لعمرو بن دينار يا أبا محمد سمعت جابر بن عبد الله يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول" يخرج بالشفاعة من النار"،قال:نعم".([40])

المبحث الثاني:مذهب المعتزلة في الشفاعة:

المطلب الأول:حكاية مذهب المعتزلة

        إن المعتزلة ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره فيمن استحق النار من أهل الكبائر، وهؤلاء في زعمهم لا يخرجوا من النار بعد  دخلوها، ويقصرون الشفاعة على التائبين من المؤمنين دون الفساق من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتكون برفع درجاتهم  في الجنة؛([41]) لأن إثبات الشفاعة للفساق ينافي مبدأ الوعيد الذي هو أصل من أصول المعتزلة الخمسة التي يقوم عليها مذهبهم.

         يقول القاضي عبد الجبار الهمذاني-أحد كبار مشايخ المعتزلة- في بيان رأي المعتزلة في الشفاعة:"لا خلاف بين الأمة في أنَّ شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم ثابتة للأمة، وإنما الخلاف في أنها تثبت لمن؟". ثم قال:"فعندنا أن الشفاعة للتائبين من المؤمنين".([42]) ويقول في موضع آخر:"فحصل لك بهذه الجملة العلم بأن الشفاعة ثابتة للمؤمنين دون الفساق من أهل الصلاة".([43])

  وذهب المفسر الزمخشري المعتزلي إلى أنّ الشفاعة لا تقبل للعصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك في تفسيره لقول تعالى:(وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ) سورة البقرة:48.

          ويقول أبو الحسن الأشعري عند عرضه اختلاف الفرقة وأصحاب المقالات في شفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم هل هي ثابتة لأهل الكبائر أم لا؟:"فأنكرت المعتزلة ذلك وقالت بإبطاله، والشفاعة من النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين أن يزادوا في منازلهم من باب التفضيل".([44])  ويقول في موضع آخر:"فإن كثيرا من الزائغين عن الحق من المعتزلة وأهل القدر مالت بهم أهواؤهم إلى تقليد رؤسائهم ومن مضى من أسلافهم....وأنكروا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم للمذنبين ودفعوا الروايات في ذلك عن السلف المتقدمين".([45])

       وقال ابن حزم الظاهري:اختلف الناس في الشفاعة، فأنكرتها المعتزلة وقالوا:بعدم خروج أحد من النار بعد دخوله فيها، بينما ذهب أهل السنة والأشعرية والكرامية وبعض الرافضة إلى القول بالشفاعة.([46])

      وقال محمد بن الحسين الآجري:اعلموا رحمكم الله أن المنكر للشفاعة يزعم أن من دخل النار فليس بخارج منها، وهذا مذهب المعتزلة يكذبون بها".([47])

        ويقول ابن تيمية:إن الخوارج والمعتزلة يقولون:إن من دخل النار لا يخرج منها بل يخلد فيها وينكرون شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في أهل الكبائر قبل الدخول وبعده، وينكرون خروج أحد من النار.([48]) ويقول:"الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار ويخرجونهم من الإيمان بالكلية ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم".([49])

     ويقول ابن القيم:"رد الخوارج والمعتزلة النصوص المتواترة الدالة على خروج أهل الكبائر من النار بالشفاعة وكذبوا بها، وقالوا لا سبيل لمن دخل النار إلى الخروج منها بالشفاعة ولا غيرها....،أحالوا بالشفاعة على زيادة الثواب فقط لا على الخروج من النار، فردوا السنة المتواترة قطعا، وصاروا مضغة في أفواه الأمة وعارا في فرقها".([50])

المطلب الثاني:أدلة المعتزلة في عدم استحقاق العصاة الشفاعة:

         ذهب المعتزلة إلى عدم استحقاق العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم الشفاعة، والذي حمل المعتزلة على هذا الاعتقاد الباطل،أمران:-

أحدهما:زعمهم أن المؤمن إذا خرج من الدنيا بكبيرة من الكبائر دون أن يتوب منها فإنه يستحق الخلود في النار، لكن عقابه يكون أخف من عقاب الكافر. ([51]) وأن آيات الوعيد تتناول الفساق من المسلمين كما تتناول الكفرة، وهذا ما يعرف بمسألة الوعد والوعيد عند المعتزلة.

وثانيهما:اعتقادهم عدة شبهات اعتقدوها أدلة نتيجة فهمهم الخاطئ لنصوص القرآن الكريم، بالإضافة إلى ما زعموه من الأدلة العقلية.

 

[1]- انظر لسان العرب:ابن منظور 8/183.

[2]- تاج العروس 1/5348.

[3]- شرح الأصول الخمسة ص 688.

[4]- انظر التعريفات للجرجاني ص 211، والنهاية في غريب الحديث ، لابن الأثير 2/485، والكليات  لأبي البقاء ص 536.

[5]- شرح العقيدة الواسطية 2/168.

[6] -انظر العقيدة الطحاوية 1/282-290.

[7] - الفقه الأكبر:أبو حنيفة ص 41.

[8]- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين: أبو الحسن الأشعري 2/116.

[9]- الإبانة في أصول الديانة:أبو الحسن الأشعري 1/20.

[10]- انظر  رسالة إلى أهل الثغر ص97.

[11]- لمعة الاعتقاد:الشيخ عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي 1/134.

[12] - رواه أحمد في المسند، رقم 13245،3/213، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط :إسناده صحيح. رواه الترمذي رقم 2436،4/625، باب 11 (منه) قال الشيخ الألباني: صحيح.

[13]- المواقف:الإيجي ص 380.  

[14]- عقيدة السلف أصحاب الحديث ص 61.

[15]- مجموع الفتاوى 1/116.

[16] - مجموع الفتاوى 1/318.

[17]- شرح العقيدة الطحاوية 1/294.

[18]- شرح مسلم 3/35.

[19]- انظر التفسير الكبير:فخر الدين الرازي  3/62-66.

[20]- انظر التفسير الكبير:فخر الدين الرازي  12/145.

[21]- انظر التفسير الكبير:فخر الدين الرازي  3/62.

[22]-رواه مسلم رقم،202، كتاب الإيمان، بَاب دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُمَّتِهِ وَبُكَائِهِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ.

[23]- انظر التفسير الكبير:فخر الدين الرازي  3/63.

[24]- انظر التفسير الكبير:فخر الدين الرازي  22/160.

[25]- انظر التفسير الكبير:فخر الدين الرازي  3/63.

[26] - تفسير الطبري: ابن جرير الطبري 24/37.

[27] - التفسير الكبير:فخر الدين الرازي 16/171.

[28]- إيثار الحق على الخلق:ابن الوزير 1/359.

[29] - انظر المصدر السابق 1/370،374، 379.

[30] - الإبانة: أبو الحسن الأشعري 1/20.

[31] - الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد: أبو المعالي عبد الملك الجويني 330-331.

[32] -مجموع الفتاوى 7/486.

[33]- منهاج السنة النبوية 6/204.  

[34]- الانتصار في الرد على المعتزلة القدرية الأشرار: يحيى بن أبى الخير اليمانى 3/698.  

[35] -رواه مسلم رقم 199،كتاب الإيمان،باب احتباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة للأمة. ورواه الترمذي رقم 3602، كتاب الدعوات،باب فضل لا حول ولا قوة إلا بالله، قال أبو عيسى هذا حديث حسن صحيح، قال الشيخ الألباني:صحيح.وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 1551.

[36] -رواه الترمذي رقم 2435،2436،كتاب صفة القيامة والرقائق والورع،11 باب منه،قال أبو عيسى:هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، ورواه أبو داود رقم 4739،كتاب السنة،باب في الشفاعةورواه ابن ماجه رقم 4385،قال الألباني: صحيح وذكره في سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 1551. ومعنى صبائر:الجماعات المتفرقة.

[37] - رواه أحمد في المسند، رقم 13245،3/213، قال الشيخ شعيب الأرنؤوط :إسناده صحيح. رواه الترمذي رقم 2436،4/625، باب 11 (منه) قال الشيخ الألباني: صحيح.

[38] -رواه ابن ماجة رقم 4393.قال الشيخ ناصر الدين الألباني: صحيح.

[39] - رواه البخاري رقم6509. كتاب التوحيد، باب كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم. ومسلم رقم 193،كتاب الرقاق، باب صفة الجنة.

[40] - رواه البخاري رقم 6558.كتاب الإيمان، باب أدنى الجنة منزلة فيها، ومسلم رقم 191،كتاب الرقاق، باب صفة الجنة،والثعارير: قثاء صغار.والضغابيس:جمع ضغبوس نبت يخرج في أصول الشجر والإذخر لا ورق له وفيه.

[41]- لوامع الأنوار البهية وسواطع السرار الأثرية:محمد السفاريني 2/212.

[42]- شرح الأصول الخمسة ص

[43]- المصدر السابق ص 690.

[44]- مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين 2/166.   

[45]- الإبانة في أصول الديانة1/14.   

[46]- انظر الفصل والملل:ابن حزم الظاهري 4/53.

[47]- الشريعة:أبو بكر محمد بن الحسين الآجري 1/337.

[48]- مجموع الفتاوى الكبرى:ابن تيمية 6/659،637.   

[49]- مجموع الفتاوى الكبرى:ابن تيمية 3/374.

[50]-طريق الهجرتين:ابن القيم 1/568 374.

[51]- انظر الملل والنحل للشهرستاني 1/45.

  • الاحد PM 03:19
    2021-07-25
  • 3549
Powered by: GateGold