المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412288
يتصفح الموقع حاليا : 346

البحث

البحث

عرض المادة

الطعن في اتباع الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول للنبي صلى الله عليه وسلم

                   الطعن في اتباع الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول للنبي صلى الله عليه وسلم (*)

مضمون الشبهة:

يطعن بعض المغرضين في اتباع الخلفاء الثلاثة الأول؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - للنبي - صلى الله عليه وسلم - وفي خلوص طاعتهم له، وولائهم لدعوته، ويزعمون أن ثلاثتهم كانوا لا يتحرون هديه إلا ليبادروا إلى خلافه، وأن ذلك كان عن تواطؤ بينهم. ويرمون بهذا إلى تشويه هذه الحقبة المباركة المزكاة من تاريخ الأمة الإسلامية.

وجوه إبطال الشبهة:

1)    إن خلوص اتباع الصحابة الثلاثة للنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته ثابت تاريخيا لا ينكره منصف.

2)    تحريهم سنته - صلى الله عليه وسلم - زمن خلافتهم، أمر مشهور عنهم، تؤيده شواهد سيرهم.

3)    المآخذ التي أخذت عليهم لا تثبت أمام النقد المنصف، فقد كان للراشدين في كل عمل أو قرار حجة ناهضة.

التفصيل:

أولا. تأسيهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في حياته:

الحديث عن تأسي أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم - بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وسابقتهم في الدين، وبلائهم في الدعوة - حديث طويل لا حدود له؛ إذ ليس الذي بين يدي الكاتب في ذلك رواية عن أذى تحملوه، أو خبرا في منقبة ثبتت لهم، أو مكرمة استبقوا إليها، أو غزوة شهدوها، بل إن لهم في جميع ذلك تراثا وتاريخا، وثلاثتهم من جلة السابقين إلى الإسلام الذين آزروا الدعوة في نشأتها الأولى، وهي - بعد - غريبة ضعيفة يفر أتباعها بدينهم، ويتخطف المستضعفون من حولها، وهؤلاء الثلاثة أيامئذ من السراة ذوي العشيرة والمال، فهل حملهم على مناصرة دعوة هذه حالها إلا إيمان صاف بحقيقتها، وقد كان بوسعهم أن يكونوا كالطلقاء الذين ينتظرون بإسلامهم أن تسفر الأيام عن غالب.

فأما أبو بكر - رضي الله عنه - فملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم - مدى حياته أمر مشتهر؛ فهو رفيق الهجرة، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وهذه فضيلة ثابتة له بنص التنزيل، ولم يزل ملازما له - صلى الله عليه وسلم - بعد هجرته فلم يتخلف عنه في مشهد من مشاهده، حتى قال الزمخشري: "كان مضافا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الأبد، فإنه صحبه صغيرا وأنفق ماله كبيرا، وحمله إلى المدينة براحلته وزاده، ولم يزل ينفق عليه ماله في حياته، وزوجه ابنته، ولم يزل ملازما له سفرا وحضرا، فلما توفى دفنه في حجرة عائشة أحب النساء إليه صلى الله عليه وسلم" [1].

وحديثا حين أراد الأستاذ العقاد أن يعين الخصلة البارزة في شخصية الصديق، على طريقته فيما يسميه "مفتاح الشخصية"، لم يجد لشخصية أبي بكر مفتاحا كالإعجاب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إعجابا ذهب به إلى أن جعل برهانه فيما يؤمن به وما يجحده، أن يكون رسول الله قاله أو لم يقله؛ فإن " برهانه في تصديق الغيب كبرهانه في تصديق الشهادة؛ لأن المرجع فيه إلى شخص القائل لا إلى الشيء الذي يقال"[2]. وآية ذلك الظاهرة ما كان منه حين تحادث الناس بقصة الإسراء، واضطربت فئة من المؤمنين وقتها، لما كانوا عليه من حداثة عهد بالدعوة الجديدة.

وأما عمر الفاروق فإعزازه للدعوة منذ أسلم جزء من سيرتها لا يمحي، وذلك ما حفظه له عامة أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وعرفوا به فضله وسابقته في بدء إسلامه وفي ختام حياته.

ففي البدء قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر». [3] وقال أيضا: "كان إسلام عمر فتحا، وكانت هجرته نصرا، وكانت إمارته رحمة، لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي ونطوف بالبيت حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتلهم حتى تركونا فصلينا" [4] [5].

وفي ختام حياته كان عمر بابا يحجز الله به فتنا تموج كموج البحر، على ما يرويه حذيفة بن اليمان أن عمر سأله عنها فقال: «ليس عليك منها بأس يا أمير المؤمنين؛ إن بينك وبينها بابا مغلقا، قال عمر: أيكسر الباب أم يفتح؟ قال: لا، بل يكسر، قال عمر: إذن لا يغلق أبدا، قلت: أجل"، وفيه: "قلنا لحذيفة: أكان عمر يعلم الباب؟ قال: نعم، كما يعلم أن دون غد ليلة، وذلك أني حدثته حديثا ليس بالأغاليط، فهبنا أن نسأله من الباب؟ فأمرنا مسروقا فسأله، فقال: من الباب؟ قال: عمر» [6].

فجعل الله - عز وجل - عمر خيرا للدعوة، لم تستعلن بنفسها إلا بعد إسلامه، وكانت وفاته فاتحة فتن لم تزل الحياة الإسلامية تحس آثارها إلى اليوم فيما تمخض عنها من مذاهب وطوائف، وهو - رضي الله عنه - فيما بين البدء والختام سيف للرسالة شديد في الحق، وعون لصاحبها، وخليفة من بعده.

وليس عثمان بأقل من الشيخين في هذا الجانب، جانب الإخلاص للدعوة، والاحتشاد للبذل في سبيلها، وشراؤه بئر رومة شاهد على ذلك، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من يحفر بئر رومة فله الجنة». [7] وتلك مكرمة ظاهرة، واضطلاعه بتوسعة المسجد النبوي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - وسخاؤه في الإنفاق على جيش العسرة في تبوك من جملة مناقبه التي توجت بشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بأنه من أهل الجنة.

ثانيا. تحريهم سنته - صلى الله عليه وسلم - زمن خلافتهم:

إن سيرة هؤلاء الخلفاء الثلاثة تجعل ادعاء مخالفتهم سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته ظنا لا أساس له؛ إذ لا تسنده رواية، ولا يعضده شاهد أو حادث، وتأويل وقائع التاريخ الثابتة بناء على فرض نيات وقصود لا تعرف ولا يشهد لصحتها شيء، مما لا ينفع، ولا ينبغي أن يعول عليه؛ لأنه - أول أمره - يهز الثابت التاريخي بالسوانح والظنون، ثم هو - آخر الأمر - يفتح بابا للتخرص والهوس، متى ينفتح لا يوصد ألبتة.

وقد ثبت أن أبا بكر - رضي الله عنه - صان الله به دينه حين انتقضت الأعراب واجتمعت على منع الزكاة فيما عرف بحروب الردة، وحفظ به هيبة دينه حين أنفذ بعث أسامة في هذه الملابسات العسيرة، وثبت أن عمر - رضي الله عنه - انكسرت بفتوحه دولتا الروم والفرس فتغير بزوالهما شكل العالم القديم، وأنه أحدث في الدولة من فنون التنظيمات والإدارة ما بوأها الرتبة الرفيعة في تاريخ العصر الوسيط، وكذلك ثبت أن عثمان - رضي الله عنه - صان الله به كتابه حتى جمع المسلمين على مصحف واحد، وكان أول من غزا إفريقية، وأول من أنشأ أسطولا في الإسلام.

إذا استقر في أذهاننا هذا كله، فهل من الإنصاف أن يقال بعد ذلك: إن هؤلاء إنما أرادوا بما صنعوا كيت وكيت من مطامع الدنيا، فما هذه الإرادة؟ وكيف لأحد أن يتثبت منها، والحق أننا نعجب ممن يجاوزون بالناس العصور والأجيال إلى مواقع بعيدة في الزمن، ثم يحدثونهم عن نية، أو قصد، أو خاطر لفلان وفلان في ذلك الزمن البعيد، وليس لشيء من ذلك مظهر حسي من فعل أو قول، كيف يتسنى لباحث مثل هذا الكلام، أو شيء قريب منه؟!

لقد تبدت آيات الاقتداء عند الصديق في مواطن كثيرة؛ منها أنه "لما اختلف المختلفون في بعثة أسامة كان أمام أبي بكر خطط متعددة يختار منها ما يشاء، مثل: أن يحتفظ بالجيش لحراسة المدينة، وأن يحتفظ به لحرب أهل الردة، وأن يبعث به إلى العراق ترصدا للفرس المنذرين بالإغارة، وأن يبعث به حيث أراد رسول الله، وإن قال بعض القائلين: إن الحال قد تبدل، وإن المقام يؤذن بالمراجعة فيما أراد، فشاء أبو بكر الخطة التي شاءها محمد - صلى الله عليه وسلم - وأبى أن يأذن فيها بمراجعة أو تبديل.

ولما جاءوا بالأعطية يقسمونها كانت التفرقة بين الأقدار أدنى إلى التصرف، وكانت التسوية بين الأقدار أدنى إلى الاتباع، وكان عمر يقول: أنعطي من حارب الرسول كما نعطي من حارب مع الرسول؟ وكان أبو بكر يقول: أنؤجرهم على إيمانهم فنعطيهم بمقدار ذلك الإيمان؟ فكان عمر عنوان التصرف، وكان أبو بكر عنوان الاقتداء" [8].

ثم أليس هو الذي أقدم على محاربة المرتدين حين منعوه ما كانوا يؤدونه إلى رسول الله، وخشي أن يجمع القرآن؛ لأنه أمر لم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن يكن عملا صالحا في نفس الأمر، فذلك أبو بكر في حسن تأسيه وتصونه، وفي تعظيمه قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - وتورعه أن يكون منه ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فأما عمر - رضي الله عنه - فكان مما قاله في خطبته التي افتتح بها خلافته: " إنه لم يبلغ حق ذي حق أن يطاع في معصية الله، ألا وإني أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة ولي اليتيم؛ إن استغنيت عففت، وإن افتقرت أكلت بالمعروف" [9].

وهذا منهج نبوي في لفظه وفحواه، يريد أن تمضي السنن النبوية في عهده على الوجه الذي كانت عليه في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبه، وهو منهج الاتباع والتأسي بمن تقدم، لا منهج من يريد أن يضع مبادئ وتعاليم من عند نفسه.

على أننا حين نقرر في هذا السياق تأسي عمر بمن قبله لا نرمي إلى أكثر من تأسيه في المنهج ومعالجة الأمور، وفي ضبط النوازل والوقائع بما يلائمها من تشريع إلا يكن دينا فهو سياسة ينصلح بها الناس في الدنيا إن لم يكونوا يثابون عليها في الآخرة.

نرمي إلى ذلك ونؤكده، بمناسبة أن أناسا أخذوا على سيرة الفاروق محدثات جاءت بها الحياة ولم يسع هو إليها؛ فإن تغير الحياة بكثرة الفتوحات، ووفرة المال، واتساع الدولة الإسلامية، ولمها شعث ما تفرق في الشرق القديم من ملل، ونحل وأجناس - تغير الحياة بذلك كله مما يستتبع تحولا اجتماعيا يصحبه تبدل في النظم والعلاقات، وهو أمر لا بد أن يقابل بتشريع وحدود؛ فلذلك عرفت الحقبة العمرية من مستحدثات مسائل الشريعة ما صار تراثا لمن بعده من الفقهاء والمجتهدين، وما صار - كذلك - مادة للمآخذ التي ادعيت عليه.

وهذا ما شهد به عدد من المستشرقين منهم موير في كتابه "الخلافة" ود. مايكل هارت الذي عد عمر أحد الخالدين المائة الذين أحصاهم في كتاب له بهذا الاسم، ومنهم كذلك واشنجتون إيرفنج الذي يقول في كتابه "محمد وخلفاؤه":

"إن حياة عمر من أولها إلى آخرها تدل على أنه كان رجلا ذا مواهب عقلية عظيمة، وكان شديد التمسك بالاستقامة والعدالة، وهو الذي وضع أساس الدولة الإسلامية ونفذ رغبات النبي - صلى الله عليه وسلم - وثبتها، وآزر أبا بكر بنصائحه في أثناء خلافته القصيرة، ووضع قواعد متينة للإدارة الحازمة في جميع البلدان التي فتحها المسلمون، وإن اليد القوية التي وضعها على أعظم قواده المحبوبين لدى الجيش في البلاد النائية وقت انتصاراتهم، لأكبر دليل على كفاءته الخارقة لإدارة الحكم وكان ببساطة أخلاقه واحتقاره للأبهة والترف، مقتديا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر - رضي الله عنه - وقد سار على أثرهما في كتبه وتعليماته للقواد" [10].

وقد افتتح عثمان - رضي الله عنه - خلافته بنحو مما صنع عمر، وذلك أنه وقف يخطب الناس بعد بيعته، فكان من قوله: "أما بعد، فإني كلفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم على بعد كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا؛ اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم وسن أهل الخير فيما سنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة، وإن الدنيا خضرة وقد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها" [11].

وهذا الذي يقوله عثمان عن نهجه في خلافته لا يسار به فردا أو فئة، وإنما يحدث به على رؤوس الناس، وهو حديث تعدى فيه صاحبه طريقة الساسة والملوك، إلى حيث صار حديث إمام أو خليفة بكل معنى الكلمة، كما قد يقال؛ فليس مما يتناوله هؤلاء في خطبهم أن يحذروا الناس من الدنيا، وأن يعلنوا أنهم يكفون عن رعيتهم إلا متى استوجبوا العقاب، ولا أنهم مؤتمون بمن قبلهم، وأنى يقولون هذا وهم في أغلب الأمر ما تملكوا إلا بحرص منهم على الدنيا، ولا استقر لهم ملك إلا ببطش واعتساف؟!

وبالجملة كان عثمان - رضي الله عنه - مثالا رائعا للإمام الإسلامي، كما كان صاحباه من قبل أبو بكر وعمر، وإن كان الله - عز وجل - يفضل بعض خلقه على بعض، لا سيما وعثمان قد تقدمه رجل أتعب من بعده.

وقد يعسر بعد ذلك أن ننتخب من تراث عثمان شذرات تجلي هذا الاتباع فعلا، بعد أن أعلنه هو في الناس قولا؛ فإن هذه خطبه في عامة الناس وكتبه إلى قادة جنده توشك ألا يخلو شيء منها عن تذكير بسنة أو مكرمة وتأكيد منه على أنه متبع ليس بمبتدع، ولقد كان أمرا مألوفا أن يحتسب عثمان - رضي الله عنه - بنفسه متى عرض له منكر.

 فقد نهى محمد بن جعفر بن أبي طالب عن لبس الثوب المعصفر لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك في قوله: «إن هذه من ثياب الكفار». [12] ونهى عن اللعب بالنرد وأمر بتحريقه وكسره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله»، [13] وضرب رجلا بدا منه استخفاف بالعباس عم النبي - صلى الله عليه وسلم ـ؛ قائلا: " أيفخم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فعل ذلك ومن رضي به منه"، وهو من قبل ذلك كله قد اتخذ لنفسه مجلس شورى يؤامر رجاله فيما يعن من أمور الخلافة والمصالح العامة، التي لا يحسن أن يستبد بالقضاء فيها رجل واحد، وتلك سنة الشيخين من قبل عثمان [14].

ثالثا. حول أمور أخذت على سيرتهم:

يحسن بنا منذ البدء أن نقول كلمة عامة في صفة هذه المآخذ على سيرة الخلفاء الثلاثة، ذلك أن خلافة الصديق لا تختلف في شيء - دق أو جل - عن عصر النبوة، وذلك مما يقر به الدارسون من مسلمين وغيرهم، فإن الفتوح التي كانت في عهده لم تؤت ثمارها إلا في خلافة عمر؛ فلذلك لم يبد لها أثر في الحياة العامة في مدة خلافته القصيرة، وهذا يفسر لنا حقيقة أن ما أخذ على أبي بكر هو أمر غير تاريخي، إنما هو مذهبي تثيره طائفة لا تراه من الأصل مستحقا للإمامة.

وأما عمر - رضي الله عنه - فقد أسلفنا أن التحول الاجتماعي الذي أسفرت عنه الفتوح في عهده كان دافعا لكثير من الاجتهادات الشرعية في الفروع، ومثل هذه الاجتهادت لا تعدو أن تكون صوابا أو خطأ، فأما أن يتجاوز بها إلى الطعن في أصل التدين والاتباع لصاحب الشريعة، فهذه هي النقلة البعيدة التي تعين عليها توجهات مذهبية أكثر من النظر المنصف النزيه. وكان عهد عثمان رضي الله عنه - على خيريته - محلا لطعون كثيرة هي من هذا الطراز الذي لا يبلغ - في منتهاه - أن يمس دينهم وسابقتهم، وإنما تنفخ فيه روح طائفية حتى تحيله تغييرا وتبديلا في العقيدة أو الشريعة.

ونخلص من ذلك كله إلى أن عدم التناسب بين أصل المأخذ - على تقدير صحته - وما ترتب فوقه من نتائج، جدير بأن يظهر أن عامة هذه المآخذ لا ترجع إلى تحقيق تاريخي - وإن تزيت بردائه - قدر ما ترجع إلى ميول مذهبية.

فمسألة فدك التي أخذت على سيرة الصديق، وضخمت وجعلت قضية كبرى، ليست غير أمر هين، مفاده أن فاطمة - رضي الله عنها - قد ظنت أنها ترث أباها - صلى الله عليه وسلم - كما يرث الأولاد آباءهم، فجاءت إلى الصديق تطلب نصيبها في فدك وسهمها من خيبر، فأعلمها أبو بكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نورث، ما تركنا صدقة». [15] فأذعنت - رضي الله عنها - للحق وكفت عما طلبته.

لكن طائفة من غلاة الرافضة أنشئوا أدعية طوالا في لعن غاصب فدك، وزعموا أن فاطمة غصبت حقها قهرا، وأن أبا بكر هو من وضع هذا الحديث ليمنعها حقها، وفي هذا من الغفلة شيء كثير؛ إذ لا وجه لتخصيص فاطمة بذلك، فإن يكن رسول الله يورث كسائر الناس، فإن لأمهات المؤمنين - وفيهن عائشة - نصيب فيما ترك، ثم إن هذا الحديث مما تلقاه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقبول، بل قد ثبت من طرق غير طريق أبي بكر؛ فجاء عن عائشة وعمر وعثمان وعلي والعباس وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف والزبير وطلحة وغيرهم [16].

وأما ما صنعه عمر - رضي الله عنه - مما ظاهره أنه مخالفة للمعروف من أحكام الشريعة، فليس هذا الظاهر صحيحا، ويسوق الشيخ علي حسب الله نماذج من هذه القضايا العمرية، ويعلق عليها بما يجلي حقيقتها، قال: "فإلغاؤه سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات لم يكن إهمالا للنص كما قالوا، بل لأنه لم يجد مجالا للعمل به، فقد عز الإسلام، واستغنى بقوته وعزته عن استرضاء العتاة والاستعانة بالمخالفين، وأصبح إعطاء هؤلاء مذلة: )ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين( (المنافقون: 8).

ولو أنه - رضي الله عنه - وجد مجالا للعمل بالنص بعد هذا ما توانى عن تطبيقه، ومنعه إقامة حد السرقة عام المجاعة لم يكن إلغاء للنص، بل لأنه لم يجد السارق الذي يستحق القطع بسبب المجاعة التي قد تلجئ الناس إلى أكل الحرام، وقد علم أن الحدود تدرأ بالشبهات؛ ولهذا رجع المسلمون إلى تطبيق النص بعد انتهاء المجاعة. وإذا امتنع الناس عن الجرائم التي توجب الحدود، فلم يقم الحاكم حدا، فهل يقال: إنه ألغى النصوص التي توجب إقامتها؟!

وأمره حذيفة بتطليق الكتابية التي تزوجها ليس إلغاء للنص المبيح لتزوجها، بل لأنه وجد في مفارقته إياها مصلحة أرجح من إقامتها معه، كما تمنع الحكومات الآن رجال السياسة أو الممثلين الدوليين خاصة من تزوج الأجنبيات خوفا من إذاعة أسرار الدولة" [17].

أما ما زعم على عثمان - رضي الله عنه - فقد تقدم أنه شيء كثير، منه إتمامه الصلاة بمنى، وعفوه عن عبيد الله بن عمر وأنه لم يقتله بالهرمزان، والزيادة في الحمى، ونفيه أبا ذرة الغفاري إلى الربذة، وغير ذلك مما لا نستطيع أن نستوفيه ولا كثيرا منه هنا، ولكن ننتخب من جملة ذلك أمرا نراه أليق شيء بمقامنا هذا، وهو مقام الحديث عن الاتباع، ثم نحيل إلى مصادر استوفت مناقشة هذه الأمور.

ذلك هو ما تدعيه الرافضة من أن عثمان آوى إليه الحكم بن أبي العاص بعد أن طرده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المدينة، وهي واقعة ساقطة الرواية فلا تعرف بسند صحيح، والحكم هذا كان من مسلمة الفتح الطلقاء.

وهؤلاء لم يبرحوا مكة إذ لا هجرة بعد الفتح، فكيف نفاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من المدينة وهو ليس من أهلها، بل فوق ذلك - على تقدير صحة هذه الفرية، وهي لا تصح - أن عقوبة النفي أقصاها في الشرع عام للزاني غير المحصن، ولا يعرف نفي مدى الحياة.

بل قد ورد عن عثمان أنه استأذن رسول الله في رد الحكم، فأجابه كما أجابه حين شفع في عبد الله بن سعد بن أبي السرح وكان قد ارتد، فجرمه كان أعظم من جرم الحكم، وقد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه شفاعة عثمان [18].

الخلاصة:

  • الخلفاء الراشدون الثلاثة أبو بكر، وعمر، وعثمان - رضي الله عنهم - إنما هم - قبل أن يكونوا خلفاء وحكاما - من السابقين الأولين إلى الإسلام الذين انتصروا للدعوة النبوية، أيام كان اعتقادها فراقا للأرض، ومعاداة للعشيرة، وثلاثتهم من الموسرين ومن أشراف قومهم، وقد استعملهم الله - عز وجل - في نصرة دينه بأموالهم، وأنفسهم، فأي شيء هو أجفى للحقيقة من الطعن في دين هؤلاء ومن في طبقتهم؟!
  • لم تتغير سيرة هؤلاء الصحابة الأخيار في جانب الاتباع والتأسي في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها بعد وفاته، فهم بين طاعة لشخصه، وطاعة لسنته وسيرته، وهذه الخصلة في عهود خلافتهم مما نوه به الدارسون المنصفون من مسلمين وغير مسلمين.
  • قد تبين أن عامة المآخذ المدعاة على سير الخلفاء الثلاثة إنما ترجع إلى نعرات مذهبية حكمت في التاريخ فحرفت سيرا ومواقف ثابتة لتصحيح تصوراتها، وقد كانت سلامة المنهج تقضي بدرس تلك الوقائع دون مقررات سابقة، أو ميول مذهبية مغرضة.

 

 

 

(*) شبهات وردود: الرد على شبهات أحمد الكاتب حول إمامة أهل البيت ووجود المهدي المنتظر، السيد سامي البدري، نشر المؤلف، ط3، 1421هـ.

[1]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص79.

[2]. عبقرية الصديق، عباس العقاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003م، ص76.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3481).

[4]. أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 270)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (44/ 48).

[5]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص29.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3393)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب الفتنة التي تموج كموج البحر (7450).

[7]. أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم، كتاب فضائل الصحابة، باب مناقب عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ قبل حديث رقم (3492).

[8]. عبقرية الصديق، عباس العقاد، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2003م، ص76، 77.

[9]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص114.

[10]. عمر بن الخطاب، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص75.

[11]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص92.

[12]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن لبس الرجل الثوب المعصفر (5555).

[13]. حسن: أخرجه مالك في الموطأ، كتاب الجامع، باب ما جاء في النرد (3518)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب آداب العامة، باب من لم يسلم على أصحاب النرد (1269)، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد (962).

[14]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص92 وما بعدها.

[15]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الخمس، باب فرض الخمس (2926)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركنا فهو صدقة" (4679).

[16]. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج4، ص100 وما بعدها. موقف الشيعة الاثنى عشرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج1، ص416 وما بعدها.

[17]. أصول التشريع الإسلامي، علي حسب الله، طبعة خاصة، د. ت، ص163، 164 بتصرف.

[18]. منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة والقدرية، شيخ الإسلام ابن تيمية، تحقيق: محمد أيمن الشبراوي، دار الحديث، القاهرة، 1425هـ/ 2004م، ج6، ص100 وما بعدها. حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص134 وما بعدها. د. عبد القادر بن محمد عطا صوفي، دار أضواء السلف، الرياض، ط1، 1426هـ/ 2006م، ج2، ص891 وما بعدها.

  • الجمعة AM 12:16
    2020-10-23
  • 1811
Powered by: GateGold