المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409004
يتصفح الموقع حاليا : 374

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن العصر العباسي كان عصر ترف وشذوذ واستعباد للكادحين

                      ادعاء أن العصر العباسي كان عصر ترف وشذوذ واستعباد للكادحين (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعص المغرضين أن العصر العباسي كان عصر الترف والانحلال والشذوذ، وأن هذا الترف إنما كان يتمتع به الخلفاء وحواشيهم من البيت العباسي ومن القادة والوزراء والأمراء، أما غيرهم من الكادحين فقد كانوا يتحملون من أعباء الحياة ما لا يطاق؛ لأن الخلفاء حرموا الشعب حقوقه، وطوقوه بالاستعباد والاستبداد والعنف. ويرمون من وراء ذلك إلى وصم حقبة من أزهى حقب الخلافة بأنها كانت قبضة حديدية خرجت على الدين والعرف، وسخرت العامة.

وجها إبطال الشبهة:

1) إنه لخطأ منهجي فادح أن يعمم حكم ما على عصر من عصور التاريخ؛ فالعصر العباسي - شأن غيره من العصور التاريخية - له إيجابيات وسلبيات؛ فضلا عن أن إيجابياته كانت أكثر من سلبياته؛ فقد كان عصر ازدهار وتفوق حضاري ومادي للمسلمين.

2) عندما ضعفت الدولة العباسية، كانت قد خلفت في الولايات قوى جديدة، اضطلعت بحماية الإسلام، ومتابعة الفتوح، وتحقيق التفوق الحضاري الكامل للكيان الإسلامي.

التفصيل:                        

أولا. تعميم الأحكام التاريخية خطأ منهجي وعلمي، وقد كان العصر العباسي عصر ازدهار وتفوق حضاري ومادي للمسلمين:

لا يوجد إنسان باستثناء الأنبياء - عليهم السلام - مهما بلغ من التقوى والورع خلو من الخطأ، كما لا يوجد إنسان - مهما انغمس في الشر - قد تجرد من عمل الخير، وإذا وسعنا الدائرة نستطيع القول: إن عصرا من العصور في تاريخ المسلمين لم يخل من الإيجابيات والسلبيات - على تفاوت بين العصور - على المستويين السياسي والاجتماعي.

ومن هنا يقع الخطأ في الأحكام التاريخية حين تطلق وتعمم، ويتحول الاستثناء إلى قاعدة والعكس، فيوصف عصر طويل شاسع - زمانا ومكانا - بأنه عصر ترف ومجون وغلبة للهو والشرب وما إلى ذلك من مفاسد، وكأن من ذهب إلى مثل هذه الآراء الجامحة والأوصاف المطلقة غير المقيدة، والمنافية للموضوعية والدقة العلمية، كأنه قد زار البلاد الواسعة في ذلك الزمان الأول، ورحل في الأقاليم الشاسعة عبر دار الإسلام، ووجد الناس في أزقتها يتطوحون من السكر، واطلع على خباياهم؛ فإذا هم كافة لا يبرءون من العهر، ووجد الخلفاء يسوقون الناس بسياطهم في الشوارع، ويضربون رقاب من يأنفون الذل والخضوع.

فلئن كان العصر العباسي الأول قد شهد بعض مظاهر الترف والمجون، فقد حفل بالأعمال المجيدة على يد خلفائه الأقوياء ورجالهم، ولعل أبرز من ارتبط اسمه - في مخيلة العامة وعند ذوي الأحكام المعممة غير المتوازنة - بالإسراف في الترف واللهو هو هارون الرشيد، لكن المدقق يجد الصورة على غير ظاهرها الشائع إلى حد كبير؛ يقول د. محمد الرفاعي: "وتنسب كتب الأدب إلى الرشيد (170: 193هـ) أحاديث المجون ومجالس اللهو، ومنادمة السكارى والعابثين، وهذا يتنافى مع ما بلغنا من سيرته؛ إذ يقول الطبري: إنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة تطوعا إلى أن مات، لا يتركها إلا لعلة، ويتصدق من صلب ماله كل يوم بألف درهم.

وكان يحب العلم ويكرم أهله، ويعظم الحرمات ويكره المراء في الدين أو معارضة النص، وكان يبكي إذا وعظ، وكان يصغي إلى عظات أبي معاوية الضرير المحدث، وابن السماك الواعظ، ومرة كان الرشيد يشرب ماء، وطلب من ابن السماك أن يعظه، فقال له: يا أمير المؤمنين، بكم تشتري هذه الشربة لو منعتها؟ قال: بنصف ملكي، فقال: ولو منعت خروجها من بدنك بكم تشتري ذلك؟ قال: بنصف ملكي الآخر. فقال له: إن ملكا لا يساوي شربة وبولة، لخليق ألا يتنافس فيه. فبكى هارون. وكان الرشيد يكثر من الحج والغزو في سبيل الله، حتى قيل: إنه كان يحج سنة ويغزو أخرى، وقال فيه الشاعر:

فمن يطلب لقاءك أو يرده

فبالحرمين أو أقصى الثغور

ومن أشهر غزواته للروم "صائفة سنة 187هـ"، بعد أن نقض ملكهم نقفور الهدنة، وامتنع عن دفع الجزية، فكتب إليه الرشيد قائلا: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، وسار من يومه إلى مدينة هرقلة فخربها، وحقق النصر المبين، وأجبر ملكهم على دفع الجزية وهو صاغر، و انطلقت ألسن الشعراء بمدائح الرشيد وتخليد هذا الانتصار([1]).

وقد ناقش ابن خلدون هذه المسألة، فكان من قوله: وأما ما تموه به الحكاية من معاقرة الرشيد الخمر، واقتران سكره بسكر الندمان، فحاشا لله ما علمنا عليه من سوء، وأين هذا من حال الرشيد وقيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاوراته للفضيل بن عياض وابن السماك والعمري، ومكاتبته سفيان الثوري، وبكائه من مواعظهم، ودعائه بمكة في طوافه، وما كان عليه من العبادة والمحافظة على أوقات الصلوات وشهود الصبح لأول وقتها ([2]).

ومن خلفاء ذلك العصر الأول أيضا أبو عبد الله المأمون (198: 218هـ). الذي وصفه أحد الباحثين بقوله: "وكان المأمون من أعظم الشخصيات التي تولت منصب الخلافة العباسية؛ قال عنه السيوطي: "كان أفضل رجال بني العباسي حزما وعزما، وحلما وعلما، ورأيا ودهاء، وهيبة وشجاعة، وسؤددا وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة.. وقد اجتهد المأمون أن يجعل لنفسه منهجا في الحكم ودستورا في السياسة يدنو به من مصاف الرعيل الأول من الخلفاء الراشدين، حيث خطب في خراسان، لما ظهرت بوادر الخلافة إليه فقال: أيها الناس، إني جعلت لله على نفسي إن استرعاني أموركم أن أطيعه فيكم، ولا أسفك دما عمدا لا تحله حدوده وتسفكه فرائضه، ولا آخذ لأحد مالا ولا أثاثا، ولا أحكم بهواي في غضبي ولا رضاي، إلا ما كان في الله له، جعلت ذلك كله لله عهدا مؤكدا، وميثاقا مشددا، إني لفي رغبة في زيادته إياي في نعمه، ورهبة من مسألته إياي عن حقه وخلقه، فإن غيرت أو بدلت كنت للعبر مستأهلا وللنكال متعرضا، وأعوذ بالله من سخطه، وأرغب إليه في المعونة على طاعته، وأن يحول بيني وبين معصيته".

ويقول ذلك الباحث أيضا: "وقد يكون من أهم الأعمال السياسية التي قام بها المأمون أنه أدرك بخبرته مصلحة الأمة، ومدى احتياج الدولة لقيادة حكيمة تواصل مسيرة التقدم والنهوض، فتجاوز المأمون أبناءه وإخوته الكبار ونظر إلى الكفاءة والمصلحة العامة، فاختار أخاه المعتصم لولاية عهده، وكان المعتصم يجمع صفات الجندية من: قوة الجسم، ومهارة القيادة الحربية" ([3]).

والمعروف أن العلم والثقافة والترجمة جميعا بلغت أوج ازدهارها في عهد المأمون، وقد تجلى ذلك كله في إنشائه المؤسسة الثقافية الضخمة المعروفة "ببيت الحكمة" ببغداد، وقد ضمت مكتبة ضخمة وهيئة مترجمين، كما أسهم المأمون بنصيبه في الجهاد والغزو، وقد توفي ودفن بمدينة طرسوس بثغور الشام، في أثناء غزوه للروم سنة 218هـ.

ثانيا. عندما ضعفت الدولة العباسية، كانت قد خلفت في الولايات قوى جديدة، اضطلعت بحماية الإسلام ومتابعة الفتوح، وتحقيق التفوق الحضاري الكامل للإسلام:

ومن هذه القوى ما يأتي:

  1. السامانيون فيما وراء النهر وخراسان (250: 389هـ): الذين أسسوا دولة ثغرية في أقصى الحدود الشمالية الشرقية لدار الإسلام في مواجهة بلاد الترك الذين لم يكونوا قد اعتنقوا الإسلام حتى ذلك الوقت، فأخضعتهم ونشرت الإسلام بينهم إلى حد بعيد.
  2. الغزنويون (351: 581هـ): الذين أسسوا ملكهم بشرقي إيران ثم استداروا نحو شبه القارة الهندية ففتحوا الإقليم الشمالي المعروف بـ"الهندستان"، وفتحوا بذلك الطريق أمام الإسلام للانتشار هناك، كما كانت لهم جهود حضارية كبيرة.
  3. السلاجقة (447: 590هـ) بإيران والعراق والشام وآسيا الصغرى: وهم الذين جابهوا الروم البيزنطيين مجابهة قوية بلغت ذروتها في موقعة "ملازكرد" سنة 463هـ، والتي انحسر على أثرها نفوذ الروم غربا فاستنجدوا البابوية في روما فكانت هذه مقدمة الحروب الصليبية، وقد أجلى السلاجقة الروم عن القسم الشرقي من دولتهم بالأناضول، وأقام فرع منهم دولة لهم فيه عرفت بـ"دولة سلاجقة الروم" بآسيا الصغرى.
  4. الأيوبيون (569: 660هـ) بمصر والشام: ودورهم في جهاد الصليبيين - خاصة السلطان المجاهد صلاح الدين - معروف غير مجهول ولا منكور.
  5. المرابطون (451: 541هـ) ببلاد المغرب: وقد اتجهت جهودهم في جهتين؛ هما:
  • نحو الأندلس للدفاع عن الوجود الإسلامي بها ضد نصارى الإسبان الزاحفين من الشمال، وقد مدت جهودهم - مع غيرهم - عمر الوجود الإسلامي بها لقرون طويلة تالية.
  • جهة الجنوب بإفريقيا الإسلامية جنوب الصحراء؛ حيث أسسوا للإسلام بتلك البقاع نفوذا سياسيا وعسكريا، وبذروا بذرة نشر الإسلام وتعهدوها حتى صارت له الأغلبية فيها حتى اللحظة الراهنة، رغم كل محاولات التنصير.
  1. الموحدون (541: 668هـ): الذين ورثوا المرابطين بالمغرب والأندلس وتابعوا دورهم الجهادي بتلك النواحي.

كما ازدهرت في عهدهم الحركة العلمية، وكان من أبرز أعلامها: ابن جبير الرحالة المشهور صاحب الرحلة (ت 614هـ)، وابن عذارى المؤرخ صاحب "البيان المغرب" (حتى بعد سنة 712هـ)، ومحمد بن عبد الرحيم الأنصاري عالم القراءات (ت 567هـ)، وفي مجال الطب أبو جعفر الغافقي (ت 561هـ).. وغيرهم كثير([4]).

هذه هي الصورة العامة والملامح البارزة لذلك العصر العباسي الممتد، فهل يصح أن نختزل كل هذا ونتصوره - في عمومه - عصرا ماجنا لاهيا؟!

إن العصر العباسي هو الفترة التي بلغت فيها الحضارة الإسلامية أوج ازدهارها، خاصة في القرن الرابع الهجري المعروف بقرن الحضارة الإسلامية، والذي قصر عليه المستشرق آدم متز كتابه المشهور "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري". أوتطمر كل هذه الإنجازات الحضارية والجولات الجهادية التي ألمحنا إليها خلال السطور السابقة لتطفو صورة اللهو والمجون لغرض في النفس؟! حقا إن الغرض مرض، كما يقولون، وصدق القائل:

وعين الرضا عن كل عيب كليلة

ولكن عين السخط تبدي المساويا

الخلاصة:

  • إن التعميم خلط صريح في التعامل مع عصور التاريخ؛ فلا يوجد عصر من العصور يخلو من سلبيات وإيجابيات، وكل العصور شهدت هذا وذاك، والعصر العباسي واحد من عصور التاريخ المعروفة، وقد ظهر فيه الجانبان شأنه في ذلك شأن العصور كلها - ظهر فيه جانب الترف والمجون، وجانب الجدية والتطور، بل لا نكون مبالغين إذا قلنا إن هذا العصر الذي يتهم بأنه عصر ترف ومجون شهدت فيه الحضارة الإسلامية طفرة واسعة من التقدم والرقي لم تشهدها في غيره من عصور التاريخ.
  • تشهد المصادر التاريخية المعتمدة للخلفاء العباسيين بكثير من المآثر والفضائل وأعمال الجهاد والرقي بالعلم والعلماء، بخلاف ما نسمعه عنهم من افتراءات، ولا تغض من فضلهم وقدرهم محاولات التشويه المتعمدة التي قام بها الحاقدون والمغرضون لصرف أنظار الناس عما قاموا به من أعمال جليلة لخدمة الإسلام والمسلمين.
  • إذا كان هؤلاء الخلفاء قد ضعفوا في بعض العهود، فإن هناك من القوى الإسلامية من ملأ هذا الفراغ وبذل جهده في حماية بيضة الإسلام ومواصلة الرقي والتطور بالحضارة الإسلامية، ومن هذه القوى والدول الإقليمية: السامانيون والغزنويون والسلاجقة والأيوبيون والمرابطون والموحدون... وغيرهم من القوى والدويلات التي ملأت الفراغ السياسي والعسكري، وحافظت على التفوق الحضاري والمادي للكيان الإسلامي، وعمل ولاتها - بجد وإخلاص - على نشر الإسلام وتوسيع رقعة نفوذه فيما تحت أيديهم من البلاد وما وراءهم من الثغور.

 

 

 

(*) شبهات حول العصر العباسي الأول، مؤيد فاضل ملا رشيد، دار الوفاء، المنصورة، 1411هـ/ 1990م.

[1]. الخلافة العباسية والمشرق الإسلامي، د. محمد عبد الحميد الرفاعي، مكتبة النصر، القاهرة، 1999م، ص36، 37.

[2]. مقدمة ابن خلدون، تحقيق: د. علي عبد الواحد وافي، دار نهضة مصر، القاهرة، ط3، 1981م، ص303، 304.

[3]. قضايا ومواقف من التاريخ العباسي، د. هاشم عبد الراضي، دار النصر، القاهرة، 1998م، ص111، 112.

[4]. المسلمون في المغرب والأندلس، د. عبد الفتاح فتحي، دار الهاني، القاهرة، 2006م، ص25 وما بعدها.

  • الجمعة AM 01:19
    2020-10-23
  • 1300
Powered by: GateGold