المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413545
يتصفح الموقع حاليا : 231

البحث

البحث

عرض المادة

الطعن في عدالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأنه نهى عن التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم

الطعن في عدالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأنه نهى عن التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المغرضين في عدالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأنه نهى عن التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان ينقم على المبلغين سنته من الصحابة، ويضعهم في السجن، ويستدلون على ذلك بأن ابن حزم روى في الإحكام أن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء - رضي الله عنهم - من أجل الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه العداوة الواضحة من عمر - رضي الله عنه - لسنة النبي - صلى الله عليه وسلم - كافية لسلبه العدالة. رامين من وراء ذلك إلى الطعن في عدالة ثاني أفضل الصحابة عمر رضي الله عنه.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إن الرواية التي استدل بها الطاعنون على حبس عمر - رضي الله عنه - لبعض الصحابة ليس لها أي درجة من درجات الصحة؛ فهي منقطعة كما قال ابن حزم والبيهقي، وتتعارض مع ما هو ثابت من علو مكانة هؤلاء المذكورين بين الصحابة عامة، وعند عمر - رضي الله عنه - خاصة.

2) إن شدة حرص عمر - رضي الله عنه - على السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله الدائم عما فاته من السنة؛ ليحكم بها فيما ليس فيه دليل من القرآن - يدحض بشدة هذا الزعم، وقد كثرت الأخبار الصحيحة التي تثبت منهجه في حرصه على السنة وحفظه لها.

3) إن عمر بن الخطاب هو أفضل الصحابة بعد أبي بكر الصديق رضي الله عنهما والأخبار الصحيحة في فضله وعلو مكانته كثيرة، والصحابة كلهم عدول بشهادة القرآن والسنة؛ لذلك فهو أولاهم بصفة العدالة.

التفصيل:

أولا. الرواية التي استدلوا بها رواية منقطعة لا تصلح للاحتجاج:

إن ما استدل به الطاعنون هو تجن على الحقيقة وعلى ابن حزم أيضا، فقد أوهموا القارئ أن ابن حزم رواه، وليس من روايته قطعا، والحقيقة أن ابن حزم ذكره في كتابه، وشتان بين الذكر والرواية، وأوهموا القارئ أيضا أنه ارتضاه، وابن حزم بريء منه، وإنما زيفه وبين بطلانه.

وإليك ما ذكره ابن حزم في الإحكام حتى تتبين الحقيقة، يقول: "وروي عن 
عمر - رضي الله عنه - أنه حبس ابن مسعود من أجل الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما روينا بالسند المذكور إلى بندار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبيه قال: قال عمر لابن مسعود ولأبي الدرداء وأبي ذر رضي الله عنهم: ما هذا الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: وأحسبه أنه لم يدعهم أن يخرجوا من المدينة حتى مات". وبعد ذكره هذا الخبر علق عليه بقوله: "هذا مرسل ومشكوك فيه من شعبة فلا يصح"([1]).

ويعلق د. السباعي على هذا الخبر قائلا: "وطعن ابن حزم في هذه الرواية بالانقطاع؛ لأن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف - راويه عن عمر رضي الله عنه - لم يسمع منه، وقد وافقه البيهقي على هذا، ولكن يعقوب بن شيبة والطبري وغيرهما أثبتوا سماعه من عمر، والظاهر أنه لم يسمع منه فإنه مات سنة 99 أو 95 وعمره (75 سنة) فيكون قد ولد سنة 20 من الهجرة في أواخر خلافة عمر - رضي الله عنه - فلا يتصور سماعه منه في مثل تلك السن، وعلى ذلك فلا تكون الرواية حجة ولا يؤخذ بها([2])، ثم قال ابن حزم: "إن الخبر في نفسه ظاهر الكذب والتوليد؛ لأنه لا يخلو عمر من أن يكون اتهم الصحابة، وفي هذا ما فيه، أو يكون نهى عن نفس الحديث، وعن تبليغ سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسلمين، وألزمهم كتمانها وجحدها وألا يذكروها لأحد فهذا خروج عن الإسلام، وقد أعاذ الله أمير المؤمنين من كل ذلك، بدليل أن عمر - رضي الله عنه - قد حدث بأحاديث كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. فإن كان الحديث عنه - صلى الله عليه وسلم - مكروها فقد أخذ عمر - رضي الله عنه - من ذلك بنصيب وافر، وهذا قول لا يقوله مسلم أصلا، ولئن كان سائر الصحابة متهمين بالكذب على النبي - صلى الله عليه وسلم - فما عمر إلا واحد منهم، ولئن كان حبسهم وغيرهم متهمين لقد ظلمهم، فليختر المحتج لمذهبه الفاسد بمثل هذه الروايات الملعونة أي الطريقتين الخبيثتين شاء"([3]).

فظهر بذلك أن ابن حزم لم يرو هذا الخبر، وإنما ذكره ليبين بطلانه وفساده، فقد ذكره بصيغة "روي" الدالة على التضعيف، ولو كان من روايته لقال: وروينا"([4]).

وقد كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يتبع مذهب عمر - رضي الله عنه - وطريقته، وكان يقول: "لو سلك الناس واديا وشعبا، وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه، ولو قنت عمر قنت عبد الله"([5])، وقد أرسله عمر إلى الكوفة ليعلم أهلها، وقال لهم: لقد آثرتكم بعبد الله على نفسي([6]) فكيف يعقل أن يخالف عمر في التقليل من الرواية؟ وكيف يعقل من عمر أن يحبسه؟

وكان مقامه خلال خلافة عمر - رضي الله عنه - في العراق، وإنما أرسله إليها ليعلم أهلها الدين والأحكام، ومن الأحكام ما يؤخذ من القرآن، وأكثرها أخذ من السنة، فكيف يحبسه عمر لتحديثه وهو إنما أرسله لهذا الغرض؟ أما أبو ذر وأبو الدرداء رضي الله عنهما فلا يعلم عنهما كثير حديث، نعم كان أبو الدرداء معلم المسلمين بالشام، كما كان ابن مسعود - رضي الله عنه - في العراق، والغرابة في حبس عمر لابن مسعود رضي الله عنهما تأتي أيضا في أبي الدرداء - رضي الله عنه - فكيف يحبسه وهو معلمهم ومفقههم في دينهم؟ وهل كان عمر - رضي الله عنه - يريد منه ومن ابن مسعود - رضي الله عنه ــ أن يكتما بعض الحديث فيكتما بعض أحكام الدين عن المسلمين؟

وأما أبو ذر - رضي الله عنه - فمهما نقل عنه من حديث فهو لم يبلغ جزءا مما بلغه أبو هريرة، فلماذا يحبسه ولا يحبس أبا هريرة؟ ولئن قيل: إن أبا هريرة لم يكن يكثر الحديث في عهد عمر - رضي الله عنه - خوفا منه، قلنا: لماذا لم يخف منه أبو ذر كما خافه أبو هريرة؟

والحاصل: أن الذين عرفوا بكثرة الحديث من الصحابة كابن عباس وأبي هريرة وعائشة وجابر بن عبد الله، وابن مسعود معهم، لم يرو عن عمر أنه تعرض لهم بشيء، بل روي أنه قال لأبي هريرة حين بدأ يكثر من الحديث: «أكنت معنا حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكان كذا؟ قال: نعم، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار»([7]) فقال له عمر رضي الله عنه: أما إذا ذكرت ذلك فاذهب فحدث([8]).

فكيف يعقل أن يترك أبا هريرة - رضي الله عنه - وهو أكثر الصحابة حديثا على الإطلاق، ثم يحبس مثل ابن مسعود - رضي الله عنه - وهو أقل من أبي هريرة - رضي الله عنه - حديثا، أو مثل أبي الدرداء وأبي ذر، وهما لم يعرفا بين الصحابة بكثرة الحديث مطلقا([9]).

وبعد بيان ضعف الرواية التي لا تصلح للاحتجاج، وبيان موقف عمر - رضي الله عنه - من المكثرين من الحديث، تبين لنا أن القول بحبس عمر - رضي الله عنه - لهؤلاء الصحابة الكبار أمر لا يقبله عقل سليم لعدم وجود حجة عليه.

ويقول الدكتور محمد بلتاجي عن هذا الخبر: "ولست أرى فيه - لو صح - ما ينتقص من مكانة هؤلاء الصحابة، ولا يتعارض مع الطريقة العمرية في معالجة بعض الأمور؛ لأن عمر - رضي الله عنه - لم يتهمهم بالكذب حين حبسهم، كما تساءل ابن حزم، وإنما أراد أن يتحدث الناس بأن عمرـ رضي الله عنه - قد حبس بعض أعلام الصحابة حين أكثروا الحديث عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكيف يفعل بعامتهم وعامة المسلمين إذن حين يكثرون من التحديث؟ أو لم يعزل عمر خالدا رضي الله عنهما حتى لا يفتن به الناس، ويتحدثون بأن النصر إنما يتم على يديه؟ أو لم يحرق باب قصر سعد بن أبي وقاص - بطل القادسية - حين استتر فيه عن الناس؟ أو لم يعزله ويقاسمه ماله - كما عزل أبا هريرة وقاسمه بعد أن ولاه؟ أو لم يقاسم عمرو بن العاص وغيره من أعلام الصحابة والمسلمين؟

لقد كانت غاية عمر - رضي الله عنه - من رواية السنة جليلة، فلا بأس عليه بعد ذلك أن يتخذ الوسائل التي هي محققة لهذه الغاية، على أن وسائل عمر - رضي الله عنه - كانت - هي أيضا - شريفة وجليلة وعادلة كمقاصده؛ لأنه كان يبتغي بها جميعا وجه الحق والعدل والمصلحة([10]).

وعلى ذلك فلا حجة على الطعن في عدالة عمر - رضي الله عنه - حتى على فرض صحة الرواية التي استدلوا بها.

ثانيا. شدة اهتمام عمر - رضي الله عنه - بالسماع من النبي صلى الله عليه وسلم:

إن القول بأن عمر - رضي الله عنه - كان عدوا لرواة السنة قول ينم عن جهل صارخ بسيرته - رضي الله عنه - وبالحقائق الثابتة من محبته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وسنته ومدى اهتمامه بها، يقول عمر رضي الله عنه: «كنت أنا وجار لي من الأنصار في بني أمية ابن زيد - وهي من عوالي المدينة - وكنا نتناوب النزول على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل يوما وأنزل يوما، فإذا نزلت جئته بخبر ذلك اليوم من وحي وغيره وإذا نزل فعل مثل ذلك...»([11]).

فهل كان عمر - رضي الله عنه - يكلف نفسه ويذهب إلى النبي ليسمع منه القرآن والسنة، ويتفق مع جاره على التناوب في ذلك، ليكون عدوا لما سمعه أو بلغه من صاحبه؟ أي منطق يحكم بهذا؟!

ويدحض هذا الزعم أيضا شدة حرص عمر - رضي الله عنه - على معرفة ما فاته من سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحكم بها فيما ليس فيه قرآن، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «أتي عمر بامرأة تشم، فقام فقال: أنشدكم بالله من سمع من النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوشم؟ فقال أبو هريرة: فقمت فقلت: يا أمير المؤمنين، أنا سمعت، قال: ما سمعت؟ قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تشمن ولا تستوشمن»([12])، وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - عن عمر - رضي الله عنه - أنه «استشارهم في إملاص المرأة([13])، فقال المغيرة: قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالغرة([14]) عبد أو أمة، قال: ائت من يشهد معك، فشهد محمد بن مسلمة أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى به»([15]).

فالسنة عند عمر - رضي الله عنه - المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن، ولا يجرؤ أن يتعدى ما أتت به من أحكام، فكيف تكون بهذه المنزلة عنده، ويدعون أنه من أعدائها؟! )ما لكم كيف تحكمون (36)( (القلم)؟! وطلب عمر - رضي الله عنه - من يشهد مع المغيرة لا يعد تكذيبا له، وإنما زيادة حرص في الأخذ ودقة في التوثيق والتثبت، وتأصيلا لمنهج انتهجه عمرـ رضي الله عنه - وهو التقليل من التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا منع التحديث؛ لأنه لم يثبت ولا يعقل ثبوته، ولعمر - رضي الله عنه - فيما انتهجه من تقليل التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهداف دينية عظيمة منها:

  1. الحفاظ على القرآن نقيا - خاصة عند حديثي العهد بالإسلام - مخافة أن يختلط عندهم بالسنة، فيحرفون كأهل الكتاب، فعن قرظة بن كعب قال: «بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيعنا، فمشى معنا إلى موضع يقال له: صرار([16])، فقال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قال: قلنا: لـحق صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولحق الأنصار، قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لـممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل. فإذا رأوكم مدوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد، فأقلوا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم أنا شريككم»([17]).

وذلك ليضمن للقرآن الحفظ والعمل والاتباع، ولا يظن من ذلك أن المسلمين كانوا لا يفرقون بين القرآن والسنة، كلا إنهم كانوا يدركون أسلوب القرآن ويعرفون أسلوب السنة، ولم يرتكبوا فيها جناية كما ارتكب اليهود والنصارى من التحريف والتبديل، ولكنه الحذر والاحتراس الذي يستبصره الرئيس الأمين دائما.

  1. الحفاظ على الحديث ومنع الوضع على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك لا يتم إلا إذا تشددوا في قبول الرواية لكيلا يجد الوضاعون فرصة سانحة سهلة يضعون لها ما يشاءون من أقوال - لو أن اليسر في قبول الرواية كان معروفا آنذاك، ولكن عمر كان حصيفا ملهما صاحب منهج متكامل.

وبعد فهذه بعض الأسباب التي جعلت عمر - رضي الله عنه - يميل إلى التقليل من التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس فيها ما يطعن في عدالته بل كان هدفه الحفاظ على السنة نقية سليمة كما صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثالثا. فضل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وعدالته:

إن عدالة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثابتة باعتباره صحابيا عدله الله في كتابه والنبي - صلى الله عليه وسلم - في سنته، فضلا عن أنه ثاني هذه الأمة في الفضل بعد الصديق، ولن نورد الآيات والأحاديث التي جاءت بعدالة الصحابة عامة، أو ما خصت مجموعة منهم كتبشير بعضهم بالجنة([18])، بل سنقف على ما ورد في فضل عمر رضي الله عنه - خاصة - ليضم إلى ما هو داخل فيه من فضائل الصحابة عامة، فمكانته في الإسلام وفضله أشهر من أن يجهله جاهل لا أن يفتري عليه مفتر، وسيكون كلامنا في فضله من خلال كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - لأن الله أعلم به منا، وكذلك كان رسوله صلى الله عليه وسلم.

وسيكون تناولنا لبعض فضائل عمر - رضي الله عنه - من خلال محورين رئيسين هما:

  • موافقاتهللقرآن.
  • ما جاء في صحيح السنة من فضله وعلومكانته رضي الله عنه.
  1. موافقاته للقرآن:

كان عمر - رضي الله عنه - من أكثر الصحابة شجاعة وجرأة، فكثيرا ما كان يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن التصرفات التي لم يدرك حكمها، كما كان - رضي الله عنه - يبدي رأيه واجتهاده بكل وضوح وصدق؛ لعمق فهمه ودقة استيعابه لمقاصد القرآن الكريم وقوة إيمانه، فقد رزق إلهاما مما جعل القرآن الكريم ينزل موافقا لرأيه - رضي الله عنه - في بعض المواقف([19]) منها:

  • ما رواه البخاري عن عمرو بن عون قال: حدثنا هيثم عن حميد عن أنس قال: قال عمر: «وافقت ربي في ثلاث؛ فقلت: يا رسول الله، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فنزلت: )واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى((البقرة: ١٢٥)، وآية الحجاب، قلت: يا رسول الله، لو أمرت نساءك أن يحتجبن فإنه يكلمهن البر والفاجر، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - في الغيرة عليه، فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن، فنزلت هذه الآية»([20]).

ويعلق ابن حجر على هذا الحديث «وافقت ربي»قائلا: "والمعنى وافقني ربي فأنزل القرآن على وفق ما رأيت، لكن لرعاية الأدب أسند الموافقة إلى نفسه، أو أشار به إلى حدوث رأيه وقدم الحكم، وليس في تخصيصه العدد بالثلاث ما ينفي الزيادة عليها؛ لأنه حصلت له الموافقة في أشياء غير هذه... وروى الترمذي من حديث ابن عمر أنه قال: «ما نزل بالناس أمر قط، فقالوا فيه وقال فيه عمر، أو قال ابن الخطاب - شك خارجة - إلا نزل فيه القرآن على نحومما قال عمر»([21])، وهذا دال على كثرة موافقته"([22]).

  • ومن ذلك موافقته في ترك الصلاة على المنافقين: روى البخاري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: «لما مات عبد الله بن أبي بن سلول دعي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت إليه فقلت: يا رسول الله، أتصلي على ابن أبـي وقد قال يوم كذا كذا وكذا؟ قال: أعدد عليه قوله، فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: أخر عني يا عمر. فلما أكثرت عليه قال: إني خيرت فاخترت، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها، قال: فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف، فلم يمكث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من براءة )ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون (84) ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون (85)((التوبة)، قال: فعجبت بعد من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ورسوله أعلم»([23]).
  • موافقته في أسرى بدر: كان رأي عمر - رضي الله عنه - أن يقتل أسرى بدر ليعلم أنه ليس في قلوب المسلمين هوادة للمشركين، ولم يهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال، فأخذ منهم الفداء، يقول عمر: «فلما كان من الغد غدوت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا هو قاعد وأبو بكر وهما يبكيان، فقلت: يا رسول الله، ما يبكيك أنت وصاحبك؟!فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: للذي عرض علي أصحابك من الفداء، لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة - لشجرة قريبة منه - فأنزل الله تعالى: )ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم (67) لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم (68)((الأنفال).

فلما كان من العام المقبل قتل منهم سبعون، وفر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكسرت رباعيته، وهشمت البيضة على رأسه، وسال الدم على وجهه، وأنزل الله سبحانه وتعالى: )أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير (165)( (آل عمران)»([24]).

وهكذا كان عمر - رضي الله عنه - إضافة إلى عدالته الداخلة في عدالة جميع الصحابة بنص الكتاب والسنة - ملهما يوافق رأيه القرآن في مواقف عدة كما كان ملما بأسباب النزول، مجتهدا حق الاجتهاد، فهل من كان هذا حاله يحبس كبار صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - ويمنعهم الرواية عنه صلى الله عليه وسلم؟!

  1. الأحاديث الصحيحة في فضل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - خاصة:
  • عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون، فإن يك في أمتي أحد فإنه عمر»([25])، وقوله - صلى الله عليه وسلم - محدثون؛ أي: ملهمون.
  • وعن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لو كان من بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب»([26]).
  • عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «أرأف أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر...»([27])، وفي رواية: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في أمر الله عمر...»([28]).
  • عن طارق بن شهاب قال: "كنا نتحدث أن عمر بن الخطاب ينطق على لسانه ملك"([29]).
  • قال ابن عمر رضي الله عنهما: «ما نزل في الناس أمر قط فقالوا فيه وقال فيه عمر، إلا نزل فيه القرآن على نحو ما قال عمر»([30]).
  • عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه»([31]).
  • فمن يسلب الذي جعل الله الحق على لسانه العدالة، وهو أفضل خلق الله بعد الأنبياء والرسل وأبي بكر الصديق رضي الله عنه. إن الذي يفعل هذه الفعلة من  محاولة المساس بعدالة عمر - رضي الله عنه - يحكم على نفسه بعدم العقل، ويسوغ للعقلاء التقليل من شأنه واحتقار رأيه، كالذي ينكر وجود الشمس في رابعة النهار، فإما أنه أعمى لا يرى، أو أنه به جنون بين.

ولله در القائل:

وليس يصح في الأذهان شيء

إذا احتاج النهار إلى دليل

هذا غيض من فيض من فضائل عمر بن الخطاب تثبت عدالته، وتبين مكانته في الإسلام إلى درجة أنه أخبر أن الحق دائما على لسانه، فكيف يمنع الناس من التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وينقم على المحدثين تحديثهم هذا؟!

الخلاصة:

  • لقد حكم ابن حزم وتابعه البيهقي بانقطاع الخبر القائل بحبس 
    عمر - رضي الله عنه - لبعض الصحابة مثل أبي ذر وابن مسعود وأبي الدرداء - رضي الله عنهم - ولم يرو ابن حزم ذلك الخبر، وإنما ذكره في كتابه، وشتان بين الذكر والرواية في علم الحديث، فابن حزم ذكره ولم يرتضه، وإنما زيفه وبين بطلانه، ومن ثم فلا يصلح للاحتجاج.
  • إن مكانة هؤلاء المذكورين عظيمة بين الصحابة عامة، وعند 
    عمر - رضي الله عنه - خاصة، فهو القائل لأهل العراق: "لقد آثرتكم بعبد الله - أي: ابن مسعود - على نفسي"، مما يقوي القول بعدم صحة الرواية التي استدل بها الطاعنون.
  • العقل لا يقبل هذه الرواية؛ فلو أنها صحيحة لكان أولى بعمر - رضي الله عنه - أن يحبس المكثرين كأبي هريرة وعائشة وجابر وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - وهو ما لم يحدث.
  • لقد كان ابن مسعود - رضي الله عنه - يتبع مذهب عمر - رضي الله عنه - وطريقته دائما، وكان يقول: "لو سلك الناس واديا وشعبا، وسلك عمر واديا وشعبا لسلكت وادي عمر وشعبه".
  • على فرض صحة تلك الرواية فإن عمر - رضي الله عنه - لم يتهمهم بالكذب حين حبسهم، وإنما أراد أن يتحدث الناس بأن عمر حبس أعلام الصحابة حين أكثروا الحديث، فكيف يفعل بعامتهم؟!
  • لقد تعددت مظاهر اهتمام عمر - رضي الله عنه - بالسنة المطهرة، كتناوبه وجاره السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - وسؤاله عما فاته منها ليحكم بها فيما ليس فيه قرآن، وهذا يدحض زعمهم بأنه كان عدوا للسنة ناقما على مبلغيها.
  • إن منهج عمر في التقليل من التحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو في أساسه حفاظ على السنة، ومنع الوضع على النبي - صلى الله عليه وسلم - وحفاظ على القرآن نقيا، خاصة عند حديثي العهد بالإسلام.
  • إن عدالة عمر - رضي الله عنه - ثابتة بالقرآن والسنة كغيره من الصحابة، ومن يمحو ما أثبته الله ورسوله؟!
  • إن لعمر - رضي الله عنه - زيادة فضل عن الصحابة، ولا يعلوه بعد الأنبياء والمرسلين إلا أبو بكر - رضي الله عنه - وقد جاءت الأخبار الصحيحة تثبت له فضله وعلو منزلته.

 

 

(*) السنة الإسلامية بين إثبات الفاهمين ورفض الجاهلين، د. رءوف شلبي، دار السعادة، القاهرة، 1398هـ/ 1978م. دفاع عن السنة ورد شبه المستشرقين والكتاب المعاصرين، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م.

[1]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 266).

[2]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص72.

[3]. الإحكام في أصول الأحكام، ابن حزم، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1405هـ/ 1985م، (1/ 266).

[4]. دفاع عن السنة، د. محمد محمد أبو شهبة، مكتبة السنة، القاهرة، ط2، 1428هـ/ 2007م، ص86.

[5]. المصنف في الأحاديث والآثار، ابن أبي شيبة الكوفي، تحقيق: سعيد اللحام، دار الفكر، بيروت، 1414هـ/ 1994م، (2/ 209).

[6]. أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب: معرفة الصحابة، باب: ذكر مناقب عمار بن ياسر، (3/ 438)، رقم (5663).

[7]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: إثم من كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، (1/ 244)، رقم (110). صحيح مسلم (بشرح النووي)، المقدمة، باب: تغليظ الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 196).   

[8]. سير أعلام النبلاء، الذهبي، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وآخرين، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط7، 1410هـ/ 1990م، (2/ 603).

[9]. السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي، د. مصطفى السباعي، دار السلام، القاهرة، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص71.

[10]. منهج عمر بن الخطاب في التشريع، د. محمد بلتاجي، دار السلام، القاهرة، ط2، 1424هـ/ 2003م، ص98.

[11]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: العلم، باب: التناوب في العلم، (1/ 223)، رقم (89).

[12]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: اللباس، باب: المستوشمة، (10/ 393)، رقم (5946).

[13]. أملصت المرأة: أسقطت ولدها. والملاص: هو الجنين إذا نزل قبل أوانه.

[14]. الغرة: العبد أو الأمة، فكأنه عبر في الحديث عن الجسم كله، كقوله رقبة، وأصل الغرة بياض في جبهة الفرس. وغرة كل شيء أوله وأكرمه.

[15]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الديات، باب: جنين المرأة، (10/ 257)، رقم (6905، 6906).

[16]. صرار: موضع على طريق العراق.

[17]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في سننه، المقدمة، باب: التوقي في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1/ 12)، رقم (28). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن ابن ماجه برقم (26).

[18]. عن عبد الرحمن قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: « أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعلي في الجنة، وعثمان في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة ». صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، حديث عبد الرحمن بن عوف، (3/ 136)، رقم (1675). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[19]. فصل الخطاب في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: شخصيته وعصره، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الاسكندرية، 2002م، ص41.

[20]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: الصلاة، باب: ما جاء في القبلة، ومن لا يرى الإعادة على من سها فصلى إلى غير القبلة، (1/ 601)، رقم (402).

[21]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (10/ 116)، رقم (3929). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3682).

[22]. فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، تحقيق: محب الدين الخطيب وآخرين، دار الريان للتراث، القاهرة، ط1، 1407هـ/ 1987م، (1/ 602).

[23]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: التفسير، باب: ) استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم (، (8/ 184، 185)، رقم (4671).

[24]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند عمر بن الخطاب، (1/ 250، 251)، رقم (221). وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند.

[25]. صحيح البخاري (بشرح فتح الباري)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: مناقب عمر بن الخطاب، (7/ 50)، رقم (3689). صحيح مسلم (بشرح النووي)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر بن الخطاب، (8/ 3528)، رقم (6087).

[26]. حسن: أخرجه أحمد في مستده، مسند الشاميين، حديث عقبة بن عامر الجهني، رقم (17441). وحسنه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[27]. صحيح: أخرجه أبو يعلى في مسنده، (10/ 141)، رقم (5763). وصححه الألباني في صحيح وضعيف الجامع برقم (870).

[28]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: مناقب معاذ بن جبل، (140/ 98)، رقم (3902). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3790).

[29]. أخرجه أحمد في فضائل الصحابة، فضائل أمير المؤمنين عمربن الخطاب رضي الله عنه، (1/ 263)، رقم (341).

[30]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (10/ 116)، رقم (3929). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (2098).

[31]. صحيح: أخرجه الترمذي في سننه (بشرح تحفة الأحوذي)، كتاب: المناقب، باب: في مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (10/ 116)، رقم (3929). وصححه الألباني في صحيح وضعيف سنن الترمذي برقم (3682).

 

  • الجمعة AM 05:10
    2020-10-23
  • 1860
Powered by: GateGold