المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409072
يتصفح الموقع حاليا : 393

البحث

البحث

عرض المادة

المشابهة بين المعتزلة الأوائل والمعتزلة الجدد للداعية فؤاد الشلهوب

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. أما بعد: 

فإن الأمة الإسلامية مُنيت في عهودها الأولى -ولا زالت- إلى اليوم بحركات ومذاهب وفرق كانت معول هدم تجتث الأصول والثوابت، فتخوض في ذات الله وفي أسمائه وصفاته بغير علم، وتشكك الأمة في قرآنها وسنة نبيها، وتهون من قدسية النصوص وتجعل العقل حاكماً عليها دون اعتبار للقواعد الشرعية والأصولية، وتتعرض لمقام الصحابة –الكرام-، بالهمز واللمز تارة، وبالطعن والسب تارة. وهي مع ذلك جادة في تقرير أصولها وطرح أفكارها ونشرها بين الناس. 

ومن تلكم المعاول: المعتزلة، والمدرسة العقلية الحديثة، والعصرانيون – العقلانيون الجدد-. فكانت خير معين لأعداء الإسلام على الإسلام، وكانت من أعظم أسباب تردي الأمة الإسلامية وضعفها وخورها بما نشروه من أفكار مضللة هدامة أصابت أمة الإسلام والمسلمين في مقتل. 

ولو كان اختلاف أولئك في مسائل الفروع أو في مسائل الأصول التي كان فيها نزاع بين السلف، وكان خلافاً ناتجاً عن بحث واجتهاد وتحقيق واتباع للأثر، لكان لهم منا العذر، ولكن أعرضوا عن هذا كله وخاضوا في الأصول المجمع عليها والمعلوم من الدين بالضرورة، وقدموا المعقول على المنقول، وطعنوا في خير البرية بعد النبيين، وتكلموا في ذات الله وفي أسمائه وصفاته بغير علم. قال ابن قتيبة -في بيان أن اختلاف أهل الكلام في الأصول-: (ولو كان اختلافهم في الفروع والسنن لا تّسع لهم العذر عندنا، وإن كان لا عذر لهم، مع ما يدعونه لأنفسهم كما اتسع لأهل الفقه، ووقعت لهم الأسوة بهم. ولكن اختلافهم في التوحيد، وفي صفات الله تعالى، وفي قدرته، وفي نعيم أهل الجنة، وعذاب أهل النار، وعذاب البرزخ، وفي اللوح، وفي غير ذلك من الأمور التي لا يعلمها نبي إلا بوحي من الله تعالى) [تأويل مختلف الحديث: ص17] . قلت: والمعتزلة لهم نصيب من هذا كله، ومن جاء بعدهم ممن تتلمذ على كتبهم وتبع منهجهم لهم منه نصيب أيضاً؛ بل زادوا على أسلافهم المعتزلة وأتوا بطوام وعجائب. 

والحق أن تسميتهم بالفكر العقلاني أو التيار العقلاني فيه نوع تمجيد لهم، فالله امتدح أهل العقول الذين يتفكرون في ملكوت السموات والأرض، ويتعضون بأحوال من سبقهم من الأمم، ويطيعون ربهم ورسولهم وينقادون لشرع خالقهم، و لا يقدمون عقولهم على كلام ربهم وكلام نبيهم .. إلخ. وطبعاً هذا الوصف لا ينطبق على من سموا بأصحاب الفكر العقلاني، والأولى وصفهم بما وصفهم به السلف (أهل الأهواء) فهو 

 

أصدق وصف ينطبق عليهم، فهم إنما يتبعون أهوائهم. ولكن سوف نسميهم بما اشتهروا به حتى يحصل التفريق بين مراحل هذا التيار ورجال كل مرحلة وإلا فجميعهم أهل أهواء. 

ولقد وقع اختيارنا على فرقة المعتزلة، وتيار المدرسة العقلية الحديثة، وتيار العصرانيين دون غيرها لأسباب: 

أولاً: مخالفتهم الصريحة للثوابت والمسلمات. 

ثانياً: عظم فتنتهم وتأثيرهم البالغ في الناس. 

ثالثاً: اتفاقهم في كثير من الأصول؛ بل إنك تكاد تجزم أنها ذرية بعضها من بعض، لما ترى من التوافق الكبير بينها. 

وفي بحثنا هذا سنتطرق إلى المخالفات التي سلكها الفكر العقلاني قديماً وحديثاً ونبين أوجه الترابط بينها، مع ذكر نموذجاً أو أكثر لبيان الاتجاه العام لهذه الحركات دون الدخول في تفاصيل كل شخصية من شخصيات الفكر العقلاني، فكلامنا عن المنهج العام لهذا الفكر وعن النتائج المترتبة على اعتناق هذه الأصول والأفكار، دون إلزام كل شخصية بما نسوقه من نماذج تعبر عن الاتجاه العام للفكر العقلاني. 

ولا يمنعنا ذكر الاتجاه العام لهذه المدارس من بيان رموز هذا الاتجاه قديماً وحديثاً، ولا ينبغي أن يشنع علينا مشنع إن ذكرنا شيئاً من كلامهم المخالف للحق، والمخالف لنهج السلف. يقول محمد محمد حسين ??رحمه الله : (نحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعنا أصنام جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى إن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحد الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يقبلون أن يوصف به زعماؤهم المعصومون، فيقبلون أن يوصف سيف الإسلام خالد بن الوليد بأنه قتل مالك بن نويرة في حرب الردة طمعاً في زوجته، ويرددون ما شاع حول ذلك من أكاذيب، ويقبلون أن يلطخ تاريخ ذي النورين عثمان بن عفان بما ألصقه به ابن سبأ اليهودي من تهم، ويقبلون ما يروي الأصبهاني في كتاب الأغاني في سُكينة بنت سيد شباب أهل الجنة- الحسين- من أخبار اللهو والمجون، ويرددون ما يذاع من أخبار هارون الرشيد الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ثم أصبح في أوهام أبناء هذا الجيل رمزاً للخلاعة والترف، بل كاد يصبح رمزاً للإسراف في طلب الشهوات، وصورة من أبطال ألف ليلة وليلة ... يقبلون ذلك كله ثم يرفضون أن يمس أحد أصنامهم بما هو أيسر منه، ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به إجماع المسلمين، ويأبون على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية، يخطئون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين ويجرحونهم بالظنون والأوهام ويثورون لتخطئة ساداتهم أو تجريحهم بالحقائق الدامغة) [الإسلام والحضارة الغربية: ص 49 - 50] . 

 

ولا نريد أن نستطرد كثيراً في مقدمة البحث، لأننا – بحول الله وقوته- سوف نستعرض المأخذ على كلٍ ونبرزها حتى يتضح الحق لمن أصابته غشاوة فأعمته عن رؤيته، وانخدع ببهرجهم الكاذب الذي يزينون به كلامهم. – فإلى الله المشتكى -. ... بقي أن نذكر أننا استفدنا في جمع مادة هذا البحث من أربعة مراجع هي: 

1 - منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير. للدكتور فهد الرومي. 

2 - محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة. لـ: الشيخ / سليمان الخراشي. 

3 - المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها. لـ: الشيخ / عواد المعتق. 

4 - العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب. لـ: الشيخ / محمد حامد الناصر. 

 

(لمحة موجزة عن المعتزلة والمدرسة العقلية الحديثة والعصرانيين) 

* تعريف موجز بالمعتزلة والمدرسة العقلية الحديثة، والعصرانيين: 

أولاً: المعتزلة (المدرسة العقلية الأولى) . 

أشهر ما قيل في سبب تسميتهم بالمعتزلة، أن رجلاً دخل على الحسن البصري وسأل عن مرتكب الكبيرة هل هو مؤمن أو كافر؟ فتكلم واصل بن عطاء فقال: (أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً؛ بل هو في منزلة بين المنزلتين، لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن. فقال الحسن: اعتزلنا واصل، فسمي وهو وأصحابه المعتزلة) . [الملل والنحل (1/ 52) ] . ثم انضم إليه عمرو بن عبيد فأخذا يقرران مذهب المعتزلة، فهما نواة هذه الفرقة. 

- ولقد ساعد على ظهور وانتشار آراء فرقة المعتزلة أمور – أهمها –: 

1 - الخلاف الكبير في حكم مرتكب الكبيرة. بين السلف والخوارج والمرجئة، فظهرت المعتزلة بقولها كحل لها – زعموا-. 

2 - مناصرة بعض حكام بني العباس لهم، وبلغ أوجه في عهد المأمون والمعتصم والواثق. حيث فُتح لهم المجال لنشر معتقدهم وآرائهم. ومسألة خلق القرآن التي اُمتحن بسببها خلق كثير شاهد على ذلك. 

3 - الدفاع عن الإسلام! ضد الفرق والحركات المناوئة للإسلام كالراوندية. ولهم في ذلك مناظرات ورسائل كثيرة. 

4 - دراسة الفلسفة والاطلاع على كتب الفلاسفة الأقدمين، مما جعل المأمون يشجع على ترجمة كثير من كتب اليونان، فخلط رجال المعتزلة كلامهم بكلام الفلاسفة اليونان، فكانوا أقدم المتكلمين في الإسلام، وافتتن بطريقتهم كثير من الناس فراجت بضاعتهم على عوام الناس بله على بعض العلماء وظنوا أن هذا هو المذهب الحق – نسأل الله السلامة والعافية -. [انظر: المعتزلة وأصولهم الخمسة: ص 30 - 50] 

- السمات العامة للفكر المعتزلي: 

1 - التزام أصولاً خمسة – ابتدعوها – وهي: 

أ التوحيد: وهو عندهم نفي الصفات، فهم يثبتون لله الأسماء دون الصفات. 

 

ب العدل: وهو عندهم نفي أن يكون الله خالقاً لأفعال العباد. مخالفين بذلك السلف – أهل السنة والجماعة. 

ت الوعد والوعيد: أي إنفاذ الوعيد وأن الله لا يقبل في أهل الكبائر شفاعة ولا يخرج منهم أحدا من النار. [انظر فتاوى ابن تيمية 13/ 355)] . 

ث المنزلة بين المنزلتين. حيث نزّلوا – أصحاب الكبائر- في الدنيا منزلة وسطى بين الإيمان والكفر – وحكموا بخلوده في النار في الآخرة – إن لم يتب -. . 

ج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وحقيقته عندهم ومؤداه جواز الخروج على الأئمة وقتالهم بالسيف. 

2 - إنكار رؤية الله عز وجل في الآخرة. 

3 - القول بخلق القرآن؛ وأن الله لم يتكلم به. 

4 - تعظيم أمر العقل وتقديمه على النقل. 

أ- تأويل الآيات القرآنية التي لا توافق العقل. 

ب- رد الأحاديث المخالفة للعقل ولو كانت متواترة، ولو كانت في الصحيحين. 

ت- عدم قبول خبر الآحاد لأنها ظنية. 

5 - الطعن في الصحابة والتابعين وخصوصا رواة الأحاديث كأبي هريرة رضي الله عنه 

6 - إنكار كثير من الغيبيات كالملائكة والجن والسحر وغيره. 

- بعض رموز المعتزلة ورجالها: 

1 - واصل بن عطاء. (ت 131) 

2 - عمرو بن عبيد. (ت 142) 

3 - أبو معن ثمامة بن الأشرس. (ت 213) 

4 - معمر بن عباد السلمي. (ت 220) 

5 - أبو الهذيل العلاف. (ت 226) 

6 - هشام الفوطي. (ت 226) 

7 - النظام. (ت 231) 

8 - الجاحظ. (ت 255) 

9 - أبو علي الجبائي. (ت 303) 

10 - الزمخشري. (ت 538) 

11 - وغيرهم. 

 

ثانياً: المدرسة العقلية الحديثة: 

وضع بذور المدرسة العقلية الحديثة المدعو جمال الدين بن صفدر الحسيني الأفغاني، وتولى رعايتها وسقيها حتى أثمرت وأينعت الأستاذ محمد عبده. وقد اختلف في أصل ونسب جمال الدين الأفغاني، والدلائل تشير إلى أنه إيراني الأصل وليس بأفغاني كما سمى نفسه، فـ (صفدر) كلمة فارسية من ألقاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو ما زندراني من أجلاف الشيعة. [انظر: تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده: للسيد محمد رشيد رضا (1/ 90) ، وكذلك الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص64] . 

ثم هو ما سوني انضم إلى المحفل الماسوني الاسكتلندي بطلب منه ثم تركه وقدم طلباً للعضوية في المحفل الماسوني الفرنسي!. [انظر: المدرسة العقلية الحديثة 1/ 100] ، ثم عين رئيساً لجمعية الماسون العربية عام 1878م. [انظر: العصرانيون بين مزاعم التجديد .. ص36] . وإثبات انتسابه للمحافل الماسونية أمر مهم عند بيان نشأة هذه المدرسة. 

ولما تسلّم محمد عبده زمام المدرسة العقلية الحديثة غيّر من سياسة مؤسسها الأول جمال الدين الأفغاني؛ حيث كان الأول سياسي الاتجاه، بينما محمد عبده يرى أن الإصلاح! يكون عن طريق التعليم، ولذا نشط في هذا الجانب كثيراً وظهر له تلاميذ واتباع كان لهم أثر بارز في نشر أفكار ومعتقدات المدرسة العقلية الحديثة. ولن نسهب بأكثر من ذلك لأننا سوف نأتي على بعض وأبرز أفكارها التي خالفت فيها نهج السلف. 

- السمات العامة لفكر المدرسة العقلية الحديثة: 

1 - تقديم العقل على النقل. 

2 - تأويل القرآن مخالفاً بذلك تفسير السلف. 

3 - تأويل الآيات والنصوص بما يتلاءم مع العقل، أو المكتشفات العلمية الحديثة. 

4 - رد الأحاديث التي لا يمكن تأويلها، متوتر أو آحاد، في الصحيحين أو في غيرهما. 

5 - الطعن في الصحابة والتابعين وخصوصا رواة الأحاديث. 

6 - إنكار المعجزات وكثير من الغيبيات كالملائكة والجن والسحر. وهذا أمر طبعي لمن قدم العقل على النقل. 

7 - الدعوة إلى التقارب بين المسلمين والكفار، ووحدة الأديان. 

8 - تقسيم السنة إلى سنة عملية، وسنة غير عملية. فالسنة العملية يؤخذ بها كالعبادات، والسنة غير العملية لا يلتزم الأخذ بها [العصرانيون بين مزاعم التجديد ص220] . وسوف يأتي بيانه – إن شاء الله -. 

9 - الدعوة إلى القومية. 

10 - موقفهم من المرأة، الحجاب، تعدد الزوجات .. إلخ. 

 

- بعض رموز المدرسة العقلية الحديثة. 

1 - جمال الدين الأفغاني. (ت 1314هـ) 

2 - محمد عبده. (ت 1323هـ) 

3 - السيد محمد رشيد رضا. (ت 1354هـ) (1) 

4 - عبد العزيز جاويش. (ت1347) 

5 - أحمد مصطفى المراغي. (1371هـ) 

6 - محمد فريد وجدي. (ت1373هـ) 

7 - عبد القادر المغربي. (ت1375هـ) 

8 - محمود شلتوت. (ت1383هـ) . 

9 - وغيرهم. 

ثالثاً: العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

العصرانية: حركة تجديد واسعة نشطت في داخل الأديان الكبرى: داخل اليهودية، وداخل النصرانية وداخل الإسلام أيضاً. إن هذه الحركة التجديدية، عرفت في الفكر الديني الغربي باسم العصرانية ( modernism) . وكلمة عصرانية هنا لا تعني مجرد الانتماء إلى العصر، ولكنها مصطلح خاص. 

(العصرانية في الدين هي أي وجهة نظر في الدين مبنية على الاعتقاد بأن التقدم العلمي، والثقافة المعاصرة، يستلزمان إعادة تأويل التعاليم الدينية التقليدية، على ضوء المفاهيم الفلسفية والعلمية السائدة) [انظر: العصرانيون بين مزاعم التجديد: محمد حامد الناصر ص5 - 6] . 

يتضح لنا مما سبق أن العصرانية لم تنشأ في ديار الإسلام أول ما نشأت، بل كان لها نشاط في الأديان الكبرى كاليهودية والنصرانية، وهذه الحركة التجديدية قد يُضطر لها في دين حُرف وبُدل وغيرت شرائعه وأبطلت حدوده، أو في دين سيطر عليه (القس أو الحاخام) فكان هو المشرع دون الله؛ لكن الإسلام دينٌ تكفّل الله بحفظ كتابه، فلم تصل إليه أيدي العابثين بالتبديل والتحريف. 

والتجديد عند العصرانيين ليس هو التجديد الذي جاءت بذكره الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشتان ما بين الثرى والثريا- بل هو تجديد آخر. فعن أبي هريرة ??رضي الله عنه عن رسول الله 

 

 

 

 

صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [رواه أبو داود 4291 وصححه الألباني 3606] . والمراد بالتجديد هو (إحياء ما اندرس من العمل من الكتاب والسنة والأمر بمقتضاهما) وقال المناوي: (يجدد لها دينها، أي يبين السنة من البدعة ويكثر العلم، وينصر أهله، ويكسر أهل البدعة ويذهلهم .. ) [العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب ص 355 - 356] . 

ومراد العصرانيون بالتجديد، هو إعادة النظر في أصول الدين وفروعه، في مسلماته وثوابته، والأخذ منه ما يتناسب مع العصر الحاضر، وتأويل ما يقبل التأويل، ورفض ما لا يتماشى مع روح العصر! ولو كان أمرٌ ثابتٌ بالكتاب والسنة أو مجمعاً عليه. كل ذلك بدعوى مسايرة لركب التحضر، والتيسير على الناس، وبما يتناسب مع المدنية والمكتشفات العلمية الحديثة. وكأن المعادلة -عندهم- لا تقبل القسمة على ثلاثة: فإما إخضاع الدين وتطويره لمواكبة التطور والتحضر وللحاق بالدول الصناعية العظمى، أو الالتزام بما كان عليه السلف والجمود عليها، والبقاء في ذيل القائمة مع دول العالم المتخلفة!. ولكن هناك قسمة ثالثة لا يرتضيها دعاة التجديد وهي: الثبات على ما كان عليه سلفنا الصالح، والنظر في مستجدات العصر، وتنزيلها على الثوابت والأصول، وانتقاء ما يفيد أمة الإسلام من حضارة الغرب (وأسلمتها) لكي تتناسب مع شريعة الإسلام دون أن نطمس هويتنا، ونكون مسخاً مشوهاً، وصورة طبق الأصل لأمة الكفر. 

- السمات العامة لفكر العصرانيين (العقلانيون الجدد) : 

1 - تقديس العقل وتقديمه على النصوص. 

2 - رد الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما. 

3 - عدم قبول أخبار الآحاد في باب العقائد. 

4 - اضطراب مفهوم الولاء والبراء. 

5 - محاولة تجديد الدين وتنحية الشريعة (علمانية مغلفة) . 

6 - تقسيم السنة إلى سنة تشريعية، وسنة غير تشريعية. محاكاة المدرسة العقلية الحديثة. 

7 - الدعوة إلى وحدة الأديان. 

8 - الطعن في الصحابة والتابعين وخصوصا رواه الأحاديث. 

9 - تزوير التاريخ وتمجيد الشخصيات المنحرفة. 

- بعض رموز الفكر العصراني: 

1 - مالك بن نبي. (ت1393) 

2 - محمد الغزالي. (ت1419) 

 

3 - محمد فتحي عثمان. 

4 - يوسف القرضاوي. 

5 - حسن الترابي. 

6 - محمد عمارة. 

7 - فهمي هويدي. 

8 - محمد سليم العوّا 

9 - أحمد كمال أبو المجد. 

10 - حسن حنفي. 

11 - عبد اللطيف غزالي. 

12 - جودت سعيد. 

13 - خالص جلبي. 

 

المآخذ الرئيسة على الاتجاه الاعتزالي قديماً وحديثاً 

(المأخذ الأول: تقديس العقل وتقديمه على النقل 
... 

الناس مع العقل طرفان ووسط؛ فطرفٌ جحدوا العقل وعطلوه. وطرفٌ عظموه وقدسوه وجعلوه حاكماً على النصوص، فإن وافق النص العقل قُبل وإلا فلا، فإن كان نصاً قرآنياً خالف عقولهم أولوه وصرفوه عن معناه الحق، وإن كان نبوياً صحيحاً ووجدوا له مخرجاً أولوه وإن لم يستطيعوا لذلك سبيلاً طعنوا فيه وردوه، كذا دون اعتبار للقواعد والأصول الشرعية في التعامل مع النصوص. وأولئك هم المعتزلة وأصحاب المدرسة العقلانية الحديثة والعصرانيون ومن نحا نحوهم أو لف لفهم. 

والوسط هم الذين استضاءوا بنور القرآن فأعملوا عقولهم فيما أمروا به من النظر والاعتبار والتدبر والتفكر. قال تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الزخرف:3] . وقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [الحديد: 17] . وقال تعالى: { يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } [البقرة: 219] . وقال تعالى: { قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ } [يونس: 101] . وغير ذلك من النصوص التي تحث العقل على النظر والتفكر، وبذلك يبطل زعم أولئك الذين رموا السلف -أهل الحديث- بأنهم جامدون عند النصوص عطلوا عقولهم من النظر في الأدلة ... إلخ. وفات أولئك أن السلف أسعد الناس لأنهم أعطوا العقل حقه وقدروه قدره فلم يغلوا فيه ولم يجفوا عنه. فأعملوا عقولهم في النظر في أمور المعاش، وفي أمور الدين التي تستوجب النظر ولم يتجاوزا بذلك ما حد لهم؛ وهم لما أوقفوها لم يكن بسبب عجزهم عن النظر والإتيان بالمقدمات والنتائج، أو قصوراً في بيانهم. كل ذلك لا يصح؛ بل أيقنوا أن للعقل حدوداً متى ما جاوزها ضل عن صراطه المستقيم وأتى بالطوام والعجائب، فصانوا عقولهم لتصح عقائدهم. فلم يتكلموا في ذات الإله إلا بما ورد إليهم من كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولم يعارضوا بعقولهم كتاب ربهم وسنة نبيهم، فإن سلف الأمة كان إذا أعياهم فهم نصٍ لم يحمّلوه ما لا يحتمل، ولم يؤولونه أو يردونه بزعم مخالفته للعقل، بل كانوا يتهمون عقولهم. وما كان مجهولاً عند رجل يكون معلوماً عند آخر، فالنقل الصحيح لا يعارض العقل الصريح. 

- نماذج: 

1 - المذهب الحق: 

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وَمِنْ الْعَجَبِ: أَنَّ أَهْلَ الْكَلَامِ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَهْلُ تَقْلِيدٍ لَيْسُوا أَهْلَ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَأَنَّهُمْ يُنْكِرُونَ حُجَّةَ الْعَقْلِ. وَرُبَّمَا حُكِيَ إنْكَارُ النَّظَرِ عَنْ بَعْضِ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَهَذَا مِمَّا يُنْكِرُونَهُ عَلَيْهِمْ. فَيُقَالُ لَهُمْ: لَيْسَ هَذَا بِحَقِّ. فَإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْحَدِيثِ لَا يُنْكِرُونَ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ هَذَا أَصْلٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَهُمْ. وَاَللَّهُ قَدْ أَمَرَ بِالنَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي غَيْرِ آيَةٍ وَلَا يُعْرَفُ عَنْ أَحَدٍ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَلَا أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَعُلَمَائِهَا أَنَّهُ أَنْكَرَ ذَلِكَ بَلْ كُلُّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى الْأَمْرِ بِمَا جَاءَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ مِنْ النَّظَرِ وَالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ وَالتَّدَبُّرِ وَغَيْرِ ذَلِك) [الفتاوى (4/ 56) ] . 

وقال – أيضاً: (فلا يعلم حديث واحد على وجه الأرض يخالف العقل، أو السمع الصحيح إلا وهو عند أهل العلم ضعيف بل موضوع) [در تعارض العقل والنقل (1/ 150) ] . 

وقال ابن القيم: (فإذا تعارض النقل وهذه العقول أخذ بالنقل الصحيح، ورمي بهذه العقول تحت الأقدام، وحطت حيث حطها الله وأصحابها) [مختصر الصواعق المرسلة ص82 - 83 اختصار الموصلي] . 

وقال – عبد الرحمن الوكيل-: (والداعون إلى تمجيد العقل، إنما هم في الحقيقة يدعون إلى تمجيد صنم سموه عقلاً، وما كان العقل وحده كافياً في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسل الله الرسل) [مقدمة كتاب: موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول (1/ 21) ] . 

2 - المذهب المخالف. 

أ- نماذج من كلام رجال المعتزلة الأولى: 

قال الزمخشري: (امش في دينك تحت راية السلطان [ويعني بالسلطان: العقل] ولا تقنع بالراوية عن فلان وفلان فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه. وما العنز الجرباء تحت الشمأل- [أي: الريح الباردة] - البليل أذل من المقلد عند صاحب الدليل، ومن تبع في أصول الدين تقليده، فقد ضيع وراء الباب المرتج إقليده [أقليده: المفتاح] ) . [أطواق الذهب في المواعظ والخطب مقالة37 ص28] . 

وقال النظام: (إن المكلف – قبل ورود السمع – إذا كان عاقلاً متمكناً من النظر يجب عليه تحصيل معرفة الباري تعالى بالنظر والاستدلال) [الملل والنحل (1/ 60) ] . 

ب- نماذج من كلام رجال المدرسة العقلية الحديثة. 

- قال محمد عبده: (ورفع القرآن من شأن العقل ووضعه في مكانه بحيث ينتهي إليه أمر السعادة! والتمييز بين الحق والباطل والضار والنافع) [رسالة التوحيد ص25] . 

- وقال – أيضاً-: (اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه! على أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل) [الإسلام والنصرانية ص 56] . قلت: وفي حكاية هذا الاتفاق نظر، ولعله يقصد بأهل الملة الإسلامية: المعتزلة والأشاعرة ومن سلك طريقهم. وكثير من أئمة الدين المرضيين عند 

 

الموافق والمخالف لا يقدمون عقولهم على كلام نبيهم كأمثال الإمام مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وسفيان الثوري، وابن المبارك، وابن عيينة، والدارمي، وغيرهم كثير يصعب حصرهم. فبطل بذا الاتفاق المزعوم. 

- وقال السيد محمد رشيد رضا: (ذكرنا في المنار غير مرة أن الذي عليه المسلمون من أهل السنة وغيرهم من الفرق المعتد بإسلامهم أن الدليل العقلي القطعي إذا جاء في ظاهر الشرع ما يخالفه فالعمل بالدليل القطعي متعين، ولنا في النقل التأويل أو التفويض وهذه المسألة مذكورة في كتب العقائد التي تدرس في الأزهر وغيره من المدارس الإسلامية في كل الأقطار كقول الجوهرة: 

وكل نص أوهم التشبيها 
... 
... 
أوله أو فوض ورم تنزيها.
 

[شببهات النصارى وحجج الإسلام: محمد رشيد رضا ص71 - 72 (نقلاً من المدرسة العقلية الحديثة (289) ] . قلت: ما ذكره رشيد رضا ليس هو الذي عليه أهل السنة عند التحقيق، ومراده بأهل السنة هنا الأشاعرة –بلا شك- ومن لف لفهم. وقوله: (من الفرق المعتد بإسلامهم) فيه مجازفة كبيرة، فعلى كلامه فالسلف الذين يقدمون الدليل السمعي على العقلي عند التعارض، هم من الذين لا يعتد بإسلامهم!، وعند النظر نجد أنه لا تعارض بين دليل سمعي صحيح وبين عقل صريح، كما قرره المحققون من أهل العلم. 

ت- نماذج من كلام العصرانيين (العقلانيون الجدد) . 

يقول حسن حنفي: (إن العقل هو أساس النقل، وأن كل ما عارض العقل فإنه يعارض النقل، وكل ما وافق العقل فإنه يوافق النقل، ظهر ذلك عند المعتزلة والفلاسفة ... ) ثم قال: (لقد احتمينا بالنصوص فجاء اللصوص) - عامله الله بما يستحق - [التراث والتجديد (ص 88) ] . 

ويقول محمد عمارة: (إن كون الشريعة الإسلامية هي خاتمة الشرائع السماوية البشرية، إنما يعني بلوغ البشرية سن الرشد، بما يعنيه سن الرشد من رفع وصاية السماء عن البشر فلم تعد صورة البشر هي صورة الخراف الضالة التي لا غنى لها عن النبي يتلوه النبي كي يصحح لها المسار!) [الإسلام وقضايا العصرص15] . 

ويقول فهمي هويدي: ( .. أن الوثنية ليست عبادة الأصنام فقط، ولكن وثنية هذا الزمان صارت تتمثل في عبادة القوالب والرموز، وفي عبادة النصوص والطقوس) [مجلة العدد (235) 1978م (نقلاً من العصرانيون ص178) ] . قلت: متى كان الاعتصام بالكتاب والسنة وتقديمهما على آراء الرجال وثنية وعبادة أصنام؟!، أ فنقدم كلام هويدي على كلام نبينا صلى الله عليه وسلم – الذي قال: (إن أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها) [رواه البخاري:7277، ومسلم: 867] وقال: (فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات 

 

الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) [رواه أحمد: 16695، والترمذي: 2676 وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجة: 42، والدارمي: 95، وأبو داود: 4607 وقال الألباني: صحيح (3851) ] . 

- الآثار المترتبة على تقديم العقل على النقل: 

1 - تأويل النصوص القرآنية التي تخالف المعقول – زعموا- وتحريفها بما يتلاءم مع العقل. 

2 - تأويل النصوص النبوية الصحيحة، أو ردها بتضعيفها، أو الطعن في رواتها، أو وصمها بأخبار آحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد!. 

3 - اختلاف التأويلات للنصوص وتضاربها أحياناً، للاختلاف الفطري بين العقول. فبأي عقل نأخذ عنه ديننا وشرعنا، (فَيَا لَيْتَ شِعْرِي بِأَيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ؟ فَرَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ حَيْثُ قَالَ: " أَوَ كُلَّمَا جَاءَنَا رَجُلٌ أَجْدَلُ مِنْ رَجُلٍ تَرَكْنَا مَا جَاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لِجَدَلِ هَؤُلَاءِ) [الفتاوى (5/ 26) ] . 

4 - الأعراض عن تفسير الصحابة لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، والتعلق بشبهة هم رجال ونحن رجال. ولكن شتان ما بين الثرى والثريا، أولئك قومٌ زكاهم الله ورسوله، وعاينوا التنزيل، وشهدوا المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم –مع ذلك- أعلم بمراد الله ورسوله ممن جاء بعدهم. 

 

(المأخذ الثاني: تفسير القرآن مخالفاً لتفسير السلف، وموافقة للعقل والهوى) 

تفسير القرآن هو حكاية عن مراد الله عز وجل، و السلف كانوا يهابون أن يخوضوا في آيات الله بدون علم، وعنهم في ذلك نقولٌ مشهورة. ولذلك سلكوا في تفسير كلام الله أسلم الطرق وأصحها. قال شيخ الإسلام: (َأصَحَّ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُفَسَّرَ الْقُرْآنُ بِالْقُرْآنِ: فَمَا أُجْمِلَ فِي مَكَانٍ فَإِنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَمَا اُخْتُصِرَ مِنْ مَكَانٍ فَقَدْ بُسِطَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَإِنْ أَعْيَاك ذَلِكَ فَعَلَيْك بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهَا شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ وَمُوَضِّحَةٌ لَهُ ... قال: وَحِينَئِذٍ إذَا لَمْ نَجِدْ التَّفْسِيرَ فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّنَّةِ رَجَعْنَا فِي ذَلِكَ إلَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَإِنَّهُمْ أَدْرَى بِذَلِكَ لِمَا شَاهَدُوهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْأَحْوَالِ الَّتِي اخْتَصُّوا بِهَا: وَلِمَا لَهُمْ مِنْ الْفَهْمِ التَّامِّ وَالْعِلْمِ الصَّحِيحِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ: لَا سِيَّمَا عُلَمَاؤُهُمْ وَكُبَرَاؤُهُمْ كَالْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَالْأَئِمَّةِ الْمَهْدِيِّينَ: "مِثْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ... ومنهم الحبر عبد الله بن عباس ... وقال: [و] إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة، ولا وجدته عن الصحابة، فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين، (( كمجاهد ابن جبر )) فإنه كان آية في التفسير ... ثم قال: فَأَمَّا" تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ بِمُجَرَّدِ الرَّايِ فَحَرَامٌ حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم " (( مَنْ قَالَ فِي الْقُرْآنِ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَلْيَتَبَوَّا مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ )) . [فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (13/ 363 - 370] ) 

والعقلانيون القدماء، وأصحاب المدرسة الحديثة، و العقلانيون الجدد سلكوا في تفسير القرآن خلاف منهج السلف وطريقتهم، فقدموا عقولهم واعتقدوا أولاً، ثم ذهبوا يحرفون الكلم عن مواضعه تارة، ويلوون أعناق النصوص تارة أخرى حتى توافق ما اعتقدوه بعقولهم وآرائهم. 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في المعتزلة القدماء- ومن بعدهم على آثارهم: (وَالْمَقْصُودُ أَنَّ مِثْلَ هَؤُلَاءِ اعْتَقَدُوا رَايًا ثُمَّ حَمَلُوا أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانِ وَلَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا فِي رَايِهِمْ وَلَا فِي تَفْسِيرِهِمْ وَمَا مِنْ تَفْسِيرٍ مِنْ تَفَاسِيرِهِمْ الْبَاطِلَةِ إلَّا وَبُطْلَانُهُ يَظْهَرُ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ ... ) [الفتاوى (13/ 358) ] . 

- نماذج من التأويل والتحريف عند العقلانيين:- 

أ- العقلانيون القدماء (المعتزلة) . 

- أولوا قوله تعالى: { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } [القيامة: 22 - 23] إلى أن النظر يكون بذلك إلى الثواب لا إلى الله عز وجل، وقالوا في تفسيرها: أي منتظرة ثواب ربها. مخالفين بذلك ظاهر الآية، ومقتضى اللغة العربية، وتفسير السلف لهذه الآية. [انظر تفسير القرطبي للآية 23 من سورة القيامة] . 

 

- وحرفوا كلام الله في قوله: { الرحمن على العرش استوى } [طه: 5] . فقالوا: استوى: أي استولى وملك وقهر [انظر فتاوى ابن تيمية (5/ 143) ] . منكرين بذلك علوه على خلقه واستواءه على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته. 

- وكذا تحريفهم للفظ الجلالة في قوله تعالى: { وكلم اللهُ موسى تكليماً } [النساء: 164] . بنصب لفظ الجلالة، حتى ينفوا عن الله صفة التكليم [انظر تفسير ابن كثير عند آية 164] . ومن أجمل ما ورد في الرد عليهم أن بعض المعتزلة قرأ على بعض القراء هذه الآية بنصب الجلالة فقال له: (يا ابن اللخناء كيف تصنع بقوله تعالى: { فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه } يعني أن هذا لا يحتمل التأويل أو التحريف) [تفسير ابن كثير. النساء164] . 

ب- المدرسة العقلانية الحديثة. 

- في قوله تعالى: { وفرعون ذي الأوتاد } [الفجر: 3] قال محمد عبده: (وفرعون هو حاكم مصر الذي كان في عهد موسى عليه السلام، وللمفسرين في الأوتاد اختلاف كبير وأظهر أقوالهم ملاءمة للحقيقة أن الأوتاد المباني العظيمة الثابتة، وما أجمل التعبير عما ترك المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد! فإنها هي الأهرام، ومنظرها في عين الرائي منظر الوتد الضخم المغروز في الأرض، بل إن شكل هياكلهم العظيمة في أقسامها شكل الأوتاد المقلوبة!، يبتديء القسم عريضاً وينتهي بأدق مما ابتدأ، وهذه هي الأوتاد التي يصح نسبتها إلى فرعون على أنها معهودة للمخاطبين) [تفسير جزء عم: محمد عبده ص84] . قلت: لا شك أن القرآن تكلم عن بعض الظواهر الكونية، فهذه نثبتها لأن القرآن أشار لها وتكلم عنها؛ لكن أن نتكلف في ربط آيات القرآن بما نشاهده في عالمنا أو بما يستجد من مخترعات، فهذا خطأ شنيع يرتكب في حق تفسير كلام الله، وكون المرء يقول المراد بالأوتاد هي الأهرامات، كأنه يقول ربنا جل في علاه يقصد هذا ويريد هذا، فالكلام في التفسير دقيقٌ جداً وخطرٌ جداً. وقد جنح لمثل ذلك بعض المفسرين من المتأخرين فأصبحوا يتكلفون في ربط القرآن بالظواهر الكونية والطبيعية والمخترعات الحديثة، وفاتهم أن المقصود الأعظم من الكتاب العزيز أنه كتاب هداية، وتشريع، لا كتاب فلك!. 

- وفي قوله تعالى: { إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين } [الأنفال: 5] . يقول السيد رشيد رضا في تفسيره لهذه الآية: (إن هذا الإمداد روحاني يؤثر في القلوب فيزيد من قوتها المعنوية) وفي موضع آخر قال: (وظاهر نص القرآن أن إنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدته معنوية كما تقدم وأنهم لم يكونوا محاربين) [تفسير المنار 2/ 561)] . قلت: ولا شك أن وصف إمداد الله المؤمنين بالملائكة إمداداً روحانياً يؤثر في القلوب، تأويلاً باطلاً يخالف ظاهر النص، والأحاديث الصحيحة التي ذكرت نزو ل الملائكة يوم بدرٍ وقتالها مع المسلمين، ومخالفين بذلك تفسير السلف. 

 

- وفي قوله تعالى: { أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فإذا هي تمور } [الملك: 16] . قال عبد القادر المغربي في تفسيره (جزء تبارك) : (من في السماء هو الله تعالى، ولكن قام البرهان العقلي على أن الإله الأزلي خالق الكل وضابط الكل لا يتصور أن يكون مستقراً في مكان، فوجب إذن صرف الآية عن ظاهرها، وحملها على معنى يلتحم مع ما أثبته العقل وقام عليه البرهان ... ) [تفسير جزء تبارك ص9 (المدرسة العقلية الحديثة ص296) ] . 

ت- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- يقول الترابي: (وعلينا أن ننظر في أصول الفقه الإسلامي، وفي رأيي أن النظرة السليمة لأصول الفقه، تبدأ بالقرآن الذي يبدوا أننا محتاجون فيه إلى تفسير جديد، فإذا قرأتم التفاسير المتداولة بيننا تجدونها مرتبطة بالواقع الذي صيغت فيه. كل تفسير يعبر عن عقلية عصره، إلا هذا الزمان، لا نكاد نجد فيه تفسيراً عصرياً شافياً) [تجديد الفكر الإسلامي: ص25 - 26 (العصرانيونص219) ] . قلت: التفسير الذي يريده الترابي هو التفسير بالأهواء. فإن كان يريد بالتفسير الجديد تغييرٌ في طريقة العرض والتقديم مع الإبقاء على كلام السلف في تفسير الآيات فهذا لا بأس به بل ومرغبٌ فيه كما هو الحال في تفسير (أيسر التفاسير) لأبي بكر الجزائري، حيث يقسم كل مبحث قرآني إلى معاني الكلمات، والهداية من الآيات، والشرح .. إلخ. وإن كنتُ أعلم أن الترابي لا يريد هذا، لجنوحه إلى التجديد بمعناه الآخر وهو: تنزيل الآيات وتأويلها بما يتناسب مع العصر الحديث، ولو أدى الأمر إلى مخالفة نهج السلف، وإجماع المسلمين. 

- الآثار المترتبة على تفسير القرآن خلاف تفسير السلف ومنهجهم. 

1 - الإعراض عن النصوص الأخرى المفسرة للآيات، فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، وكذا السنة تفصل ما أُجمل وتشرحها. والاستغناء عن هذا المنهج يوجب الخطأ في تفسير الآيات. 

2 - خفاء الحق على أهل القرون المفضلة ومن بعدهم من أهل العلم، والأمة لا تجتمع على ضلالة. 

3 - تباين التفسير واختلافه من مفسر لآخر؛ لاختلاف العقول والمدارك. وهذا يوقع الأمة في حرج ومشقة، والأمر لا يقف عند مواطن الاجتهاد؛ بل المسلمات والثوابت خاضعة هي الأخرى تحت ميزان العقل. 

4 - تكلّف المفسرين المتأخرين في ربط أي إشارة -ترد في القرآن الكريم بالمخترعات الحديثة، والظواهر الكونية الحادثة. 

5 - تحريف النصوص والآيات لكي لا تصادم ما هم عليه من البدع والاعتقادات، كتحريفهم لمعنى الاستواء، وكلام الله لموسى عليه السلام ... إلخ. 

 

(المأخذ الثالث: رد الأحاديث الصحيحة والطعن في الرواة) 

وقف (أهل الأهواء) العقلانيون –قديماً وحديثاً- من السنة النبوية الصحيحة موقفاً مشيناً، وذلك لأن كثيراً من الأحاديث الصحيحة تقتلع أصولهم من جذورها، وتفسد عليهم منهجهم الذي أصلوه وبنوا عليه طريقتهم. ولذلك سلكوا في رد الأحاديث الصحيحة التي خالفتها عقولهم المريضة طرقاً مختلفة. 

فأول شيءٍ يؤولون الحديث بما يوافق أهوائهم وعقولهم، فإن أعياهم تأويل الحديث ولم يجدوا إلى ذلك سبيلاً، لجئوا إلى رد الحديث، فإن كان غير متواتر استراحوا وقالوا: هذا خبر آحاد ظني لا نقبله مطلقاً، وهؤلاء هم المعتزلة القدماء، و المعتزلة الحديثة والمعاصرة، قصروا قبول خبر الآحاد على الأحكام دون العقائد، وليس لديهم على هذا التفريق دليل صحيح، وهم مع ذلك تراهم لا يلتزمون بهذا التأصيل الذي أصلوه في خبر الآحاد، فحتى الأحكام يردون بعض الأحاديث الظنية! فعاد الأمر إلى الهوى وتحكم العقل. 

ولا يعنيهم بعد ذلك أن يكون في الصحيحين أو في غيرهما من كتب الحديث، وإن كان متواتراً بحثوا في سنده، فإن كان أحد رواته قد روى شيئاً من الإسرائيليات ردوا حديثه لأنه قد يكون مأخوذاً من التوراة، أو بحثوا في سيرة رواته علّهم يجدون قشة يتعلقون بها للطعن بهم حتى يردوا الحديث. وقد تطاول العقلانيون قديماً وحديثاً على الصحابة وخصوصاً رواة الأحاديث، ونالوا من عرضهم وكذبوهم، معرضين بذلك عن تزكية الله لهم وثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. وهم – أي العقلانيين- سلكوا هذا السبيل لكي يسهل عليهم رد الحديث، فإذا طُعن في الراوي في أمانته وصدقه وعدله، كان ذلك مدخلاً لرد مروياته. 

وأهل الحديث بذلوا جهوداً مضنية في تدوين الحديث، وضبط ألفاظه، وبيان حال نقلته جرحاً وتعديلاً، وبيان العلل التي يرد بها الحديث سواء في سنده أو متنه، وصنفوا في ذلك التصانيف الكثيرة المشهورة، ووضعت كتب الجرح والتعديل، وغير ذلك من الكتب التي جعلت بعض المستشرقين يعترف بحسن صناعة أهل الحديث ودقتهم وضبطهم وحسن تواليفهم. ووصف طريقتهم يطول ليس هذا محله، وإنما مرادنا هو بيان أن رد العقلانيون للحديث ليس من قبيل التحقيق العلمي –الذي يدعونه – بل هي أهواء تعلقت بها قلوبهم فأعمتهم عن رؤية الحق – نسأل الله العافية-. 

- 

 

نماذج: - 

1 - المذهب الحق: 

- قَالَ –شيخ الإسلام ابن تيمية-: (ومن المعلوم: أن أهل الحديث والسنة أخص بالرسول وأتباعه. فلهم من فضل الله وتخصيصه إياهم بالعلم والحلم وتضعيف الأجر ما ليس لغيرهم كما قال بعض السلف: "أهل السنة في الإسلام كأهل الإسلام في الملل" . فهذا الكلام تنبيه على ما يظنه أهل الجهالة والضلالة من نقص الصحابة في العلم والبيان أو اليد والسنان. وبسط هذا لا يتحمله هذا المقام. والمقصود: التنبيه على أن كل من زعم بلسان حاله أو مقاله: أن طائفة غير أهل الحديث أدركوا من حقائق الأمور الباطنة الغيبية في أمر الخلق والبعث والمبدأ والمعاد وأمر الإيمان بالله واليوم الآخر وتعرف واجب الوجود والنفس الناطقة والعلوم والأخلاق التي تزكو بها النفوس وتصلح وتكمل دون أهل الحديث فهو - إن كان من المؤمنين بالرسل - فهو جاهل فيه شعبة قوية من شعب النفاق وإلا فهو منافق خالص من الذين { وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون } وقد يكون من { الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم } ومن { والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد } . وقد يبين ذلك بالقياس العقلي الصحيح الذي لا ريب فيه - وإن كان ذلك ظاهرا بالفطرة لكل سليم الفطرة - فإنه متى كان الرسول أكمل الخلق وأعلمهم بالحقائق وأقومهم قولا وحالا: لزم أن يكون أعلم الناس به أعلم الخلق بذلك وأن يكون أعظمهم موافقة له واقتداء به أفضل الخلق) [الفتاوى (4/ 140) ] . 

- وقال أبو زرعة الرازي: (إذا رأيت الرجل ينتقص أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك لأن الرسول حق، والقرآن حق، وما جاء به حق، وإنما أدى ذلك إلينا كله الصحابة، وهؤلاء – أي الزنادقة ومن سار على نهجهم- يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى وهم زنادقة) . 

2 - المذهب المخالف: - 

أ العقلانيون القدماء (المعتزلة) . 

- روى البخاري ومسلم وأحمد: (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها) . قال الزمخشري: (وما يروى من الحديث ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان إياه إلا مريم وابنها فالله أعلم بصحته، فإن صح فمعناه أن كل مولود يطمع الشيطان في إغوائه إلا مريم وابنها فإنهما كانا معصومين، وكذلك من كان في 

 

صفتهما .. [قال:] واستهلاله صارخاً من مسه تخييل وتصوير لطمعه فيه .. [ثم قال:] وأما حقيقة المس والنخس كما يتوهم أهل الحشو فكلا، ولو سلط إبليس على الناس ينخسهم لامتلأت الدنيا صراخاً وعياطاً مما يبلونا به من نخسه) [تفسير الكشاف: (1/ 385 - 386) ] . 

- وقال عمرو بن عبيد-: (والله لو أن علياً وعثمان وطلحة والزبير، شهدوا عندي على شراك نعل ما أجزته) ، وقال عن سمرة بن جندب رضي الله عنه : (ما تصنع بسمرة قبح الله سمرة!) [تاريخ بغداد: الخطيب البغدادي (12/ 176 - 178) نقلاً من (العصرانيون ... ) ص 17)] [وللاستزادة انظر على سبيل المثال: الفرق بين الفرق 147 - 149)] . 

ب- المدرسة العقلانية الحديثة. 

- قال محمد عبده-عن حديث سحر لبيد بن الأعصم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (وعلي أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل) [تفسير جزء عم: محمد عبده ص 186] . قلت: قوله: رد الأحاديث والاقتصار على القرآن موافق لما أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... الحديث) [رواه أبو داود: 4604 وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح (3848) ] 

- وقال الشيخ محمد رشيد رضا: (وإن في البخاري أحاديث في أمور العادات والغرائز، ليست من أصول الدين ولا فروعه ... وأنه ليست من أصول الإيمان، ولا من أركان الإسلام أن يؤمن المسلم بكل حديث رواه البخاري، مهما يكن موضوعه) [مجلة المنار: مجلد (29) ص 104] . 

- وقال عن كعب الأحبار-الذي سماه بركان الخرافات!: (كعب الأحبار الذي أجزم بكذبه، بل لا أثق بإيمانه) [تفسير المنار مجلد (27) ص 697] . قلت: كعب الأحبار أخرج له مسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي في كتبهم، واتهامه بتعمد الكذب يطعن في نقل أئمة الحديث عنه؟!. فكيف يصح لنا بعد ذلك أن نأخذ عنهم وهم يروون عن كذابين يتعمدون الكذب!، لا نظن بهم ذلك إلا أن يذكروا في رواية –حاشا مسلم- تكون للاعتضاد، فهذا قد تجده. 

- قيل لمحمود أبو رية: كيف تنكر حجية السنة وأنت تستدل على ما ذهبت إليه بأحاديث منها؟ فأجاب: (أن الأحاديث التي أوردها في سياق كلامي للاستدلال بها على ما أريد في كتابي إنما أسوقها لكي نقنع من لا يقنع إلا بها على اعتبار أنها عنده من المسلمات التي يصدقها ولا يماري فيها) [أضواء على السنة المحمدية ص33 (نقلاً من منهج المدرسة العقلية (2/ 747) ] . 

 

ت- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- يقول الشيخ محمد الغزالي: (إن ركاماً من الأحاديث الضعيفة ملأ آفاق الثقافة الإسلامية بالغيوم، وركاماً مثله من الأحاديث التي صحت، وسطا التحريف على معناها، أو لا بسها، كل ذلك جعلها تنبو عن دلالات القرآن القريبة والبعيدة، وقد كنت أزجر بعض الناس عن رواية الحديث الصحيح، حتى يكشفوا الوهم عن معناه، إذا كان هذا الوهم موهماً، مثل حديث: (لن يدخل أحد الجنة بعمله) . إن طوائف من البطالين والفاشلين، وقفت عند ظاهره المرفوض) [السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص119 (نقلاً من العصرانيون ص226) ] . قلت: نحن نوافق الشيخ على أن ركاماً من الأحاديث الصحيحة التي صحت وسطا التحريف على معناها، ولدينا شواهد على ذلك مثل: حديث الذباب: والكلب الأسود شيطان، فالشيخ يخرجها عن ظاهرها ويصرفها عن معناها الحق، وعلة ذلك عندهم: أن العقل يأبى ذلك!. 

- وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة) . قال القرضاوي: هذا مقيد بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان الحكم فيه للرجال استبدادياً، أما الآن فلا!!. [ندوة في قناة ( art) بتاريخ 4/ 7/1418هـ] . 

- وقال: في تأويل الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (وما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن قالت يا رسول الله وما نقصان العقل والدين قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين) [رواه البخاري: (304) مسلم: (80) وغيرهما] . 

قال: (إن ذلك كان من الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل المزاح!) [المصدر السابق] . قلت: وفي ظني أن القرضاوي ما كان ليؤول الحديث تأويلاً مخالفاً لتفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا هرباً من القول بأن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل، فهو من دعاة تحرير المرأة. وإني أرى بأن القرضاوي قد غامر في هذا. 

- الآثار المترتبة على رد الحديث الصحيح، والطعن في الرواة. 

1 - إنكار حجية السنة تعطيل للشريعة، والاقتصار على القرآن في إقامة الدين سبيل الملحدين. والله عز وجل يقول في كتابه: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نُزل إليهم ولعلهم يتفكرون } [النحل: 44] . وقال: { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [الحشر:7] . وقال صلى الله عليه وسلم (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ... الحديث) [رواه أبو داود: 4604 وقال الألباني في صحيح سنن أبي داود: صحيح (3848) ] . 

 

2 - الطعن في نقلة الحديث سبيل لرد الحديث، فإذا أُتهم الراوي بالكذب وقلة الديانة، سهُل عليهم بعد ذلك رد مروياته، وهي طريقة أهل البغي والعدوان. فنيل من أبي هريرة، وسمرة بن جندب، وعمرو بن العاص، رضي الله عنهم – وغيرهم من التابعين وتابع التابعين. والعجب يأخذك إذا علمت بأن الله زكاهم في كتابه – أعني الصحابة- ورسوله صلى الله عليه وسلم أثنى على أصحابه في أحاديث كثيرة، فبكلام من نأخذ؟. لا شك أن كلام أولئك الزنادقة والضلال من المعتزلة ومن سار على نهجهم مطروح وموضوع تحت الأقدام. 

 

(المأخذ الرابع: أخبار الآحاد وموقف المعتزلة القديمة والحديثة منها) 

لما كانت المعتزلة تنكر وتنفي صفات الله عز وجل، وكانت أكثر أحاديث الصفات جاءت عن طريق أخبار الآحاد، اضطر المعتزلة- العقلانيون القدماء- إلى إيجاد مخرج يخلصهم مما وقعوا فيه، فلم يجدوا بد من إنكار حجية خبر الواحد، فردوا لأجل ذا أخبار الآحاد وقالوا إنها أخبار ظنية لا يجوز الاحتجاج بها في المسائل القطعية!. 

وخفف الوطأة قليلاً رجال المدرسة العقلية الحديثة، والعقلانيون الجدد، ففرقوا بين الأحكام والعقائد، فيقبل خبر الواحد في الأحكام لا في العقائد. وهذا التفريق حادث لم يعرف في الشريعة إلا من طريق الأشاعرة، فهم أرادوا التوسط بين قول أهل السنة والمعتزلة، فوقعوا بقولهم هذا في تناقضات عديدة [انظر موسوعة أهل السنة: للشيخ عبد الرحمن دمشقية (1/ 552) ] . 

وأما أهل السنة والجماعة فإنهم إذا صح الخبر عندهم قبلوه وعملوا به مطلقاً، ولا فرق عندهم بين الأحكام والعقائد. وذكر الأدلة على حجية خبر الواحد يطول وفيه أُلفت المصنفات الكثيرة فمن أراد الاستزادة فليرجع إليها. 

- نماذج:

1 - المذهب الحق: 

- روى البيهقي عن إسحاق بن راهويه قال: (دخلت على عبد الله بن طاهر فقال لي: يا أبا يعقوب. تقول إن الله ينزل كل ليلة؟. فقلت: أيها الأمير: إن الله تعالى بعث إلينا نبياً نقل إلينا عنه أخباراً، بها نحلل الدماء وبها نحرم، وبها نحلل الفروج وبها نحرم، وبها نبيح الأموال وبها نحرم، فإن صح ذا صح ذاك، وإن بطل ذا بطل ذاك) [رواه البيهقي في الأسماء والصفات 568 (نقلاً من الموسوعة (1/ 522) ] . 

- وقال ابن حزم: (إن جميع أهل الإسلام كانوا على قبول خبر الواحد الثقة عن النبي صلى الله عليه وسلم، يجري ذلك على كل فرقة .. حتى حدث متكلموا المعتزلة بعد المائة من التاريخ فخالفوا الإجماع في ذلك) [الأحكام (1/ 102) ] . 

- وقال عبد القاهر البغدادي: (وكان الخياط - [أحد رموز المعتزلة] - مع ضلالته في القدر، وفي المعدومات منكر الحجة في أخبار الآحاد، وما أراد بإنكاره إلا إنكار أكثر أحكام الشريعة، فإن أكثر فروض الفقه مبنية على أخبار من أخبار الآحاد [الفرق بين الفرق ص 180] . 

- وقال أبو المظفر السمعاني: (إن الخبر إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورواه الأئمة الثقات، وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم فيما سبيله العلم، هذا عامة قول أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة، وإنما هذا القول الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال ولا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع العلم به، شيء 

 

اخترعه القدرية والمعتزلة وكان قصدهم منه رد الأخبار، وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول، ولو أنصف الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد يوجب العلم، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب إليه بالخبر الواحد) [رسالة الانتصار لأهل السنة اختصرها السيوطي في صون المنطق والكلام ص 160 - 161] . 

- وقال الشيخ الألباني ??رحمه الله : (إن القول بأن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة قول مبتدع محدث، لا أصل له في الشريعة الإسلامية الغراء، وهو غريب عن هدي الكتاب وتوجيهات السنة، ولم يعرفه السلف الصالح رضوان الله عليهم ... وإنما قال هذا القول جماعة من علماء الكلام وبعض من تأثر بهم من علماء الأصول من المتأخرين، وتلقاه عنهم بعض الكتاب المعاصرين بالتسليم دون مناقشة ولا برهان .. وإذا أُخذ بهذا القول، يستلزم رد مئات الأحاديث الصحيحة الثابتة عنه صلى الله عليه وسلم لمجرد كونها في العقيدة) [حديث الآحاد حجة بنفسه] . 

2 - المذهب المخالف: 

أ- المعتزلة (العقلانيون القدماء) . 

- قال أبو الحسين البصري المعتزلي: (إن أخبار الآحاد لا يجوز قبولها في توحيد الله وعدله) وقال: (لا يجوز الاقتصار في التوحيد والعدل على الظن دون العلم) [المعتمد (2/ 578) تحقيق: محمد حميد الله] . 

- وقال أبو الهذيل العلاف: (إن الحجة من طريق الأخبار فيما غاب عن الحواس من آيات الله الأنبياء عليهم السلام، وفيما سواها لا تثبت بأقل من عشرين نفساً، فيهم واحد من أهل الجنة، أو أكثر ... [وقال:] أن خبر دون الأربعة لا يوجب حكماً، ومن فوق الأربعة إلى العشرين قد يصح وقوع العلم بخبرهم وقد لا يقع العلم بخبرهم، وخبر العشرين إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة يجب وقوع العلم منه لا محالة) . وعلّق عبد القاهر على ذلك: (ما أراد أبو الهذيل باعتبار عشرين في الحجة من جهة الخبر إذا كان فيهم واحد من أهل الجنة إلا تعطيل الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية عن فوائدها) [الفرق بين الفرق: ص127 - 128] . 

ب- المدرسة العقلية الحديثة. 

- قال محمد عبده: (وأما ما ورد في حديث مريم وعيسى، من أن الشيطان لم يمسهما، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم، وإزالة حظ الشيطان من قلبه، فهو من الأخبار الظنية، لأنه من رواية الآحاد ولما كان موضوعها عالم الغيب، والإيمان بالغيب من قسم العقائد، وهي لا يؤخذ فيها بالظن، 

 

لقوله تعالى: { وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً } . كنا غير مكلفين بالإيمان بمضمون تلك الأحاديث في عقائدنا) [تفسير المنار (3/ 292) ] . 

- وقال رشيد رضا –في معرض رده على أحد دعاة النصارى-: (فإن كان أراد بأركان الشريعة، أصول العقائد وقضايا الإيمان التي يكون بها المرء مؤمناً، فقد علمت أنه لا يتوقف شيء منها على خبر الآحاد) [مجلة المنار: مجلد (19) ص 29] . 

ت- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- قال الشيخ محمد الغزالي: (إن العقائد: أساسها اليقين الخالص الذي لا يتحمل أثارة من شك، وعلى أي حال فإن الإسلام تقوم عقائده على المتواتر النقلي، والثابت العقلي، ولا عقيدة لدينا تقوم على خبر واحد، أو تخمين فكر) [السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ص66 (نقلاً من (العصرانيون ... ) ص228)] . 

- وقال محمد عمارة-في حديث افتراق الأمة: (إنه ككثير من الأحاديث المشابهة، حديث آحاد وليس بالمتواتر، فأحاديث الآحاد وإن جاز أن نأخذ بها في الأمور العملية فإنها غير ملزمة في الاعتقادات) [الإسلام وفلسفة الحكم: 118] . 

- الآثار المترتبة على رد خبر الواحد. 

1 - رد الغالبية العظمى من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المتواتر المنقول لنا من السنة قليل. 

2 - تعطيل كثير من أحكام الشريعة، لأن كثيراً منها تستند إلى خبر الواحد. 

3 - رد كثير من أحاديث البخاري ومسلم، مع إتقانهما لما يرويانه وتلقي الأمة لكتابيهما بالقبول، وفي ردهم لهذه الأحاديث تسفيه لعلماء الإسلام ومحدثيهم جيلاً بعد جيل وتضليلهم والأمة لا تجتمع على ضلالة. 

 

(المأخذ الخامس: تقسيم السنة إلى عملية و غير عملية أو سنة تشريعية وغير تشريعية) 

أحدث هذا التقسيم أصحاب المدرسة العقلية الحديثة فقسموا السنة إلى سنة عملية وسنة غير عملية-قولية-، وتابعهم على ذلك العصرانيون وسموها: سنة تشريعية وسنة غير تشريعية. وخلاصة هذا التقسيم هو جعل النصوص النبوية على قسمين من حيث الإلزام والأخذ بها. فالصلاة والزكاة والحج وسائر العبادات وقضايا العقيدة الأساسية من السنة العملية أو التشريعية -كما يسميها العصرانيون-، فهذه يوجبون الأخذ بها. والأحاديث التي تتحدث عن الخلاقة والقضاء ونحوهما – غير العبادات- هي من قبيل السنة غير العملية- القولية- أو غير التشريعية -كما يسميها العصرانيون-، وهذه عندهم لا يلزم الأخذ بها وهي ليست من الشرع بلازم كقول بعضهم!. [انظر العصرانيون ص221 - 224] . 

ولم يكن ذلك معروفاً عند المعتزلة القدماء، فهم وإن كانوا جميعاً يشتركون في تقديم العقل على النص. إلا أن المعتزلة كانوا أكثر جرأة من اتباعهم، فإذا خالف النص أصولهم ردوه بالحجج السالفة الذكر. أما أصحاب المدرسة الحديثة والعصرانيون فهم كانوا أضعف وأخوف، فكانوا يتسترون بهذا التقسيم الحادث لإضفاء الشرعية على عقولهم وتحكمها في النصوص، والتلبيس على عامة الناس، والأمن من ردود أهل العلم عليهم لو أنهم طرحوا النصوص وأعملوا العقول. ولعلك تلحظ أوجه التشابه بين هذا التقسيم الحادث، وبين تقسيم الأشاعرة –الحادث- في قبول حديث الآحاد بين العقائد والأحكام. وهنا -من وجه آخر- يردون الأحاديث الصريحة الصحيحة بدعوى أنها تندرج تحت السنة غير التشريعية؛ والسنة غير التشريعية عندهم لا يلزم الأخذ بها. 

ونتيجة هذا التقسيم وحاصله: 

(1) رد الأحاديث الصحيحة التي تخالف عقولهم وأهوائهم. 

(2) التشابه الكبير بينه وبين العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة، فهي علمانية مغلفة بأسلوب علمي. 

- نماذج: - 

1 - المذهب الحق:

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الحديث النبوي هو عند الإطلاق ينصرف إلى ما حدث به عنه بعد النبوة: من قوله وفعله وإقراره ; فإن سنته ثبتت من هذه الوجوه الثلاثة. فما قاله إن كان خيرا وجب تصديقه به وإن كان تشريعا إيجابا أو تحريما أو إباحة وجب اتباعه فيه ; فإن الآيات الدالة على نبوة الأنبياء دلت على أنهم معصومون فيما يخبرون به عن الله عز وجل فلا يكون خبرهم إلا حقا وهذا معنى النبوة وهو 

 

يتضمن أن الله ينبئه بالغيب وأنه ينبئ الناس بالغيب والرسول مأمور بدعوة الخلق وتبليغهم رسالات ربه [وقال] : ... ولهذا كان كل ما يقوله فهو حق. وقد روي أن { عبد الله بن عمرو كان يكتب ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم فقال له بعض الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكلم في الغضب فلا تكتب كلما تسمع فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج من بينهما إلا حق - يعني شفتيه الكريمتين - } [وقال] : ... المقصود: أن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أطلق دخل فيه ذكر ما قاله بعد النبوة وذكر ما فعله ; فإن أفعاله التي أقر عليها حجة لا سيما إذا أمرنا أن نتبعها كقوله: { صلوا كما رأيتموني أصلي وقوله: لتأخذوا عني مناسككم } وكذلك ما أحله الله له فهو حلال للأمة ما لم يقم دليل التخصيص ; ولهذا قال: { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا } ولما أحل له الموهوبة قال: { وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين } . ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن الفعل يذكر للسائل أنه يفعله ليبين للسائل أنه مباح وكان إذا قيل له: قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر قال: { إني أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده } [وقال:] ... والمقصود: أن جميع أقواله يستفاد منها شرع وهو صلى الله عليه وسلم لما رآهم يلقحون النخل قال لهم: ما أرى هذا - يعني شيئا - ثم قال لهم: إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله فلن أكذب على الله } وقال: { أنتم أعلم بأمور دنياكم فما كان من أمر دينكم فإلي } وهو لم ينههم عن التلقيح لكن هم غلطوا في ظنهم أنه نهاهم كما غلط من غلط في ظنه أن (الخيط الأبيض) و (الخيط الأسود) هو الحبل الأبيض والأسود.) [الفتاوى (18/ 6 - 12) ] . 

- وقال الأمين الحاج محمد أحمد: (وإن شبهة تقسيم السنة إلى تشريعية وغير تشريعية- [ومثلها تقسيم السنة إلى عملية وغير عملية] – من أخبث الشبه التي رفعها أدعياء التجديد المتخلفون من العصرانيين ... ثم قال: وهذه الشبهة دعوة صريحة إلى رد السنن، وترك العمل بها، والتحاكم إليها، ثم إلى تفسير القرآن بالتفسيرات الشاذة التي توافق أهواءهم، ثم إلى تركه وراءهم ظهرياً. وهي تجعل الفارق بين العلمانيين والعصرانيين شعرة دقيقة، يقعون بعدها على أم رؤوسهم في براثن العلمانية، إن لم يكونوا قد انحدروا في دركها بعد) [مناقشة هادئة لبعض أفكار الترابي: ص79 ومابين المعقوفتين تصرف مني] . 

2 - المذهب المخالف: - 

أ- المدرسة العقلانية الحديثة: 

- يقول علي عبد الرزاق- (إذا تأملت، وجدت أن كل ما شرعه الإسلام، وأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، من أنظمة وقواعد وآداب، لم يكن في شيء كثير ولا قليل من أساليب الحكم 

 

السياسي، ولا من أنظمة الدولة المدنية، وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزء يسيراً مما يلزم الدولة المدنية من أصول سياسية وقوانين، أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هي شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير، وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر إليه الرسول) [الإسلام وأصول الحكم ص170] . قلت: وما ذا نسمي حروبه صلى الله عليه وسلم للكفار، ومخاطبته لعظماء الأرض في ذلك الزمن، وبيانه لأحكام أهل الذمة ومعاملتهم، وأخذ الجزية ممن أداها، ووصاياه لقادة الجيوش عند الغزو ... إلخ مما يجعل المنصف يجزم بأن هذا ما هو إلا سياسة وإدارة لدفة الحكم. وقوله: (وهو بعد إذا جمعته لم يبلغ أن يكون جزء يسيراً مما يلزم الدولة المدنية من أصول سياسية وقوانين) فهو قد أوتي قبل سوء فهمه، وإلا فإنه يتعذر الإحاطة على جميع ما تحتاجه الدولة في تنظيمها وإصلاح شئونها؛ ولكن الشريعة تضع الكليات والأصول، فتُدرج الجزئيات والتفاصيل الدقيقة والفروع وما يستجد من أحداث، تحت هذه الكليات والأصول؛ وهذا هو الأليق بشريعة الإسلام الخالدة إلى قيام الساعة. 

- ويقول محمد أحمد خلف الله: (إن رياسة الخلفاء الراشدين للدولة العربية! لم تكن دينية بحال من الأحوال وإنما كانت مدنية صرفه) وقال: ... والقرآن الكريم قد أعرض إعراضاً تاماً عن الحديث في أي نظام أساسي للدولة العربية الإسلامية وترك أمر ذلك للمواطنين! يقررون ما يشاؤون!) [القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة ص 78،79] . 

ب- العصرانيون (العقلانيون الجدد) 

- يقول محمد عمارة: (وأن ما اندرج من السنة النبوية تحت أمور السياسة جميعها وشئون الدنيا كلها فهو ليس ديناً، فإنه كان، وحتى العهد النبوي، موضوعاً للشورى والرأي والاجتهاد والأخذ والعطاء والقبول والرفض والإضافة والتعديل) [الإسلام والسلطة الدينية ص 104] . 

- ويقول الدكتور العوّا: (ويلاحظ كون أغلب تصرفات الرسول مبناه على التبليغ قول قد يصل الباحث إلى خلافه عند إمعان النظر في الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل الذي يغلب على الظن أن أغلب المروي عنه صلى الله عليه وسلم في شؤون الدنيا – خارج نطاق العبادات والمحرمات- ليس من الشرع بلازم!) [مجلة المسلم المعاصر العدد الافتتاحي اكتوبر 1974 ص 48 (نقلاً من (العصرانيون ... ) ص223)] . 

 

- الآثار المترتبة على تقسيم السنة إلى عملية وغير عملية، أو تشريعية وغير تشريعية: 

1 - الإعراض عن كثير من الأحاديث الصحيحة التي تندرج تحت السنة غير العملية وغير التشريعية، وعدم الأخذ بها كشرع ملزم. 

2 - أن طريق هذا التقسيم سيؤدي بمعتقديه ولا محالة إلى الوقوع في براثن العلمانية المقيت. 

3 - إضفاء الشرعية على العقل وجعله حاكماً في تقرير الأحكام وسن القوانين في مسائل الخلافة والقضاء وغيرها من المسائل التي لا تندرج تحت السنة التشريعية. 

 

(المأخذ السادس: إنكار المعجزات) 

المعجزات أمورٌ خارقة للعادة، تكون للأنبياء والرسل، يؤيد الله بها دعوتهم للدلالة على صدق رسالتهم ونبوتهم. وتطلق المعجزة عادةً على خوارق العادات التي تجري على أيدي الأنبياء، كانجاء الله لإبراهيم عليه السلام وكون النار برداً وسلاماً عليه، وإبراء عيسى عليه السلام للاكمه والأبرص-بإذن الله- وإحياء الموتى-بإذن الله-، وانقلاب عصا موسى عليه السلام حيةً تسعى بعد أن كانت جماداً لا حراك بها، ولنبينا- عليه أفضل الصلاة والسلام- معجزاتٌ كثيرةٌ جداً كنبع الماء بين يديه، وتسبيح الطعام وهو يؤكل، وانشقاق القمر، وغيرها كثير، والمعجزة الكبرى لنبينا صلى الله عليه وسلم هو القرآن العظيم-كلام الله – وهو باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. 

ولقد اضطربت اتجاهات التيار العقلاني قديماً وحديثاً في إثبات المعجزات وتقريرها، وحُق لها أن تضطرب، لأن المنبع الذي تستقي منه أصولها ليس الكتاب والسنة، بل الأهواء وآراء الرجال. فجمهور المعتزلة الأولى على إثبات المعجزات، قال شيخ الإسلام: فقالت طائفة- [أي: المعتزلة] - لا تخرق العادة إلا لنبي [النبوات: 1/ 129)] . وقال القاضي عبد الجبار: (إن العادة لا تخرق إلا عند إرسال الرسل. ولا تنخرق لغير هذا الوجه؛ لأن خرقها لغير هذا الوجه يكون بمنزلة العبث) [المغني: (15/ 189) (نقلاً من النبوات:1/ 129) حاشية] . ومع أن طائفة منهم أثبتوا المعجزات إلا أنهم أثبتوها على أن خوارق العادات لا تكون إلا للأنبياء فقط. وهم مع ذلك لا يعتمدون على المعجزات في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقرون بالمعجزات كحجة في مكالمة المخالف إلا القرآن. 

- يقول القاضي عبد الجبار: (ولهذه الجملة لم يعتمد شيوخنا في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على المعجزات، التي إنما تعلم بعد نبوته صلى الله عليه وسلم ... [وقال:] فلا يصح أن يستدل بها على صحة النبوة ولذلك اعتمد شيوخنا في ثبوت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم على القرآن ... [وقال:] فأما من شنع ذلك على مشايخنا، وزعم أنهم أبطلوا سائر معجزات محمد صلى الله عليه وسلم، فكلامه يدل على جهل؛ لأن شيوخنا أثبتوها معجزة ودلالة، لكنهم لم يجوزوا الاعتماد عليها في مكالمة المخالفين) [المغني (16/ 152) ] . 

وأما المعتزلة الحديثة فإنها سلكت في هذا الجانب طريقين: 

الأول: إبراز معجزة القرآن على أنها هي المعجزة الوحيدة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم والمبالغة فيه، وسبب جنوحهم لهذا لأن القرآن معجزة عقلية، وما سواها من المعجزات فليست عقلية!. 

الثاني: تأويل المعجزات الأخرى بحيث يخرجها عن أن تكون معجزة، كتأويل رشيد رضا حادثة نبع الماء من يد أصابعه صلى الله عليه وسلم أن ذلك من رحمة الله وعنايته برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتأمل في قوله: (وأما ما أكرمه الله تعالى به-أي محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات الكونية، 

 

فلم يكن لإقامة الحجة على نبوته ورسالته، بل كان من رحمة الله تعالى وعنايته به وبأصحابه في الشدائد، كنصرهم على المعتدين عليهم من الكفار الذين يفوقونهم عدداً وعدة) [تفسير المنار: (1/ 159) ] . 

ولعل سائلاً يسأل ما الذي دفع رجال المدرسة الحديثة لسلوك هذا الطريق: 

والجواب عن ذلك: أنه لما اتصل رجال المدرسة العقلية الحديثة برجال العلم في أوربا ورأوا النفرة بين رجال العلم والدين، ورفضهم للغيبيات، واعتمادهم على الأدلة العقلية والعلمية، فأرادوا أن يعرضوا الإسلام لهم أنه دين قائم على العقل والعلم، لا يخضع للغيبيات التي يحتار فيها العقل [انظر منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: للدكتور فهد الرومي (2/ 561) ] . 

وأما العقلانيون الجدد فلا يعدوا موقفهم سوى المتابعة لأسلافهم. 

نماذج: - 

1 - المذهب الحق: 

- قال شيخ الإسلام: وقد جمع لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم جميع أنواع "المعجزات والخوارق" : أما العلم والأخبار الغيبية والسماع والرؤية فمثل أخبار نبينا صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء المتقدمين وأممهم ومخاطباته لهم وأحواله معهم وغير الأنبياء من الأولياء وغيرهم بما يوافق ما عند أهل الكتاب الذين ورثوه بالتواتر أو بغيره من غير تعلم له منهم وكذلك إخباره عن أمور الربوبية والملائكة والجنة والنار بما يوافق الأنبياء قبله من غير تعلم منهم ويعلم أن ذلك موافق لنقول الأنبياء تارة بما في أيديهم من الكتب الظاهرة ونحو ذلك من النقل المتواتر وتارة بما يعلمه الخاصة من علمائهم وفي مثل هذا قد يستشهد أهل الكتاب وهو من حكمة إبقائهم بالجزية وتفصيل ذلك ليس هذا موضعه. فإخباره عن الأمور الغائبة ماضيها وحاضرها هو من "باب العلم الخارق" وكذلك إخباره عن الأمور المستقبلة مثل مملكة أمته وزوال مملكة فارس والروم وقتال الترك وألوف مؤلفة من الأخبار التي أخبر بها [وقال:] ... كذلك معراجه إلى السماوات. وأما "الجو" فاستسقاؤه واستصحاؤه غير مرة: كحديث الأعرابي الذي في الصحيحين وغيرهما وكذلك كثرة الرمي بالنجوم عند ظهوره وكذلك إسراؤه من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. وأما "الأرض والماء" فكاهتزاز الجبل تحته وتكثير الماء في عين تبوك وعين الحديبية ونبع الماء من بين أصابعه غير مرة ومزادة المرأة. وأما "المركبات" فتكثيره للطعام غير مرة في قصة الخندق من حديث جابر وحديث أبي طلحة وفي أسفاره وجراب أبي هريرة ونخل جابر بن عبد الله وحديث جابر وابن الزبير في انقلاع النخل له وعوده إلى مكانه وسقياه لغير واحد من الأرض كعين أبي قتادة. وهذا باب واسع لم يكن الغرض هنا ذكر أنواع معجزاته بخصوصه وإنما الغرض التمثيل. وكذلك من باب "القدرة" عصا موسى صلى الله عليه وسلم وفلق البحر والقمل والضفادع والدم وناقة صالح وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى لعيسى كما أن من باب العلم 

 

إخبارهم بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم. وفي الجملة لم يكن المقصود هنا ذكر المعجزات النبوية بخصوصها وإنما الغرض التمثيل بها [الفتاوى 11/ 315 - 318] . 

- وقال عبد القاهر البغدادي- في سياق بيان الأصول التي اجتمع عليها أهل السنة-: ( ... وقالوا: من معجزات محمد صلى الله عليه وسلم انشقاق القمر، وتسبيح الحصا في يده، ونبوع الماء من بين أصابعه، وإشباعه الخلق الكثير من الطعام اليسير، ونحو ذلك كثير، وقد خالف النظام وأتباعه من القدرية ذلك) [الفرق بين الفرق: ص344 - 345] . 

- وقال الشوكاني – في معرض رده على من أنكر حادثة انشقاق القمر-: (والحاصل أنا إذا نظرنا إلى كتاب الله فقد أخبرنا بأنه انشق، ولم يخبرنا أنه سينشق، وإن نظرنا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبت في الصحيح وغيره من طرق متواترة نه قد كان ذلك في أيام النبوة. وإن نظرنا إلى أقوال أهل العلم فقد اتفقوا على هذا، ولا يلتفت إلى شذوذ من شذ، واستبعاد من استبعد) [فتح القدير: 5/ 139] . 

2 - المذهب المخالف:

أ- العقلانيون القدماء (المعتزلة) . 

- قال النظام- في تكذيبه لابن مسعود لما روى حادثة انشقاق القمر- قال: وزعم أن القمر انشق، وأنه رآه، وهذا من الكذب الذي لا خفاء به، لأن الله تعالى لا يشُقُّ القمر له وحده، ولا لآخر معه، وإنما يشقه ليكون آية للعالمين، وحجة للمرسلين، ومزجرة للعباد، وبرهاناً في جميع البلاد. فكيف لم تعرف بذلك العامة، ولم يؤرخ الناس بذلك العام، ولم يذكره شاعر، ولم يسلم عنده كافر، ولم يحتج به مسلم على ملحد؟ [تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة: ص 24] [وللرد على شبهة النظام ومن تابعه، أنظر: منهج المدرسة العقلية للدكتور فهد الرومي (2/ 579 - 591) واكتفينا بالإحالة لطول الرد] . 

- وزعم هشام الفوطي وعباد بن سليمان الضمري: (أن فلق البحر، وقلب العصا حية، وانشقاق القمر، ومحق السحر، والمشي على الماء، لا يدل شئ من ذلك على صدق الرسول في دعواه الرسالة) [الفرق بين الفرق:162] . 

ب- المدرسة العقلية الحديثة: 

- بقي أن يقال إن رجال المدرسة العقلية يفرقون بين المعجزات التي وقعت على يد الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبين المعجزات التي وقعت على يد نبينا عليه أفضل الصلاة والسلام. فهم يجيزون وقوعها على الأنبياء والإيمان بها على ظاهرها (فلا مانع من وقوعها بقدرة الله تعالى في يد نبي من الأنبياء ويجب الإيمان بها على ظاهرها) [تفسير المنار:1/ 314)] . أما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يزعمون أن الإنسان بلغ سن الرشد فلا حاجة بنا إلى المعجزات لتحصيل الإيمان بالله وبالوحي (فانتهى 

 

بذلك زمن المعجزات ودخل الإنسان بدين الإسلام في سن الرشد، فلم تعد مدهشات الخوارق هي الجاذبة له إلى الإيمان وتقويم ما يعرض للفطرة من الميل عن الاعتدال في الفكر والأخلاق والأعمال كما كان في سن الطفولية (النوعية) بل أرشده الله تعالى بالوحي الأخير (القرآن) إلى استعمال عقله في تحصيل الإيمان بالله وبالوحي ... [ثم قال:] فإيماننا بما أيد الله تعالى به الأنبياء من الآيات لجذب قلوب أقوامهم الذين لم ترتق عقولهم إلى فهم البرهان، لا ينافي كون ديننا دين العقل والفطرة وكونه حتم علينا الإيمان بما يشهد له العيان) [تفسير المنار: (1/ 315) ] . قلت: كلام الشيخ محمد عبده يوضح لنا موقف المدرسة العقلية الحديثة من المعجزات، فالأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بحاجة إلى المعجزات، لأن عقول متبوعيهم لا يصلح لها إلا هذا وذلك لعجزها عن درك تلك المسائل، ولأن عقولهم بعد لم تبلغ سن الرشد، وأما بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الإنسان سن الرشد وارتقى عقله، فلا حاجة به إلى هذه المعجزات لترسيخ الإيمان في قلوبهم!. 

وهناك ثمة أمر آخر لا بد من بيانه: وهو أن رجال المدرسة العقلية بالغوا في إثبات عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم وزينوا بها كتبهم، وانخدع بها كثيرٌ من الناس، ولم يعلم أولئك أن ترويجهم لفكرة عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم، هو على حساب نبوته صلى الله عليه وسلم، فإذا جُرد نبينا صلى الله عليه وسلم من معجزاته، سيقال بعدئذٍ: دين جاء به عبقري؛ والعبقري إنما يأتي بعلمه وفكره عن طريق كسبه. أما إذا قيل: دين جاء به نبي، فهو يعني دينٌ جاء بوحي من الله. ولنذكر بعضاً من كلام هذه المدرسة: 

- ... قال السيد رشيد رضا: ... بقي الكلام في مسألة العجائب التي بنيت على أساسها النصرانية على اختلاف مذاهبها، وفيما يدعونه من تجرد محمد صلى الله عليه وسلم من لباسها، وهي قد أصبحت في هذا العصر حجة على دينهم لا له، وصادة للعلماء والعقلاء عنه لا مقنعة به، ولولا حكاية القرآن لآيات الله التي أيد بها موسى وعيسى عليهما السلام، لكان إقبال الإفرنج عليه أكثر واهتداؤهم به أعم وأسرع!! لأن أساسه قد بني على العقل والعلم وموافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنفس الأفراد، وترقية مصالح الاجتماع، وأما آيته – أي محمد صلى الله عليه وسلم التي احتج بها على كونه من عند الله تعالى هي القرآن وأمية محمد عليه الصلاة والسلام، فهي آية علمية تدرك بالعقل والحس والوجدان. 

كفاك بالعلم في الأمي معجزة 
... 
في الجاهلية والتأديب في اليتم
 

وأما تلك العجائب الكونية فهي مثار شبهات وتأويلات كثيرة، في روايتها وفي صحتها ودلالتها، وأمثال هذه الأمور تقع من أناس كثيرين في كل زمان، والمنقول عن صوفية الهنود والمسلمين أكثر من المنقول عن العهدين العتيق والجديد وعن مناقب القديسين وهي من منفرات العلماء عن الدين في هذا العصر. ا هـ [تفسير المنار (11/ 155) ] . قلت: وفي الكلام السابق مغالطات شنيعة ما كان ينبغي أن يصدر من رجل كرشيد رضا: 

 

الأولى: أن المعجزات أصبحت في هذا العصر حجة على الدين لا له. 

الثانية: قوله: (ولولا حكاية القرآن ... إلخ) يُفهم منه أن القرآن بذكره للمعجزات والغيبيات التي لا يمكن إدراك كنهها، كان سبباً في صدود الأحرار الإفرنج عن دين الإسلام!. 

الثالثة: أن هذه العجائب الكونية أصبحت في هذا العصر من منفرات العلماء عن الدين!. 

- ويقول حسن حنفي: (أما المعجزات فقد أدت دورها في دعوة الناس إلى الإيمان عندما كان الله يتدخل تدخلاً مباشراً! في الطبيعة في التوراة والانجيل، ولكن بعد أن استقل الشعور الإنساني ولم يعد الإنسان في حاجة إلى برهان آخر يفوق الطبيعة، لم يعد للمعجزة أي معنى وأصبح خرق قوانين الطبيعة تهديداً للمعرفة الإنسانية أكثر منها تأييداً، إغفالاً لعناية الله أكثر منها إعلاءً لقدرته، فالمعجزات كانت ثم انتهت بظهور الإسلام الذي استبدل المعجزة بالإعجاز وجعل أحد البراهين على صدق الوحي هو التحدي الإنساني، تحدي قدرة الإنسان على الخلق والإبداع) [قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر: دار الفكر العربي] . 

- ويقول محمد فريد وجدي: (وأما الآن حيث بلغ العقل أشده والنوع الإنساني رشده فلا تجدي فيه معجزة ولا تنفع فيه غريبة لأن الشكوك قد كثرة مع كثرة المواد العلمية) [المدنية والإسلام:71 - 72 (الرومي: 2/ 560) ] . 

- ويتأول رشيد رضا الآية: { اقتربت الساعة وانشق القمر } [القمر:1] بقوله: (فعلى هذا يقال: انشق القمر بمعنى طلع وانتشر نوره ويكون في الآية بمعنى ظهر الحق ووضح كالقمر يشق الظلام بطلوعه ليلة البدر ... ) [مجلة المنار: مجلد (30) (5/ 372) ] . قلت: وسياق الآيات لا يساعد رشيد رضا في تأويله هذا، ففي الآية التي تليها قال تعالى: { وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [القمر: 2] . وهذا موافق للنصوص الصحيحة، فإن كفار مكة لما رأوا هذه الآية قالوا: سحرنا محمد! [انظر مسند الإمام أحمد:16308 - والترمذي:3289] هذا مع تواتر حادثة انشقاق القمر. 

تنبيه: لم يوافق الشيخ محمود شلتوت رجال المدرسة العقلية الحديثة فيما ذهبوا إليه من تأويل المعجزات أو إنكارها؛ بل رد على محمد عبده والسيد رشيد رضا تأويلهما للمعجزات. ونحن إذ نثبت هذا لنؤكد ما قلناه آنفاً أن بعض رجال الفكر العقلاني قد لا يوافق أصحابه في بعض الأفكار والاتجاهات، ولكن هذا لا يعفيه من انتسابه إليهم وذلك لأن الأصول التي يجتمعون عليها واحدة. [انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة: (2/ 575) 

ت- العصرانيون (العقلانيون الجدد) : 

- يقول الغزالي –: ( ... ومن المحققين من يرى أن القرآن هو المعجزة الفريدة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وهم يلحظون في هذا الحكم التعريف اللفظي للمعجزة من أنها خارق للعادة مقرون بالتحدي، ولم 

 

يعرف هذا التحدي إلا بالقرآن. وقد ملنا إلى قريب من هذا الرأي لا بالنظر إلى التعريف اللفظي للمعجزة، بل بالنظر إلى القيمة الذاتية للخوارق الأخرى بالنسبة إلى الأهداف الرقيقة التي جاء بها الإسلام. على أنه لا صلة للعقيدة ولا للعمل بهذه البحوث!! ... [وقال:] والرجل الصالح لا يغمز مكانته إنكاره لهذه الخوارق!) [فقه السيرة: ص48] . 

قلت: فالغزالي: 

1 - يميل إلى أن المعجزة الفريدة لمحمد صلى الله عليه وسلم هي القرآن. 

2 - وأن مباحث المعجزات لا صلة لها بالعقيدة. 

3 - وأن الرجل الصالح لا يُغمز في دينه ومكانته إنكاره لهذه المعجزات. 

فعلى هذا: لا يلام من أوّل القرآن تأويلاً يخرجها عن ظاهرها كتأويل حادثة انشقاق القمر، ولا يلام من أنكر الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وفي غيرهما، التي نصت على وقوع المعجزات، وهذا لازم من لوازم كلام الغزالي السابق. ولذلك لا تعجب إذا رأيته يؤول حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم - يقول – في فقه السيرة-: (لو كان الشر إفراز غدة في الجسم ينحسم بانحسامها أو لو كان الخير مادة يزود بها القلب كما تزود الطائرة بالوقود فنستطيع السمو والتحليق، لقلنا إن ظواهر الآثار مقصودة، ولكن أمر الخير والشر أبعد من ذلك، بل البديهي أنه في الناحية الروحية في الإنسان ألصق، شيء واحد نستطيع استنتاجه من هذه الآثار أن بشراً ممتازاً كمحمد لا تدع العناية غرضاً للوساوس الصغيرة التي تتناوش الناس .. ) [فقه السيرة: 64 - 65)] 

- الآثار المترتبة على إنكار المعجزات: 

1 - إنكار المعجزات قدحٌ في مقام النبوة. 

2 - التكذيب بالأحاديث الصحيحة الصريحة بل والمتواترة التي أخبرت بوقوع المعجزات. 

3 - التكذيب بالمعجزات طريق لإنكار الأمور المغيبة. 

 

(المأخذ السابع: إنكار بعض المغيبات الثابتة في القرآن والسنة) 

وهذا بابٌ من الإنكار للحقائق المعلومة في دين الله الثابتة بالسمع ولا يمتنع منها صريح العقل، تصرف فيها أهل الأهواء المعتزلة ومن سلك طريقتهم من المتأخرين، بالتكذيب تارة، وبالإنكار تارة، وبالتأويل تارة أخرى. ولو سقنا كل ما يتعلق بهذا الباب لطال بنا المقام، ولكن حسبنا أن نذكر بعضاً منها لبيان حال القوم من إنكار الحقائق الثابتة في القرآن والسنة. وسوف نطرق حقيقتين ثبتتا بالقرآن والسنة وإجماع أهل العلم وهما: حقيقة السحر، ودخول الجني في بدن المصروع. 

- نماذج: - 

1 - المذهب الحق: 

- قال شيخ الإسلام: (وجود الجن ثابت بكتاب الله وسنة رسوله واتفاق سلف الأمة وأئمتها. وكذلك دخول الجني في بدن الإنسان ثابت باتفاق أئمة أهل السنة والجماعة قال الله تعالى: { الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس } وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم) . وقال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل قلت لأبي: إن أقواما يقولون: إن الجني لا يدخل في بدن المصروع فقال: يا بني يكذبون هذا يتكلم على لسانه. وهذا الذي قاله أمر مشهور فإنه يصرع الرجل فيتكلم بلسان لا يعرف معناه ويضرب على بدنه ضربا عظيما لو ضرب به جمل لأثر به أثرا عظيما. والمصروع مع هذا لا يحس بالضرب ولا بالكلام الذي يقوله وقد يجر المصروع وغير المصروع ويجر البساط الذي يجلس عليه ويحول آلات وينقل من مكان إلى مكان ويجري غير ذلك من الأمور من شاهدها أفادته علما ضروريا بأن الناطق على لسان الإنسي والمحرك لهذه الأجسام جنس آخر غير الإنسان. وليس في أئمة المسلمين من ينكر دخول الجني في بدن المصروع وغيره ومن أنكر ذلك وادعى أن الشرع يكذب ذلك فقد كذب على الشرع وليس في الأدلة الشرعية ما ينفي ذلك) [الفتاوى: 24/ 276 - 277] . 

- وقال القرطبي: أنكر معظم المعتزلة الشياطين والجن، ودل إنكارهم على قلة مبالاتهم وركاكة دينهم، وليس في إثباتهم مستحيل عقلي؛ وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثباتهم، وحق على اللبيب المعتصم بحبل الله أن يثبت ما قضى العقل بجوازه، ونص الشارع على ثبوته، قال تعالى: { ولكن الشياطين كفروا } ، وقال: { ومن الشياطين من يغوص له } [الأنبياء:82] . إلى غير ذلك من الآي. وسورة ا لجن تقضي بذلك. وقال عليه السلام (إن الشيطان يجري من آدم مجرى الدم) . وقد أنكر هذا الخبر كثيرُ من الناس، وأحالوا روحين في جسد؛ والعقل لا يحيل سلوكهم في الإنس إذا كانت أجسامهم رقيقة بسيطة على ما يقوله بعض الناس بل أكثرهم؛ ولو كان كثافاً لصح ذلك أيضاً منهم 

 

كما يصح دخول الطعام والشراب في الفراغ من الجسم، وكذلك الديدان قد تكو ن في بني آدم وهي أحياء) [تفسير القرطبي: سورة البقرة: 102] . 

- ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي –في تأويل قوله تعالى: { الذين يؤمنون بالغيب } : (حقيقة الإيمان: هو التصديق التام بما أخبرت به الرسل، المتضمن لانقياد الجوارح. وليس الشأن في الإيمان بالأشياء المشاهدة بالحس، فإنه لا يتميز المسلم من الكافر، إنما الشأن في الإيمان بالغيب، الذي لم نره ولم نشاهده، وإنما نؤمن به لخبر الله وخبر رسوله، فهذا الإيمان الذي يميز به بين المسلم والكافر، لأنه تصديق مجرد لله ورسوله، والمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به، وأخبر به رسوله، سواء شاهده أو لم يشاهده، وسواء فهمه عقله، أو لم يهتد إليه عقله وفهمه، بخلاف الزنادقة والمكذبين بالأمور الغيبية، لأن عقولهم القاصرة لم تهتد إليه، فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، ففسدت عقولهم ومرجت أحلامهم) [تفسير السعدي: (1/ 41 - 42) ] . 

2 - المذهب المخالف: 

أ- المعتزلة (العقلانيون القدماء) . 

- قالت المعتزلة: (أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة، كما قال تعالى: { يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى } [طه:66] . ولم يقل تسعى على الحقيقة، ولكن قال { يخيل إليه } وقال أيضاً: { سحروا أعين الناس } [الأعراف:116] ، [انظر تفسير القرطبي: سورة البقرة: 102] . ورد عليهم القرطبي قولهم هذا فقال: وهذا لاحجة فيه؛ لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جزوها العقل وورد بها السمع؛ فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه، ولا أخبر تعالى أنهم يعلمونه الناس، فدل على أنه له حقيقة. .. وقال - بعد أن قرر حقيقة السحر: وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق) [تفسير القرطبي: سورة البقرة: 102] . 

ب- المدرسة العقلية الحديثة: 

- قال محمد عبده: (على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يعد مبتدعا لأن الله تعالى ذكر ما يعتقد به المؤمنون في قوله: { آمن الرسول } الآية، وفي غيرها من الآيات ووردت الأوامر بما يجب على المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلماً ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر على أنه مما يجب الإيمان بثبوته أو وقوعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون، في كل ملة بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلم السحر كفر فقد طلب منا أن لا ننظر فيما يعرف عند الناس بالسحر ويسمى باسمه) [تفسير جزء عم: ص 186] . 

 

- وقال أحمد المراغي- في مسألة صرع الجني للإنسي-: (وتخبط الشيطان للإنسان من زعمات العرب، إذ يزعمون أنه يخبط الإنسان فيصرع، فورد القرآن على ما يعتقدون وكذلك يعتقدون أن الجني يمس الإنسان فيختلط عقله ويقولون: رجل ممسوس أ ي مسه الجن ورجل مجنون: إذا ضربته الجن ولهم في ذلك قصص وأخبار وعجائب وإنكار ذلك عندهم كإنكار المحسوسات، فجاءت الآية وفق ما يعتقدون، ولا تفيد صحة هذا ولا نفيه) [تفسير المراغي: (3/ 63 - 64) ] . 

ت- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- يقول الدكتور حسن حنفي: (يمكن للمسلم المعاصر أن ينكر الجانب الغيبي في الدين ويكون مسلماً حقاً في سلوكه) [قضايا معاصرة: ص93] . قلت: قال ربنا جل وعلا: { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) } [البقرة: 3 - 5] . فحنفي يقول: يمكن للمسلم المعاصر أن ينكر الجانب الغيبي ويكون مسلماً حقاً!، وربنا يجعل المؤمنين بالغيب مهديين مفلحين. ومفهوم المخالفة: أن من لم يؤمن بالغيب ضال وخاسر –والله أعلم -. 

- ويقول –أيضاً- ألفاظ الجن والملائكة والشياطين، بل والخلق والبعث والقيامة، ألفاظ تتجاوز الحس والمشاهدة، ولا يمكن استعمالها، لأنها لا تشير إلى واقع، ولا يقبلها كل الناس) [التراث والتجديد: ص 103] . 

- ويقول الغزالي: (في عالم يبحث عن الحرية نصور الإسلام دين استبداد، وفي عالم يحترم التجربة، ويتبع البرهان نصور الدين غيبيات مستوردة من عالم الجن وتهاويل مبتوتة الصلة بعالم الشهادة) [هموم داعية: 3 - 4] . ولذا لا تعجب من تأويله لحديث: (واشتكت النار إلى ربها فقالت يا رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ونفس في الصيف فهو أشد ما تجدون من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير) [البخاري:573، ومسلم:615] بقوله: (كون النار تكلمت بلسان فصيح وطلبت ما طلبت فهم لبعض الناس، ولهم أن يقفوا عند الظاهر الذي لا يتصورون غيره، وهناك رأي آخر أميل إليه، وهو أن هذا أسلوب في تصوير المعاني يعتمد على المجاز والاستعارة) [هموم داعية: 18] . 

- الآثار المترتبة على إنكار المغيبات: 

1 - حقيقة إنكار أمور الغيب هو إبطال الشرائع وتعطيل الأوامر والنواهي. 

2 - التكذيب بأمور الغيب تكذيبٌ للرسل والشك فيما أتوا به. 

3 - إنكار مسائل الغيب التي أجمعت عليها الأمة، اتهام لهم بأنهم كانوا على ضلالة، وهو ينافي عصمة الله لهذه الأمة أن تجتمع على ضلالة. 

4 - الإيمان بالغيب محك التمييز بين المسلم والكافر. 

 

(المأخذ الثامن: الدعوة إلى تطوير الدين وتجديده) 

في حجة الوداع أوحى الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، أن الدين قد كمُل وأن نعمته على أمة محمد قد تمت بإتمام الدين. { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . ومفهوم هذه الآية أن الأمة لا حاجة بها إلى تشريع جديد أو أحكام جديدة تضبط شئون حياتهم، وتقيم لهم شعائرهم، فقد كفوا مئونة ذلك. 

والمبطلون من –أهل الأهواء – أصحاب المدرسة العقلية والعقلانيون الجدد- بدلوا وغيروا في دين الله بدعوى التطوير والتجديد في الدين. وزعموا أن ذلك لازم لمسايرة روح العصر ومتطلباته. وهذه الدعوة لم تظهر إلا بعد أن أطل الغرب على الشرق، وافتتن بعض مثقفي هذه الأمة بحضارتهم وبهرتهم بهرجها وزخرفها، فوجدوا في بعض الأحكام الشرعية ما لا يرضي الغرب، وتطبيقها على الأمة عائق يحول بينها وبين تطور الأمة وتحضرها-زعموا-، فلجئوا إلى النهوض بدعوة تطوير الدين مسايرة للعصر، وحقيقته تبديل الدين وتغير أحكام الشريعة. 

ولقد تضايق محمد أبو زهرة من فكرة التطور وأصحابها فقال: (إن كلمة التطور تضايقني نفسياً لأن الذين يرددونها خارج هذا المجلس - [مجلس أسبوع الفقه الإسلامي] - يريدون أن يحولوا الشريعة عن مقاصدها إلى ما يوافق أهواء واردة إلى مجتمعاتنا في عواصف ناسفة للحقائق الإسلامية، فيلغون الزكاة باسم تطور الاشتراكية، ويلغون الميراث باسم ذلك التطور أيضاً، ويكادون يلغون الزواج والطلاق باسم التطور. والذين يرددون كلمة التطور هنا، يؤمنون بالقوانين الأوربية أكثر من إيمانهم بالشريعة الإسلامية، ويؤمنون بالاقتصاد القائم أكثر من إيمانهم بالقرآن والسنة النبوية، ومصادر الشريعة جملة وتفصيلاً من أجل ذلك نتململ من كلمة التطوير) ... ثم قال: (إنهم يريدون التبديل، ولا يريدون إيجاد أحكام لما جد من أحداث ... يريدون أن تكون الشريعة محكومة لما يجري بين الناس لا حاكمة على ما يجري، وينسون أن الشريعة نزلت من عند الله لإصلاح المجتمع، وتنظيم العلاقات بين الناس) [أسبوع الفقه الإسلامي الثالث/1967م / ص152 (نقلاً من (العصرانيون بين مزاعم التجديد ... ص201) ] . 

- نماذج:

1 - المذهب الحق: 

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومما جاء به الرسول: إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } . ومما جاء به الرسول أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى: { وما على الرسول إلا البلاغ المبين } وقال تعالى: { وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم } وقال تعالى: 3يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل 

 

فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس3. ومعلوم أنه قد بلغ الرسالة كما أمر ولم يكتم منها شيئا: فإن كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة: كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة. ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصوم من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصوم من الكذب فيها. والأمة تشهد له بأنه بلغ الرسالة كما أمره الله وبين ما أنزل إليه من ربه وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين ; وإنما كمل بما بلغه: إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه فعلم أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) . وقال: (ما تركت من شيء يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به وما تركت من شيء يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به) . وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما) [الفتاوى5/ 155 - 156] . 

2 - المذهب المخالف: 

أ- المدرسة العقلانية الحديثة: 

- قال محمد عبده-في مسألة تعدد الزوجات-: (لا سبيل إلى تربية الأمة مع فشو تعدد الزوجات فيها، فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة خصوصاً الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وخيرهم وأن من أصولهم منع الضرر والضرار، فإذا ترتب على شيء مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغيير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة) [تفسير المنار:4/ 349 - 350] . 

- وقال عبد المتعال الصعيدي-في مقال له بعنوان: نعم نملك تحريم تعدد الزوجات!: (لا ينكر أحد أن ينقلب المباح حراماً إذا نهى عنه ولي الأمر لمصلحة تقتضي النهي عنه كأن ينهي عن زراعة القطن في أكثر من ثلث الملك، فتجب طاعته شرعاً في ذلك وتحرم مخالفته، .. ثم قال: وكذلك الأمر في تعدد الزوجات فلولي الأمر أن ينهى عنه إذا أساء المسلمون استعماله فيصير حراماً لنهيه عنه وإن كان في ذاته مباحاً وهذا أمرٌ معروف بين العلماء!؟) [مجلة الرسالة: عدد 773 ابريل 1984 ص 489] . 

- ولما عًين محمد مصطفي المراغي رئيساً للجنة تنظيم الأحوال الشخصية قال في افتتاح عمل اللجنة: (ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم) [المجددون في الإسلام: عبد المتعال الصعيدي ص413 (ولا يغرنكم اسم الكتاب: المجددون في الإسلام. فعبد المتعال هذا حاطب ليل جمع في كتابه الصالح والطالح، والبر والفاجر، والمؤمن والملحد!، فهو قد جمع بين الشافعي، وأحمد بن حنبل، وابن تيمية، ومحمد بن عبد الوهاب من جهة، وبين ابن عربي، وابن سيناء، ونصير الدين الطوسي، وجمال الدين الأفغاني من جهة أخرى، وعدّ كل أولئك: مجددون في الإسلام!) ] . 

- وقال علي عبد الرزاق: (أن كل ما جاء به الإسلام من عقائد ومعاملات وآداب وعقوبات فإنما هو شرع ديني خالص لله تعالى ولمصلحة البشر الدينية لا غير، وسيان بعد ذلك أن تتضح لنا تلك المصالح 

 

الدينية أم تخفى علينا، وسيان أن يكون منها للبشر مصلحة مدنية أم لا فذلك مما لا ينظر الشرع السماوي إليه ولا ينظر إليه الرسول) [الإسلام وأصول الحكم: ص 170] . 

ب- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- ويقول الترابي: (فأفكار السلف الصالح ونظمهم قد يتجاوزها الزمن، من جراء قضائها على الأمراض التي نشأت من أجلها، وانتصارها على التحديات التي كانت استجابة لها ... وقال: ولكن المرء لا يعرف اليوم تماماً كيف يعبد الله في التجارة أو السياسة، أو يعبد الله في الفن؟!) [تجديد الفكر الإسلامي: ص40 (العصرانيون196) ] . قلت: ولكن أهل العلم والإيمان يعلمون كيف ينزلون الحوادث والنوازل، ومستجدات العصر على القواعد الشرعية والأصولية. وأما كيف يعبد الله في الفن؟، فهذا من بدع الترابي!. 

- وقال القرضاوي: (أن قضية الرجم هذه هي أكثر للترهيب حيث أن الزنا لم يثبت فعلياً في التاريخ الإسلامي إلا بالإقرار المتكرر كما في الحالات المثبوت فيها الرجم والرسول حاول أن يرد المقرر، فالقضية لا تثبت إلا بهذا الاعتراف المتكرر. وفيما يتعلق بالقتل في الزنا هل يمكن أن يتم بغير الرجم فأنا أرى أن للاجتهاد في هذا الأمر مجال فالأمر قابل للبحث) [برنامج الشريعة والحياة حلقة: السنة النبوية مصدر للتشريع 10/ 5/1998م، و حاشيته على فتاوى (مصطفى الزرقا – ص 394) أشار إلى شيء من ذلك] . قلت: لا يتوقف إقامة حد الزنى على الإقرار المتكرر، والشواهد تعضد هذا وتؤيده، ففي قصة العسيف قال صلى الله عليه وسلم ( .. وأما أنت يا أنيس لرجل فاغد على امرأة هذا فارجمها فغدا عليها أنيس فرجمها) [رواه البخاري:2696، ومسلم: 1698] . وقال عمر بن الخطاب: (لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ألا وإن الرجم حق على من زنى وقد أحصن إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) [رواه البخاري:6829، ومسلم:1691] . 

وأنت تلمح في كلام القرضاوي، أن طريقة قتل الزاني مسألة قابلة للاجتهاد، أقول: تلمح في كلامه هروباً من تشنيع المستشرقين والغرب على اتخاذ أمة الإسلام عقوبة الرجم لجريمة الزنى. وكفانا الشيخ الشنقيطي مؤنة ذلك فقال في رده على بعض الملحدين: (والملحدون يقولون: إن الرجم قتل وحشي لا يناسب الحكمة التشريعية، ولا ينبغي أن يكون مثله في الأنظمة التي يعامل بها الإنسان؛ لقصور إدراكهم عن فهم حكم الله البالغة في تشريعه. والحاصل أن الرجم عقوبة سماوية معقولة المعنى؛ لأن الزاني لما أدخل فرجه في فرج امرأة على وجه الخيانة والغدر، فإنه ارتكب أخس جريمة عرفها الإنسان بهتك الأعراض، وتقذير الحرمات، والسعي في ضياع أنساب المجتمع الإنساني. والمرأة التي تطاوعه في ذلك مثله، ومن كان 

 

كذلك فهو نجس قذر لا يصلح للمصاحبة؛ فعاقبه خالقه الحكيم الخبير بالقتل ليدفع شره البالغ غاية الخبث والخسة، وشر أمثاله عن المجتمع، ويطهره هو من التنجيس بتلك القاذورات التي ارتكب، وجعل قتلته أعظم قتلة؛ لأن جريمته أفظع جريمة والجزاء من جنس العمل) [أضواء البيان: 3/ 434 - 435] . 

- ويذهب عبد الله العلايلي-في مقال له بعنوان: مجمع البحوث الفقهية إلى متى يظل حائراً - إلى جعل المذاهب الإسلامية كلها في بوتقة واحدة حتى وإن اختلفت وتضادت. يقول: (وذلك بالتسليم بكل ما قالت المدارس الفقهية على اختلافها، وتناكرها، حتى الضعيف منها، وبقطع النظر عن أدلتها .. واختزانها في مدونة منسقة الأبواب كمجموعة (جوستنيان) وأعني كل ما أعطت المدارس: الإباضية والزيدية والجعفرية والسنية، من حنفية ومالكية وشافعية وحنبلية وأوزاعية وظاهرية، وذلك بجعل هذه الثروة الفقهية منجماً لكل ما يجد ويحدث) [ثم قال:] ( ... ويتأسس على هذا المقترح، أنه في حال ما إذا واجهتنا مشكلة من مشاكل اليوم، أو نازلة من النوازل، نأخذ الحل من هذا المنجم الفقهي! أو الرَّبيْدة الجامعة الحافلة، بقطع النظر عن قائله أو دليله!!) [أين الخطأ: ص 99] . قلت: ولا يخفى على كل ذي بصيرة ما في هذا الكلام من ضلال عن جادة الحق. 

- الآثار المترتبة على دعوة تجديد الدين وتطويره: 

1 - تجديد الدين حقيقته ومؤداه تبديل الدين وتغيير أحكام الشريعة الربانية وهذا كفر. 

2 - اضطراب الشريعة وتناقضها وذلك تبعاً للتجديد المستمر الذي ينادون به. 

3 - فتح الباب لكل عقل بأن يقول في دين الله ما شاء. 

 

(المأخذ الثامن: الدعوة إلى وحدة الأديان) 

الدعوة إلى وحدة الأديان تضاد عقيدة الولاء والبراء، التي قررتها الشريعة. فإن الله جلّ في علاه لما أرسل رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله للناس كافة وليس لجنس العرب قال تعالى: { وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [سبأ: 28] فبطل بذا قول من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً إلى العرب فقط ‍!. 

وجعل شريعته خاتمة الشرائع ومن لم يؤمن بها ممن جاء بعده فهو في الآخرة خاسر: { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين } [آل عمران: 85] . ولاينفع إسلامٌ بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم؛ إلا الإسلام الذي جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام قال صلى الله عليه وسلم (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار) [رواه مسلم (153) ] . وبطل بهذا زعم من قال: إن الإسلام المراد في الآية السابقة هو الإسلام العام وليس الإسلام الخاص الذي جاءت به شريعة محمد صلى الله عليه وسلم 

ولما كان اليهود والنصارى وسائر المشركين يعبدون غير الله، أو يشركون معه آلهة أخرى، جاء التوجيه الرباني بمنابذة أهل الشرك والأوثان-ولو كانوا أقرب الأقربين -، والرغبة عنهم، والنهي عن موآدتهم ومحبتهم أو تقريبهم أو إعانتهم أو نصرتهم ... إلخ، { لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا ءاباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون } [المجادلة:22] . 

ودعوى المفتونين أن اليهود والنصارى لهم كتب سماوية ولهم دين صحيح يجب اعتباره، دعوى مزخرفة بالقول مبتورة الحقائق. فأما الكتب السماوية؛ فنعم كان لهم كتب سماوية فالتوراة أنزلت على موسى، والإنجيل أنزل على عيسى، ولكن اعتراها التبديل والتحريف والزيادة والنقصان، ثم جاء القرآن وهيمن عليها { وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه } [المائدة:48] مهيمناً أي: مؤتمنا عليه وحاكماً على ما قبله من الكتب المنزلة. 

وأما دعواهم بأن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً، فقد كفانا القرآن مئونة الرد عليهم: (لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار) [المائدة (72) ] . وقال: (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسَّنَّ الذين كفروا منهم عذابٌ أليم) [المائدة (73) ] . وقال تعالى: (وقالت اليهود يدُ الله مغلولة. غُلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف 

 

يشاء .. . ... الآية) [المائدة (64) ] . وقال تعالى: (لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق) [آل عمران (181) ] . 

وقال تعالى: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون) [التوبة (30) ] . 

(وفي الربع الأخير من القرن الرابع عشر الهجري، وحتى عامنا هذا عام 1416. وفي ظل (( النظام العالمي الجديد )) : جهرت اليهود والنصارى، بالدعوة إلى التجمع الديني بينهم، وبين المسلمين، وبعبارة أخرى: (التوحيد بين الموسوية، والعيسوية، والمحمدية) باسم: (الدعوة إلى التقريب بين الأديان) . (التقارب بين الأديان) ثم باسم: (نبذ التعصب الديني) . ثم باسم: (الإخاء الديني) وله: فُتح مركز بمصر بهذا الاسم. وباسم: (مجمع الأديان) وله: فتح مركز بسيناء مصر بهذا الاسم. وباسم: (الصداقة الإسلامية المسيحية) . وباسم: التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية) ثم أُخرجت للناس تحت عدة شعارات: (وحدة الأديان) . (توحيد الأديان) . (توحيد الأديان الثلاثة) . (الإبراهيمية) . (الملة الإبراهيمية) . (الوحدة الإبراهيمية) . (وحدة الدين الإلهي) . (المؤمنون) . (المؤمنون متحدون) . (الناس متحدون) . (الديانة العالمية) . (التعايش بين الأديان) . (المِلِّيُّون) . (والعالمية وتوحيد الأديان) . 

ثم لحقها شعار آخر، هو: (وحدة الكتب السماوية) . ثم امتد أثر هذا الشعار إلى فكرة طبع: القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل) في غلاف واحد. ثم دخلت هذه الدعوة في: (الحياة التعبدية العملية) إذ دعا (البابا) إلى إقامة صلاة مشتركة من ممثلي الأديان الثلاثة: الإسلاميين والكتابيين، وذلك بقرية: (أسيس) في إيطاليا. فأقيمت فيها بتاريخ 27/ 10/1986م. ثم تكرر هذا الحدث مرات أخرى باسم: (صلاة روح القدس) . ففي اليابان على قمة جبل (كيتو) أُقيمت هذه الصلاة المشتركة، وكان – واحسرتاه- من الحضور ممثل لبعض المؤسسات الإسلامية المرموقة!) [الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان: لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد: ص23 - 25] . 

- نماذج: - 

1 - المذهب الحق: 

- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (هذا القدر يعترف به كل عاقل - من اليهود والنصارى - يعترفون بأن دين المسلمين حق وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن من أطاعه منهم دخل الجنة بل يعترفون بأن دين الإسلام خير من دينهم: كما أطبقت على ذلك الفلاسفة كما قال ابن سينا وغيره: أجمع فلاسفة العالم على أنه لا يقرع العالم ناموس أعظم من هذا الناموس: لكن من لم يتبعه يعلل نفسه بأنه لا يجب عليه اتباعه: لأنه رسول إلى العرب الأميين دون أهل الكتاب: لأنه إن كان دينه حقا فديننا أيضا حق والطريق إلى الله تعالى متنوعة ويشبهون ذلك بمذاهب الأئمة فإنه وإن كان أحد المذاهب يرجح على الآخر 

 

فأهل المذاهب الأخر ليسوا كفارا ولا من أهل الكتاب. هذه الشبهة التي يضل بها المتكايسون من أهل الكتاب والمتفلسفة ونحوهم وبطلانها ظاهر ; فإنه كما علم علما ضروريا متواترا أنه دعا المشركين إلى الإيمان فقد علم بمثل ذلك أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به وأنه جاهد أهل الكتاب كما جاهد المشركين: فجاهد بني قينقاع وبني النضير وقريظة وأهل خيبر وهؤلاء كلهم يهود وسبى ذريتهم ونساءهم وغنم أموالهم وأنه غزا النصارى عام تبوك بنفسه وبسراياه: حتى قتل في محاربتهم زيد بن محمد مولاه الذي كان تبناه وجعفر وغيرهما من أهله وأنه ضرب الجزية على نصارى نجران. وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده: جاهدوا أهل الكتاب وقاتلوا من قاتلهم وضربوا الجزية على من أعطاها منهم عن يد وهم صاغرون. وهذا القرآن الذي يعرف كل أحد أنه الكتاب الذي جاء به: مملوء من دعوة أهل الكتاب إلى اتباعه ويكفر من لم يتبعه منهم ويذمه ويلعنه ; والوعيد له كما في تكفير من لم يتبعه من المشركين وذمه والوعيد كما قال تعالى: { يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم } الآية وفي القرآن من قوله يا أهل الكتاب يا بني إسرائيل: ما لا يحصى إلا بكلفة. وقال تعالى: { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين } الآية. إلى قوله. { خير البرية } ومثل هذا في القرآن كثير جدا. وقد قال تعالى: { قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض } وقال تعالى: { وما أرسلناك إلا كافة للناس } . واستفاض عنه صلى الله عليه وسلم (فضلت على الأنبياء بخمس) ذكر فيها أنه قال: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة) بل تواتر عنه صلى الله عليه وسلم أنه بعث إلى الجن والإنس ; فإذا علم بالاضطرار بالنقل المتواتر - الذي تواتر كما تواتر ظهور دعوته - أنه دعا أهل الكتاب إلى الإيمان به وأنه حكم بكفر من لم يؤمن به منهم وأنه أمر بقتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وأنه قاتلهم بنفسه وسراياه وأنه ضرب الجزية عليهم وقتل مقاتلتهم وسبى ذراريهم وغنم أموالهم. فحاصر بني قينقاع ثم أجلاهم إلى أذرعات وحاصر بني النضير ثم أجلاهم إلى خيبر ; وفي ذلك أنزل الله سورة الحشر. ثم حاصر بني قريظة لما نقضوا العهد وقتل رجالهم وسبى حريمهم وأخذ أموالهم وقد ذكره الله تعالى في سورة الأحزاب: وقاتل أهل خيبر حتى فتحها وقتل من قتل من رجالهم وسبى من سبى من حريمهم وقسم أرضهم بين المؤمنين وقد ذكرها الله تعالى في سورة الفتح: وضرب الجزية على النصارى وفيهم أنزل الله سورة آل عمران: وغزا النصارى عام تبوك وفيها أنزل الله سورة براءة. وفي عامة السور المدنية ; مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة وغير ذلك من السور المدنية من دعوة أهل الكتاب وخطابهم ما لا تتسع هذه الفتوى لعشره. ثم خلفاؤه بعده أبو بكر وعمر ومن معهما من المهاجرين والأنصار الذي يعلم أنهم كانوا أتبع الناس له وأطوعهم لأمره وأحفظهم لعهده: وقد غزوا الروم كما غزوا فارس وقاتلوا أهل الكتاب كما قاتلوا المجوس فقاتلوا من قاتلهم وضربوا الجزية على من أداها منهم عن يد وهم صاغرون) [الفتاوى: 4/ 203 - 205] . 

 

- وقال الشيخ بكر أبو زيد: (إن الدعوة إلى هذه النظرية الثلاثية: تحت أي من هذه الشعارات: إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر كل منهما بين النسخ والتحريف، هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين، اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة: (بغض الإسلام والمسلمين) . وغلفوها بأطباق من الشعارات اللامعة، وهي كاذبة خادعة، ذات مصير مروع مخوف. فهي في حكم الإسلام: دعوة بدعية، ضالة كفرية، خطة مأثم لهم، ودعوة لهم إلى ردة شاملة عن الإسلام، لأنها تصطدم مع بدهيات الاعتقاد، وتنتهك حرمات الرسل والرسالات، وتبطل صدق القرآن، ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وتبطل ختم النبوة والرسالة بمحمد عليه الصلاة والسلام، فهي نظرية مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسنة، وإجماع وما ينطوي تحت ذلك من دليل وبرهان) [الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان: لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد: ص 35 - 36] . 

- وقال الدكتور فهد الرومي: (وما تلكم الدعوة [– وحدة الأديان-] في حقيقتها إلا تذويب للأديان وامتصاص لعداوتها لليهودية، وحينما يتم التقريب بين الأديان فإن العلمانية – حتماً – هي النتيجة، وحينئذ يسهل القضاء عليها لتزول الأديان كلها وتتحقق أهداف الماسونية من طريق جديد- بل أهداف الصهيونية) [منهج المدرسة العقلية في التفسير: ص1/ 137] . 

2 - المذهب المخالف: 

أ- المدرسة العقلية الحديثة. 

- يقول جمال الدين الأفغاني: (إن الأديان الثلاثة الموسوية والعيسوية والمحمدية، على تمام الاتفاق في المبدأ والغاية، وإذا نقص في الواحد شيء من أوامر الخير المطلق، استكملته الثانية، .. وعلى هذا لا ح لي بارق أمل كبير: أن يتحد أهل الأديان الثلاثة، مثلما اتحدت الأديان في جوهرها وأصلها وغايتها، وبهذا الاتحاد يكون البشر قد خطوا نحو السلام خطوة كبيرة في هذه الحياة القصيرة) [الأعمال الكاملة لجمال الدين الأفغاني: جمع محمد عمارة ص294 - 295] . 

- وكتب محمد عبده إلى القس إسحاق طيلر يقول: (كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق حضرة القس المحترم إسحاق طيلر أيده الله في مقصده ووفاه المذخور من موعده!!) إلى أن قال: (وإنا لنهنئك على هذه البركة العظمى التي اختصك الله بها من بين قومك، ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل فتهزم له ظلمات الغفلة فتصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى وتصافحتا مصافحة الوداد وتعانقتا معانقة الألفة، فتغمد عند ذلك سيوف الحرب التي طالما انزعجت لها أرواح الملتين) - ويقول-أيضاً-: (وأنا نرى التوراة والإنجيل والقرآن ستصبح كتباً متوافقة، 

 

وصحفا متصادقة يدرسها أبناء الملتين ويوقرها أرباب الدينين، فيتم نور الله في أرضه، ويظهر دينه الحق على الدين كله) [الأعمال الكاملة لمحمد عبده: جمع محمد عمارة (2/ 355 - 356) ] . 

ب- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- يقول عبد العزيز كامل: (ونحن في منطقة الشرق الأوسط، نؤمن بالتوحيد بطريقة أو بأخرى، وأقوالها واضحة، يستوي في هذا: الإسلام والمسيحية واليهودية، حتى الإيمان بالأقانيم الثلاثة في الفرك المسيحي يختم بإله واحد. هذه منطقة توحيد، والصور تختلف، وتفسيرها الفلسفي يختلف) [الإسلام والعصر: 194 (العصرانيون 308) ] . 

- ويقول القرضاوي –عن النصارى-: (فكل القضايا بيننا مشتركة فنحن أبناء وطن واحد، مصيرنا واحد، أمتنا واحدة، أنا أقول عنهم إخواننا المسيحيين، البعض ينكر علي هذا كيف أقول إخواننا المسيحين؟ (إنما المؤمنون إخوة) نعم نحن مؤمنون وهم مؤمنون بوجه آخر) [برنامج الشريعة والحياة: (في ظل الشريعة الإسلامية) 12/ 10/1997م، ويقررها في كتبه ككتاب (فتاوى معاصرة 2/ 668) ] . 

- وقال- أيضاً-: (إن مودة المسلم لغير المسلم لا حرج فيها) [غير المسلمين في المجتمع الإسلامي: ص 68] . قلت: وأين تذهب بقوله تعالى: { لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا ءَابَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } [المجادلة: 22] . 

- ويقول محمد عمارة: (والفروق بين المسلمين وأهل الكتاب، ليست من الخطر، بحيث تخرج الكتابيين من إطار الإيمان والتدين بالدين الإلهي!) [تجديد الفكر الإسلامي: ص82 (العصرانيون:309) ] قلت: وأين نذهب بقوله تعالى: { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } وقوله: { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } وغيرها من الآيات التي تقضي بكفر اليهود والنصارى اليوم. 

- الآثار المترتبة على دعوة وحدة الأديان: 

1 - الدعوة إلى وحدة الأديان تنافي عقيدة الولاء والبراء. 

2 - كسر حاجز النفرة من الكفار والمشركين. 

3 - مخالفة النصوص القرآنية والنبوية الآمرة بمعاداة الكافرين والمشركين. 

4 - إبطال أن يكون القرآن الكريم حاكماً على الكتب السابقة. 

5 - إبطال أن تكون شريعة الإسلام خاتمة الشرائع. 

 

6 - إبطال أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين. 

(المأخذ التاسع: قصر الجهاد على الجهاد الدفاعي فقط) 

الجهاد فريضة على المسلمين لنشر كلمة التوحيد، وتعبيد الناس لربهم، وإزالة الكهنوت والطاغوت. الجهاد رفعٌ لاستعباد البشر للبشر، كما قال ربعي بن عامر لعظيم كسرى: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقى. أهـ) [البداية والنهاية (7/ 46) ] . 

والأدلة على فرضية الجهاد كثيرة فمن الكتاب قوله تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة: 29] . وقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [الأنفال: 39] . ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله) [رواه البخاري: (25) ومسلم: (22) ] . وقوله صلى الله عليه وسلم (من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق) [رواه مسلم: 1910] . وقوله صلى الله عليه وسلم (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) [رواه البخاري: 2849، مسلم: 1871] . وأحاديث أخرى كثيرة. 

ولا نجد للمعتزلة كلاماً في هذه المسألة-حسب علمي –في التشكيك في فرضية الجهاد أو قصره على الجهاد الدفاعي، ولا نعتقد ذلك فيهم؛ فهم أرباب الخروج على أئمة المسلمين بالسيف!. 

وأول ظهور هذه الدعوة الماكرة، كانت على يد رجال المدرسة العقلية الحديثة، ثم تابعهم العصرانيون على ذلك، حيث قصروا الجهاد على جهاد الدفاع فقط. أما جهاد الكفار والمشركين وغزوهم في قعر دارهم لأجل إقامة شرع الله في أرضه، وتخلية الناس بينهم وبين اختيار دينهم بدون تسلط من حكامهم وطواغيتهم، فهذا لا يرونه ولا يقولون به؛ بل يرون أن الجهاد العام كان في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي زمن خلفائه الراشدين، لضرورة اقتضت ذلك في ذلك الزمن، ولا يمكن تطبيق ذلك الآن، فذهبوا أولئك –رجال المدرسة العقلية والعصرانيون-يقررون بدعة الجهاد الدفاعي -ولو على حساب المعتقد! -، خوفاً من ألسنة المستشرقين والكتّاب الغربيين، ومحاولة منهم لتلميع صورة الإسلام عند الأمم الغربية الكافرة، الذين يصمون المسلمين ويصفونهم بأنهم سفاكو دماء، وأن قتالهم من أجل الأرض والغنائم!. 

ويردد رجال المدرسة الحديثة والعصرانيون، مقولة المستشرقين: إن العقائد لا تنتشر بالسيف!. وسبب جنوح المستشرقين لتلك المقولة، رغبةً منهم في إلغاء فكرة الجهاد عند المسلمين، فانتصارات المسلمين 

 

وفتوحاتهم أغاظتهم وأصابتهم في مقتل، وتلك الانتصارات ارتبطت بالجهاد؛ لأنها تبعث في الناس حرارة إيمانية تجعل الفرد يقدم روحه ونفسه لله، ولما كانت هذه الحرارة الإيمانية مبعثها الجهاد، بذل المستشرقون جهدهم وتبعهم أذنابهم من المسلمين على قتل هذه الكلمة، والقضاء عليها في مهدها عند ظهور أول بوادر لها، والواقع يصدق ذلك. 

ومن أجل ذا لجأ المفتونون –أهل الأهواء- إلى قصر الجهاد العام بمفهومه الواسع من نشر التوحيد ونبذ الشرك، وإقامة شعائر الله في أرضه، وإزالة الطواغيت، ورفع سلطة النظام الكافر عن الناس وتركهم يختارون دينهم، إلى حصره في نطاق ضيق وهو: (الجهاد الدفاعي) . وهذه الفكرة تنبني على ما قبلها من الدعوة إلى وحدة الأديان؛ فإنه إذا كان اليهود والنصارى لهم دين صحيح الآن، وعلى صراط مستقيم، وأنهم مسلمون ناجون في الآخرة .. إلخ، فلماذا نقاتلهم إذاً؟. وهذا تسلسل منطقي يلزم القول به لمن آمن بوحدة الأديان. (ولعل أول ثمرة يجنيها أولئك القوم- [أي: اصحاب المدرسة العقلية الحديثة] - في سعيهم إلى التقريب بين الأديان القضاء على فكرة الجهاد في الإسلام، فما دامت الأديان الثلاثة كلها حق وليس بينها فرق فليس هناك من داع لحمل السيف وإعلان الجهاد ضد النصارى مثلاً، وهو الأمر الذي أقلق بريطانيا كثيراً وهي دولة نصرانية، فسعت بشتى السبل للقضاء على هذه العقيدة الإسلامية، فانشأت القاديانية التي حرمت قتال الإنجليز والبهائية كذلك، وأيدت حركة أحمد خان الذي أعلن أن قتال الإنجليز كفر وأن مساعدتهم واجبة!) [منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير: للدكتور فهد الرومي (1/ 139) ] . 

وأما مقولة إن العقائد لا تنشر بالسيف: فيردها واقع المسلمين وفتوحاتهم، فهم إن غزوا أمة خيروهم بين ثلاث خلال أو خصال: الإسلام ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، أو الجزية تؤخذ منهم وهم صاغرون ويقرون على دينهم مع عدم إظهار شعائرهم وطقوسهم وفي ذلك تفصيلات يطول وصفها، أو القتال إن هم أبوا؛ والقتال كما قررنا سلفاً ليس من أجل احتلال أرض أو استنزاف ثروات، القتال هنا من أجل نشرك كلمة التوحيد في الأرض وإزهاق الشرك، وإزالة الحكم الكافر وترك الناس في حرية يختارون دينهم. 

 

- نماذج: - 

1 - المذهب الحق: 

- قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... } الآية. قال: (فأمر الله سبحانه وتعالى بمقاتلة جميع الكفار لإصفاقهم على هذا الوصف، وخص أهل الكتاب بالذكر إكراماً لكتابه، ولكونهم عالمين بالتوحيد والرسل والشرائع والملل، وخصوصاً ذكر محمد صلى الله عليه وسلم وملته وأمته. فلما أنكروه تأكدت عليهم الحجة وعظمت منهم الجريمة، فنبه على محلهم، ثم جعل للقتال غاية وهي إعطاء الجزية بدلاً من القتل وهو الصحيح) [تفسير القرطبي: سورة التوبة آية:29] . 

- وقال عند تفسير قوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ } [البقرة: 193] . قال: ( { وقاتلوهم } أمر بالقتال لكل مشرك في كل موضع؛ على من رآها ناسخة. ومن رآها غير ناسخة قال: المعنى قاتلوا هؤلاء الذين قال الله فيهم: { فإن قاتلوكم } والأول أظهر، وهو أمر بقتال مطلق لا بشرط أن يبدأ الكفار. دليل ذلك قوله تعالى: { ويكون الدين لله } وقال عليه السلام (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله . فدلت الآية والحديث على أن سبب القتال هو الكفر؛ لأنه قال: { حتى لا تكون فتنة } . أي كفر، فجعل الغاية عدم الكفر وهذا ظاهر) [تفسير القرطبي: البقرة: 193] . 

2 - المذهب المخالف: 

أ- المدرسة العقلية الحديثة: 

- يقول السيد رشيد رضا: (إن حروب النبي صلى الله عليه وسلم للكفار كانت كلها دفاعاً!) [الوحي المحمدي: ص 308] . 

- وقال المراغي –في تفسيره: (وقتال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الصدر الأول، كان دفاعاً عن الحق وأهله، وحماية دعوة الدين، فكانوا يبدءون أولاً بالدعوة بالحجة والبرهان، فإذا منعوا بالقوة وهُدد الداعي أو قتل، قاتلوا حماية للدعاة ونشراً للدعوة، لا للإكراه على الدخول في الدين، إذ ذاك منهي عنه بنحو قوله تعالى: { أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين } فإذا لم يوجد من يصد الدعوة أو يهدد الدعاة، ويعتد على المؤمنين، فلا يفرض علينا الجهاد لسفك الدماء وإزهاق الأرواح، ولا للطمع في الغنائم والأنفال، وجملة القول: إن القتال شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، فعلى من يدعي من الملوك والأمراء أنه يحارب للدين أن يحيى الدعوة الإسلامية ويعد لها عدتها من العلم والجة بحسب حال العصر وعلومه، ويقرن ذلك بالاستعداد التام لحمايتها من العدوان) [تفسير المراغي: البقرة (194 - 195) (2/ 94) ] . 

 

ب- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- يقول: محمد عمارة: أن (القتال في الإسلام يلجأ إليها المسلمون عند الضرورة. . ضرورة حماية الدعوة وتأمين حرية الدعاة، وضمان الأمن لدار الإسلام وأوطان المسلمين .. سيان كان ذلك القتال دفاعياً تماماً أو مبادأه يجهض بها المسلمون عدواناً أكيداً أو محتملاً .. فهو في كل الحالات صد للعدوان ... أما إذا جنح المخالفون إلى السلم وانفتحت السبل أمام دعوة الإسلام ودعاته، وتحقق الأمن لدار الإسلام فلا ضرورة للحرب عندئذ، ولا مجال لحديث عن القتال باسم (الدنيا) كان ذلك الحديث أو باسم (الدين )) [الدولة الإسلامية:136] . 

- ويقول فهمي هويدي: (ومنذ البداية سلح الله المسلمين بالكلمة، وكان أول ما أنزله الله على نبيه هو: (اقرأ وليس اضرب) ، أو (ابطش) ، فكان كتاب المسلمين هو القرآن الكريم فإن القتال في التصور الإسلامي ينبغي أن يظل منعنطفاً يُكره إليه المسلمون أو نوعاً من (( الهبوط الإضطراري )) الذي يعترض المسار الطبيعي لرحلة التبليغ الإسلامي) [مواطنون لا ذميون:236] . قلت: وحاصل كلام فهمي: هو حصر قتال المشركين (الجهاد في سبيل الله) ؛ في القتال الدفاعي القتال الذي يُضطر له المسلمون دفاعاً عن أوطانهم. 

- ويقول – أيضاً عند تأويله لحديث: (من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق) : (الحديث لا يدين كل مسلم لا يقاتل في سبيل الله، الأمر الذي قد تشتم منه رائحة التحريض، التي يحاول البعض اصطيادها من السياق ... ولا نرى في الحديث وجهاً لاستثارة المسلمين على غيرهم، ذلك أن الأمر كله كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم [مواطنون لا ذميون: 261 - 262] . قلت: رائحة التحريض في الحديث التي عناها هويدي وقلل من شأنها، هي الموافقة لقوله تعالى: { يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال } ... الآية [الأنفال:65] . 

والرسول الله صلى الله عليه وسلم مطيع لربه. ثم قوله: (ولا نرى في الحديث وجهاً لاستثارة ... إلخ) . تكرار لما قرره سلفه من رجال المدرسة العقلية الحديثة: أن الجهاد في سبيل الله كان منصباً على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن إزاء ذلك لا يسعنا أن نتجاهل الآيات القرآنية، والنصوص النبوية الآمرة بقتال المشركين كافة، أفترى أن الآيات والأحاديث المستفيضة الآمرة بالجهاد، والحاضة على القتال، وما أعده الله للمجاهد من الأجر والمغنم في الدنيا والآخرة، كانت مقصورة على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين؟. لا أبا لك إن كان ذلك يسعك!. 

- الآثار المترتبة على قصر الجهاد على الجهاد الدفاعي. 

1 - تعطيل شعيرة الجهاد الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة. 

2 - الجهاد الدفاعي يمنع من الدعوة إلى الله ونشر التوحيد في ديار الكفر. 

 

3 - تعطيل النصوص الكثيرة الآمرة بجهاد الكفار والمشركين. 

4 - الجهاد الدفاعي يحرم المسلمين كثيراً من الأجور والفضائل العظيمة التي أعدها الله للمجاهدين في سبيله. 

 

(المأخذ العاشر: الدعوة إلى الوطنية والقومية) 

الوطنية والقومية كلامها وثنٌ، يقدم الجنس والوطن على الإسلام، ويجعل رابطة الوطن والجنس أعظم من رابطة الإسلام. 

ومحبة الوطن غريزة في النفس لا تنكر، قال صلى الله عليه وسلم عندما أُخرج من مكة: (والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي ولولا أني أُخرجت منك ما خرجت) [رواه أحمد (18240) ، وابن ماجة (3108) ، والدارمي (2510) ، والترمذي (3925) وقال: حديث حسن غريب صحيح] . لكن أن تقدم هذه المحبة على محبة الله ورسوله ودينه وكتابه فلا. 

وشريعة الله جعلت ولاء المسلمين ونصرتهم لإخوانهم المسلمين، والرابطة بينهم هي العقيدة فهي التي تجمعهم وهي التي تفرقهم، جمعت بين أبي بكر الصديق –العربي-، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي ??رضي الله عنهم – لإسلامهم وإيمانهم، وفرّقت بين العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وبين أبي لهب- الكافر-، مع وجود قرابة النسب!. قال صلى الله عليه وسلم (المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، يردُّ مُشدُّهم على مضعفهم، ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده) [رواه أبو داود: 2751. وقال الألباني حسن صحيح] . وإذا عُرف ذلك تبين بطلان وثن القومية والوطنية، وإن زخرفت بباطل القول وخطله. ولا يخدعنك إحياء المفتونين للنعرات الفرعونية، والفينيقية ... ، ولا يستخفنك أصحاب الشعارات البراقة التي تدعو إلى إحياء التراث من مشاهد وآثار، فإن وراء الأكمة ما ورائها. وتعال إلى شعرائهم لترى كيف قُدمت القومية والوطنية على الإسلام: 

قال شاعرهم: 

آمنت بالبعث ربا لا شريك له 
... 
وبالعروبة دينا ما له ثاني
 

وقال آخر: 

سلام على كفر يوحد بيننا 
... 
وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
 

وقال آخر: 

إن تسأل عني فهذي قيمي 
... 
أنا ماركسي لينيني أممي
 

وقال آخر: 

لا تسل عن ملتي أو مذهبي 
... 
أنا بعثي اشتراكي عربي
 
 

- نماذج: 

1 - المذهب الحق: 

- يقول الشنقيطي: (أن الرابطة التي يجب أن يعتقد أنها هي التي تربط بين أفراد المجتمع، وأن ينادى بالارتباط بها دون غيرها إنما هي دين الإسلام؛ لأنه هو الذي يربط بين أفراد المجتمع حتى يصير بقوة تلك الرابطة جميع المجتمع الإسلامي كأنه جسد واحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى. [ثم ساق بعض الآيات كقوله تعالى: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر } الآية .. وقوله: { والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض } وقال:] فهذه الآيات وأمثالها تدل على النداء برابطة أخرى غير الإسلام كالعصبية المعروفة بالقومية – لا يجوز، ولا شك أنه ممنوع بإجماع المسلمين. [ثم ساق حديث كسع الرجل المهاجري للأنصاري] : فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية ... دعوها فإنها منتنة) [انظر البخاري:4905] . قال الشنقيطي: (فقول هذا الأنصاري: يا للأنصار، وهذا المهاجري: يا للمهاجرين – هو النداء بالقومية العصبية بعينه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم (دعوها فإنها منتنة) يقتضي وجوب ترك النداء بها .. . فدل هذا الحديث الصحيح على أن النداء برابطة القومية مخالف لما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن فاعله متعاطي المنتن، ولا شك أن المنتن خبيث ... واعلم أن رؤساء الدعاة إلى نحو هذه القومية العربية: أبو جهل، وأبو لهب، والوليد بن المغيرة، ونظراؤهم من رؤساء الكفرة ... واعلم أنه لا خلاف بين العلماء في منع النداء برابطة غير الإسلام؛ كالقوميات والعصبيات النسبية، ولا سيما إذا كان النداء بالقومية يقصد من ورائه القضاء على رابطة الإسلام وإزالتها بالكلية؛ فإن النداء بها حينئذ معناه الحقيقي: أنه نداء إلى التخلي عن دين الإسلام، ورفض الرابطة السماوية رفضاً باتاً، على الله أن يعتاض من ذلك روابط عصبية قومية، مدارها على أن هذا من العرب، وهذا منهم أيضاً مثلاً؛ فالعروبة لا يمكن أن تكون خلفاً من الإسلام، واستبدالها به صفقة خاسرة) [أضواء البيان: (3/ 441 - 445) ] . 

- يقول سيد قطب: (إن الله-سبحانه- يأمر أن تكون رابطة التجمع هي العقيدة ولكن القومية أو الوطن يأمر باستبعاد العقيدة من قاعدة التجمع وأن يكون الجنس أو القوم هو القاعدة! فمن هو الإله الذي تتبع أوامره؟ أهو الله سبحانه أم هي الآلهة المدعاة؟) [في ظلال القرآن: 3/ 1413)] . 

- ويقول محمد بن سعيد القحطاني: ( ... ومن ذلك القومية والوطنية، اللتان تحصران الولاء والبراء في دائرة الجنس أو التراب فيلتقي فيها مثلاً اليهودي العربي والنصراني العربي والمشرك العربي، والبعث العربي مع المسلم العربي لأن رابطة القومية تجمعهم! وهذا أمر يرفضه الدين الحنيف، لأن الرابطة فيه هي رابطة العقيدة، فضلاً عن أن الوطنية والقومية ضيقتا دائرة الولاء) [الولاء والبراء في الإسلام:419] . 

2 - المذهب المخالف: 

 

أ- المدرسة العقلية الحديثة: 

- يقول محمد عبده: (تقرر مما سلف أن لا بد لذوي الحياة السياسية من وحدة يرجعون إليها، ويجتمعون عليها اجتماع دقائق الرمل حجراً صلداً، وأن خير أوجه الوحدة: الوطن؛ لامتناع التنازع والخلاف فيه. ونحن الآن مبينون بعون الله ماهية هذا الوطن وبعض ما يجب على ذويه ... إلخ) ثم ساق كلاماً طويلاً عن الوطن. [تاريخ الأستاذ الإمام: (2/ 194 - 196) (الاتجاهات (1/ 53) ] . 

- ويقول رشيد رضا – في ذكر محاسن الخديوي عباس-: (أول ما عرف الناس من محاسنه ما يسمى في عرف هذا العصر بالوطنية) [تاريخ الأستاذ الإمام: (1/ 159) (الاتجاهات الوطنية: (1/ 49) ] . 

ب- العصرانيون (العقلانيون الجدد) . 

- يقول محمد عمارة –مستدركاً على الدكتور محمد رشاد خليل مساواة المسلم العربي بالمسلم غير العربي- قال: (ثم كتب فجعل علاقة المسلم المصري بأخيه المصري مساويه لعلاقته بالمسلم في أندنوسيا ونيجيريا وتركستان! مهملاً أي أثر للقوميات وقسماتها، الأمر الذي جعل هذا الفكر لم يبصر سوى رابطة العقيدة الإسلامية) [الإسلام والعروبة: 81] . 

- ويقول-أيضاً-: (إيمان هذه الأمة بالوحدة الوطنية والقومية إيمان راسخ لا شك فيه .. بل لقد رأت، ببصيرتها النافذة وحسها الفطري، أن الشقاق الطائفي!! كان على مر تاريخها، الثغرة التي يحاول اعداؤها النفاذ منها، بحثاً عن الركيزة التي تضمن لا ستعمارهم واستغلالهم الفعالية والاستمرار .. ، وأوضح ما كانت وتكون يقظة أمتنا لهذه الحقيقة في لحظات المحن والمواجهة مع الأعداء .. ) [التراث 234] . 

- الآثار المترتبة على الدعوة إلى القومية والوطنية: 

1 - الدعوة إلى القومية أو الوحدة الوطنية، تقضي على الوحدة الإسلامية، التي نادت بها الشريعة. 

2 - الوطنية تجعل الولاء والبراء للتراب، والقومية تجعل الولاء والبراء للجنس. وهذا خلاف الولاء والبراء الشرعي الذي جاء في الكتاب والسنة. 

3 - الدعوة إلى الوطنية تعني أن اليهودي أو النصراني أو المشرك الذي يعيش في وطني أقرب إليَّ وأحق بالنصرة والمعاونة من مسلمي الصين أو مسلمي الفلبين ... إلخ!. والدعوة إلى القومية تعني أن العربي النصراني أو العربي اليهودي أو العربي المشرك، أقرب إلي وأحق بالنصرة والمعاونة من المسلم التركي أو المسلم الهندي. 

4 - الدعوة إلى القومية والوطنية؛ دعوة إلى الجاهلية والعصبية. 

 

(المأخذ الحادي عشر: الدعوة إلى تحرير المرأة) 

أول سؤال نطرحه على دعاة التحرير هو: هل الشريعة وضعت على المرأة آصاراً وأغلالاً حتى نحررها منه؟. والجواب بالنفي –طبعاً-، فالشريعة لم تأت بقيود تجعل المرأة تعيش في ضنك وعنت؛ إنما جاءت بضوابط تجعل المجتمع المسلم نقياً صافياً، لا تكدره العلاقات المشينة، ولا الشهوات المحرمة، فتنأى بهم من أن يقعوا في براثن البهيمية، وتصونهم عن سفاسف الأمور وحياة المجون، فهم مخلوقون للعبادة ولهم دار آخرة يحطون رحالهم فيها. ... وربنا الذي خلق الذكر والأنثى –من البشر- يعلم ما يصلحهم وما يضرهم، فشرع لهم ما يحفظ لهم كرامتهم ويصون عفتهم، وكان من جملة ما شرعه لهم أن حرم اختلاط المرأة الأجنبية بالرجل الأجنبي، وسد كل الوسائل التي تُفضي إلى ذلك مبالغة في الصيانة، وحفظاً لكيان المجتمع المسلم. وحرم سفور المرأة وإبداء مفاتنها وزينتها إلا لمن استثناهم الله، وأباح للرجال تعدد الزوجات إلى أربع لحكم كثيرة علمنا بعضها وجهلنا أكثرها، وأباح الطلاق للأزواج عند تعذر الوفاق بين الزوجين، ومنع المرأة من تولية مناصب الولايات العامة لمضادة تلك لفطرتها التي فطرها الله عليها. ثم اعلم أنه ليس هذا مكان استقصاء هذه المسائل ومناقشتها، فإن ذلك لا يمكن بحال في مثل هذه الدراسة الموجزة، إنما أردنا أن نشير إلى منحى أهل الأهواء –رجال المدرسة الحديثة والعصرانيون- وموقفهم من تحرير المرأة. 

ودعاة التحرير يعلمون جيداً، كيف كان حال المرأة قبل الإسلام من الذل والمهانة، وكيف أن الشرع المطهر أعطاها من الحقوق التي كانت محرومة منها. ولكن دعاة التحرير –رجالاً ونساءً- لا يريدون هذا؛ بل يريدون أن تتحلل المرأة من كل شيء مسايرة للغرب حتى لا يوصفوا بالتخلف والرجعية!، ويشبعوا شهواتهم ونزواتهم بالتطلع إلى الأجساد العارية والوجوه الفاتنة!. ولا يهولنكم وصفهم لأنفسهم بأنصار المرأة، بل هم –والله- من خذل المرأة وزينوا لها الباطل وزخرفوه. 

وأول مظاهر تحرير المرأة الجادة ظهرت في مصر، ففي سنة 1894م كتب مرقص فهمي كتاباً عنوانه: (المرأة في الشرق) داعياً إلى تحرير المرأة من النظام الإسلامي، ثم وبعد خمس سنوات وبإيعاز من الأميرة نازلي ألف قاسم أمين كتاباً وعنونه بـ: (تحرير المرأة) . والغريب في الأمر –وليس هذا بمستغرب- أن محمد عبده كتب فصولاً عدة في هذا الكتاب، ثم صاغها صياغة نهائية حتى يكون الكتاب على نمط واحد وأسلوب واحد، ومضمون الكتاب: القضاء على الحجاب، وإباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب، وتقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي، ومنع الزواج بأكثر من واحدة. [انظر: منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير (2/ 767) ، (1/ 166) ] .-وهذا مجمل ما يدور عليه القوم الآن، أضف إليها تولي المرأة المناصب والولايات العامة-. ثم كتب قاسم أمين كتاباً آخر (المرأة الجديدة) نادى فيه المصرية أن تحذوا حذو أختها الأوربية في كل شيء!. وكان من ثمار ذلك أن تحركت بعض المؤسسات والأحزاب لدعم هذا الاتجاه وتشجيع المفتونين رجالاً ونساءً لاتخاذ خطوات أكثر جرأة لكسر هذا الحاجز!. فهاهي أمينة السعيد –وحُق لنا أن 

 

نسميها خائنة السعيد - تقول: (عجبت لفتيات مثقفات كيف يلبسن أكفان الموتى وهنَّ على قيد الحياة) [الولاء والبراء لمحمد بن سعيد القحطاني:410] . وهاهي صفية زغلول وهدى شعراوي يتزعمن مظاهرة قوامها ثلاثمائة امرأة يطوفون شوارع مصر، يهتفن بالحرية والاحتجاج على تعسف قوات الاحتلال الإنجليزي، ثم قصدن مقر المعتمد البريطاني لتقديم احتجاجاً مكتوباً على تعسف قوات الاحتلال [انظر: الاتجاهات الوطنية 2/ 238)] ، ثم خلعن الحجاب في ميدان الإسماعيلية سمي بعد ذلك بميدان التحرير، وإنك لتعجب عندما تقارن بين مطالب أولئك النسوة بالتحرير وخلع الحجاب، وبين تجمعهن أمام مقر المعتمد البريطاني، ومطالبته بإيقاف تعسف قوات الاحتلال!! .. فما المناسبة خلع الحجاب والتحرر من ضوابط الشرع وبين مقاومة المستعمر، ولعل عجبك يزول إذا علمت أنهم يريدون أن يصنعوا من الأحداث شيئاً يحقق لهم مآربهم، ولا تزال تلك الفكرة الخبيثة تظهر في المجتمعات الإسلامية المحافظة من حين لآخر –وقى الله المؤمنين شرها -. 

- نماذج: 

1 - المذهب الحق: 

- يقول الشنقيطي: (واعلم وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه: أن هذه الفكرة الكافرة، الخاطئة الخاسئة، المخالفة للحس والعقل، وللوحي السماوي وتشريع الخالق الباريء: من تسوية الأنثى بالذكر في جميع الأحكام والميادين، فيها من الفساد والإخلال بنظام المجتمع الإنساني ما لا يخفى على أحد إلا من أعمى الله بصيرته. وذلك لأن الله جل وعلا جعل الأنثى بصفاتها الخاصة بها صالحة لأنواع من المشاركة في بناء المجتمع الإنساني، صلاحاً لا يصلحه لها غيرها: كالحمل والوضع، والإرضاع وتربية الأولاد ... ) [أضواء البيان: (3/ 422] . 

- يقول الدكتور مصطفى السباعي-مخاطباً دعاة التحرير-: (أنا ممن يعضد نهضة المرأة المسلمة، ولكن على أي أساس؟ على أساس الدين أم على أساس التمرد عليه؟ أعلى أساس التمسك بتقاليد الشرق الصالحة أم على أساس الاندماج في مدنية الغرب المتهتكة؟ أعلى أساس المحافظة على العفة، أم على أساس هتكها وإهدارها؟ وأخيراً .. على أساس تعدد الزوجات بعقود شرعية أم على أساس تعدد الزوجات والأزواج بغير عقود؟ بينوا لنا خططكم وكلمونا بعقولكم لا بشهواتكم ... إلخ) [الآم وأمال:77. تقديم محمود شاكر] . 

- ويقول شكيب أرسلان –مبيناً أن الدعوة إلى السفور مرحلة يتبعها مراحل-: (فأنت ترى المسألة ليست منحصرة في السفور، ولا هي بمجرد حرية المرأة المسلمة في الذهاب والمجيء كيفما تشاء، بل هناك سلسلة طويلة حلقاتها، متصل بعضها ببعض، لا بد من أن ينظر الإنسان إليها كلها من أولها إلى آخرها، فإذا كان ممن يرى حرية المرأة المطلقة، فعليه أن يقبلها بحذافيرها ... أما أن نجمع بين حرية المرأة وعدم حريتها، وأن نطلق لها الأمر تذهب حيث أرادت، وتحادث من أرادت، وتضاحك من أرادت، وتغامز من أرادت، ثم إذا صبا قلبها إلى رجل من غير جنسنا، فذهبت وساكنته، وكان بينها وبينه ما يكون بين الرجل وزوجته، أقمنا 

 

القيامة ودعونا بالمسدس، وقلنا يا للحمية يا للأنفة يا للغيرة على العرض! فهذا لا يكون وليس من العدل ولا من المنطق أن يكون) [الاتجاهات الوطنية: للدكتور محمد محمد حسين (2/ 247 - 248) ] . 

- وقال الدكتور فهد الرومي: (ودعا قاسم أمين إلى تحرير المرأة – وهو تلميذ الشيخ محمد عبده ومن المتأثرين به، ووصفه السيد رشيد رضا بأنه: (( العالم البارع في علوم الأخلاق والاجتماع )) ؟! ودعا إلى تحرير المرأة ولا يخفى على أحد ما جنته هذه الدعوة على المرأة المسلمة بل على المسلمين كافة من بلاء، وحينما أطلق الغرب حرية المرأة، رتب على هذا حرية الاختلاط، ورتب على حرية الاختلاط حرية الصداقة، ورتب على حرية الصداقة حرية ممارسة الحب والزنا، وأن تلكم المرأة التي حررها قاسم أمين إن لم تكن وصلت إلى درجة المرأة في الغرب –كما ذكرنا- فإنها ستصل إليها حتماً إن لم يتداركها الله برحمة من عنده) [منهج المدرسة العقلية في التفسير: (2/ 510 - 511) ] . 

- ويقول محمد محمد حسين: (لم يعد ذلك الذي دعا إليه قاسم أمين هو شغل الناس بعد الحروب. فقد أخذت الأمور تتطور تطوراً سريعاً، حتى أصبحت دعوة قاسم أمين وقد أستنفذت في وقت وجيز كل أغراضها، واندفع الناس إلى ما وراءها في سرعة غير منتظرة. فقد خلعت المرأة النقاب، ثم استبدلت المعطف الأسود بالحبرة، ثم لم تلبث أن نبذت المعطف وخرجت بالثياب الملونة. ثم أخذ المقص يتحيف هذه الثياب في الذيول وفي الأكمام وفي الجيوب. ولم يزل يجور عليها فضيقها على صاحبتها حتى أصبحت كبعض جلدها، ثم إنها تجاوزت ذلك كله إلى الظهور على شواطئ البحر في المصايف بما لا يكاد يستر شيئاً) [الاتجاهات الوطنية: (2/ 237 - 238) ] . 

2 - المذهب المخالف: 

- النماذج التي سوف نستعرضها تشمل بعض القضايا التي خاض فيها معتزلة العصر الحديث، المدرسة رجال العقلية الحديثة، والعصرانيون، كقضية الحجاب، ومنع تعدد الزوجات، وإباحة الاختلاط، وغيرها. 

أ- المدرسة العقلية الحديثة: 

- يقول محمد عبده: (إن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمرٌ مضيق فيه أشد التضييق كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربي أمة فشا فيها تعدد الزوجات، فإن البيت الذي فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال ولا يقوم فيه نظام بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر، ثم يجيء الأولاد بعضهم لبعض عدو ... فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ومن البيوت إلى الأمة) [تفسير المنار: (4/ 349) ] . قلت: قول محمد عبده: (فمفسدة تعدد الزوجات .. إلخ) فاسد من أصله، فالله جل جلاله لا يشرع للأمة 

 

أمراً يكون مصدر فساد وضرر عليهم، ولكن الناس يتفاوتون في تطبيق ما أباح الله لهم. وجعل تعدد الزوجات أمرٌ مضيق عليه وعده كالضرورة، فيه مبالغة شديدة وجنوح لإسقاط هذه الإباحة تمهيداً لإدراجها من المحرمات. والواقع يخالف ما ذهب إليه محمد عبده، فكم من رجل تزوج بامرأتين أو أكثر ولم تظهر هذه المفاسد التي عدها محمد عبده، بل نفع الله بهم وكان لهم من نسائهم رجالاً صالحين، ونساء صالحات نفعوا آبائهم وذويهم، وانتفع بهم المجتمع الإسلامي. فدعوى محمد عبده مردودة، وكون الخلل يأتي من تطبيق تعدد الزوجات والتعدي والعدوان من قبل بعض الأزواج، لا يسوغ بحال عده من الضرورات، أو المحرمات كما هو قول بعضهم. وسر المسألة: أن أهل الأهواء –المعتزلة الحديثة والمعاصرة- يخشون من وصفهم بالرجعية والتخلف، فحتى تواكب الحضارة والغرب، يجب أن يُخضع الدين ليساير المدنية الحديثة؛ بل قل ليساير ما عليه الغرب. 

- ويقول عبد العزيز جاويش: (واعلم أن المعتزلة وهم كما تعلم من المسلمين يقولون بعدم جواز أن يتزوج الرجل ثانية ما دامت الأولى في عصمته ... ثم قال -مؤيداً: وما ذلك إلا لأنهم تتبعوا ما يجلبه ذلك من المفاسد والمضار وعرفوا أن من أصول الشريعة المحمدية إعطاء الوسائل ما للغايات من الأحكام، فرأوا آثار تعدد الزوجات كثيرة سيئة لا يستحسنها عقل، ولا يرضى بها شرع فحكموا بتحريمه ... [وقال:] إني لأرى كما يرى كل عاقل أن تعدد الزوجات بالغة مثالبه ما بلغت! أسلم عاقبة من إتيان الفاحشة) [الإسلام دين الفطرة والحرية: 121] . 

ب- العصرانيون: 

- يقول محمد عمارة: (إن ما لدينا في تراثنا حول قضية ولاية المرأة لمنصب القضاء، هو فكر إسلامي وآراء فقهية واجتهاد فقهاء، وليس ديناً وضعه الله، وأوحى به إلى رسوله عليه الصلاة والسلام .. وقال- في موضع آخر عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - (( لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة )) : فهو نبوءة سياسية! من الرسول بفشل المجوس، أولئك الذين ملكوا عليهم امرأة، وليس حكماً بتحريم ولاية المرأة للقضاء، فلا ولايتها العامة ولا الخاصة كانت بالقضية المطروحة، حتى على مجتمع النبوة، كي تقال فيها الأحاديث) [الإسلام والمستقبل: 282، 232] . 

- ويدعو الدكتور فتحي عثمان إلى – ما يسميه- الاختلاط المأمون. فقال: (لأن المجتمع الذي يلتقي فيه الرجال والنساء في ظروف طبيعية هادئة محكمة، لن يغدو مثل هذا اللقاء قارعة تثير الأعصاب، وتثير الوقود على البارود، إذ سيألف الرجل رؤية المرأة ومحادثة المرأة ... وستألف المرأة بدورها الرجل وهكذا يهدأ السعار الجنسي المضطرم، ويضيق مجال الانحراف، والشذوذ، وتتجمع لدى الجنسين خبرات وحصانات وتجارب تعين على إحسان الاختيار عند الزواج، وإحسان المعاشرة بعد الزواج) [الفكر الإسلامي والتطور: 173 - 174] . قلت: مصطلح الاختلاط المأمون من بدع العصرانيين، ومتى كان اعتياد الرجل لرؤية المرأة، 

 

ورؤية المرأة للرجل في الأماكن العامة، وفي العمل، مهدئاً للسعار الجنسي!، في أي كوكب تعيش يا دكتور!؟، دونك بلاد الغرب قاطبة، فيها هذا الاختلاط المأمون –الذي تدعيه-، ومع ذلك لم يهدأ السعار الجنسي بل زاد وطغى: ففي أمريكا-بلد الحرية- مثلاً: تتعرض 300 امرأة في أمريكا للاغتصاب يومياً، وتتعرض امرأة لسوء المعاملة كل ثمان ثوان. وثلث النساء في أمريكا والنرويج وهولندا ونيوزلنده، تعرضن لتشويهات جنسية نتيجة لا عتداءات أو تجاوزات جنسية، ويتراوح عددهن ما بين 85، 144 مليوناً. [تجفيف منابع الأنوثة ص 97 وما بعدها: والشعب في 8/ 9/95، ومجلة ( TIME) في 4/ 7/94م. (نقلاً من كتاب: ما ذا يريدون من المرأة: ص64] . ولعل ما ذكرناه يكفي في رد شبهة الاختلاط المأمون. 

- ويقول حسين أحمد أمين –عن الحجاب- إنه: (وهم صنعه الفرس والأتراك، وليس في القرآن نص يحرم سفور المرأة أو يعاقب عليه ... وأن الرجال يتمسكون بالحجاب ليستبدوا بالمرأة، فينفسوا عن قهرهم سياسياً واجتماعياً) [موقف القرآن من حجاب المرأة: .. (عن كتاب غزو من الداخل ص55) (نقلاً من (العصرانيون ... ) 263)] . 

- الآثار المترتبة على الدعوة إلى تحرير المرأة: 

1 - تأويل الآيات القرآنية تفسير السلف، كآية التعدد في سورة النساء. 

2 - رد كثير من السنة النبوية بتضعيفها أو تأويلها يخرجها عن مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كتأويلهم لحديث (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) . 

3 - فشو الفساد الأخلاقي من جراء الاختلاط المحرم. 

4 - التفكك الأسري، وضعف العلاقات الزوجية، أثرٌ من آثار الاختلاط المحرم. 

5 - اتخاذ الخليلات وفشو الخيانة الزوجية، أثرٌ من آثار منع التعدد وهو آثرٌ من آثار منع الطلاق. 

 

خاتمة 

وبعد أن تعرضنا لأبرز المآخذ على المعتزلة قديمها وحديثها، نحب أن نوضح أمراً مهماً، وهو أنه كلما استعرضنا مأخذاً وتأملنا أقوال رجال المعتزلة القديمة والحديثة فيه، يظهر لنا من يخالف أصحاب مدرسته برأي رآه، وقد يكون موافقاً للمذهب الحق، ومثالاً على ذلك؛ في قضية تعدد الزوجات ذهب أكثر رجال المدرسة العقلية الحديثة إلى منع التعدد وخالفهم في ذلك الشيخ محمد شلتوت حيث ناقش دعوتهم ونقضها، واتبع في ذلك المنهج الحق. وسبب تناقضهم واختلافهم فيما بينهم، أنهم اعتمدوا على عقولهم أولاً ثم بحثوا في النصوص عما يوافق ما اعتقدوه. 

ونحن لا يهمنا المخالفات الفردية التي يسلكها رجال هذا الفكر الاعتزالي، بقدر ما يهمنا بيان الاتجاه العام لهذا الفكر المنحرف، الذي أخذ من الكتاب والسنة ما يوافق الهوى، ورد ما سواه. 

إن الأفكار التي ينادي بها رجال المعتزلة الحديثة، خدمت المستشرقين خدمة جليلة، ولا عجب فكثيرٌ منهم تتلمذ علي أيدي المستشرقين ونهل من شبهاتهم وأهوائهم؛ بل وتفوق عليهم في عرضها وبثها بين الناس. ولقد أدرك المستشرقون أن الشبهة من قبلهم مردودة، ولكن إن كانت بلسان مسلم وببنانه فإن الأمر يختلف، ولذا لا تعجب – أخي المسلم- إذا رأيت الدعم الغربي الكبير لأولئك، سواء كان دعماً مادياً أو معنوياً، أو تسخير وسائل الإعلام لبث شبهاتهم وشهواتهم. فكن منهم أخي المسلم على حذر، ولا تغتر بطرحهم المعسول، وعباراتهم البراقة (تحرير المرأة) ، (تجديد الدين) ، (الفكر المستنير) . وحقيقتها (إفساد المرأة) ، (وهدم الدين) ، (والفكر المظلم) . 

والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصبحه وسلم 

وآخر دعوانا إن الحمد لله رب العالمين 

وكتبه: فؤاد بن عبد العزيز الشلهوب

  • الاحد AM 10:58
    2021-07-25
  • 1465
Powered by: GateGold