المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409037
يتصفح الموقع حاليا : 327

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن طلحة والزبير - رضي الله عنهما - خرجا على علي - رضي الله عنه - طمعا في الخلافة

ادعاء أن طلحة والزبير - رضي الله عنهما - خرجا على علي - رضي الله عنه - طمعا في الخلافة (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعص المشككين أن خروج طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان بسبب طمعهما في الخلافة، باغين من وراء ذلك الطعن في أخلاق الصحابة وتقواهم وعلاقتهم فيما بينهم، ومن ثم الطعن في عدالتهم رضي الله عنهم.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  تمت بيعة علي - رضي الله عنه - بالاختيار، وثبتت مبايعة كل من طلحة والزبير له - رضي الله عنهم - بروايات صحيحة.

2)  خرج طلحة والزبير - رضي الله عنهما - للمطالبة بدم عثمان - رضي الله عنه - والقصاص من قاتليه، ولم ينشقا عن خليفتهم الشرعي، ولم تذكر المصادر التاريخية أنهما طالبا بالخلافة قط.

3)  إذا كان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - طامعين في الخلافة؛ فلماذا تنازلا عنها لغيرهما، وذلك حينما رشحهما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضمن ستة من الصحابة الكرام الذين حصر الخلافة فيهم؟!

التفصيل:

أولا. تمت بيعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بالاختيار، وثبتت بروايات صحيحة مبايعة كل من طلحة والزبير له رضي الله عنهم:

يتحدث د. علي الصلابي عن بيعة علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - الخليفة الرابع الراشد فيقول: "تمت بيعة علي - رضي الله عنه - بالخلافة بطريقة الاختيار وذلك بعد أن استشهد الخليفة الثالث الراشد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - على أيدي الخارجين المارقين الشذاذ الذين جاءوا من الآفاق ومن أمصار مختلفة وقبائل متباينة لا سابقة لهم، فبعد أن قتلوه - رضي الله عنه - ظلما وعدوانا يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من الهجرة، قام كل من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمبايعة علي - رضي الله عنه - بالخلافة، وذلك لأنه لم يكن أحد أفضل منه على الإطلاق في ذلك الوقت، فلم يدع الإمامة لنفسه أحد بعد عثمان - رضي الله عنه - ولم يكن أبو السبطين - رضي الله عنه - حريصا عليها، ولذلك لم يقبلها إلا بعد إلحاح شديد ممن بقي من الصحابة بالمدينة، وخوفا من ازدياد الفتن وانتشارها، ومع ذلك لم يسلم من نقد بعض الجهال إثر تلك الفتن كموقعة الجمل وصفين التي أوقد نارها وأنشبها الحاقدون على الإسلام كابن سبأ وأتباعه الذين استخفهم فأطاعوه؛ لفسقهم ولزيغ قلوبهم عن الحق والهدى، وقد روى الكيفية التي تم بها اختيار علي - رضي الله عنه - للخلافة بعض أهل العلم.

فقد روي عن محمد بن الحنفية أنه قال: كنت مع علي - رحمه الله - وعثمان محصور قال: فأتاه رجل فقال: إن أمير المؤمنين مقتول الساعة، قال: فقام علي، قال محمد: فأخذت بوسطه تخوفا عليه فقال: خل لا أم لك، قال: فأتى على الدار، وقد قتل الرجل، فأتى داره فدخلها فأغلق بابه، فأتاه الناس فضربوا عليه الباب فدخلوا عليه فقالوا: إن هذا قد قتل ولا بد للناس من خليفة ولا نعلم أحدا أحق بها منك، فقال لهم على: لا تريدوني فإني لكم وزيرا خير مني لكم أميرا، فقالوا: لا والله لا نعلم أحدا أحق بها منك، قال: فإن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا، ولكن أخرج إلى المسجد, فبايعه الناس.

وفي رواية أخرى يقول عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: فلقد كرهت أن تأتي المسجد؛ كراهية أن يشغب عليه، وأبي هو - أي: علي - إلا المسجد، فلما دخل المسجد جاء المهاجرون والأنصار فبايعوا وبايع الناس [1].

  • بيعة طلحة والزبير رضي الله عنهما:

عن أبي بشير العابدي قال: كنت بالمدينة حين قتل عثمان - رضي الله عنه - واجتمع المهاجرون والأنصار وفيهم طلحة والزبير فأتوا عليا، فقالوا: يا أبا الحسن هلم نبايعك، فقال: لا حاجة لي في أمركم، أنا معكم، فمن اخترتم فقد رضيت به.. فاختاروا، فقالوا: والله ما نختار غيرك.. إلخ، وفيها تمام البيعة لعلي رضي الله عنه.

والروايات في هذا كثيرة ذكر بعضها ابن جرير في تاريخه، وهي دالة على مبايعة الصحابة - رضي الله عنهم - لعلي - رضي الله عنه - واتفاقهم على بيعته بما فيهم طلحة والزبير.

وأما ما جاء في بعض الروايات من أن طلحة والزبير بايعا مكرهين، فهذا لا يثبت بنقل صحيح، والروايات الصحيحة على خلافه؛ فقد روى الطبري عن عوف بن أبي جميلة قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إن عليا جاء فقال لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك. فقال طلحة: أنت أحق، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك, فبسط علي يده فبايعه.

وعن عبد خير الخيواني أنه قام إلى أبي موسى فقال: يا أبا موسى، هل كان هذان الرجلان - يعني طلحة والزبير - ممن بايع عليا؟ قال: نعم. كما نص الإمام المحقق ابن العربي المالكي على بطلان ما يدعى من أنهما بايعا مكرهين، وذكر أن هذا مما لا يليق بهما ولا بعلي؛ قال: فإن قيل بايعا مكرهين قلنا: حاشا لله أن يكرها، لهما ولمن بايعهما، ولو كانا مكرهين ما أثر ذلك، لأن واحدا أو اثنين تنعقد بهما البيعة وتتم، ومن بايع بعد ذلك فهو لازم له، وهو مكره على ذلك شرعا، ولو لم يبايعا ما أثر ذلك فيهما، ولا في بيعة الإمام، وأما من قال: يد شلاء وأمر لا يتم[2]، فذلك ظن من القائل أن طلحة أول من بايع، ولم يكن كذلك، فإن قيل: قال طلحة: بايعت واللج على قفي! قلنا: اخترع هذا الحديث من أراد أن يجعل في (القفا) لغة (قفى)، كما يجعل في (الهوى) (هوي) وتلك لغة هذيل لا قريش، فكانت كذبة لم تدبر، وأما قولهم: (يد شلاء) لو صح فلا متعلق لهم فيه، فإن يدا شلت في وقاية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتم لها كل أمر، ويتوقى بها من كل مكروه، وقد تم الأمر على وجهه، ونفذ القدر بعد ذلك على حكمه، وجهل المبتدع ذلك، فاخترع ما هو حجة عليه.

إن الروايات التي تقول بأن طلحة والزبير - رضي الله عنهما - أكرها على البيعة روايات باطلة، وهناك روايات صحيحة أشارت - كما أسلفنا - إلى بيعتهما لعلي - رضي الله عنه - من ذلك الرواية الصحيحة التي أوردها ابن حجر عن طريق الأحنف بن قيس، وفيها أن عائشة وطلحة والزبير - رضي الله عنهم - قد أمروا الأحنف بمبايعة علي - رضي الله عنه - بعدما استشارهم فيمن يبايع بعد عثمان رضي الله عنه.

إن سابقة علي - رضي الله عنه - وفضله، والتزامه بأحكام الكتاب والسنة، وتمسكه الشديد بالعمل بهما، وتعهده في خطبه بتطبيق الأوامر والنواهي الشرعية، ما كان ليفتح لأحد باب الطعن في ولايته على المسلمين.

ويمكننا القول: إن عليا كان أقوى المرشحين للإمامة بعد مقتل عمر - رضي الله عنه - فالفاروق عينه في الستة الذين أشار بهم، وهو واحد منهم، على أن الأربعة من رجال الشورى، وهم عبد الرحمن وسعد وطلحة والزبير بتنازلهم عن حقهم فيها له ولعثمان تركوا المجال مفتوحا أمام الاثنين، فلم يبق إلا هو وعثمان رضي الله عنهما، وهذا إجماع من أهل الشورى على أنه لولا عثمان لكانت لعلي، وبعد موت عثمان، قدمه ورجحه أهل دار الهجرة فصار مستحقا للخلافة.

على أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الموجودين في ذلك الحين لم يكن أحق بالخلافة من علي - رضي الله عنه - فهو من السابقين والمهاجرين الأولين، وابن عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصهره، بالإضافة إلى ذلك له من القدرة والكفاءة ما لا ينكر، وله من الشجاعة والإقدام والذكاء والعقلية القضائية النادرة، والحزم في المواقف، والصلابة في الحق، وبعد نظره في تصريف الأمور، فكل هذه العوامل تجعله المرشح الوحيد لإمامة المسلمين بلا منازع في تلك الفترة الحساسة من حياتهم، ومع هذا كله فإن خلافته صحت بعدما انعقد إجماع المهاجرين والأنصار عليه ومبايعتهم له.

  • انعقاد الإجماع على خلافة علي رضي الله عنه:

انعقد إجماع أهل السنة والجماعة على أن عليا - رضي الله عنه - كان متعينا للخلافة بعد عثمان - رضي الله عنه - لبيعة المهاجرين والأنصار له، لما رأوا من فضله على من بقي من الصحابة، وأنه أقدمهم إسلاما، وأوفرهم علما، وأقربهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - نسبا، وأشجعهم نفسا وأحبهم إلى الله ورسوله، وأكثرهم مناقب وأفضلهم سوابق، وأرفعهم درجة وأشرفهم منزلة، وأشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - هديا وسمتا، فكان - رضي الله عنه - متعينا للخلافة دون غيره، وقد قام من بقي من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة بعقد البيعة له بالخلافة بالإجماع، فكان حينئذ إماما حقا وجب على سائر الناس طاعته وحرم الخروج عليه ومخالفته.

وقد نقل الإجماع على خلافته كثير من أهل العلم، وسنكتفي هنا بذكر ما قاله محمد بن سعد ناقلا إجماع من له قدم صدق وسابقة في الدين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة على بيعة علي - رضي الله عنه - يقول: "وبويع لعلي بن أبي طالب - رحمه الله - بالمدينة الغد من يوم قتل عثمان - رضي الله عنه - بالخلافة، بايعه طلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وعمار بن ياسر وأسامة بن زيد وسهل بن حنيف وأبو أيوب الأنصاري ومحمد بن مسلمة وزيد بن ثابت، وخزيمة، ومنهم: ابن ثابت، وجميع من كان بالمدينة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم" [3].

ثانيا. خروج طلحة والزبير رضي الله عنهما كان مطالبة بدم عثمان، ولم تذكر المصادر التاريخية أنهما طالبا بالخلافة أو انشقا على الخليفة:

وقد كان الناس يحبون عثمان - رضي الله عنه - حبا عظيما لحسن سياسته، ولمكانته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأحاديثه في الثناء عليه، وزواجه من ابنتيه حتى سمي بذي النورين، فهو من الصحابة الكبار الذين بشروا بالجنة، ولقد تعرض للظلم في حياته من بعض الغوغاء، وكان في استطاعته أن يقضي عليهم ولكنه امتنع خوفا من أن يكون أول من يسفك الدماء في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد كانت سياسته في التعامل مع الفتنة قائمة على الحلم والتأني والعدل، وقد منع الصحابة من قتال الغوغاء، وأحب أن يقي المسلمين بنفسه، ولذلك كان مقتله سببا لحدوث كثير من الفتن الأخرى التي ألقت بظلالها على الأحداث المتتالية من الفتن، ولقد كان مقتله عظيما على المسلمين، ولذلك تصدع المجتمع الإسلامي لهذا الحادث الجلل وانقسم الناس.

ومما يزيد من مكانته وبراءته مما نسب إليه مواقف الصحابة من قتله، فقد أجمع الجميع على براءته واتفقوا على القصاص من قتلته، إلا أن المواقف اختلفت في الكيفية، وهذا ما سيأتي بيانه، على أننا نود أن نسلط الأضواء على أهم الأحداث التي سبقت معركة الجمل:

  • أثر السبئية في إحداث الفتنة:

أجمع القدماء على وجود شخصية عبد الله بن سبأ بلا استثناء وخالف في ذلك قلة من المعاصرين، ويمكننا أن نقرر مطمئنين أن شخصية ابن سبأ حقيقة تاريخية لا لبس فيها في المصادر السنية والشيعية المتقدمة والمتأخرة على السواء، وكذا عند غالبية المستشرقين.

  • دور عبد الله بن سبأ في تحريك الفتنة:

في السنوات الأخيرة من خلافة عثمان - رضي الله عنه - بدت في الأفق سمات الاضطراب في المجتمع الإسلامي نتيجة عوامل التغيير، وأخذ بعض اليهود يتحينون فرصة الظهور مستغلين عوامل الفتنة ومتظاهرين بالإسلام واستعمال التقية، ومن هؤلاء عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء.

وإذا كان ابن سبأ لا يجوز التهويل من شأنه كما فعل بعض المغالين في تضخيم دوره في الفتنة، فإنه كذلك لا يجوز التشكيك فيه أو الاستهانة بالدور الذي لعبه في أحداث الفتنة باعتباره عاملا من عواملها، على أنه أبرزها وأخطرها؛ إذ إن هناك أجواء للفتنة مهدت له، وعوامل أخرى ساعدته، وغاية ما جاء به ابن سبأ آراء ومعتقدات ادعاها واخترعها من قبل نفسه وافتعلها من يهوديته الحاقدة، وجعل يروجها لغاية ينشدها وغرض يستهدفه، وهو الدس في المجتمع الإسلامي بغية النيل من وحدته، وإذكاء نار الفتنة وغرس بذور الشقاق بين أفراده، فكان ذلك من جملة العوامل التي أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - وتفرق الأمة شيعا وأحزابا.

وخلاصة ما جاء به: أن أتى بمقدمات صادقة وبنى عليها مبادئ فاسدة راجت لدى السذج الغلاة وأصحاب الأهواء من الناس، وقد سلك في ذلك مسالك ملتوية لبس فيها على من حوله حتى اجتمعوا عليه، فطرق باب القرآن يتأوله على زعمه الفاسد؛ حيث قال: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع، ويكذب بأن محمدا يرجع، وقد قال عز وجل: )إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد( (القصص: 85)، فمحمد أحق بالرجوع من عيسى.

كما سلك طريق القياس الفاسد من ادعاء إثبات الوصية لعلي - رضي الله عنه - بقوله: إنه كان ألف نبي، ولكل نبي وصي، وكان علي وصي محمد، ثم قال: محمد خاتم الأنبياء، وعلي خاتم الأوصياء.

وحينما استقر الأمر في نفوس أتباعه انتقل إلى هدفه المرسوم، وهو خروج الناس على الخليفة عثمان - رضي الله عنه -، فصادف ذلك هوى في نفوس بعض القوم إذ قال لهم: من أظلم ممن لم يجز وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ووثب على وصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتناول أمر الأمة؟ ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير حق، وهذا وصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فانهضوا في هذا الأمر فحركوه، وابدءوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا الناس وادعوهم إلى هذا الأمر، وبث دعاته، وكاتب من كان في الأمصار، وكاتبوه ودعوا في السر إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يبدون، فيقول أهل مصر: إنا لفي عافية مما فيه الناس.

إن كبار المؤرخين والعلماء من سلف الأمة وخلفها يتفقون على أن ابن سبأ ظهر بين المسلمين بعقائد وأفكار وخطط سبئية، ليفتن المسلمين عن دينهم وطاعة إمامهم ويوقع بينهم الفرقة والخلاف، فاجتمع إليه من غوغاء الناس ما تكونت به الطائفة السبئية المعروفة التي كانت عاملا من عوامل الفتنة المنتهية بمقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - وما ترتب على قتله من فتن كمعركة الجمل وصفين وغيرهما.

والذي يظهر من خطط السبئية أنها كانت أكثر تنظيما، إذ كانت بارعة في توجيه دعايتها ونشر أفكارها لامتلاكها ناصية الدعاية والتأثير بين الغوغاء والرعاع من الناس، كما كانت نشيطة في تكوين فروع لها سواء في البصرة أم في الكوفة أم في مصر، مستغلة العصبية القبلية، ومتمكنة من إثارة مكامن التذمر عند الأعراب والعبيد والموالي، عارفة بالمواضع الحساسة في حياتهم وبما يريدون.

  • اختلاف الصحابة - رضي الله عنهم - في الطريقة التي يؤخذ بها القصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه -:

إن الخلاف الذي نشأ بين أمير المؤمنين علي من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى، ثم بعد ذلك بين علي ومعاوية - لم يكن سببه أن هؤلاء كانوا يقدحون في خلافة أمير المؤمنين عليـ رضي الله عنه - وإمامته وأحقيته بالخلافة والولاية على المسلمين، فقد كان هذا محل إجماع بينهم.

قال ابن حزم: ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة، ولكن اجتهاده أداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود[4] من قتلة عثمان - رضي الله عنه - على البيعة، ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان - رضي الله عنه -.

إن منشأ الخلاف لم يكن قدحا في خلافة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وإنما اختلافهم في قضية الاقتصاص من قتلة عثمان، ولم يكن خلافهم في أصل المسألة، وإنما كان في الطريقة التي تعالج بها هذه القضية؛ إذ كان أمير المؤمنين علي موافقا من حيث المبدأ على وجوب الاقتصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه - وإنما كان رأيه أن يرجئ الاقتصاص من هؤلاء إلى حين استقرار الأوضاع وهدوء الأمور واجتماع الكلمة.

قال النووي رحمه الله: واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم وصاروا ثلاثة أقسام:

  • قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف، وأن مخالفه باغ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي فيما اعتقدوه ففعلوا ذلك، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده.
  • وقسم - عكس هؤلاء - ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر، فوجب عليهم مساعدتهم وقتال الباغي عليهم.
  • وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية، وتحيروا فيها، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين فاعتزلوا الفريقين، وكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم؛ لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين، وأن الحق معه، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال البغاة عليه.

موقف المطالبين بدم عثمان؛ كطلحة والزبير وعائشة ومعاوية - رضي الله عنهم - ومن كان على رأيهم:

  • السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها -:

لما سمعت السيدة عائشة - رضي الله عنها - بموت عثمان - رضي الله عنه - في طريق عودتها من مكة إلى المدينة، رجعت إلى مكة، ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الحجر فتسترت فيه، واجتمع الناس إليها، فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وأهل المياه، وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب، واستعمال من حدثت سنه، ولقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من مواضع الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم، ونزع لهم عنها استصلاحا لهم، فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا خلجوا[5]، وبادروا بالعدوان، ونبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، فنجاة[6] من اجتماعكم عليه حتى ينكل بهم غيرهم، ويشرد من بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو الثوب من درنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء.

وجاء في رواية: أن عائشة - رضي الله عنها - حين انصرفت راجعة إلى مكة أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي - أمير مكة - فقال لها: ما ردك يا أم المؤمنين؟ قالت: ردني أن عثمان قتل مظلوما، وأن الأمر لا يستقيم ولهذه الغوغاء أمر، فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام.

  • طلحة والزبير رضي الله عنهما:

طلب طلحة والزبير ومن معهم من الصحابة - رضي الله عنهم - من أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - تعجيل إقامة القصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه - فقال لهم أمير المؤمنين رضي الله عنه: "يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكني كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟! ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم، وثاب إليهم أعرابكم، وهم خلالكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا، قال: فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه إن شاء الله، إن هذا الأمر أمر جاهلية، إن لهؤلاء القوم مادة، وذلك أن الشيطان لم يشرع شريعة قط فيبرح الأرض من أخذ بها أبدا.

إن الناس من هذا الأمر إن حرك على أمور؛ فرقة ترى ما ترون، وفرقة ترى ما لا ترون، وفرقة لا ترى هذا ولا هذا حتى يهدأ الناس وتقع القلوب مواقعها وتؤخذ الحقوق، فاهدءوا عني، وانظروا ماذا يأتيكم، ثم عودوا".

ولكن هذه السياسة الحكيمة لم يتفهمها بعضهم، فالناس في حال غضبهم وسيرهم وراء عواطفهم، لا يدركون الأمور إدراكا واقعيا يمكنهم من التقدير الصحيح، فتنعكس في تقديرهم الأوضاع ويظنون المستحيل ممكنا، ولذلك قالوا: نقضي الذي علينا ولا نؤخره، وهم يعنون الطلب لإقامة الحدود على قتلة عثمان، وأخبر على بمقالتهم، فرغب أن يريهم أنه لا يستطيع هو ولا هم أن يفعلوا شيئا في مثل تلك الظروف، فنادى: برئت الذمة من عبد لم يرجع إلى مواليه، فتذامرت السبئية والأعراب، وقالوا: لنا غدا مثلها ولا نستطيع أن نحتج فيهم بشيء.

وكأن رواد الفتنة من السبئية تبادر إلى أذهانهم أن الخليفة يريد أن يجردهم من أعوانهم الذين يشدون أزرهم ويقفون إلى جوارهم، فعصوا ذلك الأمر وحرضوا الأعراب على البقاء فأطاعوهم وبقوا في أماكنهم، ففي اليوم الثالث بعد البيعة خرج على وقال لهم: أخرجوا عنكم الأعراب، وقال: يا معشر الأعراب الحقوا بمياهكم، فأبت السبئية وأطاعهم الأعراب، ثم دخل بيته ودخل عليه طلحة والزبير في عدة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دونكم ثأركم، فقالوا: عشوا[7] عن ذلك، فقال لهم على: هم والله بعد اليوم أعشى وآبى، ثم أنشد يقول:

ولو أن قومي طاوعتني سراتهم

أمرتهم أمرا يديخ الأعاديا

حتى هذه اللحظة، فإن عليا وطلحة والزبير والصحابة جميعا - رضي الله عنهم - كانوا متفقين تماما على ضرورة إقامة الحدود على من فرقوا أمر الجماعة وخالفوا وقتلوا الخليفة؛ دفعا لضررهم على الدين كله، وكانوا متعاونين في ذلك، ولكن كيف يصنعون بهؤلاء الغوغاء الذين تحكموا في الأمور، وحركوا معهم العبيد والأعراب، وهم بين أهل المدينة يسومونهم ما شاءوا، لم تكن هناك إذن قدرة على قتالهم.

وتقدم طلحة والزبير بمقترح لعلي لمواجهة السبئية الموجودة حوله، فقد قال طلحة لعلي: دعني فلآت البصرة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل، وقال الزبير: دعني آت الكوفة فلا يفجؤك إلا وأنا في خيل، ولكن عليا - رضي الله عنه - نراه يتريث ويقول لهما: حتى أنظر في ذلك.

ولعل عليا - رضي الله عنه - كان يخشى الفتنة وتحول الأمر إلى حرب أهلية داخل المدينة لا تحمد عقباها، ولذلك لم يجب طلحة والزبير إلى طلبهما، وكان اقتراح الزبير وطلحة على علي دليلا على اقتناعهما في الوقت نفسه بما قال علي - رضي الله عنهم - من كون هؤلاء الغوغاء متغلغلين في داخل الصف يملكون المسلمين ولا يملكهم المسلمون، فحاولا بهذا الطلب اختصار وقت تعطيل حد من أهم الحدود، وتقوية جانب علي حتى يتمكن من إقامتها، على أن الصحابة قد انتظروا أن ينظر علي في ذلك، لكن عليا - رضي الله عنه - كان يرى أن هذا الأمر الذي وقع لا يدرك إلا بإماتته، وإنها فتنة من النار كلما سعرت ازدادت واستنارت.

ولما رأى الزبير وطلحة ومن وافقهما من الصحابة أن أربعة أشهر قد مرت على مقتل عثمان ولم يستطع علي أن يقيم القصاص على قتلته بسبب قوة شوكة الخارجين على عثمان وتغلغلهم في جيش علي، عندئذ قال طلحة والزبير لعلي: ائذن لنا أن نخرج من المدينة، فإما أن نكابر، وإما أن تدعنا، فقال: سأمسك الأمر ما استمسك، فإذا لم أجد بدا فآخر الدواء الكي، فقد كان علي - رضي الله عنه - يعرف أن خروجهم من المدينة كان محاولة منهما للوصول إلى حل، فلم يمنعهما من ذلك، ربما لأنه كان يتمنى الوصول إلى حل أيضا، بل كان يحاوله ولكن بطريقته الخاصة [8].

وعن هذه الحقبة وما فيها من أحداث مثيرة يحدثنا الأستاذ عثمان بن محمد الخميس، فيقول: "لما بويع علي بن أبي طالب استأذن طلحة والزبير عليا في الذهاب إلى مكة، فأذن لهما، فالتقيا هناك بأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وكان الخبر قد وصل إليها أن عثمان - رضي الله عنه - قد قتل، فاجتمعوا هناك في مكة وعزموا على الأخذ بثأر عثمان.

فجاء يعلى بن منية من البصرة، وجاء عبد الله بن عامر من الكوفة، واجتمعوا في مكة على الأخذ بثأر عثمان - رضي الله عنه - فخرجوا من مكة بمن تابعهم إلى البصرة يريدون قتلة عثمان؛ إذ إنهم يرون أنهم قد قصروا في الدفاع عن عثمان - رضي الله عنه - وكان علي - رضي الله عنه - في المدينة، وكان عثمان بن حنيف - رضي الله عنه - واليا على البصرة من قبل علي بن أبي طالب. فلما وصلوا إلى البصرة أرسل إليهم عثمان بن حنيف: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد قتلة عثمان. فقال لهم: حتى يأتي علي، ومنعهم من الدخول. ثم خرج إليهم جبلة، وهو أحد الذين شاركوا في قتل عثمان فقاتلهم في سبعمائة رجل فانتصروا عليه، وقتلوا كثيرا ممن كان معه، وانضم كثير من أهل البصرة إلى جيش طلحة والزبير وعائشة رضي الله عنهم.

ثم خرج علي - رضي الله عنه - من المدينة إلى الكوفة، وذلك لما سمع أن قتالا وقع هناك بين عثمان بن حنيف - وهو والي علي - رضي الله عنه - على البصرة - وطلحة والزبير وعائشة ومن معهم، فخرج علي - رضي الله عنه - وجهز جيشا قوامه عشرة آلاف مقاتل.

وهنا يظهر لنا جليا أن علي بن أبي طالب هو الذي خرج إليهم ولم يخرجوا عليه، ولم يقصدوا قتاله كما تدعي بعض الطوائف ومن تأثر بهم، ولو كانوا يريدون الخروج على علي لذهبوا إلى المدينة مباشرة وليس إلى البصرة.

فطلحة والزبير وعائشة - رضي الله عنهم - ومن كان معهم لم يحدث قط أنهم أبطلوا خلافة علي ولا طعنوا عليه، ولا ذكروا فيه جرحا ولا بايعوا غيره ولا خرجوا لقتاله إلى البصرة فإنه لم يكن بالبصرة يومئذ.

وقد مر بنا أن الأحنف بن قيس قال: لقيت طلحة والزبير بعد حصر عثمان، فقلت: ما تأمراني فإني أراه مقتولا؟ قالا: عليك بعلي. قال: ولقيت عائشة بعد قتل عثمان في مكة، فقلت: ما تأمريني؟ قالت: عليك بعلي.

مفاوضاوت قبيل القتال:

وأرسل علي المقداد بن الأسود والقعقاع بن عمرو ليتكلما مع طلحة والزبير، واتفق المقداد والقعقاع من جهة، وطلحة والزبير من جهة أخرى على عدم القتال وبين كل فريق وجهة نظره.

فطلحة والزبير يريان أنه لا يجوز ترك قتلة عثمان، وعلي يرى أنه ليس من المصلحة تتبع قتلة عثمان الآن، بل حتى تستتب الأمور، فقتل قتلة عثمان متفق عليه، والاختلاف إنما هو في توقيت ذلك.

وبعد الاتفاق نام الجيشان بخير ليلة، وبات السبئية - وهم قتلة عثمان - بشر ليلة؛ لأنه تم الاتفاق عليهم، وهذا ما ذكره المؤرخون الذين أرخوا لهذه المعركة أمثال: الطبري وابن حزم وابن الأثير وابن كثير.. وغيرهم.

عند ذلك أجمع السبئيون رأيهم على ألا يتم هذا الاتفاق، وفي السحر والقوم نائمون، هاجم مجموعة من السبئيين جيش طلحة والزبير وقتلوا بعض أفراده وفروا، فظن جيش طلحة أن جيش علي غدر بهم، فناوشوا جيش علي في الصباح، فظن جيش على أن جيش طلحة والزبير قد غدر، فاستمرت المناوشات بين الفريقين حتى كانت الظهيرة فاشتعلت المعركة.

محاولات وقف القتال:

وقد حاول الكبار من الجيشين وقف القتال، ولكن لم يفلحوا، فكان طلحة يقول: أيها الناس أتنصتون؟ فأصبحوا لا ينصتونه فقال: أف أف فراش نار، وذبان طمع، وعلي يمنعهم ولا يردون عليه، وأرسلت عائشة كعب بن سور بالمصحف لوقف المعركة، فرشقه السبئيون بالنبال حتى أردوه قتيلا.

وذلك أن الحرب إذا اشتعلت لا يستطيع أحد أن يوقفها، وقد ذكر البخاري أبياتا من الشعر لامرئ القيس:

الحرب أول ما تكون فتية

تسعى بزينتها لكل جهول

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها

ولت عجوزا غير ذات حليل

شمطاء ينكر لونها وتغيرت

مكروهة للشم والتقبيل

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: والفتنة إذا وقعت عجز العقلاء فيها عن دفع السفهاء، فصار الأكابر - رضي الله عنهم - عاجزين عن إطفاء الفتنة وكف أهلها، وهذا شأن الفتن كما قال عز وجل: واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب (25) (الأنفال).

وكانت موقعة الجمل في سنة ست وثلاثين من الهجرة، أي في بداية خلافة علي - رضي الله عنه -، وبدأت بعد الظهر وانتهت قبيل مغيب الشمس من اليوم نفسه. وكان مع علي عشرة آلاف، وأهل الجمل كان عددهم ما بين الخمسة والستة آلاف، وراية علي كانت مع محمد بن علي بن أبي طالب، وراية أهل الجمل مع عبد الله بن الزبير. وقتل في هذا اليوم كثير من المسلمين.

مقتل طلحة والزبير:

وقتل طلحة والزبير ومحمد بن طلحة، أما الزبير فلم يشارك مشاركة فعلية في هذه المعركة ولا طلحة، وذلك أنه يروي أن الزبير - رضي الله عنه - لما جاء إلى المعركة لقي علي بن أبي طالب، فقال له علي: أتذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تقاتل عليا وأنت ظالم"، فرجع الزبير في ذلك اليوم ولم يقاتل.

فالصحيح أنه لم يقاتل، ولكن هل وقع هذا بينه وبين علي؟ الله أعلم؛ لأنه ليس للرواية سند قوي ولكن هي المشهورة في كتب التاريخ. والمشهور أكثر أن الزبير لم يشارك في هذه المعركة، وقتل الزبير غدرا على يد رجل يقال له ابن جرموز.

وقتل طلحة بسهم غرب[9]، والمشهور أن الذي رماه مروان بن الحكم أصابه في قدمه مكان إصابة قديمة، فمات منها - رضي الله عنه - عنه، وهو يحاول منع الناس من القتال، وانتهت هذه المعركة، وقتل الكثير خاصة في الدفاع عن جمل عائشة؛ لأنها كانت تمثل رمزا لهم، فكانوا يستبسلون في الدفاع عنها.

ولذلك بمجرد أن سقط الجمل هدأت المعركة وانتهت، وانتصر علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، وإن كان الصحيح أنه لم ينتصر أحد، ولكن خسر الإسلام، وخسر المسلمون في تلك المعركة.

فلما انتهت المعركة صار علي - رضي الله عنه - يمر بين القتلى فوجد طلحة بن عبيد الله، فقال بعد أن أجلسه ومسح التراب عن وجهه: عزيز على أن أراك مجدلا تحت نجوم السماء أبا محمد. وبكى علي - رضي الله عنه - وقال: وددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة. وكذلك رأى علي محمد بن طلحة فبكى، وكان محمد بن طلحة يلقب بـ "السجاد" من كثرة عبادته - رضي الله عنه - وندم كل الصحابة الذين شاركوا في هذه المعركة على ما وقع.

وابن جرموز هذا استأذن للدخول على علي - رضي الله عنه - فلما سمعه علي قال: «بشر قاتل ابن صفية بالنار». [10] ولم يأذن له بالدخول عليه.

ولما انتهت المعركة، أخذ علي - رضي الله عنه - أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - وأرسلها معززة مكرمة إلى مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما أمره صلى الله عليه وسلم.

والسؤال الذي يفرض نفسه الآن: لماذا لم يقتل علي قتلة عثمان؟

إن عليا - رضي الله عنه - كان ينظر نظر مصلحة ومفسدة، فرأى أن المصلحة تقتضي تأخير القصاص لا تركه، فأخر القصاص من أجل هذا، كما فعل النبي - رضي الله عنه - في حادثة الإفك.

وكذلك علي - رضي الله عنه - رأى أن تأخير القصاص أقل مفسدة من تعجيله؛ لأنه - رضي الله عنه - لا يستطيع أن يقتل قتلة عثمان أصلا؛ لأنهم غير معروفين بأعيانهم، وإن كان هناك رؤوس للفتنة ولهم قبائل تدافع عنهم، والأمن غير مستتب وما زالت الفتنة قائمة، ومن يقول إنهم لن يقتلوا عليا رضي الله عنه؟ وقد قتلوه بعد ذلك، ولذلك لما وصلت الخلافة إلى معاوية لم يقتل قتلة عثمان أيضا، لماذا؟ لأنه صار يرى ما كان يراه علي [11].

ويبدو أن طلحة والزبير وعائشة ومعاوية - رضي الله عنهم - اعتقدوا أن قتل عثمان - رضي الله عنه - منكر من أعظم المنكرات، وإزالة المنكر من حيث هو لمن قدر عليه فرض كفاية لا يتوقف على إمام يرجع إليه فيه، ومنزلتهم في الإسلام وعند المسلمين تخول لهم ذلك، وهذا ما يسوغ خروجهم إلى البصرة، إلا أنهم متأولون في فهمهم هذا في استعجالهم إزالة هذا المنكر، حيث خفي عليهم - كما خفي على معاوية رضي الله عنه - أن إزالة هذا المنكر يتعلق بالقصاص من المرتكبين له، وأخذ القصاص منهم يتوقف على الإمام وإقامة أولياء المقتول البينة على الجاني عنده، ثم حكمه بمقتضى ذلك، لكن اجتهادهم أداهم إلى ذلك، فما يمكن أن يقال فيهم: إنهم مجتهدون مخطئون لهم أجر على اجتهادهم.

وأما من قال بأن الباعث لخروج طلحة والزبير هو ما كانا عليه من الطمع في الخلافة والتآمر على الناس بذلك فقد أخطأ، وينفي ابن شبة في كتابه " أخبار البصرة" هذا الزعم بقوله: "إن أحدا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكروا على علي منعه من قتل قتلة عثمان وتأخر الاقتصاص منهم".

ويقول ابن حزم: "فقد صح صحة ضرورية لا إشكال فيها أنهم لم يمضوا إلى البصرة لحرب علي ولا خلافا عليه، ولا نقضا لبيعته، ولو أرادوا ذلك لأحدثوا بيعة غير بيعته، هذا ما لا يشك فيه أحد ولا ينكره أحد، فصح أنهم إنما نهضوا إلى البصرة لسد الفتق الحادث في الإسلام من قتل أمير المؤمنين عثمان - رضي الله عنه - ظلما" [12].

وبهذا التفصيل يتبين لنا بطلان الادعاء القائل بأن الصحابة كانوا طامعين في الخلافة، ويتضح لكل منصف أن الخلاف كان بسبب مطالبة طلحة والزبير وغيرهما بالقصاص من قتلة سيدنا عثمان - رضي الله عنه -.

ثالثا. لو كان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام - رضي الله عنهما - طامعين في الخلافة، فلماذا تنازلا عنها لغيرهما حينما رشحهما عمر - رضي الله عنه - لها:

ومن الثابت تاريخيا أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - استطاع في اللحظات الأخيرة من حياته أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وتعتمد هذه الطريقة على ترشيح ستة من صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلحون لتولي الأمر.

وهؤلاء الستة هم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم.

ولم يكد يفرغ الناس من دفن عمر - رضي الله عنه - حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة، وعندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي، وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون ثلاثة: علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم.

واستمرت المفاوضات والمشاورات ثلاثة أيام كاملة، حتى إذا كان اليوم الرابع وقع اختيار أهل الحل والعقد على عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فبويع خليفة ثالثا للمسلمين في اليوم الأخير من شهر ذي الحجة، سنة 23هـ [13].

هذا، وإن المرء ليعجب مما ادعاه مثيرو هذه الشبهة من أن طلحة والزبير - رضي الله عنهما - خرجا على علي - رضي الله عنه - طمعا في الخلافة، متجاهلين الحقائق التاريخية الثابتة التي لا مجال لإنكارها، وإنا نتوجه إلى هؤلاء بتساؤلات يطرحها فقه ما حدث بعد وفاة عمر بن الخطاب إلى أن بويع عثمان رضي الله عنه:

لو كان طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام طامعين في الخلافة يوما - فلماذا ضيعا الفرصة التي سنحت لهما، عندما رشحهما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضمن الصحابة الستة الذين حصر فيهم الخلافة؟!

ولماذا لم يستبد أحدهما أو كلاهما بالأمر دون من سواه من سائر الستة؟!

وهل يعقل أن يكون طلحة طامعا في الخلافة، ثم يتنازل عن حقه فيها لعثمان بن عفان، أو أن يكون الزبير طامعا في الخلافة، ثم يتنازل عن حقه فيها لعلي بن أبي طالب؟!

وإذا كان الزبير لا يرى عليا أهلا للخلافة ولا جديرا بها - كما يزعمون - فلماذا تنازل له عن حقه؟!

وهل يعقل أن يظل الرجلان اثنتي عشرة سنة - وهي مدة خلافة عثمان - طامعين في الخلافة، ولا تصدر منهما أية معارضة أو مخالفة لخليفة المسلمين عثمان - رضي الله عنه ـ؟!

الخلاصة:

  • إن خروج طلحة والزبير وأنصارهما كان طلبا للقصاص من قتلة عثمان - رضي الله عنه ـ؛ وذلك لأنهم يرون أنهم قصروا في الدفاع عنه - رضي الله عنه - ولو أرادوا نزع الخلافة من علي - رضي الله عنه - لخرجوا إلى المدينة - مستقر علي - رضي الله عنه - وحاضرة الخلافة - وليس إلى البصرة.
  • لم يبطل طلحة أو الزبير أو عائشة - رضي الله عنهم - خلافة علي - رضي الله عنه -، ولا طعنوا فيه، ولا ذكروا فيه جرحا، ولا بايعوا غيره.
  • كان علي - رضي الله عنه - يرى أن تأخير القصاص أقل مفسدة من تعجيله؛ وذلك ليأمن الفتنة التي ما زالت قائمة، ولما صارت الخلافة لمعاوية - رضي الله عنه - لم يقتل قتلة عثمان أيضا؛ لأنه أدرك ما كان يراه علي - رضي الله عنه - قبله وارتأى رأيه.
  • لو كان الزبير وطلحة طامعين في الخلافة يوما - فلماذا تنازلا عن حقهما فيها، وذلك عندما رشحهما عمر - رضي الله عنه - ضمن الصحابة الستة الذين حصر الخلافة فيهم رضي الله عنهم؟! ولماذا لم يصدر منهما أية معارضة أو مخالفة طوال فترة حكم عثمان - رضي الله عنه - وقد كانت اثنتي عشرة سنة؟! ثم لماذا بايعا عليا بالخلافة، كما ثبت في الروايات الصحيحة؟! وإذا أراد أن يخرجا طمعا في الخلافة، فلماذا لم يكن هذا في بداية خلافة علي مباشرة دون انتظار عدة أشهر؟!

 

(*) قصة الحضارة، وول ديورانت، ترجمة: محمد بدران، دار الجيل، بيروت، 1418هـ، 1998م.

[1]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص211، 212.

[2]. يشير إلى ما جاء في بعض الروايات من أن أول من بايع عليا ـ رضي الله عنه ـ هو طلحة، وكان بيده اليمنى شلل، لما وقى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم أحد، فقال رجل في القوم: أول يد بايعت أمير المؤمنين شلاء، لا يتم هذا الأمر.

[3]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص217: 223 بتصرف.

[4]. القود: القصاص.

[5]. خلج: ترك واضطرب.

[6]. نجاة: اطلبوا النجاة باجتماعكم عليهم.

[7]. عشي: ضعف بصره.

[8]. أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2003م، ص451: 466 بتصرف.

[9]. سهم غرب: غير مقصود.

[10]. إسناده حسن: أخرجه أحمد في مسنده، مسند العشرة المبشرين بالجنة، مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه (681)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، باب ذكر مقتل الزبير بن العوام رضي الله عنه (5580)، وحسن إسناده الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[11]. حقبة من التاريخ، عثمان بن محمد الخميس، مكتبة الإمام البخاري، مصر، ط3، 1427هـ/ 2006م، ص175: 183 بتصرف.

[12]. تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، د. محمد أمحزون، دار السلام، مصر، ط2، 1428هـ/2007م، ص454: 458 بتصرف يسير.

[13]. عثمان بن عفان، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص63: 75.

  • الجمعة AM 12:14
    2020-10-23
  • 1671
Powered by: GateGold