المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409120
يتصفح الموقع حاليا : 209

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان دكتاتورا (مستبدا) لا يقبل النقد والتوجيه

                      الزعم أن أبا بكر - رضي الله عنه - كان دكتاتورا (مستبدا) لا يقبل النقد والتوجيه (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن سيدنا أبا بكر ـرضي الله عنه - كان مستبد الرأي، وكان أشد ما يزعجه النقد والتوجيه، مستدلين على ذلك بموقفه - رضي الله عنه - من المرتدين.

وجوه إبطال الشبهة:

1) الخطاب السياسي الأول لأبي بكر - رضي الله عنه - كان بمنزلة بيان دستوري يدور حول إرساء العدل وحرية النقد واستنصاح الأمة.

2)  أبو بكر - رضي الله عنه - ظل ملتزما بمبدأ المشاورة طوال مدة خلافته.

3) لم يستبد أبو بكر - رضي الله عنه - برأيه في قتال المرتدين، بل شاور الصحابة وأقنعهم برأيه، فشرح الله صدورهم جميعا للقتال.

التفصيل:

أولا. الخطاب السياسي الأول لأبي بكر - رضي الله عنه - كان يدور حول إرساء العدل وحرية النقد واستنصاح الأمة:

كان أبو بكر - رضي الله عنه - مثالا للحاكم المسلم الملتزم بتعليمات القرآن والسنة، الحريص على إرساء مبادئ العدل والشورى والمساواة، وهذا ما أوضحه منذ اللحظة الأولى لتوليه أمر الأمة. ولندع أحد الصحابة الكرام يصف لنا موقف أبي بكر ويروي لنا خطابه السياسي الأول، كما ينقله د. محمد الصلابي:

قال أنس بن مالك: لما بويع أبو بكر - رضي الله عنه - في السقيفة وكان الغد، جلس أبو بكر على المنبر، فقام عمر - رضي الله عنه - فتكلم قبل أبي بكر، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، ثم قال: "أيها الناس إني كنت قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدتها في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنني قد كنت أرى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سيدبر أمرنا - يقول يكون آخرنا - (يقصد آخرهم موتا)، وإن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي به هدى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإن اعتصمتم به؛ هداكم الله لما كان هداه له، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه"، فبايع الناس أبا بكر - رضي الله عنه - بعد بيعة السقيفة، فتكلم أبو بكر، فحمد الله وأثنى عليه بالذي هو أهله، ثم قال: "أما بعد أيها الناس؛ فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أرجع عليه حقه - إن شاء الله -، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه - إن شاء الله -، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله".

وتعد هذه الخطبة الرائعة من عيون الخطب الإسلامية على إيجازها، وقد قرر الصديق - رضي الله عنه - فيها قواعد العدل والرحمة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، وركز على أن طاعة ولي الأمر مترتبة على طاعة الله ورسوله، ونص على الجهاد في سبيل الله لأهميته في إعزاز الأمة، وعلى اجتناب الفاحشة لأهمية ذلك في حماية المجتمع من الانهيار والفساد[1].

وهي - بالإضافة إلى ذلك - ميثاق سام للعلاقة بين الحاكم والمحكومين، وما بينهما من علاقات التناصح واقتسام مسئولية إقامة الشريعة الإسلامية، وإحقاق الحقوق ونشر العدل وبسط الأمن.

ويلزمنا من حق أبي بكر - رضي الله عنه - علينا أن نتوقف قليلا أمام بعض عباراته المضيئة في هذه الخطبة المباركة، والتي يتناولها د. الصلابي بالتحليل الدقيق:

قال أبو بكر رضي الله عنه: فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني.

فهذا الصديق - رضي الله عنه - يقر بحق الأمة وأفرادها في الرقابة على أعماله ومحاسبته عليها، بل وفي مقاومته لمنع كل منكر يرتكبه، وإلزامه بما يعتبرونه الطريق الصحيح والسلوك الشرعي، وقد أقر الصديق - رضي الله عنه - في بداية خطابه للأمة أن كل حاكم معرض للخطأ والمحاسبة، وأنه لا يستمد سلطته من أي امتياز شخصي يجعل له أفضلية على غيره؛ لأن عهد الرسالات والرسل المعصومين قد انتهى، وإن آخر رسول كان يتلقى الوحي انتقل إلى جوار ربه، وقد كانت له سلطة دينية مستمدة من عصمته بوصفه نبيا، ومن صفته بوصفه رسولا يتلقى التوجيه من السماء، ولكن هذه العصمة قد انتهت بوفاته صلى الله عليه وسلم، وبعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - أصبح الحكم والسلطة مستمديـن من عقد البيعة وتفويض الأمة له.

إن الأمة في فقه أبي بكر - رضي الله عنه - لها إدارة حية واعية، لها القدرة على المناصرة والمناصحة والمتابعة والتقويم، فالواجب على الرعية نصرة الإمام الحاكم بما أنزل الله، ومعاضدته ومناصرته في أمور الدين والجهاد، ومن نصرة الإمام ألا يهان، ومن معاضدته أن يحترم وأن يكرم، فقوامته على الأمة وقيادته لها لإعلاء كلمة الله تستوجب تبجيله إجلالا وإكراما لشرع الله الذي ينافح عنه ويدافع عنه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط»[2]. والأمة واجب عليها أن تناصح ولاة أمرها، قال صلى الله عليه وسلم: «الدين النصيحة. ثلاث مرات، فقال الصحابة: لمن يا رسول الله؟ قال: لله - عزوجل - ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم»[3].

ولقد استقر في مفهوم الصحابة أن بقاء الأمة على الاستقامة رهن باستقامة ولاتها، ولذلك كان من واجبات الرعية تجاه حكامهم نصحهم وتقويمهم، ولقد أخذت الدولة الحديثة تلك السياسة الرائدة للصديق - رضي الله عنه - وترجمت ذلك إلى لجان متخصصة ومجالس شورية، تمد الحاكم بالخطط، وتزوده بالمعلومات، وتشير عليه بما يحسن أن يقرره، والشيء المحزن أن كثيرا من الدول الإسلامية تعرض عن هذا النظام الحكيم، فعظمت مصيبتها في تسلط الحكام وجبروتهم، والتخلف الذي يعم معظم ديار المسلمين ما هو إلا نتيجة لتسلط بغيض، ودكتاتورية لعينة، أماتت في الأمة روح التناصح والشجاعة، وبذرت فيها وزرعت بها الجبن والفزع إلا من رحم ربي، وأما الأمة التي تقوم بدورها في مراقبة الحاكم ومناصحته فهي أمة تأخذ بأسباب القوة والتمكين في الأرض، فتنطلق إلى آفاق الدنيا تبلغ دعوة الله.

إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم، ومن أهم هذه القواعد: الشورى والعدل، والمساواة والحريات، ففي خطاب الصديق - رضي الله عنه - للأمة أقر هذه المبادئ؛ فالشورى تظهر في طريقة اختياره وبيعته وفي خطبته في المسجد الجامع، بمحضر من جمهور المسلمين، ولا شك أن العدل في فكر أبي بكر - رضي الله عنه - هو عدل الإسلام الذي هو الدعامة الرئيسية في إقامة المجتمع الإسلامي والحكم الإسلامي، فلا وجود للإسلام في مجتمع يسوده الظلم ولا يعرف العدل.

وأما مبدأ المساواة الذي أقره الصديق في بيانه الذي ألقاه على الأمة، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام، وهي من المبادئ التي تساهم في بناء المجتمع المسلم، وسبق به تشريعات وقوانين العصر الحاضر، ومما ورد في القرآن الكريم تأكيدا لمبدأ المساواة قول الله تعالى: )يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير (13)( (الحجرات).

إن الناس جميعا في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود.

لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس واللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء، وجاءت ممارسة الصديق لهذا المبدأ خير شاهد على ذلك حيث يقول: "وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه".

لقد اتبع أبو بكر - رضي الله عنه - المنهج الرباني في إقرار العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، وراعى حقوق الضعفاء؛ فرأى أن يضع نفسه في كفة هؤلاء الواهنة أصواتهم، فيتبعهم بسمع مرهف، وبصر حاد، وإرادة واعية لا تستذلها عوامل القوة الأرضية فتملي كلمتها.. إنه الإسلام في فقه رجل دولته النابه الذي قام يضع القهر تحت أقدام قومه، ويرفع بالعدل رؤوسهم، فيؤمن به كيان دولته، ويحفظ لها دورها في حراسة الملة والأمة.

لقد قام الصديق منذ أول لحظة بتطبيق هذه المبادئ السامية، فقد كان يدرك أن العدل عز للحاكم والمحكوم، ولهذا وضع الصديق سياسته تلك موضع التنفيذ وهو يردد قوله تعالى: )إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون (90)( (النحل).

كان أبو بكر يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم، وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم الطمأنينة للمسلمين ما دام الحاكم قائما فيهم على أساس من العدل المجرد عن الهوى.

والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو فوق كل اعتبار شخصي وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات، والتجرد لله تجردا مطلقا جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المجتمع، ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه وأهله، ثم يتتبع أمور الدولة جليلها ورقيقها بكل ما آتاه الله من يقظة وحذر[4].

وهكذا أرسى أبو بكر - رضي الله عنه - مبادئ الشورى والعدالة في أول خطبة له بعد بيعته الميمونة، وقد اتخذ هذه الخطبة منهجا لحكمه لم يحد عنه قط.

ثانيا. لقد ظل أبو بكر - رضي الله عنه - ملتزما بمبدأ المشاورة وخفض الجناح للنقد طول مدة خلافته الراشدة:

بدأ أبو بكر - رضي الله عنه - خلافته بذلك الدستور الذي أعلنه على الناس، والذي كان نبراسا[5] لحكمه، وملخصا لمنهجه في خلافته القصيرة، وقد التزم - رضي الله عنه - بروح الشورى، وخفض جناحه لمقالات النقد والتقويم مع التزامه التام بتعاليم الإسلام وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم، ومن المواقف التي تبرز فيها هذه الروح الرائعة:

  1. بعث أسامة والخلاف حول إنفاذه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أوصى خليفته بإنفاذ بعث أسامة؛ لتأديب قبائل قضاعة؛ لموالاتهم للروم ضد جيش المسلمين، ولكن عندما ارتدت العرب، ورمت المسلمين عن قوس واحدة، خشي الصحابة أن تخلو المدينة من الجند، فيدهمها المرتدون، وأشار بعضهم على أبي بكر - رضي الله عنه - بتأجيل إنفاذ بعث أسامة، وأفضوا إليه بمخاوفهم وهواجسهم، واستمع أبو بكر - رضي الله عنه - لآرائهم ووجهات نظرهم، وفي النهاية ذكرهم بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بخصوص بعث أسامة وضرورة إنفاذه، وأنه ليس محلا للنقاش والتشاور؛ إذ سبق أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وقد وجد الصحابة - بعد - بركة رأي أبي بكر وسداده. يقول د. الصلابي:

"ومما نستفيده من هذه القصة أنه قد يحدث الخلاف بين المؤمنين الصادقين حول بعض الأمور، فقد اختلفت الآراء حول تنفيذ جيش أسامة - رضي الله عنه - في تلك الظروف الصعبة، وقد تعددت الأقوال حول إمارته ولم يجرهم الخلاف في الرأي إلى التباغض والتشاجر، والتدابر والتقاطع، والتقاتل، ولم يصر أحد على رأي بعد وضوح فساده وبطلانه، وقد رد الصديق الخلاف إلى ما ثبت من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ببعث أسامة، وبين - رضي الله عنه - أنه ما كان ليفرط فيما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مهما تغيرت الأحوال وتبدلت، واستجاب بقية الصحابة لحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدما وضحه لهم الصديق، كما أنه لا عبرة برأي الأغلبية إذا كان مخالفا للنص، فقد رأى عامة الصحابة حبس جيش أسامة، وقالوا للصديق: إن العرب قد انتقضت عليك وإنك لا تضع بتفريق الناس شيئا. فأولئك الناس لم يكونوا كعامة الناس، بل كانوا من الصحابة الذين هم خير من وجدوا على الأرض بعد الأنبياء والرسل - عليهم السلام -، لكن الصديق - رضي الله عنه - لم يستجب لهم مبينا أن أمر رسول الله - رضي الله عنه - أجل وأكرم، وأوجب وألزم من رأيهم كلهم.

وقد تجلت هذه الحقيقة في حادثة وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ظن بعض الصحابة - رضي الله عنه - وفيهم عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمت، ورأى عدد قليل منهم - منهم أبو بكر - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قد مات، وقد تمسك أبو بكر بالنص وبين خطأ من قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يمت.

فخلاصة الكلام أن مما نستفيده من قصة تنفيذ الصديق جيش أسامة - رضي الله عنهما - أن تأييد الكثرة لرأي ليس دليلا على إصابته، ومما يستفاد من هذه القصة انقياد المؤمنين وخضوعهم للحق إذا اتضح لهم، فعندما ذكرهم الصديق أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أمر بتنفيذ جيش أسامة وهو الذي عين أسامة أميرا على الجيش، انقاد أولئك الأبرار للأمر النبوي الكريم[6].

وثمة لمحة مهمة نراها من الصديق حين كان يودع بعث أسامة، فإنه كان محتاجا لعمر - رضي الله عنه - للمشورة والمعاونة، لكنه - وهو الخليفة - لم يتقدم القائد العام للجيش - وعمر جندي فيه -، فقال لأسامة - بكل أدب -: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل فأذن له"[7].

  1. مفاوضات الصلح مع وفود المرتدين: عندما جاءت هذه الوفود إلى أبي بكر - رضي الله عنه - لم ينفرد بالرأي في مناقشتهم، بل أشرك - كعادته - عمر رضي الله عنه. فعن طارق بن شهاب قال: جاء وفد بذاخة وأسد وغطفان إلى أبي بكر يسألونه الصلح، فخيرهم أبو بكر بين الحرب المجلية أو السلم المخزية، قال: فقالوا: هذه الحرب المجلية قد عرفناها فما السلم المخزية؟

قال أبو بكر: تؤدون الحلقة[8] والكراع[9]، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الإبل، حتى يرى الله خليفة نبيه والمسلمين أمرا يعذرونكم به، وتدون قتلانا ولا ندي قتلاكم[10]، وقتلانا في الجنة وقتلاكم في النار، وتردون ما أصبتم منا ونغنم ما أصبنا منكم.

قال: فقال عمر: رأيت رأيا وسأشير عليك: أما أن يؤدوا الحلقة والكراع فنعم ما رأيت، وأما أن يتركوا أقواما يتبعون أذناب الإبل حتى يري الله خليفة نبيه والمسلمين أمرا يعذرونهم به فنعم ما رأيت، وأما أن نغنم ما أصبنا منهم ويردون ما أصابوا منا فنعم ما رأيت، وأما أن قتلاهم في النار وقتلانا في الجنة فنعم ما رأيت، وأما أن يدوا قتلانا فلا، قتلانا قتلوا على أمر الله فلا ديات لهم، فتتابع الناس على ذلك[11].

  1. وفي فتوح الشام: يروي لنا د. الصلابي موقف أبي بكر - رضي الله عنه - حينئذ فيقول: وحين أراد أبو بكر - رضي الله عنه - أن يغزو الروم ويعد الجيوش لفتح بلاد الشام شاور في ذلك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعد أن أخذ رأيهم وما أجمعوا عليه أمر الجند بالتجهيز للتوجه لما أمروا به، وكان مما أوصى به الصديق - رضي الله عنه - أمراء جند الشام وقادتهم أن يعملوا بالمشورة، فمن ذلك ما قاله ليزيد بن أبي سفيان: هذا ربيعة بن عامر من ذوي العلاء والمفاخر، قد علمت صولته، وقد ضممته إليك وأمرتك عليه، فاجعله في مقدمتك، وشاوره في أمرك ولا تخالفه، قال يزيد حبا وكرامة، وأضاف أبو بكر - رضي الله عنه - قائلا: إذا سرت فلا تضيق على نفسك ولا على أصحابك في مسيرك، ولا تغضب على قومك ولا على أصحابك، وشاورهم في الأمر واستعمل العدل. كما قال ليزيد بن أبي سفيان حول مبدأ الشورى والالتزام بها: وإذا استشرت فاصدق الخبر تصدق لك المشورة، ولا تكتم المستشار فتؤتى من قبل نفسك.. إلى غير ذلك مما قاله ليزيد. وقد أوصى أمراء جند الشام بما لا يخرج عن ذلك، وامتثل قادة الصديق بما أمروا به من إجراء المشورة فيما بينهم، فقد قال أبو عبيدة بن الجراح لعمرو بن العاص: ياعمرو لرب يوم لك قد شهدته فبورك فيه للمسلمين برأيك ومحضرك، وإنما أنا رجل منكم ولست - وإن كنت الوالي عليكم - بقاطع أمرا دونكم فاحضرني رأيك في كل يوم بما ترى فإنه ليس بي عنك غنى. هذا بالإضافة إلى طلب القادة في أرض المعركة من القيادة العليا المركزية المشورة فيما أشكل عليهم من أمور الإدارة العسكرية لمرحلة وضع الخطط الحربية والتنفيذ ومعاملة الأسرى[12].
  2. وصايا أبي بكر لعماله بالتزام المشاورة والمناصحة: تقول خديجة النبراوي: وهنا نرى توجيهات الخليفة الراشد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لأمرائه بضرورة المشورة والبعد عن استبداد الرأي:
  • عن الحارث بن الفضيل قال: «لما عقد أبو بكر ليزيد بن أبي سفيان فقال: يايزيد إنك شاب تذكر بخير قد رؤي منك، وذلك شيء خلوت به في نفسك، وقد أردت أن أبلوك وأستخرجك من أهلك، فانظر كيف أنت وكيف ولايتك؟ وأخبرك فإن أحسنت زدتك، وإن أسأت عزلتك، وقد وليتك عمل خالد بن سعيد، ثم أوصاه وقال له: أوصيك بأبي عبيدة بن الجراح خيرا، فقد عرفت مكانه من الإسلام، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"[13]. فاعرف له فضله وسابقته، وانظر معاذ بن جبل فقد عرفت مشاهده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن رسول صلى الله عليه وسلم، قال: معاذ بن جبل إمام العلماء برتوة[14] يوم القيامة»[15]. فلا تقطع أمرا دونهما، وإنهما لن يألوا بك خيرا، قال يزيد: يا خليفة رسول الله، أوصهما بي كما أوصيتني بهما، قال أبو بكر: لن أدع أن أوصيهما بك، فقال يزيد: يرحمك الله، وجزاك الله عن الإسلام خيرا[16].
  • وعن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي قال: لما عزل أبو بكر خالد بن سعيد أوصى شرحبيل بن حسنة وكان أحد الأمراء، قال: انظر خالد بن سعيد فاعرف له من الحق عليك مثل ما كنت تحب أن يعرفه لك من الحق عليه لو خرج واليا عليك، وقد عرفت مكانه من الإسلام، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو له وال، وقد كنت وليته ثم رأيت عزله، وعسى أن يكون ذلك خيرا له في دينه، ما أغبط أحدا بالإمارة، وقد خيرته في أمراء الأجناد، فاختارك على غيرك وعلى ابن عمه، فإذا نزل بك أمر يحتاج فيه إلى رأي التقي الناصح، فليكن أول من تبدأ به أبو عبيدة بن الجراح ومعاذ بن جبل، وليكن ثالثا خالد بن سعيد، فإنك واجد عندهم نصحا وخيرا، وإياك واستبداد الرأي عنهم أو تطوي عنهم بعض الخبر[17].
  1. استخلاف عمر: وهذه إحدى مناقب أبي بكر الكبرى، وحسناته العظيمة التي لا ينساها له التاريخ أبدا، إذ استخلف عمر بن الخطاب (أبا حفص) الذي "كان إسلامه فتحا، وهجرته نصرا وخلافته رحمة"، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه.

وفي استخلاف أبي بكر له يظهر نوع من الشورى الرفيعة... شورى أهل الحل والعقد، فعندما ثقل أبو بكر، واشتد به المرض وأحس بدنو الأجل قام بعدة إجراءات لتتم عملية اختيار الخليفة القادم.

يفصلها د. الصلابي قائلا: وتشاور الصحابة رضي الله عنهم، وكل يحاول أن يدفع الأمر عن نفسه ويطلبه لأخيه إذ يرى فيه الصلاح والأهلية، لذا رجعوا إليه، فقالوا: رأينا يا خليفة رسول الله رأيك، قال: فأمهلوني حتى أنظر لله ولدينه ولعباده، فدعا أبو بكر عبد الرحمن بن عوف، فقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب، فقال له: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلم به مني، فقال أبو بكر: وإن، فقال عبد الرحمن: هو والله أفضل من رأيك فيه.

ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: أخبرني عن عمر بن الخطاب. فقال: أنت أخبرنا به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله، فقال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله، فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدتك.

ثم دعا أسيد بن حضير فقال له مثل ذلك، فقال أسيد: اللهم أعلمه الخيرة بعدك، يرضى للرضا، ويسخط للسخط، والذي يسر خير من الذي يعلن، ولن يلي هذا الأمر أحد أقوى عليه منه.

وكذلك استشار سعيد بن زيد وعددا من الأنصار والمهاجرين، وكلهم تقريبا كانوا برأي واحد في عمر إلا طلحة بن عبيد الله خاف من شدته، فقد قال لأبي بكر: ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا وقد ترى غلظته؟ فقال أبو بكر: أجلسوني، أبالله تخوفوني؟ خاب من تزود من أمركم بظلم، أقول: اللهم استخلفت عليهم خير أهلك.

وبين لمن نبهه إلى غلظة عمر وشدته فقال: ذلك لأنه يراني رقيقا ولو أفضي الأمر إليه لترك كثيرا مما عليه.

ثم كتب عهدا مكتوبا يقرأ على الناس في المدينة وفي الأمصار عن طريق أمراء الأجناد فكان نص العهد:

بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها، وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاستمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب، والخير أردت ولا أعلم الغيب: )وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون (227)( (الشعراء).

إن عمر هو نصح أبي بكر الأخير للأمة، فقد أبصر الدنيا مقبلة تتهادى وفي قومه فاقة قديمة يعرفها، فإذا ما طلوا لها استشرفتهم شهواتها، فنكلت بهم واستبدت، وذاك ما حذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إياه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم»[18]. لقد أبصر أبو بكر الداء فأتى لهم - رضي الله عنه - بدواء ناجع... جبل شاهق، إذا ما رأته الدنيا أيست وولت عنهم مدبرة، إنه الرجل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: «إيه يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده، ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك»[19]. إن الأحداث الجسام التي مرت بالأمة، قد بدأت بقتل عمر، هذه القواصم خير شاهد على فراسة أبي بكر وصدق رؤيته في العهد لعمر، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: «أفرس الناس ثلاثة: صاحبة موسى التي قالت: )يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين (26)( (القصص)، وصاحب يوسف حين قال: )أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا( (يوسف: ٢١)، وأبو بكر حين استخلف عمر»[20]، فقد كان عمر هو سد الأمة المنيع الذي حال بينها وبين أمواج الفتن.

وقد أبلغ أبو بكر - رضي الله عنه - الناس بلسانه واعيا مدركا حتى لا يحصل أي لبس، فأشرف على الناس وقال لهم: أترضون بما أستخلف عليكم، فإني والله ما ألوت[21] من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. فقالوا: سمعنا وأطعنا.

ثم توجه بالدعاء إلى الله يناجيه ويبثه كوامن نفسه، وهو يقول: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة، واجتهدت لهم رأيي، فوليت عليهم خيرهم، وأحرصهم على ما أرشدهم، وقد حضرني من أمرك ما حضر، فاخلفني فيهم فهم عبادك.

وكلف عثمان بن عفان أن يتولى قراءة العهد على الناس وأخذ البيعة لعمر قبل موت أبي بكر بعد أن ختمه لمزيد من التوثيق والحرص على إمضاء الأمر دون أي آثار سلبية، وقال عثمان للناس: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فقالوا: نعم. فأقروا بذلك جميعا ورضوا به.

إن الخطوات التي سار عليها أبو بكر الصديق في اختيار خليفته من بعده لا تتجاوز الشورى بأي حال من الأحوال، وإن كانت الإجراءات المتبعة فيها غير الإجراءات المتبعة في تولية أبي بكر نفسه. وهكذا تم عقد الخلافة لعمر - رضي الله عنه - بالشورى والاتفاق، ولم يورد التاريخ أي خلاف وقع حول خلافته بعد ذلك، ولا أن أحدا نهض طوال عهده لينازعه الأمر، بل كان هناك إجماع على خلافته وعلى طاعته في أثناء حكمه، فكان الجميع وحدة واحدة.

وبعد أن بايع الناس لعمر بن الخطاب اختلى به الصديق وأوصاه بمجموعة من التوصيات لإبراء ذمته من أي شيء، حتى يمضي إلى ربه خاليا من أي تبعة بعد أن بذل قصارى جهده واجتهاده، وقد جاء في الوصية: اتق الله يا عمر، واعلم أن لله عملا بالنهار لا يقبله بالليل، وعملا بالليل لا يقبله بالنهار، وأنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى فريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في دار الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا، وإن الله تعالى ذكر أهل الجنة فذكرهم بأحسن أعمالهم وتجاوز عن سيئه، فإذا ذكرتهم قلت: إني أخاف أن لا ألحق بهم، وإن الله تعالى ذكر أهل النار، فذكرهم بأسوأ أعمالهم، ورد عليهم أحسنه، فإذا ذكرتهم قلت: إني لأرجو ألا أكون مع هؤلاء، ليكون العبد راهبا، لا يتمنى على الله ولا يقنط من رحمة الله..."[22].

وهكذا كانت الشورى، ورحابة الصدر، وتقبل النقد صفات عاش بها الصديق واتخذها منهجا في حياته، وجعلها تراثا لمن جاء بعده، وتركها علامة مضيئة في الصفحات الأولى من سجل التاريخ الإسلامي العظيم.

ثالثا. موقف أبي بكر - رضي الله عنه - من المرتدين:

لقد توعد الله - عزوجل - أولئك الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، فقد قال تعالى: )أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (85)( (البقرة).

ولذا لما بزغت الفتنة من جحورها، وانتفض المرتدون، وهدمت أركان الدين؛ قام أبو بكر - رضي الله عنه - في الناس خطيبا، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "الحمد لله الذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إن الله بعث محمدا - صلى الله عليه وسلم - والعلم شريد، والإسلام غريب طريد، قد رث[23] حبله، وخلق ثوبه، وضل أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب فلا يعطيهم خيرا لخير عندهم، ولا يصرف عنهم شرا لشر عندهم، وقد غيروا كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه.

والعرب الآمنون يحسبون أنهم في منعة من الله، لا يعبدونه، ولا يدعونه، فأجهدهم عيشا، وأظلهم دينا في ظلف[24] الأرض مع ما فيه من سحاب، فختمهم الله بحمد وجعلهم الأمة الوسطى، ونصرهم بمن اتبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتى قبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - فركب منهم الشيطان مركبه، وبغي هلكتهم: )واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون (103)( (آل عمران).

إن من حولكم من الأعراب قد منعوا شاتهم وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم، وإن رجعوا إليه أزهد مـنهم يـومهم هـذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا، على متقدم من بركة نبيـكم وقد وكلكم إلى المولى الكافي الذي وجده ضالا فهداه، وعائلا فأغناه: )وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (144)( (آل عمران).

والله لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتى ينجز الله وعده، ويوفي لنا عهده، ويقتل من قتل شهيدا من أهل الجنة، ويبقي منها خليفته وذريته في أرضه قضاء الله الحق، وقوله الذي لا خلف له: )وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون (55)( (النور) [25].

فقد بين - رضي الله عنه - شيئا من غدر الأعراب وجفائهم، وأن الشيطان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ركب منهم مركبه، وشرح الله قلب الصديق واتخذ القرار بقتال مانعي الزكاة، وقد وجد بعض الصحابة حرجا في صدورهم من هذا القرار؛ لأن مانعي الزكاة هؤلاء يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وقد أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن من قال لا إله إلا الله فقد عصم دمه وماله.

 فقد جاء عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: «لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قالها فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله"، فقال أبو بكر: والله، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله، لو منعوني عناقا[26] - وفي رواية: عقالا [27] - كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله، ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر، فعرفت أنه الحق» [28]. ثم قال عمر بعد ذلك: والله، لقد رجح إيمان أبي بكر بإيمان هذه الأمة جميعا في قتال أهل الردة[29].

فها هو عمر الفاروق - رضي الله عنه - قد شرح الله صدره وصدر باقي الصحابة لقتال المرتدين، وتخيل معي - أيها القارئ النبيه - لو لم يتخذ الصديق مثل هذا القرار! فلربما عاثت[30] الجاهلية في الأرض كما كانت قبل الإسلام، ولكن الله أراد لدينه العزة والمنعة، فاستعمل لهذا الدين رجالا أمثال أبي بكر.

والشورى في موقفه - رضي الله عنه - من المرتدين تتضح جلية عندما سمع وجهات نظر الصحابة، ثم اتخذ قراره وعزم على خوض الحرب بعد أن شرح الله صدور الصحابة - رضوان الله عليهم - لهذا الأمر، ولقد اقتنع المسلمون بصحة رأيه ورجعوا إلى قوله واستصوبوه[31]. فأين - إذن - استبداده بالرأي؟!

الخلاصة:

  • الخطاب السياسي الأول لأبي بكر - رضي الله عنه - كان بيانا دستوريا واضحا أرسى فيه أبو بكر - رضي الله عنه - قواعد العدل ومبادئ الشورى والحرية، واتخذه نبراسا اهتدى به في خلافته، وتركه بعد رحيله لتهتدي به الدنيا كلها بعده.
  • لقد ظل أبو بكرـ رضي الله عنه - وفيا لخطابه الأول، ملتزما ببنوده طول مدة خلافته الراشدة، وتجلى هذا الالتزام في وضوح روح الشورى وحرية النقد في خلال مدة الخلافة الوجيزة التي وليها.
  • ومن مظاهر هذه الروح الفريدة إنفاذه بعث أسامة - رضي الله عنه - بعد مداولات ومشاورات، وحرصه - رضي الله عنه - على مشاورة أصحابه عندما جاءته وفود المرتدين للصلح، وعندما تجهز لحربهم، وعندما تجهز لفتوح الشام، وكذلك حرص الرجل على توصية عماله بالتشاور والتناصح مع من عندهم من الرجال الحكماء، وتجلى حرصه على الشورى أروع ما تجلى في مشاوراته مع أهل الحل والعقد لاختيار الخليفة من بعده، والتي أسفرت عن اختيار الفاروق العظيم لخلافة الصديق.
  • وأما اتخاذ قراره بمحاربة المرتدين فإنه لم يستبد به كما يدعى، وإنما شاور الصحابة - رضي الله عنهم - فأشار عليه بعضهم بحرمة قتال بعضهم ممن منع الزكاة، بعدما نطقوا شهادة التوحيد، ولكن الله شرح صدر الصحابة لرأي الصديق، وقاموا معه لعز الإسلام ومحاربة المرتدين على اختلاف أصنافهم.

 

 

 

(*) بلاد العرب، ديفيد جورج هوجارث، ترجمة: محمد حسن، دار الأهرام، القاهرة، د. ت.

[1]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص168، 169 بتصرف يسير.

[2]. حسن: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب السير، باب ما جاء في الإمام العادل (32561)، والبخاري في الأدب المفرد، كتاب حسن الخلق، باب إجلال الكبير (357)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (98).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة (205).

[4]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص173: 179 بتصرف.

[5]. النبراس: المصباح.

[6]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص227، 228.

[7]. أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم ، محمود المصري، دار التقوى، مصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، ج1، ص85.

[8]. الحلقة: السلاح.

[9]. الكراع: الخيل.

[10]. تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم: أي تدفعون الدية لنا، ولا ندفعها لكم.

[11]. موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خديجة النبراوي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1424هـ/ 2004م، ج1، ص367.

[12]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص469، 470.

[13]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران (4121)، وفي موضع آخر.

[14]. الرتوة: الميل أو رمية سهم.

[15]. صحيح: أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، باب الميم، معاذ بن جبل الأنصاري عقبي بدري يكنى أبا عبد الرحمن (40)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحاب رضي الله عنهم ، باب ذكر مناقب أحد الفقهاء الستة من الصحابة معاذ بن جبل رضي الله عنه (5175)، وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته (10820).

[16]. موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خديجة النبراوي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1424هـ/2004م، ج1، ص368.

[17]. موسوعة أصول الفكر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، خديجة النبراوي، دار السلام، القاهرة، ط1، 1424هـ/2004م، ص257.

[18]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أموال الجزية والموادعة، باب الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب (2988)، وفي مواضع اخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب حدثنا قتية بن سعيد (7614).

[19]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب التبسم والضحك (5735)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر (6355).

[20]. صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير، باب العين، عبد الله بن مسعود الهذلي يكنى أبا عبد الرحمن حليف بني زهرة بدري (8829)، والحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة يوسف عليه السلام (3320)، وصححه الذهبي في التلخيص على المستدرك (3320).

[21]. ألوت: قصرت.

[22]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص473: 477 بتصرف.

[23]. رث: بلي.

[24]. الظلف: ما غلظ من الأرض واشتد.

[25]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص238، 239.

[26]. العناق: الأنثى من ولد المعز.

[27]. عقالا: هو الحبل الذي يعقل به البعير.

[28]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة (1335)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله (133).

[29]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص239.

[30]. عاثت: أسرعت في الفساد.

[31]. أبو بكر الصديق، د. علي الصلابي، دار الإيمان، الإسكندرية، 2002م، ص240 بتصرف.

  • الخميس PM 11:09
    2020-10-22
  • 1648
Powered by: GateGold