المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413865
يتصفح الموقع حاليا : 295

البحث

البحث

عرض المادة

خلق القرآن بين المعتزلة وأهل السنة (ط الجيل)

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله رب العالمين هو الأول والأخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم 

والصلاة والسلام على النبي الأمي الكريم ,وعلى أصحابه الكرام الطيبين , وعلى 

من تبعهم بالخير الى يوم الدين. 

أما بعد. 

فإن المسلمين كلهم يعتقدون بأن خالق هذا العالم المحسوس هو الله وحده, 

وهو رب العالمين. ولا شريك له ولا ند له ولا مثل له. واعتقادهم صحيح. أما انه واحد ,فقوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) وأما أنه منزه عن الضد والند والشبه والمثل لقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] .ولقوله: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ) أي مثل.@ 

 

 

يقول علماء الكلام (1) من المسلمين: إن القرآن تكلم عن الله بلسان بني آدم. 

ومعنى هذه العبارة: أن الله تعالى كلم البشر على قدر عقولهم:. ذلك بأن 

مثل نفسه كإنسان - وما هو بإنسان - وخاطب البشر عن نفسه, كما يخاطب 

بعضهم بعضا عن نفسه. وذلك يقدر البشر على تصور ذات الله وصفاته. 

وعلماء الكلام من المسلمين يطلقون على مشابهة صفات الله لصفات البشر , 

لقب (( المشاكلة )) ففي قوله تعالى: { وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [آل عمران: 54] عبر الله عن نفسه انه يمكر ,ولس الله بماكر على ما هو المتعارف من لفظ (( المكر )) على الحقيقة. لأن لفظ (( المكر )) على الحقيقة معناه: التغيير والانفعال. وهما يدلان على الضعف وسوء النية. والله تعالى منزه عن كل نقص , و لكنه عبر عن نفسه بـ (( مكر )) لأنه يكلم الناس بلسانهم على قدر عقولهم. 

وفي قوله تعالى: { فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ } [الزخرف: 55] عبر عن نفسه وكأنه إنسان يأسف. 

وهو ليس إنسانا ولا يأسف. يدل على انهم قدروا على إغاظته. وهو القادر على كل شيء. وفي قوله تعالى: { نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [التوبة: 67] عبر عن نفسه وكأنه انسان ينسى. وليس هو بإنسان ولا ينسى. لأ النسيان يدل على الغفلة والغفلة من صفات الإنسان و لاتجوز في حق الإله الذي يراقب عبيده ويعلم أفعالهم. 

(1) علم الكلام هو علم التوحيد ويسمى ايضا بعلم العقيدة أو الفلسفة الإسلامية @ 

 

هذا هو معنى أن القرآن تكلم عن الله بلسان بني آدم. ولازم أن يعرف الناس ان الله ??عز وجل واحد. ولازم ان يعبده هو وحده. ولازم أن يعتقدوا أن الله ليس بجسم , ولا شبه بينه وبين مخوقاته في شيء من الأشياء فوجوده لا يشبه وجود المخلوقات , وحياته لا تشبه حياة الأحياء من المخلوقات , وعلمه لايشبه الذي له علم من مخلوقاته. 

فلو قلنا مثلاً: الله عالم , وقلنا: زيد عالم, فإن عالم لفظ مشترك ولا يقال في هذه الحالة: إن علم الله أكثر من علم زيد. لأنه يلزم منه مساواة الخالق بالمخلوق. وذلك لأن الكثرة و القلة. متشابهان بالنوع , ضرورة. يجمعهما حد ما واحد. وكل ما ينسب إليه تعالى هو مباين ومغاير لصفات البشر من كل جهة ,حتى لا يجمعهما حد أصلاً. 

والصفات الذاتية لله تعالى. وهي القدرة والإرادة والعلم والسمع والبصر 

الخ. نسبها علماء الكلام لله تعالى باعتبار نسب مختلفة بين الله تعالى وبين مخلوقاته. وذلك أنه قادر أن يخلق ما يخلق , ومريد لإيجاد الموجود على ما أوجده به , وعالم بما أوجد. فهي صفات بإعتبار المخلوقات. لا أن هذ الصفات موجودة لله باعتبار ذاته ,بل إرادته على خلقه ما خلق. ويستدلون على رأيهم بقولهم: إنا لا نقول أن في ذاته معنى زائداً , به يقدر ومعنى آخر, به يريد ,ومعنى ثالثاً , به يعلم مخلوقاته. بل ذاته واحد بسيطة , ولامعنى زائد عليها بوجه. وتلك الذات خلقت ما خلقت , وعلمت ما علمت. لا بمعنى زائد أصلاً. بل بمعنى جهة الشبه التي يكلم الله بها بني آدم على قدر عقولهم. 

فعلى قدر عقولهم يعلمون أن العَالمِ غير (( زيد )) وإذا كان زيد فقيراً ولكنه عالم ,فإنه يوصف بالعلم ولا يوصف بالغنى ,فالذات واحدة وهي (( زيد )) والصفات متغايرة. ومع ذلك لا يقال: غن (( زيدا )) وصفاته أجسام @ 

 

متعددة , بل يقولون: إن الصفات متغايرة فيه , ولا تُرى متعددة , بل يُرى ما يدل عليها. 

والدليل على أنها ليست بمعنى زائد أصلا هو: أن وجود الخشب هو صفة عارضة للخشب الذي هو موجود فالوجود عارض للموجود. ولذلك هو معني زائد على حقيقة الموجود. وإن ما لوجوده سبب. فإن وجوده معنى زائد على حقيقته. ووجود الله: ذاته وحقيقته. وذاته هي وجوده. أي ليست هي ذات , عرض لها إن وجدت , فيكون وجودها معنى زائد عليها. إذاً هو واجب الوجود دائما , لا طارئا عليه ,ولا عارض اًعارض له. فإذاً هوموجود لا بوجود زائد عن الذات , وكذلك هوحي لا بحياة زائدة , وقادر لا بقدرة زائدة , وعالم بعلم لا بعلم زائد. بل الكل راجع لمعنى واحد , لا تكثير فيه. 

وكل ما تجده في الأحبار من وصفه تعالى: بالأول والآحر. فهو مثل وصفه تعالى بالعين ولأذن. والقصد بذلك: أنه تعالى لا يلحقه تغير , ولا يتجدد له معنى بوجوبه , لا أنه تعالى واقع ٌ تحت الزمان ,فتحصل مقايسة ما , بينه وبين غيره مما في زمان , فيكون أولا وآخرا. وإنما هذه الألفاظ كلها على لسان بني 

آدم. وعلماء الكلام الذين قدمنا خلاصة آرائهم: هم المعتزلة (1) الذين أثروا في علماء الكلام من بني إسرائيل. فقد قال موسى بن ميمون والمتوفي في سنة 603 هـ: (( اعلم: أن العلوم الكثيرة التي كانت في ملتنا في تحقيق هذه الامور ـــ أي الله وصفاته ـــ تفت بطول الأزمان و وباستيلاء الملل الجاهلة علينا , وبكون تلك الأمور لم تكن مباحة للناس كلهم ـــ كما بينا ــــ ولا كان الشيء المباح للناس كلهم , إلا نصوص الكتب فقط. وقد علمت ان الفقه المروى ما كان مدونا في 

(1) المعتزلة: هم جماعة من عماء المسلمين ,وقيل في سبب تسميتهم: انهم اعتزلوا الحرب بين علي وأتباعه , وبين معاوية وأتباعه من جهة الحصوص , واعتزازاً عن الحرب التي درات بين المسلمين على جهة العموم , وعكفوا على تفسير الدين والرد على الخصوم. وكان واصل بن عطاء رئيسهم في زمان الأمويين. وكان العباسيون يظلمونهم ويحرمونهم.@ 

 

القديم , للأمر المستفاض في الملة. وهو (( الامور التي أخبرتك بها شفاهاً, لا يجوز لك أن تكتبها )) 

وكان ذلك هو غاية الحكمة في الشريعة , لأنه ضرب مما وقع فيه أخبرا. وهو كثرة الآراء وتشعب المذاهب وإشكالات تقع في عبارة المدون , وسهوا يصحبه ,وحدوث الانقسام بين الناس , ويصيرون فرقاً , ويتحيرون في الأعمال .. 

أما النزر اليسير الذي تجده في الكلام في معنى التوحيد , وما يتعلق بهذا المعنى لبعض 

الجاؤنيين ,وعند القرائن ,فهي أمور أخذا عن المتكلمين من أجل الإسلام , وهي نزرة جدا بالإضافة إلى ما الفته فوق الإسلام في ذلك. واتفق أيضاً: (( أن اول من ابتدأ بالإسلام بهذه الطريقة كانت فرقة واحدة , وهي المعتزلة. فأخذ عنهم أصحابنا ما أخذوا , وسلكوا في طريقهم. وبعد ذلك بمدة حدث في الإسلام فرقة أخرى. وهم الأشعرية. وحدث لهم آراء أخرى. ولا تجد عند أصحابنا من تلك الآراء شيئا )) . 

وصفة الكلام لله تعالى ليس معناها عندهم: أن الله يتكلم بحروف أصوات كما يكلم أحدنا صاحبه. بل معناها: ان لله إذا أراد أن يتكلم , فإنه يقدر ان يخلق كلاما. كما أذا أراد أن يحيي ميتا , فإنه يقدر في حال إرادته هو على إحيائه. وكما إذا أراد أن يوجد شيئا , ليس موجود من قبل فإنه يوجده 

بقوله: (( كن )) . 

يقول الإمام فحر الدين الرازي عن مذهب المعتزلة في صفة كلام الله تعالى: (( أعلم: متفقة على إطلاق لفظ المتكل على الله تعالى. إلا أن هذا الاتفاق ليس إلا باللفظ. وأما المعنى فغير متفق عليه. 

أما المعتزلة فقالوا: إن الإنسان لا يمكنه ان يعيش وحده , بل ما لم يشتغل كل واحد بإعانة الآخر لم يحصل لكل واحد منهم مقصودة بالتمام وما لم @ 

 

يعرف كل أحد ما في قلب الآخر من جهات الحاجات , لا يمكنه الاشتغال بإعانته. فاحتاج الإنسان وضع طريق يعرف به غيره ما في قلبه من فنون الحاجات. فاصطلحوا على جعل هذه الأصوات المقطعة بهذه التقطيعات المخصصة , معرفة لما في قلوبهم من الأحوال. وقد كان يمكنهم وضع طريق آخر سوى هذا الطريق من الإشارة والإيماء , وتصفيق اليد والكتابة , إلا أن هذا الطريق كان أسهل وأيسر. 

إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى إذا أرا د شيئا أو كره شيئا, خلق هذه الأصوات المخصصة في جسم من الأجسام , لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدا لذلك الشيء المعين , او كارها له , 

أو كونه حاكما به , بالنفي أو الإثبات. وهذا هو المراد كونه تعالى متكلما )) . 

فالمعتزلة لا يثبتون لله كلاما بحرف او بصوت , وإنما يثبتون له القدرة على الكلام في أي وقت. 

كما يثبتون له الغرادة في أي وقت. ويمنعون عنه الحرف والصوت , لئلا يثبتوا له جسما , متكلما من مكان ما. وهم قد نفوا الجسمية من قوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [الشورى: 11] 

ونفوا المكان من قوله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4] . 

وعلى هذا يقولون: إن الله دائم القدرة على الكلام , وهو ينشئه في حينه إنشاء. فقد قدر على قوله للسموات والأرض: { ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا } [فصلت: 11] في بدء الحليقة. وقدر على ان يكلم إبراهيم عليه السلام بصحف أنزلها عليه. وجاء موسى عليه السلام بعد إبراهيم على جهة التقريب بمائتين وخمس عشرة من السنين. إذا هو ابن عمران بن لاوي بن يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم. وكلمه @ 

 

بالتوراة { مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [الأعراف: 145] وجاء داوود عليه السلام بع موسى بخمسمائة عام تقريبا وكلمه بالزبور. وجاء عيسى عليه السلام بعد داود بألف سنة عام تقريبا وكلمه بالإنجيل. وجاء محمد عليه السلام بعد عيسى بخمسمائة وإحدى وسبعين سنة وكلمه بالقرآن. وإبراهيم مخلوق محدث فصفحه وقد نزلت من بعد ولاته مخلوقة محدثة. وموسى مثله وصحفه مثل صحفه , وداوود مخلوق محدث فزابوره مثله. إذ هو من بعده. وعيسى مخلوق محدث ,وإنجيله مثله. ومحمد محدث وقرآنه مثله. وذلك لقوله تعالى: { اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [الأنبياء: 1، 2] . 

والمعتزلة يقولون: إن القرآن تكلم عن الله بلسان بني آدم. فنسب إليه ان الله يتكلم كما يتكلم بني آدم. وليس من مشابهة حاصلة بين الله وبين خلقه , حتى نثبت لله كلاما بحرف وصوت ككلام البشر. 

والقرآن عند المعتزلة مخلوق ومحدث ,لأن الله القادر على كل شيء , قد قدر على خلق محمد عليه السلام من قبل ان ينزل القرآن عليه , ولأن في القرآن آيات تدل على انه وجد بعد وجود حوادث حصلت من قبله. فغزوة بدر حدثت من قبل أن ينزل في شأنها قرآن يتلى على طول الزمان ,والمرأة التي جادلت الرسول في زوجها , نزل من بعد مجادلتها قرآن. ولا يدل العقل على قدم القرآن قبل الحوادث التي هي مذكورة فيه. 

وعلماء بني اسرائيل يقولون في التوراة , كما يقول المعتزلة في القرآن من حيث القدم والحدوث سواء بسواء. ففي دلالة الحائرين ما نصه: (( ما أراك بعد وصولك لهذه الدرجة وتحقيقك: أنه تعالى موجود لا بوجود , وواحد لا بوحدة , تحتاج أن @ 

 

ويبين لك نفي صفة الكلام عنه. ولا سيما بإجماع أمتنا: وأن التوراة مخلوقة. والقصد بذلك: 

أن كلامه المنسوب إليه مخلوق وغن نسب إليه , لكون ذلك القول الذي سمعه موسى: الله حلقه وابتدعه ـ وسيأتي في النبوة كلام كثير ـ وإنما القصد هنا أن وصفه بالكلام مثل وصفه بالأفعال كلها الشبيهة بأفعالنا. فأرشدت الأذهان: إلى أن ثم علم إلاهياً , يدركه النبيون أن الله كلمهم وقال لهم , حتى نعلم أن هذه المعاني التي يوصلون إلينا هي من قبل الله. لا مجرد فكرتهم ورويتهم )) (1) . 

ويذكر موسى بن ميمون آيات من التوراة. فيها لفظ الكلام جاء على الحقيقة والمجاز. فيقول: إن الكلام أو القول لفظان يدلان بالحقيقة ـــ على النطق بالسان. مثل قوله: موسى يتكلم )) ـــ (( وقول فرعون )) ويدلان بالمجاز على المعنى المتصور في العقل من غير أن ينطق به. مثل: (( فقلت في قلبي )) ـــ (( فتكلمت في قلبي )) ـــ (( وينطق قبك )) ـــ (( لك نطق قلبي )) ـــ (( وقال عيسى في قلبه )) وهذا كثير. ويقعان على الإرادة. مثل (( وهم أن يقتل داود )) فكانه قال: وأرد قتله أي هم به. ومثل (( أتريد ان تقتلني؟ )) وهو مثل (( وهم أن يقتل داود )) في شرحه ومعناه. وهذا أيضا كثير. 

وقال ما نصه (( فكل قولة أو كلام منسوبة لله , فهي من المعنيين الأخيرين. اعني: أنها إما كناية عن المشيئة والإرادة , وإما كناية عن المعنى المفهوم من قبل الله و سواء علم بصوت مخلوق أو علم بطريق من طرق النبوة ــــ التي سنيتها ـــ لا أنه تعالى تكلم بصوت , ولا أنه تعالى ذو نفس 

ــــــــــــــــــــ. 

(1) ص 162 ج 1 دلالة الحائرين. 

 

فترتسم المعاني في نفسه , فتكون في ذاته معنى زائد عن ذاته , بل تعلق تلك المعاني به ونسبتها إليه 

نسبة الأفعال كلها )) (1) . 

ويفسر علماء بني إسرائيل كلام الله كلام الله لموسى عليه السلام في طور سيناء هكذا: 

أ الخطاب من الله لموسى , كان لموسى وحده. وهو ينزل إلى أسفل الجبل ويخبر الناس بما من نص التوراة. لقوله: (( وأنا قائم من الرب وبينكم في ذلك الوقت * لكي ابلغكم كلام الرب )) [تثنية 5:5] . 

ب ويقال: إن موسى وبني إسرائيل سمعوا معاً قول الله تعالى: (( أنا الرب إلهك الذي أحرجك من أرض مصر من بيت العبودية , لا يكن لك آلهة أخرى أمامي )) [خروج 20:2 ـــ 2] بعنوان: أنها وصلت لهم مثل ما وصلت لموسى , ولم يكن موسى موصلها لهم. 

ت أما صوت الرب , أعني الصوت المخلوق الذي منه فهم الكلام , فلم يسموه غير مرة واحدة فقط. 

ث كل موضع في التوراة نصه: (( ويتكلم الرب إلى موسى )) يترجمه (( انقليوس )) 

بـ (( قال الله )) 

ج وحقيقة ذلك الإدراك. وكيف كان الحال فيه: خفي عنا جدا , لأنه لم يتقدم مثله , ولا يتأخر. 

هذا ملخص ما قاله موسى بن ميمون في كلام الله تعالى مع موسى عليه السلام في طور سيناء. وهو مصر على ان صوت الرب صوت قد خلقه الله بقدرته. وهو صوت فهموا منه كلام الله. 

ونص عبارته هي: (( أما صوت الرب. أعني الصوت المفهوم الذي فهموا منه الكلام )) وهذا الصوت المخلوق. وهوما يعبر عنه المعتزلة بأن الله تعالى خلق كلاما في شجرة كانت هناك. وموسى هو وبنو إسرائيل سمعوا كلام الله منها. 

(1) ص 163 ج 1 دلالة الحائرين. 

 

ثم إن ابن ميمون بعد هذا التأويل صرح بقوله: إن حقيقة هذا الموقف خافية عنا. 

وهي لا تكون خافية إذا فسرنا الموقف على النحو التالي: إن كلام الله تعالى لموسى عليه السلام في طور سيناء: هو ان الله ألقى في نفس موسى ما به استيقن أن هذا كلام الله. أي ألهمه ما يريده وقوي الإلهام عنده , وطرد عنه وسوسة الشياطين , حتى لم يعد لديه أدنى شك في ان ما ألقي في روعه هو كلام الله. 

او قد يكون الذي كلم موسى في طور سيناء هو ملاك كبير نيابة عن الله , ويعبر عنه بالإله مجازا. كما في قوله تعالى: )) الرب إلهكم السائر امامكم هو يحارب عنكم , حسب كل ما فعل معكم في مصر , أمام أعينكم , وفي البرية حيث رأيت كيف حملك الرب إلهك كما يحمل الإنسان ابنه في كل الطريق , التي سلكتموها حتى جئتم إلى هذا المكان. ولكن في هذا الأمر لستم ولكن بالرب إلهكم , السائر امامكم في الطريق ليلتمس لكم مكانا لنزولكم في نار ليلا , ليريكم الطريق الذي تسيرون فيها وفي سحاب نهار )) (تثنية 30:1 _ 33) . 

وهذا التفسير مقتبس من عباراته التي يقول فيها: (( إن وصفه بالكلام مثل وصف بالأفعال كلها الشبيهة بأفعالنا. فأرشدت الأذهان: إلى ان ثم علم إلهيا , يدركه النبيون أن الله كلمهم وقال لهم , حتى نعلم أن هذه المعاني التي يوصلون إلينا , هي من قبل الله. لا من مجرد فكرتهم ورويتهم )) . 

* * * 

والأشاعرة قالوا: إننا سنقيس الغائب على الشاهد. 

ووجهة نظرهم في هذا القياس هي: أن الله تعالى لما كلم البشر كإنسان ـــوم هو بإنسان ـــ 

أراد ان يصور ذاته الغائبة عن الناس , بصورة الإنسان المشاهد , ليقدر الإنسان على تصور ذاته. وإننا لنرى بالمشاهدة (( زيدا )) العالم القادر , يختلف عن (( عمرو )) الجاهل العاجز. ونرى أن (( زيدا )) يتكلم @ 

 

ويسمع ويرى , وهو يختلف عن (( عمرو )) الذي لا يتكلم ولا يرى. فإذا الذات واحدة , والصفات مختلفة. وصفات (( زيد )) المتعددة ليست ذواتا أجساما , بل هي صفات اعتبارية في نظر المتكلم والسامع وليست زائدة على الذات , فإن أحدا لا يرى زيدا وبجواره صفاته يجلسن جانبه. فنحن عددنا صفات الله , كما نعدد صفات الشاهد ولا نقول بزيادة الصفات على الذات , على انها أجسام , بل على أنها صفات اعتبارية قائمة بالذات وغير منفكه عنها , أي ليس هي الذات , ولا تنفك الذات عنها. وهذا كلامهم في الصفات ككل. 

وأما في صفة الكلام من جهة الخصوص 

فهم يقولون كما يقول المعتزلة: إن الله لا يتكلم بحرف ولا بصوت. ـــ ولنعم ما قالوا ـــ 

ثم افترقوا عن المعتزلة في نسب الكلام إلى الله. فبينما يقول المعتزلة: كلام الله هو قدرته على إيصال أغراضه يقول الأشاعرة: نحن لا نقول إن كلامه هو قدرته لأن قدرة (( زيد )) غير كلامه في الشاهد المقاس عليه الغائب. وإنما نقول: إن كلامه كلاما نفسيا يجول في خاطره , ولا يتلفظ به فهم يثبتون كلاما , ولا يثبتون نطقاً. ويستدلون على قولهم: بأن (( زيد )) إذا أراد أن يتكلم , فإنه يرتب الفكر في نفسه قبل أن يتكلم به والفكر هو كلام النفس , لقوله تعالى: { وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ } [المجادلة: 8] 

أي يهيؤون فكرا, لم ينطقوا به بعد. وسماه قولا , والقول كلام. 

وقد رد المعتزلة عليهم بقولهم: إن حد الكلام في لغة العرب التي نزل بها القرآن لا يدل على مقصود كم. 

 

وأما القرآن الكريم , وهو من كلام الله تعالى 

فإن المعتزلة يقولون: هو مخلوق محدث وذلك لأنه نزل بعد التوراة وبعد الإنجيل. والمنزل مخلوق ومحدث ففي صدر سورة آل عمران: { الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } [آل عمران: 1 - 4] 

والأشاعرة يقولون: هو قديم قدم الله. والأوامر والنواهي قديمة , وأبو لهب المذكور فيه , كان في علم الله أنه لا يؤمن , فكتب الله عنه في القرآن ما كتب من قبل أن يخلقه. 

ففي (( مذكرات التوحيد )) للصف الأول الإعدادي بالمعاهد الأزهرية. يقول المرحوم حسن عبدالكريم مكي: (( فصفة الكلام تدل على الأمر بالطاعات وعلى النهي عن الحرمات , وعلى الوعد بالثواب للمطيع , وعلى الوعيد بالعقاب للعاصي , وعلى الإخبار بما كان وما يكون , وعل أن الله هو الإله الواحد القادر العالم , المتصف بكل كمال , والمنزه عن كل نقص , والمختار في جميع شؤنه , وانه الخالق لجميع الكائنات , وأن لله رسلا وأنبياء وملائكة وكتبا , وأن الساعة آتية لا ريب فيها , وأن هناك بعثاً وحشراً وحسابا وجنة ونار وثوابا وعقابا. حتى لو أزيل عنا الحجاب , وأطلعنا الله على صفة الكلام , لفهمنا منها هذه الأشياء )) (1) ا. هـ. 

وكان المعتزلة يقررون مسائل التوحيد على محكم القرآن و متشابهة , ولا يستدلون بأحاديث الأحاد في أصول الدين 

* * * 

ـــــــــــــــــــــــــ. 

(1) ص 14 مذكرات التوحيد ــ السنة الأولى الإعدادية بالأزهر سنة 1989 م 

 

يقول الشريف الرضى ـــ رضي الله عنه ــــ في كتابه (( المجازات النبوية )) ما نصه عن أحاديث الآحاد (( خبر الآحاد غير جائز قبوله. لأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه فيما يخبر به , ويصح كونه كاذبا في نقله. ولا يجوز أن نقطع في ديننا عن الشيء من وجه , يجوز الغلط فيه , لأنا لا نأمن بالإقدام على اعتقاده: من أن يكون جاهلا , ولا نأمن من ان يكون إخبارنا عنه كذبا , وإنما نعمل بأخبار والآحاد في فروع الدين )) (( 1 )) . 

... 
* *
 

والأحاديث النبوية لم تكتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم تكتب في عهد الخلفاء الراشدين. فقد روي مسلم في صحيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: (( لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن ,ومن كتب شيء عني غير القرآن , فليمحه )) وما روي ان زيد بن ثابت دخل على معاوية ـــ رضي الله عنه ــــ فسأله عن حديث. وما حدث به , امر معاوية إنسان أن يكتبه. فقال له زيد رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم امرنا أن لا نكتب شيئا من حديثة. فمحاه. 

وروى البيهقي عن عروة بن الزبير: أن عمر بن الخطاب رضي اله عنه. أراد أن يكتب السنن , فاستشار في ذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشاروا عليه ان يكتبها. فطفق عمر يستخير الله شهرا ثم أصبح يوما وقد عزم الله له. فقال: (( إني أردت أن أكتب السنن وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم , كتبوا كتبا , فانكبوا عليها وتركوا كتاب الله. وإني والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا (2 )) ) . 

ـــــــــــــــــــــ. 

(1) ص 46 ــ المجازات النبوية للشريف الرضى محمد بن أحمد الحسين المتوفى سنة 406 ـــ طبعة الحلبي بالقاهرة سنة 1971 م. 

(2) تدريب الراوي للسيوطي ـــ ص 11 وجامع بيان العلم وفضله / ج 1 ص 76. 

خلق القرآن ـــ م 2 

 

وبعد مئة عام تقريبا من عصر النبوة. كتب المحدثون في كتبهم ما يلي: 

أ روى البخاري ان عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه كتب إلى (( أي بكر ابن حزم )) أن يكتب له أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم 

ب ومات عمر بن عبدالعزيز و (( أبو بكر بن حزم )) ما كان قد بعث إليه شيئا. 

ت نقل الإمام السيوطي في كتاب (( تنوير الحوالك )) نقلا عن الامام ابن حجر: إن أول من دون الحديث بأمر من عمر بن عبدالعزيز , هو (( ابن شهاب الزهري )) . 

ث يقول الأستاذ الدكتور بدران أبو العينين بدران في كتابه (( الحديث النبوي الشريف تاريخه ومصطلحاته )) عن جمع (( أبي بكر بن حزام )) أو جمع (( ابن شهاب الزهري )) يقول: (( لم يبلغنا شيء من هذه الكتب الحديثية )) (1) . 

ج ويقال (2) : إن أول من صنف في الحديث هو (( عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج )) المتوفي سنة 103 هـ أو 104 هـ. 

ح وقيل: إن اول من جمع الحديث هو (( عبدالملك بن عبدالعزيز بن جريج )) 

فانظر إلى هذا الذي كتبه المحدثون في كتبهم عن أول المدونين للحديث من هو؟ وأين هي الأحاديث 

التي سمعها من أفواه أبناء أبناء أبناء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد طال بالناس الزمان؟ 

خ وأما موطأ مالك بن أنس الذي صنفه في أيام أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور ـــ رضي الله عنه ـــ وقد كان بعد عمر بن عبدالعزيز بسنين فقد ذكر الإمام السيوطي أن المشتهر عن الرواة: أن الموطأ له أربع عشرة نسخة. (3) 

(1) ص 27 الحديث النبوي ـ للدكتور بدران ابو العنين. 

(2) مجلة المنار ــ الجزء العاشر من المجلد العاشر. 

(3) إضاءة الحالك ـــ ص 40.@ 

 

وقال صاخب كشف الظنون (1) (( الموطأ المعروف عن مالك: أحد عشر. معناها متقارب. والمستعمل منها أربعة: موطأ يحيى بن يحيى وموطأ ابن بكير , وأبي مصعب الزهري , واب وهب. ثم ضعف الاستعمال الا في موطأ ابن يحيى, ثم موطأ ابن بكير )) . 

وكله روايات آحاد. وملك نفسه وإن كان إماما هو فرد واحد. لا تقبل شهادته أمام أي قاض إلا إذا كان معه شاهد. لقوله تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } [البقرة: 282] 

د قال أبو داود السجستاني في رسالة إلى أهل ملة " (( كان سفيان ووكيع وأمثالهما يجتهدون غاية الاجتهاد , فلا يتمكنون من الحديث المرفوع المتصل إلا من دون ألف حديث )) (2) 

ذ كل أحاديث البخاري بغير المكرر من المتون المتصلة: ألفان وستمائة واثنان فقط. وقد أنقده الحفاظ في مئة وعشرة احاديث. واتفق مسلم والبخاري على ثمانية وسبعين من الأحاديث المنتقدة في صحيح البخاري , وانفرد البخاري باثنين وثلاثين حديثا من الأحاديث المنتقدة. وقد ضعف الحافظ من رجال صحيح البخاري ثمانين رجلا. وأكثرهم من شيوخ البخاري الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم واطلع على أحاديثهم. 

ر الأحاديث الضعيفة عند مسلم مائة وثلاثون حديثا. 

ويقول الأستاذ الشيخ محمد الغزالي ـــ الداعية الإسلامي الكبير , والحائز على جائزة الملك فيصل في المملكة العربية السعودية لعام 1409 هـ في كتاب (( الطريق من هنا )) , ما نصه: 

(( والذي نلاحظه آسفين: أن كثيرا من جامعي السنن قد 

(1) كشف الظنون ج 2 ص 370 

(2) ص 31 الحديث النبوي للدكتور بدران. 

تساهلوا في قبول أسانيد ضعيفة , وأن هذا التساهل زحم ميدان السنة بآثار ما كان ينبغي أن تذكر. وإذا كان من شرط الحديث الصحيح أن يخلو من الشذوذ والعلة القادحة , فإن رواة كثيرين نقلوا ما خالفوا به الثقات , ونقلوا ما به علل وترده. ومع ذلك سطروا وحبروا وتركوا للأخلاف ما عكر المجرى , وبلبل الفكر. 

إن رجلا جليلاً كالبخاري ترك أحاديث كثيرة , مرت به , فلم يرها أهلا للتدوين. ومن هنا لم يجمع في صحيحه إلا ألفين وبضع مئات من السنن. على حين جمع غيره آلافا وآلافا من الآثار. وتحتاج في غربلتها ـــ حسب مقياس عمائنا ـــ إلى جهد جهيد )) (1) 

* * * 

وفي أيام (( المأمون )) أمير المؤمنين ـ رضي الله عنه وأرضاه ـــ كان من أهل الحديث مهتمون بالرواية بغير تدبر للمعنى (2) . وكان فيهم من أهل الكتاب جماعات أظهروا الإسلام وابطنوا الكفر ورووا عن الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا تصح روايته , كالقول بأن النبي قد سحره يهودي من يهود (( المدينة )) وبأن في القرآن آيات منسوخة , وبأن الشيطان كان يظهر للمحدثين في صورة رجل ويحدثهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ثم لا يرونه فيما بعد ـــ وهذا مذكور في صحيح مسلم بن الحجاج ـــ وبأن الشيطان انطق النبي قرآنا هو نلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجي أي عبارات كانت في سورة النجم لمدح الأصنام (3) ولهذا رأى أمير المؤمنين (( المأمون )) ـــ نضر الله وجهه ـــ المتوفى في سنة 218 هـ ان لا يشتغل المحدثون بالحديث , وان لا يستدلوا في أصول الدين. 

(1) ص 60 - 61 الطريق من هنا ـــ طبعة دار الشروق بمصر 1987 م. 

(2) تأوبل مختلف الحديث ـــ لابن قتيبة. 

(3) انظر نقد الأستاذ الشيخ محمد الغزالي لقصة الغرانيق في كتاب الطريق من هنا. 

 

وكانوا قد اشتغلوا به من زمان (( عمر بن عبدالعزيز )) ـــ رضي الله عنه ـــ فهو اول أمير المؤمنين سمح بجمع الحديث وتدوينه. وكان ذلك في بدء القرن الثاني للهجرة. وكانوا في زمان 

(( المأمون )) قد استدلوا به في العقائد. وقالوا: إن القرآن قديم لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( من قال إن القرآن مخلوق فقد كفر )) . 

وأمير المؤمنين (( المأمون )) ـــ رضي الله عنه ـــ يعرف أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يقول قولا يخالف به الله كلام الله تعالى. والله يقول: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر: 1] ـــ { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [يوسف: 2] ولغة العرب تدل على ان (( أنزل )) تستعمل بمعنى الخلق والإيجاد. والقرآن نفسه قد استعملها بمعنى الخلق والإيجاد. وفي قوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ } [الحديد: 25] والحديد يخرج من الأرض , وليس قديما قدم الله. وفي قوله تعالى: { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [الزمر: 6] ولأنعام تتوالد في الأرص. 

ولما نهى المأمون نضر الله وجهه المحدثين عن التحدث , ومنعهم من الاستدلال بالأحاديث في أصول الدين , رفض بعضهم نهيه و منعه , مع عمهم انه ولي لأمرهم. ولي أمرهم الواجب عليهم طاعته بنص القرآن وهو: { أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء: 59] وهو (( ولي الأمر )) وهو عربي اصيل يفهم لغة قومه التي بها نزل القرآن الكريم , وهو لم يأمر بمعصية حتى @ 

 

تكون لهم شبهة مخالفته. وذلك قتل بعضهم وضرب بعضهم. كما هو مدن في كتب التاريخ. 

وفي زمان (( المتوكل على الله )) قام المحدثون بالتحدث على قدم وساق , وتكلموا في الصفات والرؤية. ثم ظهر (( الأشعري )) وكان هو من علماء المعتزلة الذين تتلمذوا على (( الجبائي )) رضي الله عنه , ووضع مذهبه في أصول الدين على القرآن والحديث و بروايات من روايات الآحاد. 

وقد ذكر (( السيوطي )) في تاريخ الخلفاء مشكلة المحدثين هذه وذكرها (( الطبري )) في تاريخه. 

وليس هنا مجال ذكرها بالتفصيل. وإنما ينبغي ههنا التنبيه على السبب المباشر لظهور القول بخلق القرآن. وهو: 

أن النصارى يقول فريق منهم: إن الله ظهر في الجسد، وهم الأرثوذكس ويقول فريق منهم: إن الله غير المسيح. وهما غير الروح القدس. وهم الكاثوليك و البروستانت. ويلقبون المسيح بلقب (( كلمة الله )) القديمة او صفة علم الله القديم ثم إنهم لما سمعوا أن القرآن يكفرهم جميعا , وسمعوا أيضا: { إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ } [النساء: 171] قالوا للمسلمين إن لم تسلموا بتفسيرنا , للكلمة يلزمكم التناقض في القرآن , فإنه عبر بالكلمة كما نعتقد. .فـ (( كلمته ألقاها إلى مريم وروح منه )) هي السبب لظهور مشكلة خلق القرآن. أما المعتزلة فقالوا: إن كلمته الملقاة هي قوله (( كن )) و (( كن )) هي قدرته , و (( كن )) تدل على الخلق. 

واحتجوا على النصارى بأن (( كلمته )) في القرآن , مثل (( كلمته )) في التوراة , كلاهما يدلان على قدرة الله. ففي أول الزبور الخمسين: (( إله الآلة الرب تكلم , ودعا الأرص من مشرق الشمس إلى مغربها )) وفي الثامن والستين: (( الرب يعطي كلمة. المبشرات بها جند كثير )) . 

 

و (( روح منه )) أي سبب حياة من الله. وأصل الروح على الحقيقة: هو الهواء مثل: (( وريح الله يرف )) 3 تكوين 2:1 3وعلى المجاز تأتي بمعنى الغرض والإرادة. 

مثل: (( الجاهل هل يفشي كل ما في صدره )) 3 أم 11:29 3أي غرضه وإرادته 
... 
إلخ.
 

وأما الأشاعرة , فقالو: الكلمة قديمة , والقرآن قديم , وجمع الصفات قديمة. 

ولا يدل قدم الكلام على مذهبنا: أن (( المسيح )) قديم , فيكون إلها مع الله. فإننا لا نقول: 

بأن صفات الله اجسام وقديمة قدم ذاته , فيلزنا التعدد كما لزم النصارى , ولانقول بأن الله جسم. وإنما: هو واحد و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [الشورى: 11] . 

وفي كتب اهل الحديث كلام كثير يدل على ان (( المأمون )) رضي الله عنه كان على حق في منع المحدثين من التحدث. نذكر منه هذه الأمثلة: 

المثال الأول 

(( إنما جعل الإمام ليؤثم به. فإذا صلى قائما ً , فصلوا قياما )) حديث 

أخرجه الأئمة. وهو بيان لقوله تعالى: { وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } [البقرة: 238] . 

وجمهور الفقهاء أجازوا ان يأ تم المأموم الصحيح و هو قاعد بالإمام المريض. 

ويصلي قاعداً. لقوله صلى الله عليه وسلم في الإمام: (( وّإذا صلى جالسا , فصوا جلوسا ً اجمعون )) . 

(أ) وقد اجاز طائفة من العلماء صلاة القائم خلف الإمام المريض. لن كلا يؤدي فرضه على قدر طاقته , تاسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم إذ صلى في مرضه الذي توفي فيه قاعدا ً., وأبو بكر جانبه قائما يصلي بصلاته , 

 

والناس خلفه , ولم يشر إلى أبي بكر ولا إليهم بالجلوس ,وأكمل صلاته بهم جالسا وهم قيام 

ومعلوم أن ذلك كان من بعد سقوطه عن فرسه. 

(ب) والمشهور عن مالك أنه لا يؤم القيام أحد جالسا , فإن أمهم قاعدا بطلت صلاته , لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال )) : لا يؤمن أحد بعدي قاعدا )) . 

المثال الثاني 

روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نكح ميمونة وهو محرم. وروى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم نكحها وهما حلالان. وترك جماعة من اصحاب الحديث رواية ابن عباس , وأخذوا برواية رافع. إذ روى عثمان بن عفان عن النبي صلى الله عليه وسلم (( لا ينكح المحرم ولا ينكح )) . 

المثال الثالث 

روى ابن العباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم )) لا رضاع إلا ما كان في الحولين )) ويؤيده ما رواه ابن ماجه عنه عليه السلام (( لا رضاع إلا ما فتق الأمعاء )) 

وهذا الخبر مع الآية ينفي رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له. 

وانفرد الليث بن سعد من بين العلماء إلى أن رضاع الكبير يوجب التحريم. هو قول عائشة رضي الله عنها وروي عن أبي موسى الأشعري , وروي عنه ما يدل على رجوعه على ذلك. وهو ما رواه ابو حصين عن ابي عطية , قال: قدم رجل بامرأته إلى المدينة , فوضعت فتورم ثديها , فجعل يمصه ويمجه , فدخل في بطنه جرعة منه , فسأل أبا موسى الأشعري. فقال: بانت منك , وآتى ابن مسعود فأخبره. 

 

ففعل , فأقبل بالأعرابي إلى ابي موسى الأشعري. وقال أرضيعا ترى هذا الأشمط؟ إنما يحرم من الرضاع ما ينبت اللحم والعظم. فقال الأشعري: لا تسألوني عن شيء , وهذا الحبر بين أظهركم. فقوله (( لا تسألوني )) يدل على انه رجع عن ذلك. 

واحتجت عائشة بقصة سالم مولى ابي حذيفة , وأنه كان رجلا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لسهلة بنت سهيل: (( أرضعيه )) (1) . 

المثال الرابع: 

قوله تعالى: { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } [النساء: 23] لا يدل على عدد الرضاعات المحرمة. وقال داود: لا يحرم إلا بثلاث رضعات. واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( لا تحرم الإملاجة والإملاجتان )) . وذهب البعض إلى أن المحرم ثلاث رضعات فأكثر , لقوله: (( لا تحرم الإملاجة والإملاجتان )) وروي عن عائشة أنه ل يحرم إلا سبع رضعات. وروي عنها أنها أمرت اختها أم كلثوم ان ترضع سالم بن عبدالله عشر رضعات , وروى عن حفصة مثله , وروي عنها ثلاث وروي عنها خمس. وذكر الطحاوي أن حديث الإملاجة والإملاجتين لا يثبت , لأنه مر يرويه ابن الزبير عن النبي صلى الله عليه وسلم , ومرة يرويه عن عائشة , ومرة يرويه عن أبيه. ومثل هذا الاضطراب يسقطه. 

ـــــــــــــــــــــ. 

(1) رواه احمد. 

 

المثال الخامس: 

قوله تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا } [المائدة: 38] وقوله صلى الله عليه وسلم 

(( لعن الله السارق. يسرق البيضة فتقطع يده )) متوافقان بالمعنى , وهو ان اليد تقطع في كل ما له قيمة. 

وحديث (( لا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار , فصاعداً )) يبين أنه إنما أراد بقوله (( والسارق والسارقة )) بعض السراق دون بعض , فلا تقطع يد السارق إلا في ربع دينار , أو فيما قيمته ربع دينار وهذا قول عمر بن الخطاب وغيره وقال مالك تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة درهم. فإن سرق درهمين وهو ربع ينار, لانحطاط الصرف لم تقطع يده فيهما. والحجة لثلاثة دراهم: حديث ابن عمر أن رجلاً سرق حجفة , فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بها فقومت بثلاثة دراهم. وجعل الشافعي حديث عائشة رضي الله عنها في الربع دينار أصلاً , رد إليه تقويم العروض , لا بالثلاثة داهم على غلاء الذهب ورخصه , وترك حديث ابن عمر , لما رآه من اختلاف الصحابة في المحبة الذي قطع فيه رسول الله صل الله عليه وسلم. فابن عمر يقول ثلاثة دراهم , وابن عباس يقول عشرة دراهم , وانس يقول خمسة دراهم , وحديث عائشة في الربع دينار حديث صحيح ثابت لم يختلف فيه عم عائشة , إلا أن بعضهم وقفه. وروى الدارقطني عن عمر , (( لا تقطع الخمس إلا في الحمس )) . 

وقال ابو حنيفة وصاحباه والثوري: لا تقطع يد السارق إلا في عشرة دراهم كيلاً , او دينار ذهب عيناً أو وزنا ولا يقطع حتى يخرج بالمتاع من ملك الرجل: وروي أن اليد تقطع في أربع دراهم فصاعدا. وروي أن اليد تقطع في درهم فما فوقه. وروي أن اليد تقطع في كل ماله قيمة ـــ على ظاهر الآية ـــ وقول الخوارج. 

 

المثال السادس: 

روى الحاكم بسنده إلى أبي عمار المرزوي. أنه قيل لأبي عصمة نوح بن مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس. في فضائل القرآن , سورة , وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال إني رأيت الناس قد أعرضوا عن القرآن , واستغنوا بفقه أبي حنيفة ومغازي ابن اسحاق. فوضعت هذا الحديث حسبة. وكان يقال لأبي عصمة هذا: نوح الجامع. قال ابن حيان: جمع كل شيء إلا الصدق. وروى ابن حبان في (( االضعفاء )) عن ابن المهدي. قال: وضعتها أرغب الناس فيها. وكان ميسرة هذا غلاما جليلا , يتزهد وينحر شهوات الدنيا , وغلقت اسواق بغداد لموته. ومع ذلك كان يضع الحديث. وقيل له عند موته: حسن ظنك؟ قال: كيف لا , وقد وضعت في فضل (( علي )) سبعين حديثا. وقال ابن حبان: كان بن أبو البشر احمد بن محمد الفقيه المروزي من اصلب أهل زمانه في السنة , وأذبهم عنها و وأقمعهم لمن خالفها. وكان مع هذا يضع الحديث. 

المثال السابع: 

(( لا عدوى ولا طيرة )) في صحيح مسلم وهو متعارض مع ما اخرجه البخاري من حديث: (( فر من المجذوم فرارك من الأسد )) . 

المثال الثامن: 

رواية البخاري في التاريخ الأوسط , نقلا عن ابن صبيح بن عمران التيمي. 

 

المثال التاسع: 

أسند الحاكم عن سيف بن عمران التيمي , قال: كنت عند سعيد بن ظريف , فجاءه ابنه من الكتاب يبكي. فقال: مالك؟ قال: ضربني المعلم. قال: لأخزينه اليوم. ثم ألف في خزيه هذا الحديث وهو: عن ابن عباس مرفوعا: (( معلمو صبيانكم شراركم , أقلهم رحمة لليتيم , وأغلظهم على المسكين )) . 

وسعد بن ظريف هذا. قال: لفيه ابن معين: (( لا يحل ان يروى عنه )) وقال ابن حبان: (( كان يضع الحديث )) وراوي القصة هو سيف بن عمر. وقال فيه الحاكم: (( إتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط )) . 

المثال العاشر: 

قيل لأحمد بن مأمون الهروي: ألا ترى الشافعي ومن تبه بـ (خرسان) ؟ فقال: حدثنا احمد بن عبدالله , حدثنا عبدالله بن معدان الأزدي , عن أنس مرفوعا: (( يكون في أمتي رجل , يقال له: محمد بن ادريس , أضر على أمتي من ابليس , ويكون في أمتي رجل يقال له ابو حنيفة , هو سراج أمتي )) . 

المثال الحادي عشر: 

روى ابن الجوزي عن طريق عبدالرحمن بن زيد بن اسلم عن ابيه عن جده , مرفوعاً: (( إن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا ً , وصلت عند المقام ركعتين )) وقال ابن الجوزي: (( هذه من سخافات عبدالله بن زيد بن أسلم )) . 

 

المثال الثاني عشر: 

عبدالكريم بن أبي العوجاء. قتله محمد بن سليمان العباسي ,الأمير بـ (( البصرة )) على الزندقة في خلافة (( المهدي )) ولما أخذه لضرب عنقه , قال: (( لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث , أحرم فيها الحلال , وأحلل فيها الحرام )) . 

المثال الثالث عشر: 

محمد بن سعيد بن حسان الأسدي الشامي. قتله ابو جعفر المنصور ـــ رضي الله عنه ـــ في الزندقة. وحديثه حديث موضوع , قال فيه أحمد بن صالح المصري: هو زنديق قد قتل. وقد وضع أربعة آلاف حديث. 

المثال الرابع عشر: 

قال صلى الله عليه وسلم (( من كذب علي متعمدا , فليتبوأ مقعده من النار )) وقد علق عليه الوضاعون للأحاديث , الذين كذبوا على رسول صلى الله عليه وسلم بقولهم: (( نحن ما كذبنا عليه , إنما كذبنا له )) . 

المثال الخامس عشر: 

روى بن حبان في (( الضعفاء )) بسنده الى عبدالله بن زيد المقرئ: أن رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته. وجعل يقول: (( إنظروا هذا الحديث عن من تأخذونه. فإنا كنا إذا رأينا رأيا , جعلناه حديثا )) . 

المثال السادس عشر: 

قال الحاكم: كان محمد بن قاسم الكايكاني من رؤوس المرجئة. وكان يضع الحديث على مذهبهم. ثم روى بسنده علة المحاملي , قال: سمعت أبا 

 

العيناء يقول: (( أنا والحافظ وضعنا حديث فدك , وأدخلناه على الشيوخ ببغداد , فقبلوه. 

إلا ابن شيبة الحلوي , فإنه قال: لا يشبه آخر هذا الحديث اوله وأبي أن يقبله )) . 

المثال السابع عشر: 

روى النسائي وابن ماجة من رواية أبي زكير , يحي بن محمد بن قيس عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة , مرفوعا: (( كلوا البلح بالتمر. فإن ابن آدم اذا اكله غضب 

الشيطان )) وقال النسائي: هذا حديث منكر , تفرد به ابو زكير , وهو شيخ صالح. اخرج له مسلم في المتابعات , غير أنه لم يبلغ مبلغ من يحتمل تفرده. 

المثال الثامن عشر: 

روى احمد وابن خزيمة وابن حبان من حديث انيسة مرفوعا: (( إذا أذن ابن أم مكتوم فكلوا 

وإذا أذن بلال , فلا تأكلوا ولا تشربوا )) والمشهور من ابن عمر وعائشة: (( إن بلال يؤذن بليل. فكلوا واشربوا , حتى يؤذن ابن ام مكتوم )) . 

المثال التاسع عشر: 

حديث ابي بكر أنه قال يا رسول الله. أراك شبت؟ قال (( شيبتني هود وأخواتها )) قال 

الدارقطني: هو مضطرب. 

المثال العشرون: 

أورد العراقي من حديث فاطمة بنت قيس قالت: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن 

الزكاة. فقال: (( إن في المال لحق سوى الزكاة )) . وروى الترمذي من رواية 

 

شريك عن ابي حمزة الشعبي عن فاطمة. ورواه ابن ماجة من هذا الوجه بلفظ: 

(( ليس في المال حق سوى الزكاة )) قال الدارقطني: فذا اضطراب لا يحتمل التأويل. 

المثال الحادي والعشرون: 

قال ابن عبد البر عن قراءة بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة: (( اختلف في ألفاظ هذا الحديث اختلافا كثرا متدافعا مضطربا. منهم من يقول: (( صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وابي بكر وعمر وعثمان , ومنهم من لا يذكر. فكانوا لا يقرءون )) بسم الله الرحمن الرحيم )) ومنهم من قال: (( فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم )) , 

ومنهم من قال: (( فكانوا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم )) ومنهم من قال: (( فكانوا يفتتحون القراءة بالحمد لله رب العالمين )) ومنهم من قال: (( فكانوا يقرءون بسم الله الرحمن الرحيم )) . 

قال ابن عبد البر: (( وهذا اضطراب لا يقوم معه حجة لأحد )) . 

وقال الإمام النووي: و الإضطراب يوجب ضعف الحديث , لإشعاره بعدم الضبط ـــ اي من روايته ـــ والضبط شرط في صحة الحديث وحسنه )) . 

المثال الثاني والعشرون: 

في صحيح مسلم عن عبدالله بن مسعود , قال: (( إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل ز فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب , فيتفرقون. فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا اعرف وجهه ولا أدري ما اسمه , يحدث )) . 

وهذه الرواية من مسلم تدل على أن الشياطين كذبت على المحدثين , لتحير الناس في عبادة الله تعالى. 

 

وهي لم تقدر الكذب على الله تعالى. وذلك لقوله تعالى: { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } [الشعراء: 210 - 212] 

وقد بين الله عز وجل ان الشياطين تتنزل على ضعفاء الإيمان. وذلك في قوله تعالى: { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [الشعراء: 221 - 223] . 

المثال الثالث والعشرون: 

حديث (( إذا كانت ليلة النصف من شعبان. فقوموا ليلها وصوموا نهارها , فإن الله ينزل لغروب الشمس إلى سماء الدنيا. فيقول: ألا من مستغفر فأغفر له. ألا من مسترزق فارزقه ألا من مبتلى فأعافيه. ألا كذا. ألا كذا , حتى يطلع الفجر )) هذا حديث موضوع. وقد رواه بن ماجة وعبدالرزاق عن أبي بكر بن عبدالله بن أبي بسرة. وقد قال ابن معين والإمام أحمد: إنه يضيع الحديث. ونقل ذلك محشى سنن ابن ماجة عن الزوائد. و وافقه الذهبي في الميزان في الإمام أحمد. وذكر عن ابن معين انه قال فيه: ليس حديثه بشيء. وقال النسائي: متروك. 

المثال الرابع والعشرون: 

عن الأشرم عن احمد بن حنبل. قال: حدثنا معاذ قال: كنت عند عمرو بن عبيد , فجاءه عثمان بن فلان. فقال: يا أبا عثمان. سمعت ـــ والله ـــــ بالكفر. قال: ما هو؟ لا تعجل بالكفر قال: هاشم الأوقص. زعم: أن@ 

 

{ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ } [المسد: 1] وقوله تعالى: { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } [المدثر: 11] ولم يكن هذا في أم الكتاب. والل تعالى يقول: { حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } [الزخرف: 1 - 4] .فما الكفر الا هذا. 

المثال الخامس والعشرون: 

قوله صلى الله عليه وسلم (( لا تفضلوني على يونس بن متى , ولا تخيروا بين الأنبياء وبيني )) وقوله صلى الله عليه وسلم (( أنا سيد ولد آدم و لا فخر )) . 

المثال السادس والعشرون: 

قوله صلى الله عليه وسلم (( اذا استيقظ أحدكم من نومه , فلا يغمس يده في الإناء و حتى يغسلها ثلاثا. فإن احدكم لا يدري أين باتت يده )) وإن هذا الحديث يفسد آخره أوله. فإن أوله صحيح. لولا قوله: (( فإن احدكم لا يدري أن باتت يده )) فما من أحد وإلا ويدري أين باتت يده. وأشد الأمور. أن يكون قد مس بها فرجه. ولو أن رجلاً فعل ذلك في اليقظة لما طلب بغسل يده فكيف يطلب بالغسيل , ولا يدري هل مس فرجه ام لا؟. 

المثال السابع والعشرون: 

روي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعدي اذا اعتصمت به: كتاب الله وعترتي. ولن يتفرقا حتى يريا على الحوض )) رواه الترمذي والنسائي. 

 

وروى الحديث عن أبي هريرة بلفظ (( السنة )) بدل (( العترة )) وروى الحديث نفسه بالكتاب وحده. 

المثال الثامن والعشرون: 

روى ابن ماجة عن النبي صلى الله عليه وسلم (( سيأتي على الناس سنوات خداعات , يصدق فيها الكاذب , ويكذب فيها الصادق , ويؤتمن فيها الخائن ويخون الأمين. وينطق فيها (( الرويبضة )) وقيل: وما الرويبضة؟ قال الرجل التافه3 يتكلم 3في أمور العامة وفي سنده عند ابن ماجة: أسحق بن بكر بن أبي الفرات. قال الذ هبي: مجهول. وقيل: منكر. وذكره ابن حبان في الثقات. 

المثال التاسع والعشرون: 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إن الله لما خلق آدم مسح ظهره بيمينه , فأخرج منه ذريته إلى يوم القيامة )) وهذا القول يبين أن الله أخذهم من ظهر آدم نفسه. 

وهو مخالف للقرآن في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } [الأعراف: 172] فالقرآن يخبر أنه اخذهم من ظهور (( بني آدم )) . 

المثال الثلاثون: 

قال رجل يا رسول الله نشدتك الله. إلا ما قضيت بيننا بكتاب الله. فقال خصمه وكان أفقه منه ـــ: صدقت. اقض بيننا بكتاب الله , وإئذن لي في أن أتكلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأقضين بينكما 

 

بكتاب الله. أما الوليدة والغنم , فرد عليك , وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام , وعلى امرأة بالرجم )) 

وهذا الحديث مخالف لكتاب الله. لأنه قد قال: (( لأقضين بينكم بكتاب الله )) حسبما سأله السائل. ثم قضى بالرجم والتغريب , وليس لهما ذكر في كتاب الله. 

المثال الحادي والثلاثون: 

قوله تعالى في حق الإماء: { فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ } [النساء: 25] لا يعقل مع ما جاء في الحديث وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم , ورجمت الأئمة من بعده , يقتضي ان الرجم يتنصف. وهذا غير معقول. فيكون نصفه على الإماء؟ والذي يقبل التنصيف هو الجلد من مائة الى خمسين. فيكون هو الحد , لا الرجم. 

المثال الثاني والثلاثون: 

حديث: (( لا تنكح المرأة على عمتها ولا خالتها )) وحديث: (( يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب )) الحديثان يعارضان قوله تعالى في المحرمات من النساء. فإنه لم يحرم من الرضاع إلا الأم والأخت. وقول الله تعالى في الجمع بين النساء. فإنه لم يحرم إلا الجمع بين الأختين. 

المثال الثالث والثلاثون: 

قوله عليه الصلاة والسلام (( غسل الجمعة واجب على كل محتلم )) مخالف لقوله: (( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت , ومن اغتسل فالغسل أفضل )) . 

 

المثال الرابع والثلاثون: 

جاء في الحديث: (( صلة الرحم تزيد في العمر )) والله تعالى يقول: { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس: 49] فكيف تزيد صلة الرحم في أجل لا يؤخر ولا يقدم البتة؟. 

المثال الخمس والثلاثون: 

جاء في الحديث: إنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أراد أن ينام ــ وهو جنب ــ توضأ 

وضوءه للصلاة. ثم في الحديث: كان عليه الصلاة والسلام وهو جنب من غير أن يمس ماء. وهذا تدافع. والحديثان لعائشة رضي الله عنها 

المثال السادس والثلاثون: 

أ قوله تعالى: { لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا } [النساء: 162] . 

ب وقوله تعالى: { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ } [طه: 63] 

ت وقوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ } [المائدة: 69] . 

 

في هذه الأقوال الثلاثة , لفظ (( والمقيمين )) وهو ليس على قواعد النحو. إذ هو على قواعد النحو يكون والمقيمون ولفظ (( لساحران )) وصحته على قواعد النحو لساحران. ولفظ (( والصابؤن )) وصحته على قواعد النحو والصابئين. 

والراسخون في العلم موهم الإشكالات بكلام حسن جميل. وقال القرطبي في تفسيره عن ما دسه المحدثون في الكتب ما نصه: (( روي أن عائشة ـــ رضي الله عنها ـــ سئلت عن هذه الآية ــــ (( والمقيمين الصلاة )) ـــ وعن قوله: (( إن هذان لساحران )) وقوله: (( والصابئون )) في المائدة. فقالت للسائل: يا ابن اخي (1) .الكتاب أخطؤا. وقال أبان بن عثمان: كما الكاتب يملى عليه , فيكتب. فكتب (( لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون )) ثم قال: ما أكتب؟ فقيل له: اكتب (( ولمقيمين الصلاة )) فمن ثم وقع هذا. 

قال القشيري: وهذا السلك باطل , كانوا قدوة في اللغة , فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل )) أ. هـ. 

* * * 

وهذه الأمثلة التي ذكرناها من كتب أهل الحديث , تدل على أن (( المأمون )) رضي الله عنه كان على حق في منع المحدثين من التحديث. لأن تعارض الروايات يحير الناس في عبادة الله تعالى ويمنع من يسر االشريعة الذي أراده الله للناس. ويفرق المسلمين الى 

طواف. 

* * * 

لكن هل كانت مشكلة المأمون ــــ نضر الله وجهه ـــ مع المحدثين , من أجل أنه كان يريد رفض الأحاديث كلها من الدين , كما أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل. فإنه منع الأحاديث كلها في زمانه. وضرب. 

ــــــــــــــــــــ. 

في تفسير الطبري: يا بن اختي. 

 

بعضهم بالدرة؟ أم أن المشكلة كانت من أجل أنه هو والمعتزلة يقولون بخلق القرآن والمحدثون يقولون إنه قديم قدم الله عزوجل؟. 

أما أنا فأعتقد ـــ والعلم لله وحده ـــ أن المأمون ـــ يرحمه الله كان يريد رفض الأحاديث كلها من الدين. ولم تكن مشكلة مع المحدثين من اجل خلق القرآن أو قدمه (1) . 

ولأفترض الآن أن رجلا ً ينازع رجلاً في خلق القرآن أو قدمه. وذهبا معا إلى القاضي ليحكم بينهما. فغن القاي سوف يحكم بينهما بالنص القرآني نفسه. ولن يجتهد في الحكم اذا وجد النص. ولسوف يجد القاضي اذا حكم كما وجد المأمون نفسه. 

قال المأمون رضي اله عنه عن المحدثين: (( إنهم ساووا بين الله وخلقه وبين ما أنزل من القرآن. فأطبقوا على أنه قديم , لم يخلقه الله ويخترعه. وقد قال الله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [الزخرف: 3] . وكل ما جعله الله , فقد خلقه. كما 

ــــــــــــــــــــ. 

(1) حكى الغزالي المتوفى سنة 505 هـ عن بعض الأئمة: أنه أفتى بوجوب قتل رجل يقول بخلق القرآن. فروج فيه فاستدل: بأن رجلاً رأى في منامه إبليس قد اجتاز بباب المدينة , ولم يدخلها. فقيل له: هل دخلتا وقال: أغناني عن دخولها رجل يقول بحق القرآن فقام ذلك الرجل , فقال: لو افتى إبليس بوجوب قتلي في اليقظة. هل تقلدونه في فتواه؟ فقالو لا. فقال: قوله في المنام , لا يزيد على قوله في اليقظة. ومثله: 

يحكى أن شريك بن عبدالله القاضي دخل على (( المهدي )) فلما رآه , قال علي بالسيف و النطع. قال: ولم يأمر يا أمير المؤمنين؟ قال رأيت في منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عني , فقصصت رؤياي على من عبرها. فقال لي: يظهر لك طاعة , ويضمر معصية. فقال له شريك: والله ما رؤياك برؤيا ابراهيم الخليل ـــ عليه السلام ـــ ولا أن معبرك بيوسف الصديق ـــ عليه السلام ـــ أفبالأحلام الكاذبة تضرب أعناق المؤمنين؟ فاستحيا المهدي. وقال: أخرج عني ثم صرفه وأبعده [ص 262 الاعتصام للشاطبي] . 

 

قال تعالى: { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [الأنعام: 1] وقال: { نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [طه: 99] فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها. وقال: { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود: 1] والله محكم كتابه ومفصله. فهو خالقه ومبتدعة. ثم انتسبو إلى السنة (( السنة )) وأنهم أهل الحق والجماعة , وأن من سواهم أهل الباطل والكفر. فاستطاعوا بذلك وغروا به الجهال , حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب في التخشع لغير الله لغير الله إلى موافقتهم، فنزعوا الحق إلى باطلهم , واتخذوا دين الله وليجة إلى ضلالهم )) . 

هذا هو كلام المأمون رضي الله عنه وهو نفسه سيكون كلام أي قاض يريد أن يفصل في خلق القرآن أو قدمه. 

والمحدثون لم يسلموا من حكم غير (( المأمون )) عليهم بأنهم شغلوا أنفسهم بجمع أحاديث لن يستدل بها عاقل في أصول الدين. فقد قال الإمام المقدسي المتوفي سنة 620 ه (( وأنكر قوم جواز التعبد بخبر الواحد عقلا ,لأنه يتحمل أن يكون كذبا والعمل به عمل بالشك واقدام علي الجهل , فتقبح الحوالة على الجهل. بل إذا أمرنا الشرع بأمر , فليعرفناه ,لنكون على البصيرة , إما ممثلين إما محالفين )) (1) . 

بل على ما رواه المحدثون في كتبهم , يكون الرافض للأحاديث كلها من خيار المسلمين ومن فضلائهم. فقد رووا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه منع المحدثين من تتبع الاحاديث وضربهم على كتابتها. وهو من المسلمين المعظمين المشهور لهم بالجنة. ورووا أن خير القرون هو قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) ص 264 ج 1 روضة الناظر. 

 

ورووا أن في هذا القرن إلى سنة المائة من الهجرة لم يأمر أحد من الخلفاء الراشدين أو الخلفاء الأمويين برواية أحاديث أو كتابة أحاديث. فلو أن مسلما اليوم قال للناس: أنا على دين عمر بن الخطاب ــ رضي الله عنه ـــ فهل يجرؤ إنسان أن يقول له: لست من خيار المسلمين؟ لا. لن يجرؤ. لقوله صلى الله عليه وسلم (( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم )) . 

وعلى ما رواه المحدثون في كتبهم. فإن خلق القرآن أو قدمه , ليس هو الدافع للمأمون على قتل المحدثين وسجنهم وضربهم. بل الدافع هو أنهم كانوا قد رووا أحاديث تبطل أحكام القرآن التشريعية والعقائدية. 

ففي كتب المحدثين: واستمرت المحنة إلى أن مات (( المعتصم )) سنة 227 ه ولما تولى ابنه (( الواثق )) الخلافة أحيا الفتنة وأقام سوق المحنة. وفي سنة 231 هـ أصدر أمره إلى أمير (( البصرة )) بامتحان الأئمة المؤذنين بخلق القرآن. وأظهر الغلظة لمن يقول بخلاف رأيه. بل قتل في ذلك بعض أهل الحديث. 

ولما تولي (( المتوكل على الله )) ابن (( المعتصم )) الخلافة بعد أخيه (( الواثق )) سنة 232 هـ أظهر ميلا عظيما إلى السنة , فرفع المحنة. وكتب بذلك إلى الأفاق ,واستقدم المحدثين إلى (( سامراء )) وأجزل عطاياهم و أكرمهم وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية. وجلس ابو بكر بن شيبة في جامع (( الرصافة )) فاجتمعوا إليه نحوا من ثلاثين ألف نفس , وجلس أحوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضا نحوا من ثلاثين ألف نفس (1) أ. هـ. 

هذا نص ذكرته من كتب أهل الحديث. ومنه يتبين: 

1 ـ أن المأمون ومن بعده لم يعاقبوا أهل الحديث من أجل قدم القرآن أو خلقه. لقوله: (( أظهر ميلا عظيما إلى السنة )) . ولقوله: (( واستقدم المحدثين )) ولقوله: (( وجلس , و جلس )) 

ــــــ (1) الحديث والمحدثون ــمحمد محمد أبو زهرة ص 321 ـــ 322. 

 

ــ أن رؤية الله تعالى مسألة عقائدية , وصفات الله تعالى ومنها صفة الكلام وصفة الرؤية. هذه الصفات لا يفصل القول فيها إلا علماء العقائد. وكيف يفصلون القول فيها؟ هذا سؤال من الأهمية بمكان. 

أما المعتزلة ففصلوا على محكم القرآن ومتشابهه , ورفضوا الأحاديث أن يستدل بها أحد من المسلمين في أصول الدين. وأما المحدثون فإنهم أخذوا بالأحاديث مع القرآن. وقولة: (( وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية )) هو دليل على أن أحاديث الآحاد لم يسمح بها بالعقائد إلا في ذاك الزمان. 

وكيف يسمح بها في العقائد وهي مختلفة؟ والاختلاف في الكتاب الواحد يمنع من العمل بما فيه , وذلك من قوله تعالى: { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا } [النساء: 82] 

(أ) ها هم يقولون: إن في القرآن آيات منسوخة. فقوله تعالى: { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا } [الإنسان: 8] يقولون: نسخ إطعام المسكين آية الصدقات , وإطعام الأسير آية السيف. ويقولون في هذا القول: إنه نزل في (( علي وفاطمة رضي الله عنهما وجارية لها اسمها فضة )) والصحيح: أنها نزلت في جميع الأبرار , ومن فعل فعلا حسنا. وقال القرطبي في تفسيره: (1) (( وقد ذكر النقاش والثعلبي والقشيري وغير واحد من المفسرين في قصة علي وفاطمة وجاريتهما حديثا لا يصح ولا يثبت. رواه ليث عن مجاهد عن ابن عباس ... إلخ )) . 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) تفسير القرطبي ص 130 ج 19. 

 

(ب) وها هم يذكرون الأحاديث التي تجسم الله عز وجل وتحدد له مكانا وجهة , ثم يقولون: نحن لا نؤول ولا نجسم , بل نسلم بظواهر النصوص. ونقول: { كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [آل عمران: 7] 

لقد رووا: على عكس علماء بني إسرائيل, فإن بالتوراة: (( فخلق الله الإنسان على صورته. على صورة الله خلقه )) [تكوين 1: 27] . ومع ذلك أولوا. فرارا من التجسيم الذي نفته التوراة عن الله قوله: (( ليس مثل الله )) [تثنية 33: 26] كما نفاه القرآن عن الله في قوله: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء } [الشورى: 11] 

يقول صاحب دلالة الحائرين: في الفصل الخامس والثلاثون من الجزء الأول , فصل [له] ما نصه: (( ينبغي أن يربي الصغار ويعلن في الجمهور: على أن الله عز وجل واحد. ولا ينبغي ان يعبد سواه. وكذلك ينبغي أن يقلدوه بأن الله ليس بجسم , ولا شبه بينه وبين مخلوقاته أصلا في شيء من الأشياء ولا وجوده شبه وجودها , ولا حياته شبه حياة الحي منها , ولا علمه شبه علم من له علم منها , وأن ليس الاختلاف بينه وبينها بالأكثر و الأقل فقط , بل بنوع الوجود, أعني: أن يقرر عند الكل: أن ليس علمنا و علمه ,أو قدرتنا وقدرته يختلف بالأكثر والأقل والأشد والأضعف , وما أشبه. إذا القوي والضعيف متشابهان بالنوع ضرورة , ويجمعهما حد ما واحد. وكذلك كل نسبة إنما تكون بين شيئين تحت نوع واحد ــ وقد تين ذلك أيضا في العلوم الطبيعية ــ بل كل ما ينسب إليه تعالى مباين لصفاتنا من كل جهة حتى لا يجمعها حد أصلا )) . 

وكذلك وجوده ووجود ما سواه ز إنما يقال عليهما وجود باشتراك الاسم ـــ كما سأبين ــــ وهذا يكفي الصغار والجمهور في إقرار أذهانهم على أن ثم 

 

موجودا كاملا. لا جسم ولا قوة في الجسم هو الإله , ولا يلحقه نحو من أنحاء النقص. ولذلك ليس يلحقه انفعالا أصلا. 

أما الكلام في الصفات , وكيف تنفى عنه؟ وما معنى الصفات المنسوبة له تعالى؟ وكذلك الكلام في خلقة ما خلق , وفي صفة تدبيره للعالم. وكيف عنايته بمن سواه؟ وما معنى مشيئته وإدراكه وعلمه بكل ما يعلمه. وكذلك معنى النبوة وكيف مراتبها؟ وما معنى أسمائه المدلول بها على واحد , وإن كانت أسماء كثيرة؟ فإن هذه كلها أمور غامضة. وهي (( غوامض التوراة )) بالحقيقة. وهي (( الأسرار )) التي تذكر دائما في كتب الأنبياء , وفي كلام الحكماء ــ عليهم السلام ــ. 

وهذه الأشياء التي لا ينبغي الكلام فيها إلا (( برؤوس الفواصل )) ـــ كما ذكرنا ـــ ومع الشخص الموصوف أيضا. أما نفي التجسيم ورفع الشبه والانفعالات عنه , فأمر ينبغي التصريح به وتبيينه لكل أجد بحسبه وتقليده للأصاغر والنسوان والبلة , والناقص الفطرة. 

كما يقولون: إنه واجد وإنه قديم , وأن لا يعبد سواه. لأنه لا توحيد إلا برفع الجسمانية. إذا الجسم ليس بواحد , بل مركب من مادة وصورة. اثنين بالحد وهو أيضا منقسم. قابل للتجزئة. 

فإذا قبلوا ذلك وألفوه وربوا عليه وكبروا وتحيروا في نصوص الكتب النبوية , بين بهم معاناها وأنهضوا لتأويلها , ونبهوا على اشتراك الأسماء واستعارتها التي ضمنتها هذه المقالة حتى يسلم لهم صحة الاعتقاد في وحدانية الله وفي تصديق الكتب النبوية. ومن نبأ ذهنه عن فهم تأويل النصوص وفهم الاتفاق في الاسم مع الاختلاف في المعنى قيل له هذا النص يفهم تأويله أهل العلم لكنك أنت تعلم: أن الله عز وجل ليس بجسم ولا ينفعل , لأن الانفعال تغير. وهو تعالى لا يلحقه تغير , ولا يشبه شيئا من كل ما سواه , ولا يجمعه منه شيء منها. 

 

حد من الحدود أصلا. و إن هذا الكلام النبوي حق. وله تأويل ويوقف معه عند هذا القدر. ولا ينبغي أن يقر أحد على اعتقاد تجسيم أو على اعتقاد لاحق من لواحق الاجسام , إلا ما يقر على اعتقاد عدم الإله , أو الشرك به , أو عبادة من دونه )) أ. ه 

أما المحدثون فقد رووا عن الترمذي أنه قال: جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد , إن الله يمسك السموات على إصبع. والخلائق على إصبع. ثم يقول: أنا الملك فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه. 

هذا مما رووه وأحذوه على ظاهرة ولم يؤولوه. واكثرو من ترديد أمثاله في الاعتقاد للبيهقي والتوحيد لابن خزيمة وغيرهما من الكتب التي تردد أقوال ابن حنبل وابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم ممن لا يؤولون ولا يردون المتشابه إلى المحكم. 

مع أن قوله تعالى: { وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [الزمر: 67] 

لا يدل ظاهره على قبضة ويمين. لأن الله تعالى نزه نفسه عن الجسمية في نفس الآية بقوله: { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [يونس: 18] ولأن الله نزه نفسه عن الجسمية , يكون معنى (( والأرض جميعا قبضته )) . 

(أ) عبارة عن قدرته وإحاطته بجميع مخلوقاته. يقال ما فلان إلا في قبضتي , بمعنى ما فلان إلا قدرتي. والناس يقولون: الأشياء في قبضته. يريدون في ملكه وقدرته. 

(ب) وقد يكون معنى القبض والطي: إفناء الشيء وذهابه. فقوله عز وجل 

 

(( والأرض جميعا قبضته )) يحتمل أن يكون المراد به: والأرض جميعا ذاهبة فانية يوم القيامة. وقوله: (( والسموات مطويات بيمينه )) ليس يريد به طيا بعلاج وانتصاب. وانما المراد بذلك: الفناء والذهاب. يقال: قد انطوى عنا ماكنا فيه , وجاءنا غيره , وانطوى عنا دهر بمعنى المضي والذهاب. واليمين في كلام العرب: قد تكون بمعنى القدرة والملك. ومنه قوله تعالى: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } [النساء: 3] 

يريد به الملك. وقال: { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } [الحاقة: 45] أي بالقوة والقدرة. أي لأحذنا قوته وقدرته. 

قال الفراء والمبرد: اليمين: القوة والقدرة. وأنشدا: 

إذا ما راية رفعت لمجد 
... 
تلقاها عرابة باليمين
 

وقال آخر: 

ولما رأيت الشمس أشرق نورها 
... 
تناولت منها حاجبي بيمين
 
قتلت (( شنيفا )) ثم (( قارن )) بعده 
... 
وكان على الآيات غير آمين
 

وانما خص يوم القيامة بالذكر , وان كانت قدرته شاملة لكل شيء أيضا , لأن الدعاوى تنقطع في ذلك اليوم. كما قال: { وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الانفطار: 19] 

(ت) وهاهم يوقعون التفرقة بين المسلمين؛ يوقعون التفرقة بين المسلم العجمي والمسلم العربي. مع أن الله تعالى يقول: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } [آل عمران: 103] 

فالأحاديث التي عند المسلمين الشيعة تختلف عن الأحاديث التي هي عند المسلمين السنين. وكل فريق يقول: ما عندي هو الحق. 

وهم يعلمون جميعا أنهم ما كان عندهم من شيء يعتد به , من قبل عصر 

 

أمير المؤمنين المتوكل على الله. فإن البخاري قد توفي في سنة 255 ه والكليني قد توفي سنة 328 ه. والمسلمون تجاه الأحاديث على طائفتين: 

طائفة تردها كلها وترفضها كلها في أصول الدين وفي الفقه. لقوله تعالى: { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ } [النحل: 89] ولقوله تعالى: { مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ } [الأنعام: 38] 

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (( ما أتاكم مني فاعرضوه على كتاب الله. فإن وافق كتاب الله فأنا قلته , وإن خالف كتاب الله , فلم أقله أنا. وكيف أحالف كتاب الله, وبه هداني الله؟ )) . 

وطائفة ردوا أخبار الأحاد فقط. وحجتهم: أن الراوي ليس معصوما من الكذب , وأنه يجوز عليه الخطأ والنسيان (1) 

وطائفة ردوا أخبار الآحاد , هي تتظاهر بأنها ترد أخبار الآحاد فقط. وهي في الحقيقة ترد الأحاديث كلها 

إذا لا حديث فيها مروي بالتواتر لا في العقائد ولا في الفقه. 

وقد كتب الفقهاء بذلك تحت عنوان (( ندوة المتواتر (( 2 )) )) . 

والصحيح في شأن الأحاديث وهو الذي أعتقده وأدين به: 

(أ) أن الأحاديث لا يصح لأحد أن يستدل بهافي أصول الدين. 

(ب) وماعدا أحاديث أصول الدين, فإنها تنقسم إلى قسمين: قسم منها يفسر آيات في القرآن الكريم وهذا القسم يجب أن يقبل ولا يرد ولا يرفض. 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) الحديث والمحدثون ــمحمد محمد أبو زهرة. 

(2) الإسلام عقيدة وشريعة ــالشيخ محمود شلتوت .. 

 

وقسم منها ينشئ أحكاما تشريعية في دين الإسلام ليس بها ذكر بالقرآن. وهذا القسم يجب أن لا يقبل , ويرد ويرفض. 

أما المفسر وهو مثل الأحاديث التي تفسر كيفية إقامة الصلوات و إيتاء الزكاة؛ فإنه يقبل ولا يرد. لقوله تعالى: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل: 44] وقوله تعالى: { وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } [الحشر: 7] هو عام يشمل القرآن والسنة كلها. ولكن الله تعالى خصصه بقوله: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } والخاص مقدم على العام. فصار المراد بإتيان الرسول صلى الله عليه وسلم هو ما فسره وبينه من آي الكتاب العزيز. 

يقول الإمام الشاطبي: إبراهيم بن موسى. المتوفي في سنة 790 ه في كتابه الاعتصام: 

(( إن الأمر إنما يرد على المكلف من كتاب الله, أو سنة رسول. وما يتفرع منهما ,راجع إليهما. فإن كان واردا من السنة, فعظم نقل السنة بالآحاد بل قد أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم متواترا. وإن كان واردا من الكتاب , فإنما تبينه السنة (1 )) ) أ. هـ. 

ويقول الشاطبي في الاعتصام: 

(( من اتباع المتشابهات: الأخذ بالمطلقات قبل النظر في ميقاتها, وبالعمومات من غير تأمل ز هل لها تخصصات أم لا؟ وكذلك العكس. بأن يكون النص مقيدا, فيطلق , أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه. فإن هذا المسلك: رمي في عماية , واتباع للهوى في الدليل. وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد. فإذا قيد صار واضحا. كما إن إطلاق المقيد: رأى 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) الاعتصام ص 109 ج 1. 

 

في ذلك المقيد , معارض للنص من غير دليل (1 )) ) أ. هـ. 

وأنا أعتقد ــ بفضل الله ورحمته ــ أنه بعد بياني هذا , لن يكون للمسلمين من حجه في انقسامهم إلى طوائف وفرق. 

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. 

والسبب في تبياني هذا: هو أن المسلمين في (( مصر )) قد فرض عليهم من اسرة محمد علي باشا سنة 1805 م هجران الأحكام التشريعية الإسلامية من محاكم القضايا ودرر الحكم. 

وتذرع فارضو الهجران بأن الشريعة الإسلامية ليست متوافقة في نصوص المواد التشريعية. فالقرآن يخالف ا لسنة و والسنة ينقض بعضها بعضا. وفي في بعض النفوس ميل إلى ما تهوى الأنفس؛ ذلك رضي البعض بالقوانين الوضعية التي حلت محل شريعة الله إلى يومنا هذا. وبسبب رضاهم عم الظلم وضاع الأمن. ولما رحلت هذه الأسرة من (( مصر )) حل محلها في الحكم رجال من عامة المصريين المدنيين عن الحكم. وتنصيب رجال الدين في وظائفهم الرئاسية بدلا عنهم. لأن رحال الدين إذا طبقت الشريعة يكونون هم الراعين لها بحكم فقههم لها أكثر من غيرهم. ولو تقلد رجال الحكم ووضع الاحاديث كما وصفت , فإنهم سيختلفون كما اختلف من قبلهم. وسيعود حال المسلمين من بعد الاختلاف إلى حالهم اليوم في العمل بالقوانين الوضعية , ريثما يتفقون. ولو أنهم رضو بالقرآن وبالمفسر من الأحاديث , لانعدمت الفوارق بين الشيعة واهل السنة , وأصبحوا بنعمة الله إخوانا. 

والله ولي التوفيق. وهو حسبنا ونعم الوكيل. 

دِ/ أحمد حمادي السقا 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) الاعتصام ص 246 

 

مؤلف لكتاب 

شيخ الإسلام 

الإمام فخر الدين الرازي 

محمد بن عمر , المتوفى سنة 606 هـ 

هو الشيخ الجليل محمد بن عمر بن الحسين. المولود في (( الري )) من بلاد إيران سنة 543 هـ والمتوفى في (( هراة )) سنة 606 هـ. 

ومن كتبه. 

1 - التفسير الكبير , المسم مفاتيح الغيب. 

2 - المطالب العلية من العلم الإلهي. 

3 - شرح عيون الحكمة. 

4 - محصل أفكار المتقدمين. 

5 - المحصول في أصول الفقه. 

6 - نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز. 

7 - نهاية العقول في دراية الأصول. 

8 - الأربعين في أصول الدين ـــ وهذا الكتاب منه , وقد عملنا له مقدمة 

9 - المسائل الخمسين في أصول الدين. 

10 - مناقب الإمام الشافعي. 

11 – لباب الإشارات والتنبيهات. 

وكتب أخرى .... 

رحمه الله تعالى برحمته الواسعة آمين. 

خلق القرآن – م 4 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم 

المقدمة 

الحمد لله رب العالمين , وصلاة وسلام على نبيه محمد خير المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين. 

وبعد 

فهذا كتاب فيه صفة الكلام لله تعالى وفي ان القرآن كلام الله تعالى. على الكرامية وابي الحسن الأشعري وعلماء المعتزلة. وقد قسمته إلى فصلين: الأول: في حقيقة الكلام. والثاني: في أثبات كونه تعالى متكلما. 

والله من وراء القصد وهو حسبنا ونعم الوكيل. 

... 
* *
 

 

الفصل الأول 

في حقيقة الكلام 

اعلم: أن الإنسان إذا أراد ان يقول: اسقني الماء. فإنه قبل أن يتلفظ بهذا اللفظ , يجد في نفسه طلبا واقتضاء لذلك الفعل. وماهية ذلك الطلب مغايرة لذلك اللفظ. 

والذي يدل عليه وجوه. 

الأول: أن ماهية ذلك الطلب لا تتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة والألفاظ الدالة على هذا المعنى تحتلف باختلاف الأزمنة والأمكنة. 

الثاني: أن جميع العقلاء يعملون بالضرورة ان قول القائل (( افعل )) : دليل على ذلك الطلب القائم بالقلب. ولا شك أن الدليل مغاير للمدلول. 

الثالث: أن جميع العقلاء يعملون بالضرورة: أن قول القائل (( افعل )) : لا يكون طلبا وأمرا , إلا عند اصطلاح الناس على هذا الموضوع. وأما كون ذلك المعنى القائم بالقلب طلبا , فانه امر ذاتي حقيقي لا يحتاج فيه إلى الوضع والإصطلاح. 

 

الرابع: وهو انهم قالوا: إن قولنا ضرب يضرب , إخبار. وقولنا اضراب لا تضرب , امر ونهي. ولو أن الواضعين قلبوا الأمر وقالوا: إن قولنا ضرب يضرب , أمر ونهي. وقولنا اضرب لا تضرب , إخبار. لكان ذلك ممكن جائزا ً, أما لو قالوا: حقيقة الطلب يمكن ان تنقلب خبرا , وحقيقة الخبر يمكن أن تنقلب طلبا , لكن ذلك محال. 

فهذه الوجوه الظاهرة دالة على ان حقيقة الطلب وحقيقة الخبر , أمر مغاير لهذ الألفاظ وهذه العبارات , بل هذه الألفاظ والعبارات , دالة عليها معرفة لها. 

إذا عرفت هذا , فلنبحث عن ماهية الطلب , وماهية الحكم الذهني الذي يسمى بالخبر فنقول (1) : هذا الطلب إما أن يكون هو الإرادة إما أن يكون هو معنى مغاير للإرادة. والأول باطل , فتعين الثاني. وه المطلوب. 

وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون عبارة عن الإرادة لوجوده: 

الحجة الأولى: أنه لا نزاع في أنه تعالى أمر بإيمان من يعلم أنه لا يؤمن , ويمتنع من 

يقال: إنه يريد الإيمان منه , لأنه تعالى عالم الغيب , فإنه (2) خلاف المعلوم ممتنع الوقوع وكل ما كان ممتنع الوقوع لا يكون مراد الوقوع. فلما تحقق الأمر والطلب , مع عدم الإرادة , علمنا: أن ماهية هذا الطلب مغاير لماهية الإرادة. وهذه النكتة هي النكتة القوية في إثبات هذا الطلب مغاير لماهيته الإرادة , ففي الصور: 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) فيكون: أ. 

(2) علم بأن: أ. 

 

إحداهما: أن السلطان إذا أمر (( زيدا )) أن يأمر عمرا بشء فقد يكون زيد كارها لصدور ذلك الفعل من (( عمر )) وإلا إنه يأمره لأجل أن السلطان أمره بذلك. فههنا الامر حاصل , والإرادة غير حاصلة. 

ثانيهما: ما ذكره أصحابنا ـــ رحمهم الله ـــ من أن الرجل إذا ضرب عبده فشكى العبد ذلك إلى السلطان , فقال السلطان لم ضربت عبدك؟ فقال: إنه لا يطيعني , ثم لأجل هذا العذر قال للعبد: افعل كذا وكذا. فالأمر حصل ههنا , مع أنه لا يريد إقدامه على ذلك الفعل , لأنه لو أقدم عليه لما تمهد عذره عند السلطان. 

وثالثهما: أنه تعالى لما أخبر عن أبي جهل وأبي لهب أنهما يموتان على الكفر فالنبي ــ عليه السلام ــ ما كان يريد الإيمان منهما لأن من لوازم صدور الإيمان منهما , دخول الكذب في كلام الله تعالى. ومريد الشيء مريد لما هو من لوازمه ومن ضروراته. نه عليه السلام ما كان يريد الإيمان منهما , وكان صلى الله عليه وسلم يأمرهما بالإيمان , فعلمنا: أن الأمر قد يحصل بدون الإرادة. وأما أن الإرادة قد تحصل بدون الأمر فظاهر أن الإنسان قد يصرح بذلك. ويقول: أريد منك أن تفعل هذا , إلا أني لا آمرك به. 

فثبت بهذه الوجوه: فنقول: لا شك أن قولنا باللسان (( قام زيد )) و (( ضرب عمرو )) ويدل على حكم ذهني , واسناد عقلي وهذا الحكم الذهني والاسناد العقلي: ظاهر أنه ليس من جنس القدرة والإرادة , إنما الذي يقع فيه الاشتباه أن يقال: إن هذا الحكم الذهني هو الاعتقاد أو العلم. فإذا بننا بالبرهان أنه ليس الأمر كذلك , ظهر أن الخبر القائم بالنفس؛ معنى مغاير للعلوم والاعتقادات , ومغاير للقدر والإرادات. وذلك هو المراد من الخبر القائم بالنفس. 

 

وإنما قلنا: إن هذا الحكم الذهني ليس من جنس العلوم والاعتقادات , وذلك لأني حال ما أكون عالما بأن العالم ليس بقديم , يمكنني ان أقول في الذيهن العالم قديم. وذلك لان الذهن كما يمكنه تركيب القضايا الصادقة , فكذلك يمكنه تركيب القضايا الكاذبة , والقضايا الكاذبة الذهنية بكون ذلك الحكم الكاذب فيها حاصلا في الذهن , والعلم بها والاعتقاد فيها غير حاصل. فههنا الكلام في القضايا الكاذبة التي يكون كذبها معلوما , حصل الحكم الذهني ولم يحصل العلم والاعتقاد. وهذا يدل قطعا أن الحكم الذهني , مغاير للعلم والاعتقاد. 

فإن قيل: هذا الحكم الذهني عبارة عن فرض يفرضه الذهن , وتقدير يقدره. 

قلنا: هب أن الأمر على ما قلتم , إلا أن هذا الفرض وهذا التقدير ليس من باب العلوم والاعتقادات , ولا من باب القدر والإرادات؛ فكان معنى مغايرا لها. وهو المطلوب. وذلك لا يختلف بأن سميتموه فرضا وتقديرا , أولا تسموه بذلك. فثبت بما ذكرنا: أن الطلب الذهني مغاير للإرادة, وأن الحكم الذهني مغاير للعلم والاعتقاد. 

ومن أنصف علم أن هذا التقدير والتلخيص لم يتيسر لأحد ممن تقدمنا (1) . 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) اعلم: أن علماء بني اسرائيل يصرحون في كتبهم بأنهم أخذو علم الكلام عن معتزلة المسلين ولم يأخذوا عن الأشاعرة شيئا وسأبين هنا أنهم أخذوا عن علماء المعتزلة في خلق القرآن ,وفي نفي رؤية الله تعالى. 

 

اولا: يقول مؤلف دلالة الحائرين , المتوفي سنة 603 ه: اعلم أن العلوم الكثيرة التي كانت في ملتنا في تحقيق ه ذه الأمور , تلفت بطول الأزمان , وباستيلاء الملل الجاهلية علينا , وبكون تلك الأمور لم تكن مباحة للناس كلهم. فما كان الشيء المباح للناس كلهم إلا نصوص الكتب فقط. والفقه للروي ما كان مدونا في القديم , للأمر المستفاض في الملة. وهو (( الأمور التي أخبرتك بها شفاها؛ لا يجوز لك أن تكتبها )) وذلك كان في غاية الحكمة من الشريعة؛ لأنه هرب مما وقع فيه الناس أخيرا. وهو كثرة الآراء وتشعب المذاهب , بسبب إشكالات تقع في عبارة المدون للسهو الذي يصحبه. ويحدث بسببه الانقسام بين الناس ويصيرون فرقا , ويتحدثون في الأعمال الشرعية 

واتفق في ابتداء الإسلام أن أصحابنا أخذو عن المعتزلة ما أخذوا. ولم يأخذوا عن الأشعرية شيئا. لأنهم ظنوا ان آراء المعتزلة مقبولة للبرهة عليها .. الخ [ج 1 ص 179 فصل: عا] . 

ثانيا: يقول مؤلف دلالة الحائرين: إن رؤية الله ممتنعة , كما يقول المعتزلة. ويذكر الحقيقة والمجاز في الألفاظ الدالة على الرؤية هكذا: 

(( اعلم: أن (( رأى )) و (( نظر )) و (0 حزى )) ثلاثة هذه الألفاظ تقع على رؤية العين , واستعيرت ثلاثتها لإدراك العقل. أما ذلك في (( رأى )) فمشهور عند الجمهور. قال: (( ونظر فإذا بئر في الصحراء )) [تك 29:2] وهذه رؤية عين على الحقيقة لا على المجاز وجاءت (( رأى )) على المجاز. في: (( وقلبي رأى كثيرا من الحكمة والعلم )) [جا 16:1] وهذا إدراك عقلي , لا رؤية عين. وبحسب هذه الاستمارة , تكون كل لفظة جاءت عن الرؤية في الله تعالى مثل قوله: (( رأيت الرب )) [مل 22: 19] (( يرى له الرب )) [تك 18:1 )) [ورأى الله ذلك انه حسن )) ] تك 1: 10 (( أرني مجدك )) [خر 18:33] (( فرأوا إليه اسرائيل )) [خر 10:24] كل ذلك إدراك عقلي , لا رؤية عين بوجه. إذ لا تدرك الأعين إلا جسما, وفي جهة. وبعض أعراضه أيضا. أعني ألوان الجسم وشكله ونحوهما. وكذلك هو تعالى لا يدرك بآلة. وكذلك (( نظر )) يقع حقيقة على الالتفات بالعين للشيء., مثل (( لا تلتفت إلى ورائك )) [تك 17:91] (( فالتفتت امرأته إلى ورائها )) [تك 26:19] (( وينظر إلى الأرض )) [أش 30:5] واستعير مجازا إلى التفات الذهن و اقباله على تأمل الشيء حتى يدركه. مثل قوله: (( لم ير إثما في يعقوب )) [عد 21:23] لأن (( الإثم )) لا يرى بالعين. وكذلك قوله (( وينظرون إلى موسى )) [خر 8:33] قال الحكماء ـــ عليهم السلام ـــ: إن فيه أيضا هذا المعنى , وإنه إخبار عن كونهم يتعقبون أفعاله وأقواله ويأملونها. ومن هذا المعنى قوله: (( انظر إلى السماء )) [تك 5:15] لأن ذلك كان رؤيا النبوة. 

وعلى هذه الاستعارة. تكون كل لفظة (( انظر )) التي جاءت في الله تعالى. مثل: (أن ينظر إلى الله )) [خر 6:2] _ (( وصورة الرب يعاين )) [عد 8:12] و (( وليست تطليق النظر إلى الإصر )) [حب 13:1] . 

 

في قلبي )) ــ (( وينطق قلبك )) ــ (( لك نطق قلبي )) ـ (( وقال عيسوفي قلبه )) وهذا كثير ,ووقعا وكذلك (( حزى )) يقع على رؤية الغين حقيقة. مثل )) ولتنظر عيوننا إلى صهيون )) [ميخا 1:1] واستعار مجازا لإدراك القلب: مثل )) التي رآها على يهوذا وأورشليم )) [اش 1:1] (( كان كلام الرب إلى إبراهيم في الرؤيا )) [تك 1:15] وعلى هذه الاستعارة 

قيل (( فرأوا الله )) [خر 11:24] فاعلم ذلك )) أ. هـ [ج 1 ص 29 فصل د] . 

ثالثا: أما كلام الله تعالى , فقد فصل فيه صاحب (( دلالة الحائرين )) القول في فصل 46 و 65 أعني فصل (( مو )) وفصل (( سه )) وقال: إن الله تعالى موجود وواحد. ومتكلم. ثم حكى إجماع علماء بني اسرائيل على أن التوراة مخلوقة. قال) (ولاسيما بإجماع امتنا: أن التوراة مخلوقة والقصة بذلك أن كلامه المنسوب إليه مخلوق )) والألفاظ المنسوبة إليه التي سمعها موسى , فإن الله خلقها وابتدعها , كما نسب إليه كل ما خلق وأبتدع. ووصف الله بالكلام مثل وصفه بالأعمال كلها , الشبيهة بأفعالنا. وكلام الله إلى أنبيائه معناه: أن هناك علما إلهيا , يدركه النبيون بأن الله كلمهم وقال لهم. حتى نعلم أن هذه المعاني التي أوصلوها إلينا , هي من قبل الله , لا من مجرد فكرهم ورؤيتهم .. 

ولفظ (( الكلام )) ولفظ (( القول )) على الحقيقة يأتي ,وأيضا على المجاز يأتي , ولفظ الكلام والقول على الحقيقة وقعا على النطق باللسان. مثل قوله: (( موسى يتكلم )) و (( قال فرعون )) ووقعا على المجاز , على المعنى المتصور في العقل من غير أن ينطق به. مثل ف (( فقلت في قلبي )) ـــ (( فتكلمت أيضا مجازا على الإرادة. مثل )) :وهم أن يقتل داود )) فكأنه قال: وأراد قتله أي هم به ومثل: (( أتريد أن تقتلني )) ؟ أي تهم به وتريده. 

وقال المؤلف ما نصه: (( فكل قوله وكلام , جاءت منسوبة لله , فهي من المعينين الأخرين أعني: أنها إما كناية عن المشيئة والإرادة , وإما كناية عن المعنى المفهوم من قبل الله , سواء علم بصوت مخلوق ,أو علم بطريق من طرق النبوة , لا أنه تعالى تكلم بحرف وصوت. ولا أنه تعالى ذو نفس. فترتسم المعاني في نفسه , وتكون في ذاته معنى زائدا على ذاته. بل تعلق تلك المعنى به ونسبتها إليه , كنسبة الأفعال كلها )) أ. هـ. هذا ما أردت بيانه ههنا. لا بين أن للمعتزلة تأثيرا في علماء بني اسرائيل. لا أن علماء بني اسرائيل قد تأثروا بالمعتزلة. ذلك لأن ابن ميمون توفي في سنة ستمائة وثلاث من الهجرة. و (( أصل بن عطاء الغزال )) رئيس المعتزلة , توفي في سنة مائة واحدى وثلاثين من الهجرة. ولأن موسى بن ميمون قد صرح بأن كتب علماء بني اسرائيل الأوائل قد تلفت بطول الأزمان وباستيلاء الملل الجاهلة , عليهم كما يزعمون ــوبكون تلك الأمور لم تكن مباحة للناس كلهم. 

 

الفصل الثاني 

في 

إثبات كونه تعالى متكلما 

اعلم: أن الأمة متفقة على إطلاق لفظ المتكلم على الله تعالى , إلا أن هذا الاتفاق ليس إلا اللفظ. وأما المعنى فغير متفق عليه. 

أما المعتزلة فقالوا: إن الإنسان لا يمكنه أن يعيش وحده , بل لم يشغل كل واحد بإعانة الآخر , لم يحصل لكل واحد منهم مقصودة بالتمام , وما لم يعرف كل واحد ما في قلب الآخر من جهات الحاجات , لا يمكنه الاشتغال بإعانته. فاحتاج الإنسان إلى وضع طريق يعرف به غيره ما في قلبه , من فنون الحاجات. فاصلحوا على جعل هذه الأصوات المقطعة بهذه التقطيعات المخصوصة , معرفة لما في قلوبهم من الأحوال. وقد كان يمكنهم وضع طريق آخر سوى هذا الطريق من الإشارة والإيماء وتصفيق اليد والكتابة. إلا أن هذا الطريق كان أسهل وأيسر. 

إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى إذا أراد شيئا أو كره شيئا , خلق هذه الأصوات المحصوصة في جسم من الأجسام , لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدا لذلك الشيء المعين , أو كارها له , حاكما به بالنفي أو بالإثبات. وهذا هو المراد من كونه تعالى متكلما. 

 

وفد نازعهم أصحابنا فيه: إنه يمتنع أن يكون متكلما بكلام قائم بالغير , كما أنه يمتنع أن يكون متحركا بحركه قائمة بالغير وساكنا بسكون قائم بالغير. 

وعندي: أن هذه المنازعة ضعيفة. لأن هذه النازعة , إما أن تكون في المعنى , أو في اللفظ. أما المعنى: 

فهنا شيئان: 

أحدهما: أنه تعالى قادر على خلق هذه الأصوات المقطعة بالتقطيعات المخصوصة في جسم جمادي أو حيواني (1) , وهذا أمرلايمكن النزاع فيه. لأن خلق هذه الأصوات والحروف في الجسم الجمادي أو الحيواني ممكن, والله تعالى قادر على كل الممكنات. 

والثاني: إن الله تعالى جعل تلك الأصوات المخصوصة معرفة لكونه تعالى مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها. وهذا أيضا غير ممتنع. وإذا سلم هذان المقامان عن الطعن , فقد سلمنا لهم صحه كونه تعالى متكلما بالمعنى الذي أرادوه. 

وأما المنازعة في اللفظ: 

فهو أن فعل هذه الأصوات المخصوصة ــ وهي الحروف المركبة في جسم ــ لغرض ان يعرف غيره ما يريده أو يكرهه فهل يسمى متكلما في اللغة أم لا؟ ومعلوم: أن هذا البحث بحث لغوي محض , وليس بالمعنى به تعلق البته , 

فثبت بما ذكرنا: أنه تعالى متكلما بالمعنى الذي يقوله (( المعتزلة مما نقول به ولا ننكره بوجه من الوجوه. إنما الخلاف بيننا وبينهم في أن نثبت أمرا آخر وراء ذلك , وهم ينكرونه. وسيذكر , أن ذلك الشيء ما هو؟ 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) نباتي: ب. 

وأما (( الكرامية )) فهم يقولون: إنه تعالى يخلق الأصوات والحروف في ذاته وهذا يرجع إلى أنه تعالى هل يجوز أن يكون محلا للحوادث ام لا؟. وأما أصحابنا. فقد قالو: ثبت أن الكلام القائم بالنفس معنى مغاير للقدر و الإرادات والعلوم والاعتقادات. وندعي أن الباري تعالى موصوف بهذا المعنى وندعي أن هذا المنى قديم , وندعي أنه معنى واحد , وهو مع كونه واحدا , أمر ونهي وخبر واستخبار ونداء. 

والمعتزلة والكرامية ينازعون أصحابنا في كل واحد من هذه المواضع الأربعة. 

فأولا ينكرون إثبات معنى مغاير للاعتقادات والإرادات. وبتقدير تسليمه , ينكرون كونه موصوفا به وبتقدير تسليمه , ينكرون كونه قديما , وبتقدير تسليمه ينكرون كونه واحدا. فقد تقدم تقديره على أحسن الوجوه. 

وأما المقام الثاني: وهو أن الباري تعالى موصوف بكلام النفس. فالذي يدل عليه: ما ثبت عندنا بالتواتر والظاهر (1) , من جميع الأنباء والرسل عليهم السلام , انه تعالى أمر عبادة بكذا ونهاهم عن كذا وأخبرهم ب تكذا, ولما ثبت بالمعجزات صدق الأنبياء والرسل عليهم السلام , وجب القطع بكونه تعالى آمرا وناهيا ومخبرا. 

وإذا ثبت هذا القول: هذا الأمر والنهي والخبر , إما أن يكون من باب الألفاظ والعبارات , وإما أن يكون من باب المعاني والحقائق. فإذا كان الأول , فتلك العبارات والألفاظ لا بد وأن تكون دالة على المعاني والمدلولات. ومدلول هذه العبارات في حق الله تعالى إما أن يكون هو الارادات والاعتقادات , وإما أن يكون معنى مغاير لها. لا جائز أن تكون تلك المعاني هي الإرادات 

ــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) بالتواتر الظاهر: ب. 

 

والاعتقادات. لأنا بينا أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة والخير قد يوجد بدون الاعتقادات فثبت: أن مدلول هذه العبارات في حق الله تعالى معنى وراء الاعتقادات والارادات. فثبت: أنه تعالى موصوف بمعنى حقيقي , وهو مدلول قوله )) افعل )) وأنه تعالى موصوف بمعنى حقيقي , هو مدلول قوله (( الحمد لله )) وهو مغاير لعلمه. ونحن نسمي ذلك المعنى بالأمر الحقيقي والخبر الحقيقي. وهو المطلوب. 

فإذا قيل: كيف يمكنكم أن تستدلوا بقول الأنبياء والرسل عليهم السلام على كونه تعالى متكلما , مع ان نبوة الأنبياء عليهم السلام لا يمكن إثباتها إلا بعد العلم بكونه تعالى متكلما. 

قلنا: لا نسلم أن العلم بصحة نبوة الأنبياء موقوف على العلم بكونه تعالى متكلما أو لم نعلم ذلك. 

وأما المقام الثالث ــ وهو أن ندعي أن هذه الصفة قديمة ــ فنقول: لو كانت محدثة لكانت إما قائمة به أو بغيره , أو لا في محل. فإن كانت قائمة به , كان الله تعالى محل الحوادث , وهو محال. وإن كانت قائمة بغيره, فهو أيضا محال [وإن لم تكن قائمة بشيء , أو كانت قائمة بغيره , أو كانت موجودة لافي محل فهو محال] (1) لأنا بينا أن هذا الكلام صفة الله تعالى ونعته. ومن المحال أن تحصل صفة الشيء , لا فيه بل في غيره. والذي يقوله المعتزلة من أنه يجوز أن يكون كلامه قائما بغيره , فليس من هذا الباب. وذلك لأنهم فسروا الكلام القائم بغيره بأنه يخلق أصواتا وحروفا دالة بالوضع والاصطلاح , على كونه تعالى مريدا لبعض الاشياء وكارها لبعضها. وهذا غير ممتنع البتة. 

ــــــــــــــــــــــــــ 

(1) ما بين القوسين: من ب. 

 

وأما نحن في هذا المقام فقد بينا. أنه لو خلق ألفاظا دالة على الطلب وألفاظا دالة على الحكم والإسناد , فلا بد من مدلولات لتلك الألفاظ ومفهومات وبينا: 

أن الألفاظ الدالة على الطلب لا يمكن أن يكون مدلولها الإرادة , والألفاظ الدالة على الخبر لا يمكن أن يكون مدلولها العلم , فلا بد من صفات أخرى قائمة بذات الله تعالى , تكون تلك الصفات مدلولة الألفاظ الدالة على الطلب , و الألفاظ الدالة على الخبر , وتلك المدلولات يمتنع كونها مباينة عن ذات الله تعالى , بل يجب كونها قائمة بذات الله تعالى. 

فالذي يقوله المعتزلة من أنه يجوز أن يكون الحي متكلما بكلام قائم بالغير حق وصدق. والذي يقوله أصحابنا من أنه يمتنع ان يكون الحي متكلما بكلام قائم بالغير: حق وصدق ز إلا أن الكلام الذي يشير إليه المعتزلة له معنى , والكلام الذي يشير إليه أصحابنا له معنى آخر. 

والفريقان لما لم يشتغلوا بتخليص محل النزاع , لا جرم خفيت هذه المباحث والمطالب. 

وأما المقام الرابع: وهو أن كلام الله تعالى واحد , ومع كونه واحدا , فهو امر ونهي وخبر. فتحقيق الكلام فيه يرجع إلى عرف واحد , وهو أن الكلام كله حير لأن الأمر عبارة عن تعريف الغير أنه لو فعله , لصار مستحقا للمدح , ولو تركه لصار مستحقا للذم. وكذا القول في النهي. وإذا كان المرجع بالكل إلى شيء واحد , وهو الحبر و صح قولنا: إن كلام الله تعالى واحد. 

واحتج القائلون بحدوث كلام الله تعالى بالمنقول والمعقول:) 1) أما الشبه النقلية فمن وجوه: 

ـــــــــــــــــــــــــــــ 

(1) نص خطاب أمير المؤمنين (( المأمون )) رضي الله عنه إلى (( اسحاق بن ابراهيم )) هو )) أما بعد )) . 

فإن حق الله على أئمة المسلمين وخلفائهم: الاجتهاد في إقامة دين الله الذي استحفظهم ومواريث النبوة التي أورثهم , وأثر العلم الذي استودعهم , والعمل بالحق في رعيتهم , والتشمير لطاعة الله فيهم. والله يسأل امير المؤمنين أن يوفقه لعزيمة الرشد وصريمته, والاقساط فيما ولاه الله من رعيته ــــ برحمته ومنته. 

وقد عرف أمير المؤمنين ان الجمهور الأعظم والسواد الأكبر من حشو الرعية , وسفلة العامة , ممن لا نظر له , ولا رؤية ولا استدلال له بدلالة الله وهدايته , والاستضاء بنور العلم وبرهانه في جميع الأقطار والآفاق , أهل جهالة بالله , وعمى عنه , وضلالة عن حقيقة دينه وتوحيده, والإيمان به, ونكوب عن واضحات أعلامه وواجب سبيله وقصور ان يقدروا الله حق قدره , ويعرفوه كنه معرفته , ويفرقون بينه وبين خلقه: لضعف آرائهم ونقص عقولهم وجفائهم عن التفكير والتذكر. 

وذلك أنهم ساووا بين الله تبارك وتعالى وبين ما أنزل من القرآن فاطبقوا مجتمعين , واتفقوا غير متعاجين على أنه قديم أول, لم يخلفه الله ويحدثه ويخترعه. وقد قال عز وجل في محكم كتابه , الذي جعله لما في الصدور شفاء وللمؤمنين رحمة وهدى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [الزخرف: 3] 

فكل ما جعله الله فقد خلقه , وقال: { الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور } . وقال عز وجل { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها وتلا به متقدما , وقال: { ألر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } .وكل محكم مفصل فله محكم مفصل. 

ولله محكم كتابه ومفصله فهو خالقه ومبتدعه. 

ثم هم الذين جادلوا بالباطل. فدعوا إلى قولهم ونسبوا ا، أنفسهم إلى السنة. وفي كل فصل من كتاب الله قصص من تلاوته , مبطل قولهم. ومكذب دعواهم , يرد عليهم قولهم ونحلتهم. ثم أظهروا مع ذلك أنهم أهل الحق والدين والجماعة , وأن من سواهم أهل الباطل و الكفر والفرقة فاستطاعوا بذلك على الناس وغرو به الجهال , حتى مال قوم من أهل السمت الكاذب. والتخشع لغبر الله , والتقشف لغير الدين , إلى موافقتهم عليه , ومواطأتهم على سيء آرائهم , تزينا بذلك عندهم , وتصنعنا للرياسة والعدالة فيهم. فتركوا الحق إلى باطلهم واتخذوا دون الله وليجة إلى ضلالهم. 

 

الشبهة الأولى في القرآن الكريم , وكل ذكر محدث , فالقرآن محدث. وإنما قلنا في القرآن ذكر , لقوله تعالى: { ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ } [ص: 1] , وقوله تعالى: 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ. 

= فقبلت بتزكيتهم لهم شهادتهم , ونفذت احكام الكتاب بهم على دغل دينهم أديمهم , وفساد نياتهم ويقينهم. وكان ذلك غايتهم التي إليها أجدوا , وإياها طلبوا في متابعتهم والكذب على مولاهم. وقد أخذ عليهم. { مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ } [الأعراف: 169] { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد: 23، 24] .فرأى أمير المؤمنين: ان اؤلئك شر الأمة , ورؤوس الضلال , المنقوصين من التوحيد حظا , والمخسوسين من الإيمان نصيبا. وأوعية الجهالة واعلام الكذب , ولسان ابليس الناطق في أوليائه , والهائل على أعدائه من أهل دين الله , واحق من يتهم في صدقه , وتطرح شهادته لا يوثق بقوله ولا عمله. فإنه لا عمل إلا بعد يقين , ولا يقين إلا بعد استكمال حقيقة الإسلام , وإخلاص التوحيد. 

ومن عمى عن رشده وحظه من الإيمان بالله وبتوحيده , كان عما سوى ذلك من عمله والقصد في شهادته أعمى و أضل سبيلا. 

ولعمر أمير المؤمنين إن أحجي الناس بالكذب في قوله , وتخرص الباطل في شهادته: 

من كذب على الله ووحيه ولم يعرف الله حقيقة معرفته: وإن أولاهم برد شهادته في حكم الله ودينه: من رد شهادة الله على كتابه , وبهت حق الله بباطله. 

فاجمع من بحضرتك من القضاة , واقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين هذا إليك. فابدأ بامتحانهم فيما يقولون , وتكشيفهم عما يعتقدون في خلق الله القرآن , واحداثه وأعلمهم: أن أمير المؤمنين غير مستعين في عمله , ولا أثق فيما قلده الله واستحفظه من أمولر رعيته بمن لا يوثق بدينه , وخلوص توحيده ويقينه. 

فإذا أقروا بذلك ووافقوا أمير المؤمنين فيه , وكانوا على سبيل الهدى والنجاة , غمرهم بنص من يحضرهم من الشهود على الناس , ومساءلتهم على علمهم في القرآن وترك إثبات شهادة من لم يقر أنه مخلوق محدث , ولم يره. والامتناع من توقيعها عنده. 

واكتب إلى أمير المؤمنين بما يأتيك عن قضاة أهل عملك في مساءلتهم , والأمر لهم بمثل ذلك. ثم أشرف عليهم وتفقد آثارهم حتى لا تنفذ أحكام الله إلا بشهادة أهل البصائر في الدين , والإخلاص للتوحيد. واكتب إلى أمير المؤمنين بما يكون في ذلك. إن شاء الله. )) أ. هـ. 

 

{ وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ } [الأنبياء: 50] .وقوله تعالى: { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ } [الزخرف: 44] وأما أن كل ما ذكر محدث , ففي سورة الشعراء: { وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ } [الشعراء: 5] وفي سورة الأنبياء: { مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ } [الأنبياء: 2] . 

الشبهة الثانية: تمسكوا بقوله تعالى: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل: 40] وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه: 

الأول: إن قوله تعالى:: { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } 

جملة مركبة من شرط وجزاء. والشرط هو قوله: (( إذا أردناه )) والجزاء هو قوله: (( كن )) والجزاء لابد أن يكون متأخرا عن الشرط. فوجب أن يكون قوله تعالى ,متأخرا عن إرادته. والمتأخر عن الغير محدث , فوجب أن يكون قوله تعالى محدثا. 

والثاني: وهو إن للفاء في قوله (( فيكون )) فاء التعقيب. وهذا يقتضي أن يكون المكون حاصل عقيب قوله من غير فصل. والمقدم على المحدث بزمان واحد يجب ان يكون محدثا , فيلزم قوله (( كن )) محدثا. 

الثالث: إن الآية صريحة في أن قوله تعالى: (( كن )) كلمة مركبة من الكاف والنون. وهما حرفان متعاقبان. فتكون هذه الكلمة محدثة , فيلزم أن يكون قول الله محدثا. 

حلق القرآن ــــــ م 5 

الشبهة الثالثة: قولة تعالى: { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ } [البقرة: 30] فكلمة (( إذ )) ظرف زمان وهذا يدل على أن قوله تعالى مختص بذلك والوقت. وكل ما كان وجوده مختصا بوقت معين , كان محدثا فيلزم أن يكون قول الله تعالى محدثا. 

الشبهة الرابعة: إنه تعالى وصف القرآن بقوله: { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [هود: 1] 

وقوله أيضا: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا } [يوسف: 2] وهذا يدل على ان القرآن مركب من السور والآيات والحروف والعبارات , ويدل على أن كلام الله تعالى تارة يكون عربيا وتارة يكون عبريا. وكل ذلك يدل على أنه محدث مخلوق. 

الشبهة الخامسة: إن كلام الله تعالى مسموع , ويدل عليه قوله تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } [التوبة: 6] والذي يسمعه ليس إلا هذه الحروف والأصوات. ولا شك أن هذه الحروف والأصوات محدثة , فيلزم القطع بأن كلام الله تعالى محدث. 

الشبهة السادسة: أجمعت أن القرآن واحد , وأجمعوا على أن القرآن معجزة لمحمد عليه السلام والدليل العقلي دل على أن المعجزات يمتنع أن تكون قديمة , بل يجب أن محدثة. وإلا لكانت المعجزة سابقة على الدعوى. وحينئذ لا يكون له اختصاص بالدعوى , فلا يكون دليلا غلى صدق الدعوى ,و إذا صدق أن القرآن معجز , وثبت أن القرآن محدث. وثبت أن القرآن واحد , ثبت أن كل ما كان قرآنا فهو محدث. 

الشبهة السابعة: إن القرآن موصوف بكونه تنزيلا ومنزلا. وذلك يقتضي كونه محدثا. 

 

الشبهة الثامنة: صح في الأخبار انه عليه السلام كان يقول: (( يارب القرآن العظيم , ويارب طه ويسن )) وكل ما كان مربوبا فهو محدث مخلوق. 

فهذا جملة الكلام في الشبهة النقلية. 

وأما الشبهة العقلية فمن وجوه: 

الشبهة الأولى: أن الامر سواء قلنا بأنه عبارة عن الحروف والأصليات ,أو قلنا إنه معنى قائم بالنفس , فإنه يمتنع أن يكون قديما. وذلك لأنه ما كان في الأزل مأمورا ولا منهيا , فلو حصل الأمر والنهي من غير حضور المامور والمنهي , كان هذا سفها وحنونا. والدليل عليه: إن الواحد منا لو جلس في بيته وحده ,ويقول: يا زيد قم , و يا عمروا اجلس , من غير أن يكون هناك أحد , قضى كل عاقل بكونه مجنونا. وما كان كذلك كيف يعقل إثباته في حق الله تعالى. 

وكيف يحسن في العقل أن يقول: { يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ } [طه: 11، 12] مع أنه لم يكن هناك موسى , ولا أحد. وأيضا: لو كان تعالى مخبرا في الأزل عن كيفيات الأشياء , لكان ذلك الخبر إما أن يكن المقصود منه إخبار نفسه ــ وهو عبث ــ أو اخبار غيره , أولا يكون المقصود منه إخبار نفسه ولا إخبار غيره. أم إخبار نفسه فهو عبث, وأما إخبار غيره مع انه ليس هناك غيره فهو جنون. وأما أن لا يكون المقصود منه , لا هذا ولا ذاك , فهو محض العبث والسفه. 

لا يقال لما لايجوز يقال: إن ذلك الأمر الأزلي كان أمرا في الأزل للأشخاص الذين سيجدون في لا يزال. كما انه تعالى كان قادرا في الأزل غلى أن يوجد الخلق في لا يزال. 

 

وأيضا: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر وينهي حال حياته كل من سيوجد بعده إلى قيام القيامة؟ فثبت: أن تقدم الأمر على المأمور غير ممتنع. 

لأن نقول: الامر عبارة عن الطلب. وتحقيق وجود الطلب مع انه ليس مناك من يطلب منه شيء , محال في العقول. بل العزم على الطلب. مثل أن الواحد منا إذا علم أنه سيوجد له ولد , فإنه في الحال يعزم على أنه وجد له ذلك الولد , فبعد وجوده فيطلب منه تحصيل العلم والأدب. فأما أن يقال: إنه قبل وجود الولد ,يطلب منه تحصيل العلم والأدب ,فهذا البته غير معقول. 

وأما أن قوله بأن النبي عليه السلام كان يأمر حال حياته وينهي كل من يوجد بعده إلى قيام القيامة. 

فنقول هذه مغالطة. وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم [ما كان له أمر ولا نهي على الخلق بل هو عليه السلام كان (1) يخبرنا أن أولئك الذين سيجدون بعدي يحدث الله عليهم حال وجودهم وكمال عقلهم , أنواعا من الأمر والنهي. وذلك الإخبار إنما حسن من الرسول عليه السلام لأنه حضر هناك من سيمع ذلك الخبر , ويبلغه إلى الذين سيجدون بعد ذلك. فظهر ان هذا المثال مغالطة محضة. 

ـــــــــــ 

(1) كان يخبرنا: أ. 

 

الشبهة الثانية: أنه سبحانه وتعالى أخبر بلفظ الماضي في مواقع كثيرة من القرآن. كقوله { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا } [نوح: 1] و { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [القدر: 1] و { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ } [البقرة: 6] فلو كان هذا الإخبار قديما أزليا , لكان قد أخبر في الأزل عن شيء مثني قبله. وهذا يقضي أن يكون الأزل مسبوقا بغيره , وأن يكون كلام الله تعالى كذبا , ولما كان واحدا منهما محالا , علمنا أن الإخبار يمتنع كونه أزليا 

الشبهة الثالثة: إن كلام الله تعالى لو كان قديما أزليا , لكان باقيا أبديا. 

لأن ما ثبت قدمه يمتنع عدمه , فيكون قولته تعالى ل (( زيد )) : (( صل )) باقيا , بعد أن صلى زيد صلاة الصبح وبعد أن مات , وبعد أن قامت القيامة. وهكذا يكون باقيا أبد الآباد ودهر الداهرين. ومعلوم أن ذلك على خلاف المعقول. فإنه تعالى إذا أمر عبده بفعل من الأفعال ,لم يبق ذلك الامر متوجها إليه , وإذا ثبت أن ذلك الأمر قد زال , ثبت أنه كان محدثا لا قديما. 

الشبهة الرابعة: أجمعت الامة على أن النسخ حق , والنسخ عبارة إما على ارتفاع الحكم بعد ثبوته , وإما عند انتهائه , وأبا ما كان , فهو يقتضي زوال زلك الأمر وذلك الخطاب بعد ثبوته , وكل مازال بعد ثبوته , لم يكن قديما. لان ما ثبت قدمه ,استحال عدمه 

الشبهة الخامسة: لو كان كلام الله قديما أزليا , لكان تعلقه ثابتا له لذاته. ولو كان كذلك لكان عام التعلق بكل ما يصح تعلقه به , ولما كان في 

 

مذهبكم أن الحسن والقبح لا يثبتان إلا بالشرع , فإذن كل ما كان مأمورا لا يمتنع أن يكون منهيا. 

وكل ما كان منهيا لا يمتنع أن يكون مأمورا فيلزم تعلق أمر الله تعالى بجميع الأشياء , وتعلق نهيه بجميعها. ويلزم ان تكون جمع الأشياء مأمورة منهية حسنة قبيحة. وكل ذلك محال. فثبت أن كلام الله يمتنع ان يكون أزليا. 

والجواب: 

أما جمع الشبهة السمعية 

فالجواب عنها شيء واحد. وهو ان تصرف كل تلك الوجوه إلى هذه الحروف والاصوات. فإنا معترفون بأنها محدثة. وعندهم القرآن ليس إلا ماتركب من هذه الحروف والاصوات 

فكانت الدلائل التي ذكروها دالة على حدوث هذه الحروف والاصوات. ونحن لا ننازع في ذلك. وإنما ندعي قدم القرآن , بمعنى آخر. فكانت كل هذه الشبهة ساقطة من محل النزاع. 

وأما الجواب عن الشبهة العقلية: 

فالجواب عن الشبهة الأولى: فهو أنها معارضة بالقدرة. فإنها صفة تقتضي صحة الفعل, ثم إنها كانت ثابتة في الأزل مع أن الفعل كان ممتنعا. فلم لا يجوز أن يقال: الأمر عبارة عن الصفة المقتضية لطلب الفعل , ثم إنها كانت ثابتة في الازل , مع أن طلب الفعل كان في الأزل محالا؟ 

والجواب عن الشبهة الثانية: 

إنه تعالى كان عالما في الأزل بأنه سيخلق العالم , ثم لما خلقه في لايزال ,صار العلم متعلقا 

والجواب عن الشبهة الثالثة والرابعة: 

هو ان قدرته تعالى كانت متعلقة من الأزل إلى الأبد بإجاد العالم , ولما أوجد العالم لم يبق ذلك التعلق , ولم يقض ذلك حدوث قدرة الله تعالى: فهكذا القول في الكلام. 

والجواب عن الشبهة الخامسة: 

أن قدرة الله تعالى لها صلاحية التعلق بإجاد كل الممكنات , ثم إنهاقد تعلقت بإجاد البعض دون البعض, مع أن هذه القدرة قديمة. وإذا عقل ذلك في القدرة ,فلم لا يعقل مثله في الكلام؟ 

فهذا جملة الكلام في المسألة. 

[تم الكتاب] 

الفهرس 

التقدم للكتاب للمحقق الدكتور أحمد حجازي السقا 5 

مؤلف الكتاب للإمام فخر الدين الرازي 49 

المقدمة للرازي 51 

الفصل الأول: في حقيقة الكلام 52 

الفصل الثاني: في إثبات كونه تعالى متكلما 58 

الفهرس 72 

  • السبت PM 04:55
    2021-07-24
  • 2128
Powered by: GateGold