المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412217
يتصفح الموقع حاليا : 336

البحث

البحث

عرض المادة

يدعي بعض الجاهلين أن العلاقة بين العبد وربه في الإسلام تقوم على الإذلال والخضوع، لا على المحبة والسلام كما هي في الأديان الأخرى، كما يزعمون أن رسالة الإسلام تنحصر فقط في تحرير الإنسان من عبودية البشر

                                ادعاء جفاء العبادات في الإسلام ونفي الروحانية عنها(*)

 

مضمون الشبهة:

 

يدعي بعض الجاهلين أن العلاقة بين العبد وربه في الإسلام تقوم على الإذلال والخضوع، لا على المحبة والسلام كما هي في الأديان الأخرى، كما يزعمون أن رسالة الإسلام تنحصر فقط في تحرير الإنسان من عبودية البشر إلى عبودية الله، وهذا في ظنهم إخضاع المسلم لعبودية كهنة النصوص.

 

وجوه إبطال الشبهة:

 

1)  العبودية لله في الإسلام هي غاية الوجود الإنساني، وهي هداية كلية تشمل كل جوانب الحياة.

 

2) علاقة الإنسان بربه في الإسلام أسمى وأجل وأقرب علاقة روحية، فليس لدى القلوب السليمة أحلى ولا أطيب من محبة الله سبحانه وتعالى.

 

3) استغلال السلطة الدينية أو ما يطلق عليه "عبودية كهنة النصوص" ليس من الإسلام في شىء، ومن يأخذ بهذا من المسلمين فهو يمثل نفسه فقط لا الأمة، ولا الدين.

 

التفصيل:

 

أولا. العبودية لله في الإسلام هي غاية الوجود الإنسانى:

 

إن الغاية من خلق البشر هي أن يفروا إلى الله تعالى بالعبادة، قال الله تعالى: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات).

 

ومعنى العبودية: الخضوع والتذلل والانقياد لله - عز وجل - بطاعة أوامره، وترك نواهيه، والوقوف عند حدوده تقربا إليه سبحانه، ورغبة في ثوابه، وحذرا من غضبه وعقابه، فهذه هي العبودية الحقة، ولا تكون إلا لله، قال تعالى: )قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين (162)( (الأنعام).

 

إن العبودية قضية كلية تهيمن على حياة المسلم، فهو حين يسعى في الأرض لطلب الرزق يعبد الله؛ لأن ربه يأمره بذلك في قوله: )هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور (15)( (الملك)، وهو حين ينام فهو ينام ليتقوى على عبادة الله تعالى، كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: «أحتسب نومتي كما أحتسب قومتي»[1]. أي: إنه يحتسب الأجر في نومه، كما يحتسب الأجر في قيامه لليل، بل إن المسلم لا يرضى إلا أن يكون تمتعه بالطعام والشراب والنكاح في ميزان حسناته كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: "أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر"؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر»[2].

 

وطريق الوصول إلى هذه المرتبة العظيمة أن يستحضر العبد ذكر ربه، وهو يعمل في شتى مجالات الحياة، فيسأل نفسه هل هو في الموضع الذي يرضى ربه عنه أم يسخط عليه؟ فإذا كان في موضع الرضا فليحمد الله، وليزدد من الخير، وإن كان على غير ذلك فليستغفر الله، وليتب إليه، كما هو حال عباد الله المتقين الذين وصفهم الله بقوله: )والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون (135)( (آل عمران).

 

وهكذا كانت العبادة في حس سلفنا الصالح من الصحابة ومن بعدهم، فلم يحصروها قط في إطار الشعائر التعبدية بحيث تصبح اللحظات التي يقومون فيها بأداء تلك الشعائر هي وحدها لحظات العبادة، وتكون بقية حياتهم "خارج العبادة" إنما كان في حس أحدهم أن حياته كلها عبادة، وأن الشعائر إنما هي لحظات مركزة يتزود فيها الإنسان بالطاقة الإيمانية التي تعينه على أداء بقية العبادات المطلوبة منه، ولذلك كانوا يحتفون بها احتفاء خاصا كما يحتفي المسافر بالزاد الذي يعينه على الطريق وباللحظة التي يحصل فيها على الزاد[3].

 

وهكذا كل من تعلق قلبه بشىء غير الله من أهواء نفسه، فإن حصل له رضي، وإن لم يحصل له سخط، فهو عبد ما يهواه رقيق له، إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته، ثم بقدر ما تستعبده هذه الشهوات أو بعضها بقدر ما تضعف عبوديته لربه سبحانه، فإن استحكمت عبوديته لتلك الشبهات والأهواء حتى صدته عن الدين بالكلية فهو مشرك كافر، وإن صدته تلك الأهواء والشهوات عن بعض ما يجب عليه، أو زينت له فعل بعض ما يحرم عليه - مما لا يخرج فاعله من الدين - فقد نقص من عبوديته لربه وإيمانه به بقدر ما صد عنه.

 

وبهذا المفهوم الدقيق والمعنى الشامل للعبادة ندرك: أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما قال تعالى: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون (56)( (الذاريات)، ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في نطاق الشعائر التعبدية وحدها، فالشعائر التعبدية لا يمكن - بداهة - أن تكون هي محل العبادة المطلوبة من الإنسان، فما دامت غاية الوجود الإنساني - كما تنص الآية الكريمة - محصورة في عبادة الله، فأنى يستطيع الإنسان أن يوفي العبادة المطلوبة بالشعائر التعبدية فحسب؟!

 

كم تستغرق الشعائر من اليوم والليلة؟ وكم تستغرق من عمر الإنسان؟ بقية العمر؟ وبقية الطاقة؟ وبقية الوقت؟ أين تنفق وأين تذهب؟ تنفق في العبادة أم في غير العبادة؟ وإن كانت في غير العبادة، فكيف تتحقق غاية الوجود الإنساني التي حصرتها الآية حصرا كاملا في عبادة الله؟ وكيف يجوز للإنسان - من عند نفسه - أن يجعل لوجوده - أو لجزء من وجوده - غاية لم يأذن بها الله؟

 

ومن المعلوم - بداهة - أن كل إنسان عابد بفطرته، أي أنه مجبول على العبادة، فإما أن يكون عابدا لله وحده بلا شريك، وإما أن يكون عابدا لشىء آخر غير الله، معه أو من دونه، كلاهما سواء! وهذه العبادة هي التي يسميها الله تعالى "عبادة الشيطان"؛ لأنها استجابة لدعوة الشيطان: )ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60) وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61)( (يس)، ولا تستوي حياة الإنسان عابدا لله وعابدا للشيطان: )أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أمن يمشي سويا على صراط مستقيم (22)( (الملك)، )هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور( (الرعد: 16).

 

والشيطان يستدرج الإنسان في محاولة لإبعاده عن عبادة الله تعالى، فتارة ينجح في إبعاده إبعادا مؤقتا؛ كما يقع في المعصية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»[4]. وتارة يبعده إبعادا كاملا ينقطع فيه ما بين العبد وربه، فيشرك أو يكفر أو يلحد، وعبادة الشيطان هذه تارة تكون عبادة للهوى، كما قال تعالى: )أرأيت مـن اتخـذ إلهــه هــواه أفأنت تكون عليــه وكيــلا (43)( (الفرقان)، فهذا العبد الذي يأتمر بأمر هواه، فما رآه حسنا فعله، وما رآه قبيحا تركه، فهو مطيع لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه.

 

وتارة تكون عبادة للدرهم والدينار، كما قال صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار، وعبد الدرهم، وعبد الخميصة[5]، إن أعطى رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس[6]، وإذا شيك[7] فلا انتقش»[8] [9].

 

وحين يعقد الإنسان مقارنة بين المفهوم الشامل الواسع العميق الذي كانت الأجيال الأولى من المسلمين تفهمه من أمر العبادة، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي تعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام القيادة والريادة للبشرية كلها؛ لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسة الذئاب[10].

 

ثانيا. علاقة الإنسان بربه في الإسلام أفضل ما عرف من علاقة بين العبد وربه في التصورات الدينية:

 

إن المؤمن يقترب من ربه بقدر ما يكون إنسانا صالحا نافعا لنفسه ولغيره: )فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا (110)( (الكهف)، )إن رحمت الله قريب من المحسنين (56) ( (الأعراف: 56).

 

وفي خضوع العبد لربه عزة وكرامة، فقد خلصه الخضوع له - عز وجل - من الخضوع لغيره، وحرره من المذلة لغيره، وهو خضوع لمن يستحق أن يخضع له ويذل له، فهو خالقه وحافظه ومدبر أمره ومسخر الكون له، وهي عبودية عطاء من الله المعبود للعبد، على عكس عبودية العباد للعباد، فالعبد يعطي خيره لسيده، ولكن عبودية العبد لربه تجعله يأخذ خير سيده، ويتعرض لعطائه، والله - عز وجل - يقرب عباده ليعطيهم لا ليأخذ منهم، فهو - عز وجل - غني عن خلقه.

 

قال الإمام الرازي: إن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم، وهي لا تليق إلا بمن صدر عنه غاية الإنعام، وأعظم وجوه الإنعام: الحياة التي تفيد المكنة [11] من الانتفاع، وإليها الإشارة: )وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا (9)( (مريم)، وقوله تعالى: )كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم( (البقرة: 28)، وخلق ما ينتفع به من الأشياء وإليها الإشارة بقوله تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا( (البقرة: 29).

 

إن الله - عز وجل - لا تنفعه عبادة من عبده ولا يضره إعراض من صد عنه، ولا يزيد ملكه حمد الحامدين، ولا ينقصه جحود الجاحدين، فهو الغني ونحن الفقراء، وهو الودود الكريم، والبر الرحيم، الذي لا يأمرنا إلا بما فيه خيرنا وصلاحنا نحن المخلوقين، فضلا عن حقه - عز وجل - في أن يفرض علينا ما يشاء، ويكلفنا ما يريد بحكم خلقه لنا وإنعامه علينا، وبحكم عبوديتنا الطبيعية له سبحانه[12].

 

يضاف إلى ذلك أن العبادة غذاء الروح، ذلك الجوهر النفيس الذي صار به الإنسان إنسانا مكرما سيدا على ما فوق الأرض من كائنات؛ فلا يجد حياته وزكاته إلا في مناجاة الله، وعبادة الله هي التي توفر لهذا الروح غذاءه ونماءه، وتمده بمدد يومي لا ينفد ولا يغيض [13]، لذا فإن القلب الإنساني دائم الشعور بالحاجة إلى الله - عز وجل - وهو شعور أصيل صادق لا يملأ فراغه شىء في الوجود إلا حسن الصلة برب الوجود، وهذا ما تقوم به العبادة، إذا أديت على وجهها، فالقلب فيه فقر ذاتي إلى ربه - بالفطرة - من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والمتعة والسكون والطمأنينة[14].

 

قال ابن القيم: إنه لا شىء أحب إلى القلوب من خالقها وفاطرها؛ فهو إلهها ومعبودها، ووليها ومولاها، وربها ومدبرها ورازقها، ومميتها ومحييها، فمحبته نعيم النفوس وحياة الأرواح، وسرور النفوس وقوت القلوب، ونور العقول وقرة العيون وعمارة الباطن.

 

فليس عند القلوب السليمة والأرواح الطيبة، والعقول الذكية أحلى ولا ألذ، ولا أطيب، ولا أسر، ولا أنعم من محبته والأنس به، والشوق إلى لقائه، والحلاوة التي يجدها المؤمن في قلبه بذلك فوق كل حلاوة، والنعيم الذي يحصل له بذلك أتم من كل نعيم، واللذة التي تناله أعلى من كل لذة، كما أخبر بعض الواجدين عن حاله فيقول: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول فيها: إن كان أهل الجنة في مثل هذا، فإنهم لفي عيش طيب، وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يهتز فيها طربا بأنسه بالله وحبه له، وقال آخر: مساكين أهل الغفلة! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما بها، فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والأنس به، ومثل هذا ما قاله الآخر: أطيب ما في الدنيا معرفته ومحبته، وأطيب ما في الآخرة رؤيته وسماع كلامه بلا واسطة.

 

وقال آخر - من أهل معرفة الله وطاعته -: لو علم الملوك وأبناء الملوك، ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف! ووجدان هذه الأمور وذوقها هو بحسب قوة المحبة وضعفها، وبحسب إدراك جمال المحبوب والقرب منه، وكلما كانت المحبة أكمل، وإدراك المحبوب أتم، والقرب منه أوفر، كانت الحلاوة واللذة والسرور والنعيم أقوى.

 

وبهذا نتبين أن الذي يذوق طعم الإيمان الحق، وتزهر في قلبه مصابيح اليقين، لا ينظر إلى العبادة على أنها مجرد خضوع أو "تنفيذ أوامر" فحسب، إنه يجد فيها تلذذا بمناجاة الله وطاعته، والسعي في مرضاته، ويجد فيها سعادة لا تدانيها سعادة أصحاب القصور والقناطير المقنطرة [15] من الذهب والفضة، وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظر فريضة الصلاة انتظار الظمآن اللهف إلى شربة الماء العذب الزلال [16]، ويهرع [17] إليها كما يهرع السائر في الصحراء إلى الواحة الخضراء.

 

وكان يقول لبلال - في شوق ولهفة - إذا حان وقتها:«قم يا بلال فأرحنا بالصلاة»[18].

 

وقالت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: «كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدثنا ونحدثه، فإذا حضرت الصلاة فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه»، فلا عجب أن يقول صلى الله عليه وسلم: «جعلت قرة عينى[19] في الصلاة»[20].

 

إن العجز في الإنسان وحاجته إلى قوة جبارة تنقذه من المهالك، وتعينه وقت الشدة، ويستغيث بها وقت الضيق، فتنجده وتخرجه من المآزق، وتقدم له العون عند الحاجة، هذا العجز موجود في كل نفس، ويلمسه الإنسان في نفسه، ويسمعه من غيره.

 

سأل رجل الإمام جعفرا الصادق عن الله، فقال: ألم تركب البحر؟ قال: بلى، قال: فهل حدث لك مرة أن هاجت بكم الريح عاصفة؟ قال: نعم، قال: فهل خطر في بالك واتضح في نفسك أن هناك من يستطيع أن ينجيك إن شاء؟ قال: نعم، قال: فذلك هو الله.

 

هذا الشعور النفسي بوجود المنقذ من الهلاك، والمنجي من الهم والغم، والحزن والكرب، إما أن يبقى مع الإنسان فيكون مؤمنا، وإما أن يتنكر له ويجحد هذا الفضل، ويعرض عن ربه، فيكون كافرا وملحدا وضالا، وقد صور القرآن الكريم في آيات كثيرة ومواطن مختلفة هذه النماذج من النفوس:

 

قال تعالى: )هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (22) فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون (23)( (يونس)، وقال تعالى: )وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا (67)( (الإسراء)، وقال تعالى: )وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله( (الزمر: 8)، وقال تعالى: )وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون (53) ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون (54) ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون (55) ويجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون (56)( (النحل).

 

وقال تعالى: )أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون (62) أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون (63)( (النمل)، وقال تعالى: )قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر تدعونه تضرعا وخفية لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين (63) قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون (64)( (الأنعام)، هذه الآيات الكريمة تكشف هذا الإحساس النفسي الباطني عن عجز الإنسان، وتذكر بعض الصور الدقيقة التي لا مهرب منها لكل فرد من إقراره بالعجز، والتجائه إلى القوى الغيبية الخالقة المبدعة التي تتصرف بالكون، يلجأ إليها لتنقذه من المهالك، ويستنجد بها في أحلك الظروف للنجاة، ويعطي الوعود والعهود بالتوبة والإنابة والطاعة والخضوع، ثم لا يلبث أن ينسى حاله، وينقض وعده، ويتيه في غيه وضلاله إلا من رحم ربك، وأعمل عقله، واحترم نفسه، وفكر في ماضيه وحاضره ومستقبله، فهو على العهد باق، وبالعقيدة والإيمان بالله ملتزم.

 

يقول محمد قطب: "يحس الإنسان بالعجز إزاء الكيان الكوني من حوله، يبدأ العجز من لحظة الميلاد ويستمر إلى لحظة الموت، ولا ينقطع فيما بين الميلاد والموت، وإن كان يأخذ صورا مختلفة من كل سن، وكل طور من أطوار النمو الجسمي والنفسي، ويظل يكبر ويكبر معه العجز حتى يستوي على أشده، وما يزال يحس بالعجز في أكبر مجالاته، العجز عن تحقيق كل ما يريد تحقيقه، والعجز عن معرفة كل ما يريد معرفته، والعجز عن السيطرة على كل ما يريد السيطرة عليه"[21].

 

وهكذا يتضح أن المفهوم الصحيح للعبادة في الإسلام يشمل كل جوانب الحياة وأن الإنسان عابد بفطرته، فينبغي عليه ألا يخضع إلا لمن يستحق هذا الخضوع، وينأى بنفسه عن الخضوع لمن لا يملك له ضرا ولا نفعا، وينقى نفسه من الأهواء، وبهذا يطمئن فؤاده ويزكو عقله ويحمي روحه كما تحيا الأحياء بالماء، فكيف يدعي هؤلاء بعد ذلك أن العلاقة بين العبد وربه علاقة خضوع ومذلة؟ إنه العجز عن الإنصاف وسوء الفهم وخبث الطوية، كما أنه حرمان من لذة العبادة ونعيمها"، ويقول د. يوسف القرضاوى: "وللمستشرقين في كل جانب من جوانب الإسلام، وفي كل فرع من فروع المعرفة الإسلامية، دعاو عريضة دفع إليها أحد أمرين أو كلاهما:

 

الأول: سوء الفهم لدين الإسلام، ولغته التي نزل بها كتابه وجاءت بها أحاديث نبيه، وكتبت بها مؤلفات علمائه، وهم لعجمتهم وغربتهم عنها لا يتذوقونها، ولا يدركون أسرار تعبيرها وتنوع دلالاتها.

 

الثانى: سوء النية والقصد إلى البحث عن عورات يشنعون بها، ونقاط ضعف يسوغون بها ما يعتقدونه من دعوى بشرية القرآن، وعدم صدق نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - فهم يقرءون تراثنا ويدرسونه بروح المتعصب الباحث عن المطاعن، لا بروح الباحث عن الحق.

 

فهم قد كونوا فكرة سابقة عن الإسلام وكتابه ونبيه ورجاله وتاريخه، وهمهم في دراسة تراث الإسلام أن يعثروا على أدلة توافق فكرتهم، فإن لم يجدوا الأدلة - كما هو الواقع - تصيدوا الشبهات، فإن أعيتهم الشبهات لفقوا من المصادر الضعيفة، والأقوال المردودة، والروايات المنكرة ما يشوشون به ويبهرجون[22].

 

ومن ذلك ما ذكره بعضهم عن عبادة المسلمين، وأنها تقوم على الخوف والخضوع وحده، ولا مجال لحب الله تعالى، وأن الله في تصور المسلمين إله قهر وجبروت لا إله رحمة وحب.

 

ويزعمون أن المسلمين لم يعرفوا عنصر الحب في صلتهم بالله تعالى، إلا بعد انتشار التصوف الذي اقتبس هذا العنصر من مصادر أجنبية عن الإسلام. ولو أنصف هؤلاء ورجعوا إلى نصوص القرآن والسنة، وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسير الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبعهم بإحسان، بل لو حللوا معنى العبادة - لغة - كما فعل ابن تيمية - لكفوا عن هذا اللغو، وعلموا أن العبادة في الإسلام تعنى: غاية الخضوع لله مع غاية الحب له.

 

والمتصوفة لم يستمدوا حب الله - عز وجل - من خارج الإسلام، وإنما التفتوا إليه ونموه وعمقوه من مصادر الإسلام الأصلية: الكتاب والسنة، وما حاجة الصادقين من أهل الذوق والوجدان الروحي - الصوفي - إلى اقتباس الحب من مصدر أجنبي عن الإسلام، ونصوصه المحكمة في هذا الأمر أمام أعينهم بينة واضحة وكافية شافية؟

 

يكفى أن نذكر هنا ما كتبه الإمام الغزالى في بيان شواهد الشرع في حب العبد لله - عز وجل - في كتاب "المحبة" من "إحيائه" لنعلم من أي ينبوع استقى الصوفية المعتدلون فكرة "الحب الإلهي" قال: "اعلم أن الأمة مجمعة على أن الحب لله عز وجل ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - فرض، وكيف يفرض ما لا وجود له؟ وكيف يفسر الحب بالطاعة، والطاعة تبع الحب وثمرته؟ فلا بد أن يتقدم الحب، ثم بعد ذلك يطيع من أحب. ويدل على إثبات الحب لله - عز وجل - قوله عز وجل: )يحبهم( (المائدة: ٥٤)، وقوله تعالى: )والذين آمنوا أشد حبا لله( (البقرة: ١٦٥)، وهو دليل على إثبات الحب وإثبات التفاوت فيه.

 

 وقدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحب لله من شرط من الإيمان في أخبار كثيرة، ومنها حديث: «ثلاث من كد فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليك مما سواهما»[23].

 

وفي حديث آخر: «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله، والناس أجمعين»[24]. وفي رواية عمر بن الخطاب: «أحب إليك من نفسك»[25].

 

قال تعالى: )قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين (24)( (التوبة) وإنما أجرى ذلك في معرض التهديد والإنكار. وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمحبة كما سلف في الحديث السابق.

 

وجاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «يا رسول الله.. متى الساعة؟ قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شىء، إلا أنني أحب الله ورسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت مع من أحببت". قال أنس: فما فرحنا بشىء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس: فأنا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم»[26].

 

فهذه هي حقيقة العبادة في الإسلام: إنها معنى مركب من عنصرين: غاية الخضوع لله تعالى، مع غاية المحبة له سبحانه.

 

ثالثا. لم يعرف الإسلام - على مدى تاريخه - ظاهرة الكهنة أو رجال الدين الذين يحتكرون العلم بالله وبمراده:

 

 قد زعموا أن الإسلام لم يحرر الإنسان من عبودية البشر تحريرا كاملا؛ إذ أسلمهم إلى عبودية كهنة النصوص، وهذه فرية عظيمة يقدمها العلمانيون[27] ضد الإسلام، فيها خلط للأوراق، ومجافاة للحقيقة، فهم يخلطون بين تعاليم الإسلام الواضحة في تحرير الإنسان من عبوديتة للإنسان ولغير الله - عز وجل - عامة، والتي يطلقون عليها وصف "عبودية كهنة النصوص".

 

وهي أظهر ما تكون عند رجال الدين الكنسي، مما جعل الغرب يتمرد على الكنيسة في أشكال متعددة، والعلمانيون يعلمون أن الإسلام لا يعرف الكهانة، وليس فيه أو فيما ورد من نصوصه أسرار يحتكرها رجال الدين، وليس لأحد من العباد مهما كان سلطانه أن يحتكر لنفسه الحق، ويفرضه على الآخرين.

 

والقرآن الكريم خلد [28] المرأة التي جادلت النبي - صلى الله عليه وسلم - واشتكت أمرها إلى الله بسورة سميت باسمها، وصدرت آياتها بسماع الله شكواها ومجادلتها النبى: )قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير (1)( (المجادلة).

 

وتطبيقات النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وخلفائه تمتلئ بهذه الروح الإسلامية التي لا تستغل النصوص للحجر على إرادة، أو رأى، أو فكر.

 

مميزات العبادة في الإسلام:

 

  1. تحرير العبادة من رق الكهنوت:

 

 لقد أفسد الناس الأديان التي أنزلها الله لتسمو بهم فهبطوا هم بها! والعجب أن فسادها كان من رجال الأديان أنفسهم، لقد جعلوا من أنفسهم حجابا على باب الله الفسيح، مهمتهم أن يمنعوا الناس الاتصال المباشر به أو التقرب المباشر إليه، إنهم احتكروا لأنفسهم الصلة به والقرب منه، ووجدوها بضاعة رائجة وسلعة تشتد الحاجة إليها، فبالغوا في احتكارها وإغلاء أسعارها.

 

ومن ثم قيدوا العبادات بوسيط معين، يقوم بعملية السمسرة بين الله وعباده، وقيدوها بمراسم وطقوس كهنوتية لا تقبل بدونها، وكل هذا يحتاج إلى إتاوات تبذل، وجعالات تدفع للأحبار والكهنة المحتكرين لهذا الصنف من العلاقات!

 

رجال الكهنوت في العصور الوسطى:

 

وقد بالغ رجال الدين المسيحي بالغرب في العصور الوسطى في فرض هذه المظاهر الكهنوتية، فعلقوا في معابدهم رسوما وتماثيل للعذراء والمسيح، وأيقونات[29] ونحوها، وعدت الكنيسة ذلك شعائر تعبدية واجبة التقديس.

 

وكان أعجب ما صنعوه أنهم اتخذوا من الجنة مصدرا للثروة يبيعون منها قراريط وأسهما لمن يدفع الثمن المعلوم، وعلى قدر المدفوع يكون عدد الأسهم، ومن الطرائف اللاذعة ما حكوا أن أحد أثرياء اليهود أراد أن يقابل هذه السخريات العجيبة بسخرية أمر وأعجب، فقد ذهب إلى أحد البابوات[30] ولم يشتر منه الجنة، كما كان يفعل المسيحيون، ولكنه اشترى منه صفقة أخرى هي جهنم، فباعها له بثمن بخس[31]؛ لأنها سلعة لا يرغب فيها أحد، ولكن اليهودي الماكر أعلن للمسيحيين جميعا: ألا يبالوا بشراء الجنة بعد اليوم؛ لأنه هو قد اشترى من البابا جهنم، ولن يدخل أحدا فيها!! قالوا: فعاد البابا واشتراها بأضعاف ما باعها به!

 

والرؤساء الروحانيون في المسيحية يزعمون أن لهم سلطة المنح والمنع، والغفران والحرمان، والإدخال في رحمة الله والطرد منها؛ لأن المسيح قال لبعض تلاميذه: "وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطا في السماوات. وكل ما تحله على الأرض يكون محلولا في السماوات". (متى 16: 19).

 

  1. تحرير العبادة من قيود المكان:

 

أما الإسلام فكان له شأن آخر في تقرير الصلة بالله والعبادة له؛ فلقد حرر الإسلام العبادة من قيود الوساطة والمكان، وكل مظاهر العبودية للكهنوت، فالأرض كلها محراب كبير للمسلم، فحيثما توجه يستطيع أن يتجه بعبادته إلى الله، وفي هذا يقول القرآن الكريم )ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله( (البقرة: 115). ويقول الرسول الكريم في بيان الخصائص التي أعطيتها أمته ولم تعطها أمة قبلها: «وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل»[32].

 

وقد كانت هذه الخصيصة للعبادة الإسلامية موضع الإعجاب العظيم، والتأثير البالغ من كثيرين من غير المسلمين، حتى من رجال الأديان أنفسهم، حتى قال أحدهم - وهو أسقف "لوفروا": "لا يستطيع أحد خالط المسلمين لأول مرة ألا يدهش ويتأثر بمظهر عقيدتهم، فإنك حيثما كنت - سواء أوجدت في شارع مطروق، أو محطة سكة حديدية أم في حقل - كان أكثر ما تألف عينك مشاهدته أن ترى رجلا ليس عليه أدنى مسحة[33] للرياء، ولا أقل شائبة من حب الظهور، يذر عمله الذي يشغله كائنا ما كان، وينطلق في سكون وتواضع لأداء صلاته في وقتها المعين".

 

ولقد كان هذا المشهد الفريد في الأديان أحد العوامل التي أثرت في وجدان المحامي الكبير زكي عريبي عميد الطائفة اليهودية في مصر، والذي اهتدى إلى الإسلام في عام 1960م. ومما جاء في محاضرته "لماذا أسلمت؟" قوله: "وما سمعت المؤذن يؤذن في الفجر، أو في الظهر، أو في أي وقت آخر إلا شعرت بأن صوت المؤذن الذي ينبعث من الأفق من فوق المئذنة، شعرت بأنه صوت الله، الذي يفصل بين الحق والباطل، والحلال والحرام، ويهدي الإنسان إلى الطريق المستقيم، وأركب السيارة في السفر، وعلى الطريق بين الحقول وبين الفضاء تقع عيني على رجل متواضع يقف بين يدي الله في ثياب رثة[34] مهلهلة، يقف على مصلى صغير، مفروش بالرقيق من الحصير على شاطئ ترعة متواضعة أيضا.. يقف الرجل يصلي لله في خشوع وابتهال، فكانت نفسي تهفو إلى أن أصلي مثل صلاته، كنت أعتقد أن هذه نفحات الله في الأرض يلقيها في نفوس عباده الصالحين".

 

حرر الإسلام العبادة من القيود المكانية المتزمتة، ولم يشترط المكان الخاص في عبادة من عباداته إلا في الحج؛ لما فيه من فوائد عظيمة تفوق فائدة التحرر من المكان، من التجمع العالمي للمسلمين حول أول بيت وضع في الأرض للناس، وفي أرض الذكريات الإبراهيمية والذكريات المحمدية.

 

  1. تحرير الضمير من قيود الوساطة في العبادة:

 

ومع اشتراط المكان لعبادة الحج، فليس فيه أي شائبة لتأثير الكهنوت، وليس فيه أي ثغرة لتدخل الوسطاء والكهان بين المسلم وبين الله، شأنه في ذلك شأنه في سائر عبادات الإسلام.

 

يقول العقاد: إن عبادات الإسلام قد امتازت بين عبادات الأديان بمزية لا نظير لها، فهي أرفعها وأرقاها، بالنظر إلى حقيقتها، أو بالنظر إلى جماهير المتدينين بها، وتلك مزيته البينة التي يرعى بها استقلال الفرد في مسائل الضمير خير رعاية تتحقق لها في نظام حياة، فالعبادات الإسلامية بأجمعها تكليف لضمير الإنسان وحده، لا يتوقف على توسيط هيكل أو تقريب كهانة.

 

يصلي حيث أدركه موعد الصلاة، وأينما تكونوا فثم وجه الله، ويصوم ويفطر في داره أو في موطن عمله، ويحج ليذهب إلى بيت لا سلطان فيه لأصحاب سدانة، ولا حق عنده لأحد في قربانه، غير حق المساكين والمعوزين[35]، ويذهب إلى صلاة الجماعة، فلا تتقيد صلاته الجامعة بمراسم كهانة أو إتاوة محراب، ويؤمه في هذه الصلاة الجامعة من هو أهل للإمامة بين الحاضرين باختيارهم لساعتهم إن لم يكن معروفا عندهم قبل ذلك، إنه الدين الذي نتعلم فيه أن الإنسان مخلوق مكلف، لا جرم تقوم عباداته على رعاية حق الضمير واستقلاله بمشيئته أكرم رعاية.

 

إن عقيدة المسلم في الله لا تتيح مكانا لأولئك الوسطاء الذين يتحكمون في ضمائر عباد الله[36].

 

فاعتقاد المسلم في الله يقوم على حقيقتين:

 

الأولى: الله فوق عباده: علوا، وقهرا، وسلطانا، وتصرفا، لا يشبهه شىء، ولا يحكم عليه شىء، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد: )وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير (18)( (الأنعام)، )ليس كمثله شيء وهو السميع البصير (11)( (الشورى). والخلق جميعا في قبضته لا يملكون لأنفسهم - فضلا عن غيرهم - ضرا ولا نفعا، ولا موتا ولا حياة، ولا نشورا.

 

الثانية: الله مع عباده: أنه تعالى - مع عظمته وعلو شأنه - قريب من خلقه، بل هو معهم أينما كانوا، في جلوتهم وفي خلوتهم، يسمع ويرى ويرعى ويهدي، يعطي من سأله ويجيب من دعاه فهو تعالى قريب في علوه، علي في دنوه، )هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير (4)( (الحديد).

 

وقد عبر القرآن على لسان إبراهيم - أبي الأنبياء - عن العلاقة بين الإنسان والله - عز وجل - فقال: )الذي خلقني فهو يهدين (78) والذي هو يطعمني ويسقين (79) وإذا مرضت فهو يشفين (80) والذي يميتني ثم يحيين (81) والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين (82)( (الشعراء) [37].

 

وروى المفسرون أن رجلا جاء يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل القرآن يجيب عن هذا السؤال: )وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان( (البقرة: 186).

 

ومن اللطائف في هذه الآية: أن سؤال الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن بعض الأمور قد وقع في القرآن بضع عشرة مرة، وكان كل جواب عن تلك الأسئلة مقترنا بكلمة "قل"، أما في هذه الآية فكانت الإجابة مباشرة "فإني قريب" ولهذا الأسلوب دلالته وإيحاؤه في الأنفس والعقول؛ إذ لم يجعل الله واسطة بينه وبين عباده، وكأنه قال لرسوله: لا تبلغهم أنت عني، كما تبلغ في أسئلة الأحكام، ولكني أقول لهم: إني قريب. ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يجهرون بالدعاء قال لهم: «اربعوا على أنفسكم[38]، إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، ولكن تدعون سميعا قريبا»[39].

 

الخلاصة:

 

  • العبادة في الإسلام اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، وهي تشمل كل مناحي الحياة، وليست الشعائر والمناسك التعبدية فقط؛ ومن ثم كانت العبادة في الإسلام غاية الوجود الإنساني كله، وصارت في وجدان المسلم بمثابة غذاء الروح وقوت القلوب وزكاة العقول.

 

  • إن الإنسان عابد بفطرته، وإن خضوعه لربه يخلصه من الخضوع لغيره ويحرره من المذلة لمن لا يستحقها مما هو سوى الله؛ لذا كانت علاقة المسلم بربه علاقة الموهوب بالواهب، المنعم عليه بصاحب النعم، الفقير المحتاج بالغنى الجواد، المضطر المكروب بالمنقذ من الهلاك والمنجي من السوء، فكيف يكون كنه علاقة هذه أواصرها؟ ألا تستحق أن توصف بأنها علاقة رضى وحب ورغبة؟ وهل يعيبها أن يصحبها مع الحب والرغبة تضرع وخضوع ورهبة؟ أليس في الذل والخضوع لمن يستحقه كمال العزة وتمام الكرامة؟ أم أن الكرامة في الخضوع لمن لا يستحقه؟!

 

  • من أجل ذلك فإن الإسلام حرر المسلم من عبوديته غير الله، فلا كهانة ولا وساطة في الإسلام، ولا استبداد أو حجر على إرادة أو فكر، وذلك كله ما قد عرفته ديانات أخرى، ولم يعرف تاريخ الإسلام - على طوله - منه شيئا.

 

 

 

 

(*) العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416هـ/ 1995م.

 

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن (4086)، وفي مواضع أخرى.

 

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف (2376).

 

[3]. مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط9، 1418هـ/ 1997م، ص180.

 

[4]. أخرجــه البخـاري في صحيحــه، كتـاب المظالـم، بـاب النهـي بغيـر إذن صاحبــه (2343)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية (211).

 

[5]. الخميصة: ثوب أسود أو أحمر له أعلام.

 

[6]. انتكس: انقلب على رأسه، وهو دعاء عليه بالخيبة؛ لأن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر.

 

[7]. شيك: دخل في جسمه شوكة.

 

[8]. فلا انتقش: أي: إن دخلت فيه شوكة فلا أخرجها من موضعها، وهذا دعاء عليه أيضا.

 

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب الحراسة في الغزو في سبيل الله (273).

 

[10]. مفاهيم ينبغي أن تصحح، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط9، 1418هـ/ 1997م، ص173.

 

[11]. المكنة: القدرة والاستطاعة.

 

[12]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416هـ/1995م، ص95.

 

[13]. يغيض: ينقص.

 

[14]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416هـ/1995م، ص97.

 

[15]. القناطير المقنطرة: الكثيرة المكدسة، والقناطير: جمع قنطار، وهو معيار يختلف وزنه حسب الأمكنة والأزمنة.

 

[16]. الماء الزلال: الصافي السهل المرور في الحلق.

 

[17]. هرع: أسرع.

 

[18]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، باقي مسند الأنصار، أحاديث رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (23202)، وأبو داود في سننه، كتاب الأدب، باب في صلاة العتمة (4988)، وصححه الألباني في المشكاة (1253).

 

[19]. قرة عيني: سعادة نفسي.

 

[20]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند المكثرين من الصحابة، مسند أنس بن مالك رضي الله عنه (12315)، والنسائي في المجتبى، كتاب عشرة النساء، باب حب النساء (3939)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (3124).

 

[21]. وظيفة الدين في الحياة وحاجة الناس إليه، د. محمد الزحيلي، جمعية الدعوة الإسلامية العالمية، طرابلس، ط2، 1428هـ/ 1999م، ص35 وما بعدها.

 

[22]. يبهرجون: يزيفون.

 

[23]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان (16)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان (174).

 

[24]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب حب الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإيمان (15)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب وجوب محبة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر من الأهل والولد والوالد (178).

 

[25]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان والنذر، باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم (6257)، وفي موضع آخر.

 

[26]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3485)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والآداب، باب المرء مع من أحب (6878).

 

[27]. العلماني: اسم منسوب إلى علم، على غير قياس، بمعنى: عالم، غير ديني يعني بشئون الدنيا فقط ويعتقد بفصل الدين عن الدولة.

 

[28]. خلد: بال أو نفس.

 

[29]. أيقونات: جمع أيقونة، وهي صورة أو تمثال مصغر لشخصية دينية، يقصد بها التبرك.

 

[30]. البابوات: جمع البابا، وهو الرئيس الأعلى للكنيسة.

 

[31]. بخس: زهيد، ناقص القيمة.

 

[32]. أخرجه البخاري في صحيحه، أبواب المساجد، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" (427)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، أوائل كتاب المساجد ومواضع الصلاة (1191).

 

[33]. المسحة: الأثر الظاهر.

 

[34]. الثياب الرثة: البالية.

 

[35]. المعوزين: جمع المعوز، وهو الفقير.

 

[36]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416هـ/1995م، ص153: 157.

 

[37]. العبادة في الإسلام، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط24، 1416هـ/1995م، ص158.

 

[38]. اربعوا على أنفسكم: ارفقوا بها.

 

[39]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما يكره من رفع الصوت في التكبير (2830)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب استحباب خفض الصوت بالفكر (7037).

  • الاثنين AM 05:02
    2020-11-23
  • 5313
Powered by: GateGold