المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412338
يتصفح الموقع حاليا : 309

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن بعض خلفاء المسلمين في العصر الفاطمي اتصفوا بالجنون والتوحش

                     ادعاء أن بعض خلفاء المسلمين في العصر الفاطمي اتصفوا بالجنون والتوحش (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المدعين أن بعض ملوك المسلمين وحكامهم في العصر الفاطمي قد اتصفوا بالجنون والتوحش؛ ويمثلون لذلك بالخليفة الحاكم بأمر الله الفاطمي، وذكروا أنه كان رجلا غليظ القلب، لا يعرف الرحمة، يضطهد المسيحيين ويعتدي على مقدساتهم.

وجها إبطال الشبهة:

1)  الحاكم بأمر الله كان شخصية شاذة التفكير والسلوك؛ لذا لا يقاس عليه بقية حكام المسلمين.

2) التاريخ يشهد بأن غير المسلمين كانوا من أسعد الناس في ظل الدولة الإسلامية مما لاقوه من العدل والتسامح في ظل الحكم الإسلامي عامة والعصر الفاطمي خاصة، وبهذا يشهد المنصفون من الغربيين أيضا.

التفصيل:

أولا. الحاكم بأمر الله نموذج لا يقاس عليه:

تواتر الكلام لدى المؤرخين عن تقلب أحوال الحاكم بأمر الله واتخاذه قرارات متضاربة، وشذوذ تصرفاته فضلا عن ولعه الشديد بسفك الدماء؛ ويصور هذه الأحوال د. عبد الفتاح فتحي بقوله: "ولي الحاكم بأمر الله بعد وفاة والده العزيز، وكانت سنه يومئذ حوالي إحدى عشرة سنة ونصف، وطبيعي ألا يكون الحاكم - في تلك السن المبكرة - قادرا على الاضطلاع بمسئوليات الحكم في دولة متسعة الأرجاء كالدولة العبيدية.

وقد كان الحسن بن عمار شيخ كتامة ذا مكانة بارزة أيام العزيز، وتولى إدارة الدولة للحاكم، الذي خلع عليه في الثالث من شوال سنة 386هـ، ولقبه أمين الدولة، فصارت إليه مقاليد الأمور.

وقد أشار عليه أصحابه بالتخلص من الحاكم، لكنه لم يعبأ بذلك استهانة به لصغر سنه، وفي الوقت ذاته، كان برجوان - الوصي عليه - يلازم الحاكم ويحرسه، ويمنعه الركوب والظهور من قصره، ويتربص بابن عمار الدوائر؛ كي ينفرد بالوصاية على الحاكم من دونه، ويستمر الصراع بين الرجلين حتى ينتهي بعزل ابن عمار، ثم قتله وانفراد برجوان بالنفوذ... إلى أن يقول: وفجأة دبر الحاكم مع الخادم ريدان وبعض العبيد مؤامرة قتل برجوان، وتم تنفيذها في السادس عشر من ربيع الآخر سنة 390هـ، وقد أحدث قتل برجوان غيلة هزة عنيفة في الدولة بين الأولياء والعوام على سواء، حتى اضطر الحاكم إلى جمع الناس وشرح ملابسات قتله برجوان، بل أصدر مرسوما ضمنه أسباب ذلك، حتى هدأت الأحوال واستقرت البلاد.

ودخل الحاكم - بعد تخلصه من برجوان - مرحلة جديدة، انفرد خلالها بالحكم، وتخلص من الوصاية التي كانت مفروضة عليه، فإذا به وكأنما أطلق من عقال، وفك من إسار، وإذا به يقوم بعدة إجراءات، ويصدر مجموعة من القرارت الغريبة التي هزت المجتمع هزا، وتحول إلى وحش كاسر متعطش إلى الدماء، يسفكها بغزارة، ولا يكاد ينجو من سيفه البتار أحد من رجالات دولته المقربين إليه، وانعكس ذلك - ولا شك - على الناس جميعا بجميع فئاتهم وطبقاتهم، فكأنهم يعيشون في سجن كبير.

وقد حاول الباحثون تعليل هذه الظاهرة العجيبة - عهد الحاكم وأفعاله - وحاولوا تفهمه وتعليل تصرفاته، وتلمس الجوانب المضيئة خلال فترة حكمه، ورغم ذلك فإني أعتقد أننا لا نزال في حاجة لتضافر الجهود لدراسة نفسية هذا الرجل، وتحليلها على النحو المرضي.. وتمضي الأمور على هذا النحو إلى سنة 411هـ، حين يفاجأ الناس باختفاء الحاكم بأمر الله، وبعد فترة من البحث تبين مقتله، وإن لم يتم العثور على جثته، لكن شواهد عديدة دلت على تلك النهاية المأساوية له، ويرجح الباحثون تآمر أخته ست الملك على قتله، مسدلة الستار على فترة من أكثر فترات ذلك العصر غموضا وإثارة" (1).

ثانيا. يشهد التاريخ أن غير المسلمين كانوا من أسعد الناس في ظل الدولة الإسلامية؛ لأنهم عوملوا بالعدل والإنصاف والتسامح:

الغالب على معاملة حكام المسلمين رعيتهم من غير المسلمين - والنصارى على رأسهم - هو التسامح والإنصاف بل المجاملة في أحيان كثيرة، تلك هي القاعدة، والعكس هو الاستثناء الذي يؤكد القاعدة ولا يلغيها.

يقول مراد هوفمان: "يصعب على كثيرين من مراقبي الغرب تفهم المسلمين حين يزعمون أن الإسلام إنما هو دين السماحة المطلقة بلا منازع، ومع ذلك فإن هذا هو الحق كل الحق" (2).

ويقول د. خلف الجراد مترجم كتاب "الإسلام والمسيحية" على لسان لأليكسي جورافسكي: "والشيء الأكيد الثابت أن التساهل هو الذي كان سائدا أو مسيطرا في العالم الإسلامي، ولا سيما في مجال ممارسة الشعائر الدينية، وتطبيق القوانين الخاصة بمسائل الأحوال الشخصية"(3).

ويثبت لنا الأستاذ فهمي هويدي بالأدلة الناطقة من التاريخ كيف حفظ المسلمون عهدهم لغير المسلمين، وكيف عاش غير المسلمين في حرية وأمن وسلام، موفورة لهم جميع الحقوق في كنف الدولة الإسلامية، على عكس ما يحدث مع الأقليات المسلمة من اضطهاد وتعذيب وصل إلى حد الإبادة الجماعية، كما حدث في الأندلس وما حدث للمسلمين في روسيا الشيوعية، وما يحدث حاليا للمسلمين في كل مكان من مآسي الاستئصال والإبادة، يقول: "ما حكم المسلمون بلدا إلا وأبقوا على ما فيه من ديانات وملل، وما حكم غير المسلمين بلدا إلا وألغوا كل اعتقاد آخر، ولم يبقوا فيه إلا على دينهم أو مذهبهم، تلك شهادة ينطق بها سجل علاقات المسلمين بغيرهم على مدار التاريخ.

ذلك أن اعتزاز الإسلام بالإنسان كمخلوق مهما كان اعتقاده ولونه وجنسه، ثم إيمان المسلمين بالسابقين من الأنبياء، وبشرعية وجود أصحاب الديانات الأخرى، الذين اعتبرهم القرآن الكريم " أهل كتاب" لهم مكانهم في المجتمع الإسلامي، هذه العناصر في مجموعها هي التي أفسحت المجال لبقاء واستمرار تلك الجماعات غير المسلمة وسط مجتمعات المسلمين عبر ذلك التاريخ الطويل، وهي التي أفرزت في النهاية ما قد نسميه الآن قضية "حقوق الأقليات غير المسلمة".

وبالمقابل فإن أوربا المسيحية - ونحن هنا نتحدث عن التاريخ - اختصرت الطريق من بدايته، وكان رفض اعتراف الكنيسة بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وبتعاليمه، وهي القضية التي لم تحسم في الفاتيكان إلى الآن. كان هذا الموقف هو الأساس الذي بنت عليه أوربا المسيحية موقفها في عدم الاعتراف بشرعية وجود المسلمين.

وكان من نتيجة هذا الموقف أن أوربا المسيحية لم تسمح باستمرار وجود المسلمين فيها، وما جرى في الأندلس وصقلية خير شاهد على ذلك، فقد كانت الخيارات التي وضعت أمام المسلمين في هذين البلدين، كانت في حقيقة الأمر ثلاثة؛ القتل أو التنصير أو الطرد. أي أنها كانت درجات في اقتلاع الجذور وإلغاء كيان الأقلية المسلمة، وهذا ما حدث بالفعل وأدى في النهاية إلى اختفاء الإسلام تماما من الأندلس وصقلية.

يروي الأمير شكيب أرسلان في مقال بعنوان "التعصب الأوربي أم التعصب الإسلامي" أن أحد الوزراء العثمانيين كان مرة في أحد المجالس، في جدال مع بعض رجال دولة أوربا فيما يتعلق بهذا الموضوع، فقال لهم الوزير العثماني: إننا نحن المسلمين من ترك وعرب وغيرهم، مهما بلغ بنا التعصب في الدين فلا يصل بنا إلى درجة استئصال شأفة أعدائنا، ولو كنا قادرين على استئصالهم.

ولقد مرت بنا قرون وأدوار كنا قادرين فيها على ألا نبقي بين أظهرنا إلا من أقر بالشهادتين، وأن نجعل بلداننا كلها صافية للإسلام. فما هجس في ضمائرنا خاطر كهذا الخاطر أصلا، وكان إذا خطر هذا ببال أحد من ملوكنا - كما وقع للسلطان سليم الأول العثماني - تقوم في وجهه الملة؛ مثل زنبيلي علي أفندي شيخ الإسلام، ويقول له بلا محاباة: ليس لك على النصارى واليهود إلا الجزية، وليس لك أن تزعجهم عن أوطانهم، فيرجع السلطان عن عزمه امتثالا للشرع الشريف؛ فبقي بين أظهرنا حتى أبعد القرى وأصغرها نصارى ويهود وصابئة وسامرة ومجوس، وكلهم كانوا وافرين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

هذا عن المسلمين، أما معاشر الأوربيين فلم يطيقوا أن يبقى بين أظهرهم مسلم واحد واشترطوا عليه إذا أراد البقاء بينهم أن يتنصر. ولقد كان في إسبانيا ملايين وملايين من المسلمين، وكان في جنوبي فرنسا وفي شمالي إيطاليا وفي جنوبها مئات ألوف منهم، ولبثوا في هاتيك الأوطان أعصرا مديدة، وما زالوا يستأصلون منهم حتى لم يبق في جميع هذه البلدان شخص واحد يدين بالإسلام. ولقد طفت بلاد إسبانيا كلها فلم أعثر فيها على قبر واحد يعرف أنه قبر مسلم".

وتاريخيا، فإن هذا الموقف الرافض للتعايش مع الأديان الأخرى لم يكن مقصورا على المسلمين وحدهم، ولكنه أصاب غير المسلمين أيضا، ومما يذكره المطران ستيفن نيل أن شارلمان أمر بذبح 4500 من الساكسون في يوم واحد؛ لأنهم لم يقبلوا على اعتناق الدين المسيحي. وكان من القوانين التي أصدرها: كل ساكسوني لا يعتنق المسيحية أو يحاول التهرب أو الرفض، فإنه يقتل، ويضيف المطران أنه في سبيل توحيد مملكته النصرانية اعتمد الإمبراطور ليو الثالث طريقة تنصير اليهود بالقوة"(4).

ويعدد الأستاذ فهمي هويدي المزايا التي بلغها غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، خصوصا أهل الكتاب، ويستشهد بشهادات المؤرخين غير المسلمين التي وصلت إلى حد قول أحدهم عن توسع استخدام الدولة الإسلامية للنصارى في الوظائف المختلفة: وكأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام.

وترسم شهادات التاريخ الموثقة صورة واضحة المعالم بينة القسمات عن الوظائف التي ترقى إليها أهل الكتاب في مختلف مواقع المسئولية في المجتمع الإسلامي، وفيما يلي نسوق طرقا منها:

روى الخطيب البغدادي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه، فأسهم لهم مع المسلمين. وعندما أجاز الإمام الشافعي اشتراك أهل الذمة في جيوش المسلمين، استدل بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - استعان في غزوة خيبر بعدد من يهود بني قينقاع، واستعان في غزوة حنين بصفوان بن أمية وهو مشرك. وذكر البلاذري أن أبا زيد الطائي - الشاعر النصراني - حارب إلى جانب المسلمين ضد الفرس في وقعة الجسر، على عهد عمر - رضي الله عنه - وكان الطائي قد أتى من الحيرة في بعض أموره، وخرج مع المسلمين حمية بهم، وقتالا إلى جانبهم.

وعندما لاحظ آدم ميتز كثرة العمال والمتصرفين غير المسلمين في الدولة الإسلامية في عصورها المبكرة، كان تعليقه هو " كأن النصارى هم الذين يحكمون المسلمين في بلاد الإسلام"؟

ففي العهد الأموي أسند معاوية بن أبي سفيان الإدارة المالية في الدولة لأسرة مسيحية توارث أبناؤها الوظائف لمدة قرن من الزمان بعد الفتح الإسلامي، ومن أفرادها القديس والمؤرخ يوحنا الدمشقي المعاصر لمعاوية ولولده يزيد، كما أسند معاوية إلى طبيبه ابن آثال جباية خراج حمص، وهي وظيفة مالية لم يسبق لنصراني قبله أن وصل إليها، وكان سرجون كاتبا مسيحيا لمعاوية.

وكتب البلاذري: أنه لما نقلت الدواوين إلى العربية في عهد عبد الملك بن مروان قال سرجون لأبناء ملته: اطلبوا المعيشة من غير هذه الصنعة فقد قطعها الله عنكم!

وكان عبد الملك بن مروان قد اختار عالما مسيحيا من مدينة الرها يدعى أثناسيوس مؤدبا لأخيه عبد العزيز. ورافق أثناسيوس هذا تلميذه إلى مصر، عندما عين واليا عليها. وهناك جمع ثروة طائلة، حتى قيل: إنه امتلك أربعة آلاف من العبيد، كما ملك كثيرا من الدور والبساتين، وكان الذهب والفضة عنده كأنها الحصى، وكان أولاده يأخذون من كل جندي دينارا عندما يتسلم راتبه، وقد بلغ أثناسيوس مرتبة الرئاسة في دواوين الإسكندرية، وكان ينعت في المكاتبات الرسمية "بالكاتب الأفخم"، وكان بديوانه عشرون كاتبا، ثم زادوا إلى أربعة وأربعين، حتى شغل أثناسيوس منصب "متولي الخراج" عند الخليفة عبد العزيز.

وكان في خدمة الخليفة المعتصم أخوان مسيحيان بلغا منزلة سامية عند أمير المؤمنين؛ أحدهما يدعى سلمويه، ويظهر أنه كان يشغل منصب قريب أشبه بمنصب الوزير في العصر الحديث، وكانت الوثائق الملكية لا تتخذ صفة التنفيذ إلا بعد توقيعه عليها، على حين عهد إلى أخيه إبراهيم بحفظ خاتم الخليفة، كما عهد إليه بخزانة بيوت الأموال في البلاد، وكان المنتظر من طبيعة هذه الأموال وتصريفها أن يوكل أمر الإشراف عليها إلى رجل من المسلمين.

وفي عهد المعتضد، كان عمر بن يوسف والي الأنبار مسيحيا، وعهد الموفق - وكان صاحب السلطان المطلق في عهد أخيه المعتضد - بأمر تنظيم الجيش إلى مسيحي يدعى إسرائيل، واتخذ ابنه المعتضد نصرانيا آخر كاتبا له، وهو ملك ابن الوليد، وفي عصر متأخر تولى في أيام المقتدر نصراني آخر أمر ديوان الجيش.

"كذلك كان نصر بن هارون مسيحيا، وكان كبير وزراء عضد الدولة البويهي الذي حكم العراق جنوبي فارس، وقد ظلت دواوين الحكومة، وخاصة ديوان الخراج فترة طويلة مكتظة بالمسيحيين والفرس، وظلت الحال في مصر على هذا النحو حتى زمن متأخر جدا، حيث كان السواد الأعظم من المسيحيين يحتكرون أمثال هذه المناصب احتكارا يكاد يكون تاما".

".. وكان إبراهيم بن هلال من الصابئة(5) قد بلغ أرفع مناصب الدولة في العهد العباسي وتقلد الأعمال الجليلة، وكانت بينه وبين زعماء الأدب والعلم من المسلمين صلات حسنة، وصداقات وشيجة؛ حتى إنه لما مات رثاه الشريف الرضي شيخ الهاشميين العلويين ونقيبهم بقصيدته الدالية التي يقول فيها:

أعلمت من حملوا على الأعواد؟!

أرأيت كيف خبا ضياء النادي؟

ما كنت أعلم قبل حطك في الثرى

أن الثرى يعلو على الأطواد!

ويوضح السير توماس أرنولد أن إقصاء الذميين عن الوظاف الحكومية غالبا ما كان يرجع بوجه عام إما إلى سخط شائع أثاره السلوك الخشن المتعجرف، الذي يسلكه الموظفون المسيحيون، أو إلى ثورات من التعصب حملت الحكومة على القيام بأعمال من التعسف، تتنافى مع الروح العامة التي ظهر بها الحكم الإسلامي، ولكن مصير هذه الأعمال التعسفية قد آل إلى الزوال في أسرع وقت".

وجدير بالذكر هنا أن تزايد نفوذ غير المسلمين في مواقع القيادة والتأثير في مجتمعات المسلمين، لم يمر دون رد فعل من جانب بعض المسلمين، ففي عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله زاد نفوذ النصارى في بلاط الخليفة، الذي كان أصهاره من المسيحيين، فأرستس الذي عين بطريركا لبيت المقدس كان شقيقا لزوجة مسيحية للعزيز، وقد عين شقيقه أرمانيوس مطرانا على مصر، وكان لها نفوذ وحساب عند الخليفة، الأمر الذي دعا الشاعر الحسن بن بشر الدمشقي إلى القول في أبيات شهيرة:

تنصر فالتنصر دين حق

عليه زماننا هذا يدل

وقل بثلاثة عزوا وجلوا

وعطل ما سواهم فهو عطل

فيعقوب الوزير أب وهذا الـ

ـعزيز ابن وروح القدس فضل

ثم إن هذا الخليفة - العزيز بالله - استوزر بعد ذلك عيسى بن نسطورس النصراني، واستناب بالشام يهوديا اسمه منشا، فاعتز بهما النصارى واليهود، وآذوا المسلمين، فكتب أهل مصر رقعة وجعلوها في يد صورة، وأقعدوا الصورة في طريق العزيز والرقعة بيدها وفيها: بالذي أعز اليهود بمنشا، والنصارى بعيسى بن نسطورس، وأذل المسلمين بك، إلا كشفت ظلامتي؟! فلما رآها العزيز علم ما أراد، فقبض على الرجلين وصادرهما".

وفي مرحلة تالية، على عهد الخليفة الفاطمي الظاهر - ولي الوزارة بالقاهرة أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي، وكان يهوديا ثم أسلم، وكان يدير الدولة معه أبو سعد التستري اليهودي؛ ولذلك قال الشاعر المصري الحسن بن خاقان:

يهود هذا الزمان قد بلغوا

غاية آمالهم وقد ملكوا

العز فيهم والمال عندهمو

ومنهم المستشار والملك

يا أهل مصر إني قد نصحت لكم

تهودوا قد تهود الفلك

هل لا يزال هناك محل - بعد - للتساؤل عما إذا كان غير المسلمين تمتعوا بالجنسية أو حق المواطنة في المجتمع الإسلامي؟! ألا تنطق هذه الشهادات بأنهم، بوجه عام، لم يكونوا مواطنين فقط، بل كانوا مواطنين متميزين، حسدهم المسلمون في بعض الأحيان على ما تمتعوا به من سلطان ونفوذ وثراء، حتى شكا البعض في الأغلبية المسلمة من اضطهاد النافذين من الأقلية غير المسلمة لهم(6)!

وكانت محصلة هذا كله - كما يشهد العالم الألماني الشهير آدم ميتز - أن صار "أكبر فرق بين الإمبراطورية الإسلامية، وبين أوربا التي كانت كلها على المسيحية في العصور الوسطى، يتمثل في وجود عدد هائل من أهل الديانات الأخرى بين المسلمين".

ثم يضيف قائلا: "إن أهل الذمة استندوا إلى ما كان بينهم وبين المسلمين من عهود، وما منحوه من حقوق، فلم يرضوا بالاندماج في المسلمين، وقد حرص اليهود والنصارى على أن تظل دار الإسلام غير تامة التكوين، حتى إن المسلمين ظلوا دائما يعدون في البلاد المفتوحة أنهم أجانب منتصرون، لا أهل وطن".

وليس أدل على ذلك الاستقلال المبني على الاحترام، من أن قبط مصر - مثلا - لم يستخدموا اللغة العربية إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، أي أنهم ظلوا حوالي 350 عاما بعد الفتح الإسلامي يتكلمون اللغة القبطية.

ويذهب ميتز إلى أن " وجود النصارى بين المسلمين كان سببا لظهور مبادئ التسامح التي ينادي بها المصلحون المحدثون، وكانت الحاجة إلى المعيشة المشتركة وما ينبغي أن يكون فيها من وفاق، نوعا من التسامح الذي لم يكن معروفا في أوربا في العصور الوسطى، ومظهر هذا التسامح نشوء علم مقارنة الأديان، أي دراسة الملل والنحل على اختلافها، والإقبال على هذا العلم بشغف عظيم".

غير أن ما ينبغي أن يستوقفنا في هذا السياق حقا هو تلك الشهادة التي سجلها الأستاذ أدمون رباط في بحثه المهم "المسيحيون في الشرق قبل الإسلام"، وفيها يقول: "إنه للمرة الأولى في التاريخ انطلقت دولة هي دينية في مبدئها، ودينية في سبب وجودها، ودينية في هدفها، ألا وهو نشر الإسلام عن طريق الجهاد بأشكاله المختلفة؛ من عسكرية وتبشيرية، إلى الإقرار في الوقت ذاته بأن من حق الشعوب الخاضعة لسلطانها أن تحافظ على معتقداتها وتقاليدها وطراز حياتها، وذلك في زمن كان يقضي المبدأ السائد بإكراه الرعايا على اعتناق دين ملوكهم، بل حتى على الانتماء إلى الشكل الخاص الذي يرتديه هذا الدين، كما كان الأمر عليه في المملكتين اللتين كان يتألف منهما العالم القديم، وهو المبدأ السياسي المعروف بصيغته اللاتينية ejus reqio, cujus religio؛ أي: لكل مملكة دينها، مما يؤدي لأن يصبح الشعب على دين الملك، هذه القاعدة التي لم تندثر في البلاد الغربية إلا بفضل الثورة الأميريكية والثورة الفرنسية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

وكان لا بد إذن لهذه السياسة الإسلامية، النابعة من القرآن أن تنتج عنها نتيجتان حاسمتان ما زالت آثارهما ماثلة في الشعوب العربية، وهما: قيام الطوائف المسيحية على أساس النظام الطائفي من جهة، ودخول سكان الأقطار التي فتحها العرب في دين الإسلام من جهة أخرى.

فتلك الجماهير الكثيفة، التي تشكل أغلبية أهالي سوريا ومصر والعراق، إنما كانت تدين بالمسيحية، وقد اعتنقت الإسلام أفواجا متلاحقة، منذ القرن الأول من الهجرة، بمحض حريتها، في حين أن من بقي من هؤلاء النصارى، موزعين إلى طوائفهم المعروفة بتسمياتها المختلفة، إنما هم شهود عدل عبر التاريخ، ليس على سماحة الإسلام - وهو تعبير لا يفي بالواقع، لأن وجودهم كأهل ذمة في الماضي، إنما كان مبنيا على قاعدة شرعية وليس على شعور - من طبيعته أن يتضاعف أو أن يضعف - وإنما على إنسانية هذا الدين العربي الذي جاء في القرآن، وهو الدين الذي أقر لغير المسلمين، بحقوقهم الفردية والجماعية الكاملة" (7).

وينقل د. القرضاوي عن ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" قوله: "كان سلوك الحكام المسلمين في الغالب أحسن من القانون المفروض عليهم تنفيذه على الذميين، وليس أدل على ذلك من كثرة استحداث الكنائس وبيوت العبادة في المدن العربية الخالصة، ولم تخل دواوين الدولة قط من العمال النصارى واليهود، بل إنهم كانوا يتولون في بعض الأحيان أرفع المناصب وأخطرها فاكتنزوا الثروات الضخمة، وتكاثرت لديهم الأموال الطائلة، كما اعتاد المسلمون المساهمة في الأعياد المسيحية" (8).

بل إنه يزيد الأمر دقة فيقول: "إن كثيرا من ظلام الحكام كان يرفق بأهل الذمة رعاية لذمتهم، على حين كان يقسو على أهل ملته من المسلمين ويحيف عليهم، حتى وجدنا الشيخ الدردير علامة المالكية، وشيخ علماء عصره في مصر يذكر عن أمراء زمانه أنهم أعزوا أهل الذمة، ورفعوهم على المسلمين، حتى يقول: ويا ليت المسلمين عندهم كمعشار أهل الذمة، وترى المسلمين كثيرا ما يقولون: ليت الأمراء يضربون علينا الجزية كالنصارى واليهود، ويتركوننا بعد ذلك كما تركوهم"(9).

هذا بخصوص سلوك حكام المسلمين بوجه عام تجاه أهل الذمة، أما سلوك حكام الفاطميين - ومنهم الحاكم بأمر الله - خاصة، فيصفه د. حسن على بقوله: "وحين قامت الدولة الفاطمية في مصر (358: 567هـ) وجدنا أهل الذمة يشغلون معظم المناصب والمراكز المهمة في الدولة، حتى إن هذا العصر يعد بحق العصر الذهبي لأهل الذمة، إذ تمتع النصارى واليهود بالهدوء والاستقرار، فضلا عن النفوذ والأموال والمناصب المختلفة، إذ شغل أهل الذمة الكثير من المناصب، فكان منهم الوزراء، والكتاب، وعمال الدواوين، وحكام الأقاليم، وخدام القصر، وعمال الخراج.. وغير ذلك من الوظائف" (10).

وتزيد د. نريمان عبد الكريم الأمر تفصيلا فتقول: "وفي معرض العصر الفاطمي، والذي بلغ التسامح فيه أقصاه تجاه أهل الذمة، فمع زيادة سطوتهم واشتطاطهم، وجدنا الخلفاء الفاطميين يحدون من سلطانهم، فقام الخليفة الحاكم بأمر الله بمراقبة أهل الذمة من خلال واجبات الحسبة، كما عاد إلى الشروط العمرية - تقصد العهدة العمرية التي منحها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لأهل الذمة التي تضمنت الحقوق والواجبات - وبغض النظر عما اتسمت به شخصية الحاكم، وفترة حكمه بشكل عام من اضطراب وتقلب، فإن تصرفاته تجاه أهل الذمة كانت محكومة بأسباب؛ منها: اشتداد بأس أهل الذمة على المسلمين منذ أن تمكنوا من الدولة أيام العزيز، وسيطرتهم البالغة على النواحي كافة.

وبدأ الحاكم بأمر الله في إصدار أوامره الخاصة بتمييز أهل الذمة عن المسلمين بملابس خاصة، ومع ذلك فقد رجع الحاكم في آخر سني حكمه عما زاده على الشروط العمرية، واكتفى من أهل الذمة بلبس الزنار، ومما لا شك فيه أن أهل الذمة قد عوملوا معاملة طيبة خلال العصر الفاطمي، فأشارت وثائق الجنيزة إلى احتفاظ اليهود بحقوقهم المدنية كاملة، وحتى القيود التي ارتبطت بملابس اليهود وخاصة النساء، فقد ذكرت الوثائق أن ملابس اليهوديات كانت مماثلة للمسلمات، ولا يوجد أي تحديد في ارتداء لون معين، بل أكثر من ذلك أن الخلفاء كانوا يوزعون على موظفيهم من الذميين وزوجاتهم بعض الملابس الأنيقة" (11).

وهكذا فإنه لا يجوز الإجمال وإطلاق الأحكام على عواهنها دون تدقيق واحتراز، فهذه حال الذميين عامة والنصارى خاصة في عموم تاريخ المسلمين، وخصوصا تاريخ الفاطميين وعلى وجه الخصوص عهد الحاكم بأمر الله.

الخلاصة:

  • اتهام بعض المؤرخين والباحثين بعض حكام المسلمين - وبخاصة الحاكم بأمر الله الفاطمي - بالتوحش والجنون وغلظة القلب، وهو اتهام غير صحيح ولا يجوز تعميمه على جميع حكام العصر الفاطمي، ولا يجوز رميهم جميعا بأنهم كانوا شديدي القسوة في حق رعيتهم من أهل الذمة، كثيري الاعتداء على مقدساتهم.
  • والمطالع لنصوص القرآن والسنة وواقع المسلمين يجد الأمر على غير ما زعموا في الغالب؛ فقد حض القرآن على الإحسان للمخالفين - خاصة في العقيدة - فقال عز وجل: )ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى( (المائدة: 8)، وقال عز وجل: )لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8)( (الممتحنة)، وشدد الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حفظ ذمته في أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن أجري مجراهم كالصابئة والمجوس، وتهدد من جار في حقهم بالخصومة والمحاجة.
  • وعلى هذا سار المسلمون في علاقتهم بغيرهم فحفظوا ذمة الله ورسوله فيهم، وقد نال هؤلاء في كثير من العصور درجات عالية من الغنى والجاه والسلطة، خصوصا في العصر الفاطمي، أما ما وقع من استثناء لهذه القاعدة فقد ارتكبه حكام جائرون بطبعهم في حق المسلمين قبل غير المسلمين.
  • تواترت آراء المؤرخين حول تقلب أحوال الحاكم بأمر الله و غرابة تصرفاته وولعه الشديد بالدماء.
  • إن أهل الذمة لم يشهدوا تسامحا معهم كما شهدوه في ظل حكم المسلمين، و كان التسامح معهم هو القاعدة التي سار عليها حكام المسلمين إلا في حالات نادرة لا يستنتج منها حكم عام.
  • شهد مؤرخو النصارى ومنهم ترتون في كتابه "أهل الذمة في الإسلام" بالإنصاف والعدل والتسامح وغيرها من الصفات الإيجابية التي تعامل بها حكام المسلمين مع أهل الذمة من اليهود والنصارى.

 

 

 

 (*) الإسلام والغزو الفكري، محمد عبد المنعم خفاجي، وعبد العزيز شرف، دار الجيل، بيروت، ط1، 1411هـ/ 1991م.

[1]. تاريخ مصر الحضاري والسياسي، د. عبد الفتاح فتحي، دار الهاني، القاهرة، 2003م، ص215: 219.

  1. الإسلام كبديل، مراد هوفمان، مؤسسة بافاريا، ط1، 1993م، ص115.
  2. سلسلة عالم المعرفة، العدد 215، 1996م، ص185.
  3. مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، ط4، 1426هـ/ 2005م، ص60: 63 بتصرف.
  4. الصابئة: هم قوم من المجوس لهم ديانة خاصة.
  5. مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، ط4، 1426هـ/ 2005م، ص69: 72 بتصرف.
  6. مواطنون لا ذميون، فهمي هويدي، دار الشروق، القاهرة، ط4، 1426هـ/ 2005م، ص64: 66 بتصرف يسير.
  7. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1992م، ص60.
  8. غير المسلمين في المجتمع الإسلامي، د. يوسف القرضاوي، مكتبة وهبة، القاهرة، ط3، 1992م، ص71.
  9. أهل الذمة في المجتمع الإسلامي، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، سلسلة دراسات إسلامية، القاهرة، د. ت، ص120.

 

  1. معاملة غير المسلمين في الدولة الإسلامية، د. ناريمان عبد الكريم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مصر، 1996م، ص66: 68.

 

  • الجمعة AM 01:24
    2020-10-23
  • 1479
Powered by: GateGold