المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409064
يتصفح الموقع حاليا : 236

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن قلة مرويات الخلفاء الراشدين دليل على إهمالهم السنة

ادعاء أن قلة مرويات الخلفاء الراشدين دليل على إهمالهم السنة(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن الخلفاء الراشدين أهملوا السنة النبوية، ويستدلون على ذلك بقلة مروياتهم رغم طول ملازمتهم للنبي - صلى الله عليه وسلم - زاعمين أنهم - رضي الله عنهم - انصرفوا عن حفظ الحديث، بل إنهم كانوا لا يروون ما حفظوه كغيرهم من الصحابة الآخرين.

وجها إبطال الشبهة:

1) الخلفاء الراشدون لم يألوا جهدا في الحفاظ على السنة والاهتمام بها، وإذا سلمنا بقلة مروياتهم فإن السبب في ذلك هو تهيب رواية السنة حتى لا يجترئ عليها من ليس أهلا لروايتها، فيزيد فيها ما ليس منها.

2) إن مرويات الخلفاء الراشدين ليست قليلة، فقد امتلأت دواوين السنة بمروياتهم، وقد بلغت في مسند أحمد على سبيل المثال أكثر من ألف وثلاثمائة رواية، فضلا عما روي عنهم في المسانيد وكتب السنة الأخرى.

التفصيل:

أولا. دور الخلفاء الراشدين في الحفاظ على السنة والاهتمام بها:

إن رواية الخلفاء الراشدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليست قليلة إلا إذا قورنت فقط بروايات غيرهم من الصحابة المكثرين كالعبادلة وأبي هريرة، وإلا فهي كثيرة جاءت على وجه الفتوى في الأعم الأغلب.

يؤكد هذا التقي الغزي صاحب "الطبقات السنية في تراجم الحنفية" في دفاعه عن أبي حنيفة، إذ يقول: "وهذا لا يدل على أن ما كان يرويه عن غيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قليلا؛ لأن صاحب المقالة والمذهب إذا انتهى إليه الخبر أخذ حكمه المشتمل عليه فدونه وأثبته عنده، وجعله أصلا ليقيس عليه نظائره، فمرة يفتي بحكمه، ولا يروي الخبر، فيخرجه على وجه الفتوى، فيقف لفظ الخبر، وينقطع عنده، وكذا فعل أكثر فقهاء الصحابة، كالخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وزيد، وغيرهما من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم.

ويدلك على هذا أن الخلفاء الأربعة صحبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مبعثه إلى وفاته، وكانوا لا يكادون يفارقونه في سفر ولا حضر، وكذلك حذيفة بن اليمان، وعبد الله بن مسعود، وعمار بن ياسر؛ وأبو هريرة أكثر رواية منهم، وإنما صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمع أكثر مما سمع هؤلاء، أو شاهد أكثر مما شاهد هؤلاء، وقد روى الناس عنه أكثر مما رووا عنهم.

وإنما كان ذلك كذلك؛ لأن الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - كانوا فقهاء الصحابة، وكانوا أصحاب مقالات ومذاهب، وكذلك عبد الله بن مسعود، وكانوا يفتون بكل علم صدر عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو عن فعله، فيخرجونه على وجه الفتوى ولا يروونه، وربما رواه البعض منهم عند احتياجه إلى الاحتجاج به على غيره ممن خالفه من نظرائه"([1]).

هذا هو السبب في قلة رواية الخلفاء الراشدين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قورنت بروايات المكثرين من الصحابة، يضاف إلى ذلك أسباب أخرى كانشغالهم بأمور الخلافة وغيرها من مسائل الفتوحات والجهاد... إلخ.

إذن فالخلفاء الراشدون لم يهملوا السنة فحاشاهم؛ بل كانوا يتحرون في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا أول الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - يقول: "أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن ما لا أعلم"([2]). وينفي هذا الزعم أيضا ما كان يفعله عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من تناوب النزول إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وجار له من الأنصار لمعرفة ما نزل من الوحي، فقد روى البخاري عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية بن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من الوحي وغيره، وإذا نزل فعل مثل ذلك...»([3]).

ففي هذا دليل على اهتمامهم بأخبار الوحي (قرآنا وسنة) أولا بأول.

فلم تكن مروياتهم قليلة إلا إذا قورنت بمرويات المكثرين فقط، ولهم في ذلك العذر أيضا؛ فقد كانت رواية الحديث النبوي تتطلب أشياء كثيرة، منها: التفرغ، فقلت مروياتهم لهذا السبب، والخلفاء الراشدون - كما نعلم - كانت تقوم على كواهلهم الكثير من المهام والمسئوليات الجسام.

ولقد عرف الصحابة والخلفاء الراشدون منزلة السنة فتمسكوا بها، وتتبعوا آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأبوا أن يخالفوها متى ثبتت عندهم، واحتاطوا في رواية الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - خشية الوقوع في الخطأ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة المطهرة الكذب أو التحريف، وهي المصدر التشريعي الأول بعد القرآن الكريم، ولهذا اتبعوا كل سبيل يحفظ على الحديث نوره، فآثروا الاعتدال في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بل إن بعضهم فضل الإقلال منها.

يقول في ذلك ابن قتيبة: "كان عمر شديد الإنكار على من أكثر من الرواية، أو أتي بخبر في الحكم لا شاهد له عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية، يريد بذلك ألا يتسع الناس فيها، ويدخلها الشوب، أو يقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي، وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس بن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة"([4]).

والتزم الصحابة منهاج أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأتقنوا أداء الحديث، وضبطوا حروفه ومعناه، وكانوا يخشون كثيرا أن يقعوا في الخطأ؛ لذلك نرى بعضهم - مع كثرة تحملهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم - لا يكثر من الرواية في ذلك العهد، حتى إن منهم من كان لا يحدث حديثا في السنة، ونرى من تأخذه الرعدة، ويقشعر جلده، ويتغير لونه ورعا واحتراما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا، ما رواه عمرو بن ميمون قال: «ما أخطأني ابن مسعود عشية خميس إلا أتيته فيه، قال: فما سمعته يقول بشيء قط: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما كان ذات عشية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فنكس، قال: فنظرت إليه، فهو قائم محللة أزرار قميصه، قد اغرورقت عيناه، وانتفخت أوداجه، قال: أو دون ذلك، أو فوق ذلك، أو قريبا من ذلك، أو شبيها بذلك»([5]).

وعن أنس بن مالك أنه قال: «إنه ليمنعني أن أحدثكم حديثا كثيرا، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تعمد علي كذبا، فليتبوأ مقعده من النار»([6]).

وهكذا تشدد الصحابة في الحديث، وأمسك بعضهم عنه كراهية التحريف، أو الزيادة والنقصان في الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن كثرة الرواية كانت في نظر كثير منهم مظنة الوقوع في الخطأ، والكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الكذب؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»([7]). وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع»([8]).

وقد كان تشدد الصحابة هذا من أجل المحافظة على القرآن الكريم، بجانب المحافظة على السنة، فقد خشوا أن يشتغل الناس بالرواية عن القرآن الكريم، وهو دستور الإسلام، فأرادوا أن يحفظ المسلمون القرآن جيدا، ثم يعتنوا بالحديث الشريف الذي لم يكن قد دون كله في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالقرآن، فنهجوا لهم التثبت العلمي والإقلال من الرواية مخافة الوقوع في الخطأ، وقد عرفوا إتقان بعض الصحابة وحفظهم الجيد فسمحوا لهم بالتحديث.

فتلكم طريقة الصحابة ومنهجهم في المحافظة على حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خشية الوقوع في الخطأ، أو تسرب الدس إلى الحديث الشريف من الجهلاء وأصحاب الأهواء، أو أن تحمل بعض الأحاديث على غير وجه الحق والصواب، فيكون الحكم بخلاف ما أخذ به.

وهم قد فعلوا ذلك كله احتياطا للدين ورعاية لمصلحة المسلمين، لا زهدا في الحديث النبوي ولا تعطيلا له. فلا يجوز لإنسان أن يفهم من منهاج الصحابة - ومن تشدد عمر خاصة - هجر الصحابة للسنة أو زهدهم فيها، معاذ الله أن يقول هذا إلا جاهل أو صاحب هوى، فقد ثبت عن الصحابة جميعا تمسكهم بالحديث الشريف وإجلالهم إياه، وأخذهم به، وقد تواتر خبر اجتهاد الصحابة إذا وقعت لهم حادثة شرعية من حلال أو حرام، وفزعهم إلى كتاب الله تعالى، فإن وجدوا فيه ما يريدون تمسكوا به، وأجروا (حكم الحادثة) على مقتضاه، وإن لم يجدوا ما يطلبون فزعوا إلى السنة، فإن روي لهم خبر أخذوا به، ونزلوا على حكمه، وإن لم يجدوا الخبر فزعوا إلى الاجتهاد بالرأي([9]) المبني على أصول شرعية وردت بها النصوص.

وطريقة أبي بكر وعمر في الحكم مشهورة: كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع رؤساء الناس فاستشارهم([10])، وكان عمر - رضي الله عنه - يفعل ذلك، وكذلك عثمان وعلي، رضي الله عنهما.

هكذا كان منهج الصحابة جميعا في كل ما يرد عنهم، وليس لأحد بعد هذا أن يتخذ بعض ما ورد عن الصحابة ذريعة لهواه([11]).

ثانيا. كثرة مرويات الخلفاء الراشدين في كتب السنة:

بعد أن ذكرنا حرص الخلفاء الراشدين والصحابة جميعا على تحري الدقة في رواية السنة النبوية، وعدم رواية الحديث إلا إذا تيقنوا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - له، وأنه ليس كذبا عليه، فإن الخلفاء الراشدين الذين اتهموا بإهمالهم السنة وعدم روايتها قد ثبت لهم أحاديث كثيرة في كتب السنة تأكدوا من صحتها وصدورها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأحاديث موجودة في الصحيحين وغيرهما من كتب السنة، وهذا بيان مفصل لكل خليفة منهم:

  1. أبو بكر الصديق:

لقد روى أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ما يزيد عن ثمانين حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو المأخوذ من عدد الأحاديث التي رواها في مسند الإمام أحمد رحمه الله وروى عنه كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - كأنس بن مالك، وحذيفة بن اليمان، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم كثير([12])، والراجح أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان يحفظ من الأحاديث أضعاف هذا العدد، ولكنها لم ترو عنه؛ لأنه رأى غيره يرويها، ولأنه لم يكن له تلاميذ يأخذون عنه العلم كغيره؛ لانشغاله بأمور الخلافة والحكم، فاكتفى برواية غيره لها، وقد يرويها بعض الصحابة عنه مرسلة، إذ إنه كان من أعلم الصحابة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "اتفق علماء أهل السنة على أن أعلم الناس بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر ثم عمر، وقد ذكر غير واحد الإجماع على أن أبا بكر أعلم الصحابة كلهم، ودلائل ذلك مبسوطة في موضعها، فإنه لم يكن أحد يقضي ويخطب ويفتي بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا أبو بكر - رضي الله عنه - ولم يشتبه على الناس شيء من أمر دينهم إلا فصله أبو بكر، فإنهم شكوا في موت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبينه أبو بكر، ثم شكوا في مدفنه فبينه أبو بكر، ثم شكوا في قتال مانعي الزكاة فبينه أبو بكر، وبين لهم النص في قوله تعالى: )لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين( (الفتح: ٢٧)، وبين لهم أن عبدا خيره الله بين الدنيا والآخرة ونحو ذلك"([13]).

ولاشك أن هذا العلم عن حفظ وإتقان لنصوص الكتاب والسنة. وقال عنه الحافظ الذهبي: روى عنه خلق من الصحابة وقدماء التابعين، من آخرهم: أنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وقيس بن أبي حازم، ومرة الطيب([14]).

وعلى الرغم من أنه - رضي الله عنه - كان مهتما بأمور الخلافة، فإنه كان من أحرص الناس وأحفظهم لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعن عائشة رضي الله عنها «أن فاطمة والعباس رضي الله عنهما أتيا أبا بكر يلتمسان ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهما حينئذ يطلبان أرضه من فدك، وسهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا نورث، ما تركناه صدقة، وإنما يأكل آل محمد - صلى الله عليه وسلم - في هذا المال، وإني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنعه فيه إلا صنعته»([15]).

ومما يدل على مدى حفظه - رضي الله عنه - للسنة وعنايته بها، والتزامه بما سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - ما رواه قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر - رضي الله عنه - «أنه كان يخطب فقال: يا أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها على غير ما وضعها الله: )يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم( (المائدة: ١٠٥)، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر بينهم فلم ينكروه، يوشك أن يعمهم الله بعقابه»([16]).

إن هذه الأحاديث التي يرويها أبو بكر - رضي الله عنه - قد لا يحفظها أحد غيره من الصحابة؛ لذلك فإنه يذكر بها من جاء يستفتيه أو يطلب منه شيئا في حكم من أحكام الشريعة. فهل بعد هذا يأتي من يشكك في حفظ أبي بكر - رضي الله عنه - للسنة والعمل بها، ويدعي أنه أهملها؟!

  1. عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

لقد كان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من رواة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أخرج له الإمام أحمد ما يزيد عن ثلاثمائة حديث في مسنده، وقد روى عنه كثير من الصحابة وكبار التابعين أمثال: علي، وابن مسعود، وابن عباس، وأبو هريرة، وعدة من الصحابة وعلقمة بن وقاص، وقيس بن أبي حازم، وطارق بن شهاب، ومولاه أسلم، وزر بن حبيش، وخلق سواهم([17])، وقد ذكر صاحب كتاب "تهذيب الكمال في أسماء الرجال" أكثر من مائة وعشرين رووا عنه - رضي الله عنه - من الصحابة والتابعين([18]).

ومما يدل على حفظ عمر - رضي الله عنه - وعنايته بالسنة، واتباعه لها ما رواه مالك بن أوس قال: «سمعت عمر يقول لعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد: نشدتكم بالله الذي تقوم السماء والأرض به، أعلمتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنا لا نورث ما تركناه صدقة؟ قالوا: اللهم نعم»([19]).

ومما يؤكد قوة ذاكرته وشدة حفظه لما سمعه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه عمران السلمي قال: «سألت ابن عباس عن النبيذ، فقال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نبيذ الجر والدباء، فلقيت ابن عمر فسألته، فأخبرني - فيما أظن عن عمر - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن نبيذ الجر والدباء...»([20]).

وعلى الرغم من قوة ذاكرة عمر - رضي الله عنه - فإنه كان يتثبت في قبول الأخبار والمرويات عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشد التثبت، ومن ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري قال: «كنت في مجلس من مجالس الأنصار، إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور، فقال: أستأذنت على عمر ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع. فقال: والله لتقيمن عليه بينة، أمنكم أحد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك»([21]).

وهكذا كان عمر حريصا على حفظ السنة وعلى العمل بها، فكيف يدعون أنه - رضي الله عنه - أهملها وأهمل حفظها؟!

  1. عثمان بن عفان رضي الله عنه:

لقد كان عثمان - رضي الله عنه - من رواة الحديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وممن روى عنه، بنوه: أبان وسعيد وعمرو، ومولاه حمران، وأنس، وأبو أمامة بن سهل، والأحنف بن قيس، وسعيد بن المسيب، وأبو وائل، وطارق بن شهاب، وعلقمة، وأبو عبد الرحمن السلمي، ومالك بن أوس بن الحدثان، وخلق سواهم([22]). وقد ذكر صاحب "تهذيب الكمال" أكثر من خمسين صحابيا وتابعيا رووا عنه([23]). وقد أخرج له الإمام أحمد في مسنده ما يزيد عن مائة وستين حديثا.

ومما يؤكد قوة حفظه لما سمع من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه حمران رضي الله عنه - مولى عثمان رضي الله عنه - قال: «رأىت عثمان - رضي الله عنه - توضأ؛ فأفرغ على يديه ثلاثا، ثم تمضمض واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا، ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى ثلاثا، ثم اليسرى ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم يصلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما بشيء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه»([24]).

ومن ذلك ما رواه علقمة قال:«كنت مع ابن مسعود وهو عند عثمان، فقال له عثمان: ما بقي للنساء منك؟ قال: فلما ذكرت النساء، قال ابن مسعود: ادن يا علقمة، قال: وأنا رجل شاب، فقال عثمان: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فتية من المهاجرين فقال: من كان ذا طول فليتزوج، فإنه أغض للطرف وأحصن للفرج، ومن لا فإن الصوم له وجاء»([25]).

وهكذا فقد روى عثمان - رضي الله عنه - الحديث، ولم ينكر عليه أحد ما قال، وهذا دليل على شدة حفظه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

  1. علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

كان سيدنا علي - رضي الله عنه - أحد رواة الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ومما يدلنا على ذلك أن الإمام أحمد أخرج له في مسنده ما يزيد على ثمانمائة حديث، وقد روى عنه خلق كثير من الصحابة والتابعين، كأبي بكر، وعمر، والحسن، والحسين، ومحمد، وعمر، وابن عمه ابن عباس، وابن الزبير، وطائفة من الصحابة، وقيس بن أبي حازم، وعلقمة بن قيس، وعبيدة السلماني، ومسروق، وأبو رجاء العطاردي، وخلق كثير([26]). وقد ذكر الحافظ المزي أكثر من مائة وخمسين صحابيا وتابعيا قد رووا عن علي رضي الله عنه([27]).

وما يدل على قوة حفظه وتمسكه بالسنة ما رواه شريح بن هانئ قال: «سألت عائشة عن المسح، فقالت: ائت عليا فهو أعلم بذلك مني، قال: فأتيت عليا فسألته عن المسح على الخفين، قال: فقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرنا أن نمسح على الخفين يوما وليلة، وللمسافر ثلاثا»([28]).

وهل بعد شهادة السيدة عائشة رضي الله عنها لعلي - رضي الله عنه - بالحفظ والعلم شهادة، وفي هذا الخبر لجام لمن يزعم العداوة بين علي وعائشة رضي الله عنهما؟!

ومما يؤكد قوة حفظه - رضي الله عنه - ما رواه نعيم بن دجاجة قال: «دخل أبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري على علي بن أبي طالب، فقال له علي: أنت الذي تقول: لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف؟ إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يأتي على الناس مائة سنة وعلى الأرض عين تطرف ممن هو حي اليوم، والله إن رجاء هذه الأمة بعد المائة»([29]).

ومن الحق أن سيدنا عليا - رضي الله عنه - كان معذورا في قلة مروياته إذا قورن بغيره من الصحابة المكثرين لأسباب منها:

  1. انشغاله بالقضاء والحروب التي جعلته لا يتفرغ للفتيا، وعقد حلقات الدروس التي كانت سببا في انتشار علم بعض الصحابة، كعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
  2. ظهور أهل الأهواء والبدع من الذين أفرطوا فيه، والذين فرطوا به، كان سببا في كثرة الكذب عليه؛ لذلك بذل العلماء جهدهم في معرفة صحة الطرق الموصلة إليه.
  3. كثرة الفتن في زمانه، وانشغال بعض الناس بها - حال دون ثقته - رضي الله عنه - بمن يضع فيه علمه([30]).

وتجدر الإشارة إلى أنه فضلا عما ورد في مسند الإمام أحمد رحمه الله مما رواه الخلفاء الراشدون، وهو يزيد على ألف وثلاثمائة حديث؛ فقد أفرد لهم بعض العلماء مسانيد خاصة، كمسند أبي بكر، لأحمد بن علي المروزي، وكذلك مسند عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لابن النجاد، وآخر ليعقوب بن شيبة، وثالث للحافظ ابن كثير، فلولا أهمية مروياتهم وكثرتها ما أفردت لهم مسانيد خاصة.

هذا بالإضافة إلى ما ورد لهم في الصحيحين وغيرهما، واخترنا مسند أحمد باعتباره مثالا على ذلك؛ لأنه جمع أحاديث كل راو في مسند مستقل فسهل علينا إحصاء أحاديثهم.

وبعد كل هذا فأين هذه القلة التي زعمها المشككون؟!

الخلاصة:

  • إنالخلفاءالراشدين - رضياللهعنهم - قدقلتروايتهمنسبياعنالنبي - صلىاللهعليهوسلم - إذاقارناهابرواياتغيرهممنالمكثرينمنالصحابة؛لانشغالهمبأمورالخلافة،ونشرالإسلامعقبوفاةالنبيصلىاللهعليهوسلم.
  • إنروايةالحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مما يتطلبه التفرغ وغيره مما لم توفره الظروف للخلفاء الراشدين؛ ولذلك لم تكثر مروياتهم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كغيرهم من المكثرين أمثال أبي هريرة وغيره، لكن كتب السنن والمسانيد أثبتت لهم روايات كثيرة لا بأس بها.
  • لقدعرفالصحابةجميعاوعلىرأسهمالخلفاءالراشدونمنزلةالسنة،وتتبعواآثارالنبي - صلىاللهعليهوسلم - وأبواأنيخالفوهامتىثبتتعندهم،واتبعواكلسبيليحفظعلىالحديثنوره.
  • لقداحتاطالصحابةوالخلفاءفيروايةالحديثعنه - صلىاللهعليهوسلم - خشية الوقوع في الخطأ، وخوفا من أن يتسرب إلى السنة الكذب أو التحريف؛ ولذلك آثروا الاعتدال في الرواية عنه - صلى الله عليه وسلم - وبعضهم فضل الإقلال منها.
  • لقدخشيالصحابةأيضاوعلىرأسهمالخلفاءالراشدونمنأنينشغلالناسبروايةالحديثعنالقرآنالكريم الذي هو دستور الإسلام، فأرادوا أن يحفظ القرآن أولا، ثم يعتنوا بالحديث النبوي الشريف.
  • وممايدلعلىقوةحفظالخلفاءالراشدينأنالإمامأحمدرحمهاللهقدأخرجلهمفيالمسندمايزيدعلىألفوثلاثمائةحديث،هذابخلافماوردفيالصحيحينوفيكتبالسننالأخرى، بالإضافة إلى بعض المسانيد التي اختصت بأبي بكر وعمر رضي الله عنهما وغيرهما من الخلفاء الراشدين.

 

 

(*) دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م. دفع أباطيل د. مصطفى محمود في إنكار السنة النبوية، د. عبد المهدي عبد القادر عبد الهادي، دار الاعتصام، القاهرة، د. ت.

[1]. الطبقات السنية في تراجم الحنفية، التقي الغزي، دار هجر، القاهرة، د. ت، ص37.

[2]. جامع البيان عن تاويلآي القرآن، الطبري، تحقيق: أحمد محمد شاكر، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1420هـ/ 2000م، (1/ 78).

[3]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: التناوب في العلم، (1/ 223)، رقم (89).

[4]. تأويل مختلف الحديث، ابن قتيبة، دار الحديث، القاهرة، 1427هـ/ 2006م، ص91، 92.

[5]. صحيح: أخرجه ابن ماجه سننه، المقدمة، باب: التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 10، 11)، رقم (23). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (23).

[6]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري )، كتاب: العلم، باب: أثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 243)، رقم (108). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 169).

[7]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: وجوب الرواية عن الثقات وترك الكذابين، (1/ 68).

[8]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: النهي عن الحديث بكل ما سمع، (1/ 170).

[9]. الملل والنحل، الشهرستاني، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت، (1/ 197).

[10]. أعلام الموقعين، ابن القيم، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، 1973م، (1/ 197).

[11]. السنة قبل التدوين، د. محمد عجاج الخطيب، مكتبة وهبة، القاهرة، ط4، 1425هـ/ 2004م، ص92: 99.

[12]. تهذيبب الكمال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (15/ 283) بتصرف.

[13]. منهاج السنة النبوية، ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، (7/ 367).

[14]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ص7.

[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: المغازي، باب: حديث بني النضير، (7/ 390)، رقم (4035، 4036). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الجهاد والسير، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث، ماتركناه فهو صدقة"، (7/ 2746: 2749)، رقم (4498: 4504).

[16]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، (1/ 176)، رقم (53). وصححه أحمد شاكر في تعليقه عل المسند.

[17]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ص71.

[18]. تهذيب الكمال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (21/ 316: 326).

[19]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (1/ 228)، رقم (172). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[20]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (1/ 268)، رقم (260). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[21]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الاستئذان، باب: التسليم والاستئذان ثلاثا، (11/ 28، 29)، رقم (6245). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الآداب، باب: الاستئذان، (8/ 3272)، رقم (5522).

[22]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ص149.

[23]. انظر: تهذيب الكمال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (19/ 445: 461).

[24]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصوم، باب: سواك الرطب واليابس للصائم، (4/ 187)، رقم (1934). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: صفة الوضوء وكماله، (2/ 727)، رقم (527).

[25]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عثمان بن عفان رضي الله عنه، (1/ 335، 336)، رقم (411). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[26]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، ص225.

[27]. تهذيب الكمال، الحافظ المزي، تحقيق: د. بشار عواد معروف، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، 1413هـ/ 1992م، (20/ 472: 490).

[28]. صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: الطهارة، باب: التوقيت في المسح على الخفين، (2/ 809)، رقم (627).

[29]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه، (2/ 94)، رقم (714). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[30]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد الصلابي، دار الإيمان، مصر، 2003م، ص81 بتصرف.

 

  • الجمعة AM 05:13
    2020-10-23
  • 1536
Powered by: GateGold