المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412582
يتصفح الموقع حاليا : 291

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن الخليفة العباسي كان شخصا مقدسا، وأنه ظل الله في أرضه

                       ادعاء أن الخليفة العباسي كان شخصا مقدسا، وأنه ظل الله في أرضه (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغرضين أن المسلمين اعتبروا الخليفة العباسي شخصا مقدسا، وأنه ظل الله في الأرض، ويستدلون على ذلك بأن الدولة العباسية لما قامت على أكتاف الفرس تأثرت بنظم الحكم الساساني المرتكز على نظرية الحق الملكي المقدس.

وجها إبطال الشبهة:

1) القول بأن للحاكم سلطة إلهية فكرة غير إسلامية دان بها أهل الملل الأخرى كالفرس والمصريين الفراعنة، أما خلفاء العباسيين فلم يدعوا لأنفسهم القداسة، ولا اعتقدها أحد الرعية منهم.

2)  ما كان للوزراء والقادة نفوذ كبير في البلاط العباسي، مما ينفي أن العباسيين اعتبروا أنفسهم ظلا لله في الأرض.

التفصيل:

أولا. سلطة الحاكم الإلهية فكرة غير إسلامية دان بها أصحاب الملل الأخرى، ولم يؤثر عن أحد من الخلفاء العباسيين أنه قال ذلك:

إن محاولة إلحاق هذه الدعوى بتاريخ المسلمين أمر باطل، لا دليل عليه وهو منها براء؛ وإنما مصدر فكرة تقديس الحكام والملوك والأباطرة:

راجع إلى طبيعة الحكم في الأمم السابقة على الإسلام؛ ففي كثير منها تجبر الحاكمون وزعموا أنهم فوق مستوى البشر الذين يحكمونهم؛ لأن الدماء الإلهية تجري في عروقهم؛ فهم آلهة أو أنصاف آلهة على الأقل، وهذا معروف عن فراعنة مصر، وأكاسرة الفرس، وغيرهم.

إنها طبيعة الكنيسة ودورها في تاريخ أوربا في العصور الوسطى المتخلفة، فالمعروف أن الكنيسة قد أدت خلال هذه العصور دورا أساسيا محوريا في تاريخ الغرب، ويقارن د. عبد الرحمن سالم بين دور رجال الدين والكنيسة في أوربا في العصور الوسطى وصلاحياتهم، وبين طبيعة دور علماء الشريعة والفقهاء في الإسلام - فيقول: "والثيوقراطية theocracy هي الحكومة الدينية أو الإلهية، والمقصود بها: الحكومة التي تخضع لسيطرة كهنوتية.

وكلمة theos في اليونانية معناها: الإله، وقد جاءت السابقة theo هنا لتشير إلى ما يوصف بأنه إلهي، وهكذا تسيطر طبقة رجال الدين على هذا النوع من الحكومات؛ فيصبغون تصرفاتهم بصبغة إلهية، ويجعلونها فوق مستوى المناقشة أو النقد؛ لأنها إرادة عليا تسمو على عقول البشر.

وهذا يعني باختصار أن الحكومة الثيوقراطية الدينية تؤول في النهاية إلى حكم ديكتاتوري مستبد لا يلقي بالا لإرادة الأمة، بل يمكن القول: إن الحكومة الثيوقراطية - الدينية - أكثر استبدادا أو تسلطا من الحكومة الديكتاتورية التي لا يزعم أصحابها أنهم ممثلون للسلطة الإلهية.

إننا لسنا في حاجة إلى مجهود كبير لإثبات أن نظام الحكم في الإسلام لا يتفق مع النظام الثيوقراطي؛ فالإسلام لا يعرف الكهنوت، ومن هنا فالحاكم المسلم لا يستطيع الادعاء بأن قراراته إلهية لا تقبل النقد، وبأنه منح وحده حق احتكار الدين والتحدث باسمه، وليس على الرعية إلا أن تسمع وتطيع، والكلمة التي قالها أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - عندما تولى الخلافة: "لقد وليت عليكم ولست بخيركم" لها أبلغ الدلالة في هذا المقام، وينبغي أن نذكر أنفسنا هنا بما قلناه قبل ذلك من أن الإسلام لا يعرف الخط الفاصل بين ما هو دين مجرد وما هو دنيا مجردة حتى على المستوى الفكري، أي: إن الإسلام - كما يقول علي عزت بيجوفيتش - لا يعرف كتابات دينية لاهوتية بالمعنى المفهوم في أوربا للكلمة، كما أنه لا يعرف كتابات دنيوية مجردة؛ فكل مفكر إسلامي هو عالم دين، كما أن كل حركة إسلامية صحيحة هي حركة سياسية.

وقد وضح مفكرو الإسلام بطلان دعوى اتهام النظام الإسلامي بالثيوقراطية توضيحا لا يحتاج إلى مزيد بيان؛ يقول الإمام محمد عبده في ذلك: ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة، والدعوة إلى الخير والتنفير من الشر، وهي سلطة خولها الله لأدنى المسلمين يقرع بها أنف أعلاهم، كما خولها لأعلاهم ينال بها أدناهم.

ويقول الأستاذ عمر التلمساني في بحث له بعنوان "الحكومة الدينية": هل لي أن أتصور مفترضا أن أصحاب هذا الشعار - أي هؤلاء الذين يتهمون الحكومة الإسلامية بأنها دينية - لا أتصور أن هؤلاء يتراءى في أذهانهم حال السلطة البابوية في القرون الوسطى، يوم أن كان البابا والمطارنة والقساوسة يحللون ما يشاءون ويحرمون ما يشاءون، ويدخلون الجنة من يريدون، ويقذفون في النار من يكرهون..!! وإلا فما كان لهم أبدا أن يكتبوا للناس شيئا اسمه الحكومة الدينية، ويخوفونهم منها، زعما منهم أن هذه الحكومة الدينية ستنتهي إلى مثل هذه الحكومة المسيحية في القرون الوسطى، إن هذه الصورة لا وجود لها في الإسلام على الإطلاق؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - ساوى في الإسلام بين الناس جميعا، رجالا ونساء، ساوى بينهم في كل شيء من ناحية الحقوق والواجبات، وبين الحاكم والمحكوم.

ولكن المؤسف أنه على الرغم من وضوح هذا الأمر وبداهته إلا أن الكثيرين ما زالوا يصرون على ترديد اتهام نظام الحكم في الإسلام بالثيوقراطية"([1]).

لا شك أن الفرق واضح بين نظام الحكم في الإسلام - نظرية وتطبيقا - وبين هذا النظام الثيوقراطي أو الإلهي بالمفهوم الكنسي.

وبناء على هذا نستطيع أن نقر بأن تاريخ المسلمين - فضلا عن شريعتهم - خلا من شواهد على الحكم الثيوقراطي الإلهي، وأن الخلفاء العباسيين - أو غيرهم - لم يزعموا لأنفسهم قداسة ولم يدعوا أنهم ظل الله في الأرض على طريقة الفراعنة أو الأكاسرة أو بابوات العصور الوسطى في أوربا، وهي - أي الخلافة العباسية - وإن قامت على أكتاف الفرس إلا أن نظرة الفرس التأليهية القديمة لأكاسرتهم لم تنسحب على تفكير خلفاء بني العباس وتصرفاتهم، وإن تجبر بعضهم وطغى واستبد، فهذه نقرة، وتلك نقرة أخرى، والجهة بينهما منفكة، كما يقول المناطقة والأصوليون.

ثانيا. كان لوزراء وقادة بني العباس قوة ونفوذ يصعب معه أن نتصور اعتبارهم أنفسهم ظلا لله في الأرض:

 بعيدا عن الضعف الواضح لخلفاء العصر العباسي الثاني (232هـ: 656هـ)، فإنه رغم قوة خلفاء العصر العباسي الأول (132: 232هـ) وسطوتهم إلا أن بعض رجال الدولة نالوا مكانة رفيعة في عهودهم وتصرفوا في الأمور؛ يتضح ذلك من قول د. حسن علي عن نفوذ البرامكة زمن الرشيد: "غير أننا نلاحظ أن الوزارة أصبح لها شأن كبير في عهد هارون الرشيد، وربما يرجع ذلك إلى اعتماد الرشيد على البرامكة الذين تمتعوا بخاص ثقته، وعظيم اقتناعه بهم، فنجد الرشيد استوزر يحيى البرمكي، وخوله صلاحيات جمة، وأعطاه سلطة نافذة فأخذ يشرف على الدواوين، والتوقيع على كل ما يصدر عن ديوان الخراج من كتب، وقد كانت هذه التوقيعات قبل ذلك من صلاحيات الخليفة وحده".

ويقول في حق الفضل بن سهل وزير المأمون: "وفي عهد المأمون صار الفضل بن سهل ذا نفوذ واسع حيث سمي"ذو الرئاستين" أي: السيف والقلم، وكانت وزارة الفضل هذه وزارة تفويض - تفوض الصلاحيات فيها للوزير ولا يكون مجرد منفذ - حيث أصدر الخليفة توقيعا يقول فيه: قد جعلت لك مرتبة من يقول في كل شيء فيسمع منه، ولا تتقدمك مرتبة أحد ما لزمت ما أمرتك به، العمل لله ولنبيه والقيام بإصلاح دولة أنت ولي قيامها.

فهل يصدق في حق خلفاء هذه صلاحيات وزرائهم، ورجالهم أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم ظل الله في الأرض يستبدون بكل أمر؟! ولا يغض من هذا أن البرامكة وابن سهل قد نكبوا بأوامر الرشيد والمأمون.

أما خلفاء العصر الثاني الضعاف الذين كانوا - في الغالب - ألعوبة في يد قادة الجند الترك وغيرهم، ولم يكن لهم ظل ولا حول ولا طول، فيكفي أن ندلل على ضعف نفوذهم وتهافته، وهوان أمرهم بعبارة يقول فيها آدم متز: "أما الخلفاء المتأخرون فلم يكن لهم عمل فعلي في إدارة الدولة " ([2]).

ويقول في حق أحدهم: "وكان القاضي أبو حامد أحمد بن محمد بن أحمد الإسفراييني قاضي بغداد المتوفى عام 406هـ/1015م رفيع الجاه في الدنيا، وقد وقع من الخليفة ما أوجب أن كتب إليه الشيخ أبو حامد: اعلم أنك لست بقادر على عزلي عن ولايتي التي ولانيها الله تعالى، وأنا أقدر أن أكتب إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث أعزلك عن خلافتك"([3]). أين مثل هؤلاء من أسطورة ظل الله؟!

الخلاصة:

  • إن فكرة ظل الله في الأرض لم يعرفها الإسلام، و لكنها كانت معروفة في الأمم السابقة؛ كما هو الحال عند فراعنة مصر وأكاسرة الفرس؛ لذا حاول المغرضون إلصاقها بالإسلام، واتهام نظام الحكم في الإسلام بأنه نظام ثيوقراطي ديني.
  • إن خلفاء بني العباس لم يدعوا لأنفسهم القداسة أو احتكار الدين والتحدث باسمه يوما من الأيام، بل عاملوا الرعية معاملة العدل والإنصاف، ورفعوا قدر العلماء وكانوا يستشيرونهم في كثير من القضايا، وأبرز الأمثلة على ذلك هو الإمام أبو حنيفة؛ حيث كان معاصرا لبني العباس، وكانت له مكانته الدينية المعروفة، وهو أحد أقطاب المذاهب الفقهية الأربعة.
  • شهدت المصادر التاريخية بالنفوذ الكبير الذي تمتع به وزراء الدولة العباسية، مما ينفي عن خلفاء بني العباس دعوى أنهم اعتبروا أنفسهم ظل الله في الأرض.

 

 

 

(*) شبهات حول العصر العباسي الأول، مؤيد فاضل ملا رشيد، دار الوفاء، مصر، 1411هـ/ 1990م.

[1]. دراسات في النظام السياسي والمالي في الإسلام، د. عبد الرحمن سالم، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص154: 156.

[2]. دراسات في التاريخ العباسي، د. حسن علي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص179: 181 بتصرف يسير.

[3]. دراسات في التاريخ العباسي، د. حسن علي، دار الثقافة العربية، القاهرة، 2000م، ص300.

  • الجمعة AM 01:20
    2020-10-23
  • 1716
Powered by: GateGold