المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412612
يتصفح الموقع حاليا : 284

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن إسلام الصحابة الأوائل كان هروبا من الظلم وطلبا لرغد العيش

                           ادعاء أن إسلام الصحابة الأوائل كان هروبا من الظلم وطلبا لرغد العيش(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المشككين أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما تبعوه؛ ليخلصهم من المظالم التي تطاردهم، وليهنأوا برغد العيش في ظل الحكم الجديد. ويستدلون على ذلك بالأحوال الاقتصادية والاجتماعية السائدة في ذلك الوقت. ويهدفون من وراء ذلك إلى التشكيك في إيمان الرعيل الأول من الصحابة، وإخلاصهم لله تعالى.

وجوه إبطال الشبهة:

1) إيمان الصحابة الأوائل والمؤمنين من بعدهم في كل زمان ومكان، هو استجابة لنداء الحق عن قناعة عندما خالطت بشاشة الإيمان قلوبهم، وليس لمغنم أو فرارا من الظلم؛ ذلك لأنهم لما تعرضوا للظلم والاضطهاد، وأخرجوا من ديارهم وأموالهم، لم يردهم ذلك عن دينهم.

2) لم يكن أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم من الضعفاء والمساكين، بل كان منهم الأثرياء وذوو المكانة الاجتماعية العالية، ولم يعد - النبي صلى الله عليه وسلم - أحدا منهم بتحسين وضعه الاجتماعي، أو الاقتصادي؛ بل كانوا يعلمون من القرآن والواقع المشاهد أن الابتلاء قرين الإيمان.

3) الحكمة في كون الركيزة الأولى لدعوة الأنبياء أغلبهم من الفقراء والضعفاء، هي أن الزعماء والكبراء كانت زعامتهم تصدهم عن الاتباع.

التفصيل:

أولا. إيمان الصحابة هو استجابة لنداء الحق عن قناعة، وليس لمغنم أو فرارا من ظلم، بدليل أنهم لما اضطهدوا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم لم يردهم ذلك عن دينهم:

لقد كان إيمان الصحابة الذي وقر في قلوبهم هو العامل الأساسي في اتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان الأمر كما زعم المفترون، من أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية، هي التي دفعت هؤلاء للانضمام إلى جماعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلماذا آمن الأغنياء والمترفون أمثال: أبي بكر، وعبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان، وصهيب الرومي، ومصعب بن عمير؟! ولماذا آمن الأقوياء أمثال: عمر، وحمزة، وغيرهما؟!

ولو كان إيمان هؤلاء الأجلاء من أجل الدنيا، ورغد العيش، أو لمجرد رفع الظلم عنهم، لما تمسكوا بدينهم حين تعرضوا للبلاء والتعذيب والاضطهاد، وإخراجهم من ديارهم، وتجريدهم من أموالهم - وهو نقيض مناهم، وخلاف مرادهم - فلو كانوا طلاب دنيا أو غرض من أغراضها لما صبروا على الأذى، ولما ثبتوا على الطريق المليء بالمحن والمفروش بالإحن[1].

ولو كانوا طلاب دنيا، أو هدف اجتماعي لما تسابقوا إلى الجهاد، وبذل الأرواح والنفوس رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله، خاصة بعدما فتحت عليهم الدنيا، وغنموا الأموال، ودانت لهم العرب والعجم، وكثرت الأموال، وفاضت بها الخزائن.. ما الذي كان يدفعهم إلى هلكة الأنفس، والتضحية بالأرواح بعدما حققوا مآربهم من العيش الرغيد الآمن؟!

إن هؤلاء المغرضين من أتباع المذهب المادي وغيرهم من المستشرقين الحاقدين الذين يريدون إسقاط ما تعج[2] به نفوسهم المادية الشهوانية من حب الدنيا، وجعل المنفعة واللذة الحيوانية هي مذهبهم الأخلاقي في السلوك والحياة، وإن كان في ذلك تدمير الآخرين وحرقهم - يريدون إسقاطه على صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذين كانوا أطهر الخلق أفئدة وأبرهم قلوبا وأطيبهم نفوسا، وأزكاهم عقولا.

إن هؤلاء المشككين لا يجهلون أنه لا يخلو مصدر من المصادر التاريخية من بيان موقف الرواد الأوائل لهذا الدين، إنهم لم يدخلوا هذا الدين ابتغاء مغنم في الدنيا، أو لرفع ظلم السادة لهم؛ والقرآن الكريم يعلن أن أتباع هذا الدين لا بد أن يفتدوه بأموالهم وأنفسهم.

قال تعالى: )لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا( (آل عمران: ١٨٦)، وقال عز وجل: )ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155)( (البقرة) [3].

وفي هذا يقول د. البوطي: "أما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه المؤمنون، فما الذي كان يمسكهم على هذا الضيق الخانق؟. وأي غاية كانوا يتأملونها من وراء الثبات على الشدة؟

بماذا يجيب على هذا السؤال، أولئك الذين يتأولون رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - وإيمان أصحابه به على أنها ثورة يسار ضد يمين، أي ثورة الفقراء المضطهدين ضد الأغنياء المترفين؟ تصور سلسلة الإيذاء والتعذيب، لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، ثم أجب على ضوئها: كيف يستقيم أن تكون دعوة الإسلام ثورة اقتصادية ألهبها الجوع، وقادها الحقد على تجار مكة وأرباب الفعاليات الاقتصادية فيها؟

لقد عرض المشركون على محمد - صلى الله عليه وسلم - الملك، والثراء، والزعامة، على أن يتخلى عن الدعوة إلى الإسلام، فلماذا لم يرض - صلى الله عليه وسلم - بذلك؟! ولماذا لم يثر عليه أصحابه، ولم يضغطوا عليه - إن كان غايتهم الشبع بعد الجوع - كي يقبل بعرض قريش؟ وهل يطمع أصحاب الثورة اليسارية بشيء أكثر من الحكم يكون في أيديهم، والمال يكون في جيوبهم؟

ولقد قوطع محمد - صلى الله عليه وسلم - ومعه أصحابه المسلمون عن سبيل كل معايشة اقتصادية واجتماعية مع بني قومه، فلم تنزل سلعة تتسلل إلى أيديهم، ولم يترك طعام يدخل إلى بيوتهم حتى راحوا يأكلون ورق الشجر، وهم على ذلك صابرون، محدقون برسول الله صلى الله عليه وسلم، أفهكذا يصنع من تعتلج[4] وراء صدره الثورة من أجل لقمة العيش؟!

وعندما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وهاجر إليها من قبله ومن بعده أصحابه، تركوا المال والأرض، والممتلكات المختلفة واستقبلوا بوجوههم شطر المدينة المنورة، وقد تجردوا عن كل ما يتعلق به الطامعون في المال، لا يبتغون عن إيمانهم بالله بديلا، ولا يقيمون وزنا لدنيا فاتتهم، ولملك أدبر عنهم، أفهذا هو الدليل على أنها ثورة يسارية قامت من أجل لقمة طعام؟!

قد يكون دليل هؤلاء الناس على ما يتصورون، ملاحظة الأمرين الآتيين:

الأول: أن الجماعة الأولى من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - في مكة كانت على الأغلب من الفقراء والموالي المضطهدين، وهو يدل على أنهم ينفسون باتباعهم محمدا - صلى الله عليه وسلم - عن شيء من كربهم، وأنهم كانوا يتأملون مستقبلا اقتصاديا أفضل لأنفسهم في ظل الدين الجديد.

الثاني: أن هؤلاء الأصحاب، ما لبثوا بعد حين أن فتحت عليهم آفاق الدنيا، وأقبل إليهم الثراء والمال، وهو دليل على أن خطة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كانت ترمي إلى تحقيق هذه الغاية.

وأنت إذا تأملت في استدلالهم على ما يتصورونه، بهاتين الملاحظتين، أدركت كم هو نصيب الخيال والوهم من عقولهم ومنهج تفكيرهم.

وأما أن الجماعة من أصحابه - صلى الله عليه وسلم - كانت على الأغلب من الفقراء والموالي، فنعم، ولكن ليس بين هذه الحقيقة وذلك الوهم أي علاقة ونسب، إن شريعة تقتضي إرساء ميزان العدالة بين الناس، والضرب على يد كل ظالم وطاغية ومستكبر، من المسلم به أن يعرض عنها، بل أن يحاربها أولئك الذين استمرأوا حياة البغي والظلم؛ لأنها تحملهم المغارم أكثر من أن تقدم إليهم المغانم، كما أن من المسلم به أن يرحب بها كل مستضعف مظلوم، بل كل إنسان ليس له في تجارة البغي والاستغلال نصيب؛ لأنها تقدم لهم المغانم أكثر من أن تقدم لهم المغارم، أو لأنهم - على أقل تقدير - ليست لهم مع الناس مشكلات تجعلهم يستثقلون تبعاتها وتكاليفها.

إن معظم من كان حول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مستيقنا أنه على حق، وأنه نبي مرسل، ولكن أرباب الزعامة وعشاق العظمة والسيطرة، وجدوا أن من طبيعتهم وظروفهم ما أصبح عائقا عن الاستسلام والتفاعل معه، أما الآخرون فلم يجدوا ما يعيقهم عن الاستسلام لشيء آمنوا به واستيقنوه. فما العلاقة بين هذه الحقيقة التي يفهمها كل باحث، وما يزعمه أولئك الزاعمون؟

وأما أن خطة الدعوة الإسلامية التي سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكانت تستهدف امتلاك المسلمين لمنابع الثروة واستيلاءهم على عروش الملوك واستلاب السيادة منهم، بدليل أن المسلمين قد وصلوا فعلا إلى ذلك - فإنه والله أشبه بمحاولة الجمع بين المشرق والمغرب.

إذا كان المسلمون قد تمكنوا من فتح بلاد الروم وفارس، في حقبة يسيرة من الزمن بعد أن صدقوا الله في إسلامهم، أفيكون ذلك دليلا على أنهم ما أسلموا إلا طمعا بعرش الروم وفارس؟!

لو أنهم أرادوا من وراء إسلامهم الوصول إلى شهوة من شهوات الدنيا أيا كانت، لما تحقق لهم ولا الجزء اليسير من معجزة ذلك الفتح.

لو كان عمر وهو يجهز جيش القادسية ويودع قائده سعد بن أبي وقاص، يستهدف كنوز كسرى، ويسيل لعابه رغبة في أن يتقلب في مثل نعيمه ويجلس على مثل عرشه لما عاد إليه سعد إلا بأثقال من الخيبة والهوان، ولكنهم صدقوا الله من أجل نصرة دينه، فصدقهم فيما أكرمهم به من تمليكهم زمام الحكم وإغنائهم بما لم يكونوا يحلمون.

ولو كان الحلم الذي يراود المسلمين في معركة القادسية، وصولا إلى ثروة وتقلبا في نعيم وتحقيقا للذائذ العيش، إذا لما دخل ربعي بن عامر - رضي الله عنه - سرادق رستم مزدريا مظاهر الترف التي غمس فيها السرادق غمسا، يتوكأ بزج رمحه على البسط والنمارق الفاخرة حتى أفسدها، ولما قال لرستم: إن دخلتم الإسلام تركناكم وأرضكم وأموالكم!.. أهكذا يقول من جاء ليستلب الملك والأرض والمال؟

لقد أكرمهم الله بمقدرات الدنيا كلها؛ لأنهم لم يكونوا يفكرون فيها، وإنما كان تفكيرهم منصرفا إلى تحقيق مرضاة الله.

ولو كانوا يستهدفون من جهادهم هذه المقدرات لما وصلوا إلى شيء منها.

المسألة بما فيها ليست إلا تحقيقا للقانون الإلهي الذي يقول: )ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5)( (القصص).

وإن تفهم هذا القانون لأيسر ما يكون على العقل، أي عقل كان، بشرط واحد هو أن يكون صاحبه حرا عن العبودية لأي رغبة أو غرض"[5].

ثانيا. لم يكن أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - كلهم ضعفاء، بل كان فيهم ذوو المكانة الاجتماعية، ولم يعدهم - صلى الله عليه وسلم - بتحسين أوضاعهم، بل إنهم كانوا يعلمون أن للإيمان تبعات:

فإن كان أغلب من آمنوا برسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الضعفاء والمساكين، فقد كان منهم ذوو المكانة الاجتماعية، وأصحاب القوة والثراء أمثال: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير، وحمزة بن عبد المطلب وغيرهم، ولكنهم جميعا، فقراء وأغنياء، ضعفاء وأقوياء، كانوا يعلمون يقينا أن أتباع هذا الدين لا بد أن يفتدوه بأموالهم وأنفسهم، فقد قال الله تعالى: )لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا( (آل عمران: ١٨٦)، وقال تعالى: )ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين (155)( (البقرة).

ومما يزيد الأمر وضوحا أن المصادر التاريخية تعلن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقدم وعودا لأحد بتحسين وضعه الاجتماعي، أو رفع الظلم عنه. وفي هذا يقول خباب بن الأرت: «شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، فقال: "قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون»[6].

إن النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي طلب منهم الصبر على البلاء؛ لأنه سنة الدعوات، قد أعلن لهم بكل الثقة في الله، أن الله سينصر دينه، وسيحكم الإسلام أرض الجزيرة، بل ومن صنعاء إلى حضرموت.

ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل للمستضعفين إن هذا النصر سيتم على أيديهم، ولم يقدم وعودا لأحد منهم يجني ثمار صبره في هذه الدنيا؛ وذلك لأن المسلم لا يبتغي بإسلامه إلا نصرة دينه، وطاعة ربه الجزاء الذي وعده الله به وهو الجنة في الحياة الآخرة، وليس الفوز بشيء في الدنيا.

قد يأتي هذا النصر وقد يتأخر، ليجني ثماره أجيال أخرى كما حدث لأصحاب الأخدود، فقد أدخلوا نار الدنيا وحرقوا عن آخرهم، والسبب الذي رواه القرآن هو قوله تعالى: )وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد (8)( (البروج)، والعقاب الذي توعد به الظالمين هو قوله تعالى: )إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق (10)( (البروج) [7].

وتأكيدا لسنة الابتلاء؛ فإن الصحابة الأوائل ابتلوا بألوان البلاء، وفتنوا أشد الفتنة؛ فقد عذبوا عذابا تنوء به الجبال، وأوذوا في سبيل عقيدتهم ودينهم أشد الإيذاء، لا سيما العبيد والضعفاء منهم، وليس هذا بعجيب من قوم خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان، من أول يوم اعتنقوا فيه الإسلام، وتوالت عليهم آيات الوحي والمواعظ النبوية، وأخذهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بأساليبه الحكيمة في التربية والتهذيب، وكان لهم القدوة الحسنة في الثبات والصبر والتحمل، والاستهانة بكل لأواء[8] الحياة وآلامها ومرها في سبيل العقيدة والغاية الشريفة.

ولم يكن هؤلاء السادة يبغون من إيمانهم ملكا، أو جاها، أو مالا، أو سمعة، وإنما كان همهم أن يقوم هذا الدين وينتشر، وتسود العالم شريعة الحق، والعدل والمساواة، واحترام حقوق الإنسان.

ولئن كان وجد من الأمم السابقة من ضربوا مثلا عالية في التضحية والصبر والتحمل في سبيل الإيمان والدين، إلا أنهم لم يكونوا في الكثرة مثل ما كان ذلك في الإسلام، ولم يكن لهم من قوة التمسك بالدين وحماية النبي مثلما كان لأصحاب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وليس أدل على هذا من أن الحواريين، الذين كانوا أخلص الخلصاء لعيسى - عليه السلام - خانه بعضهم وهو يهوذا الإسخريوطي - كما ذكرته كتبهم - ودل عليه اليهود الذين كانوا يطلبونه لقتله، لولا أن رفعه الله إليه، وعصمه منهم، ولن تجد مثالا واحدا لهذا في الصحابة - رضوان الله عليهم - على كثرتهم الكاثرة على أصحاب عيسى عليه السلام، بل كانوا يفدونه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم.

وقد كان أبو جهل الفاسق إذا سمع بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة، أنبه وأخزاه، وقال له: تركت دين أبيك وهو خير منك؟ لنسفهن حلمك، ولنفيلن[9] رأيك، ولنضعن شرفك. وإن كان تاجرا قال: والله لنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به.

وإن في هذه الرواية التي رواها ابن إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس - رضي الله عنهما - ما يعطينا صورة مؤلمة غاية الألم، لما كان ينالهم من العذاب، قال سعيد بن جبير: قلت لابن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه، ويعطشونه، حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضرب الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل[10] ليمر بهم، فيقولون له: أهذا إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده.

ومن هؤلاء السادة الأبطال: بلال بن رباح الحبشي، وكان اسم أمه حمامة، وكان مولاه أمية بن خلف الجمحي، قاسي الكبد، غليظ القلب، لا ينبض قلبه بقطرة من الرحمة الإنسانية، كان يخرجه إلى بطحاء مكة إذا حميت الشمس في الظهيرة، والرمضاء في هذا الوقت تكاد تنضج اللحم الطري، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له: لا - والله - لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى.

ولكن بلالا لا يعبأ بالآلام ولا بالبلاء، ويأبى إلا أن يعلن عن صادق إيمانه، فلا ينفك يردد ويقول: "أحد، أحد"، وكان يقول: "لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها"، وقد هانت نفسه عليه في الله، فتحمل ما تحمل بقلب مؤمن ونفس راضية.

ومن المـعذبين عمار بن ياسر، وأبوه وأمه سمية، وكان بنو مخزوم يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة، ويعذبونهم برمضاء مكة، ويلبسونهم دروع الحديد المحماة بالنار، فما وهنوا ولا استكانوا، وكان يمر بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعذبون، فما يملك لهم إلا أن يحثهم على الثبات والصبر، فيقول: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»[11]. ولما اشتكى له عمار قائلا: يا رسول الله بلغ منا العذاب كل مبلغ، فقال له: "اصبر أبا اليقظان، اللهم لا تعذب من آل ياسر أحدا بالنار" ومر أبو جهل اللعين بسمية، وهي تعذب في الله، فطعنها بحربة في ملمس العفة منها فماتت، فكانت أول شهيدة في الإسلام، ثم لم يلبث أبوه أن توفي تحت وطأة العذاب!!

ويطول العذاب بعمار حتى كان لا يدري ما يقول، فيظهر كلمة الكفر على لسانه وقلبه مطمئن بالإيمان، ويجري عمار - وهو يبكي - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال:«ما وراءك؟ قال: شر يا رسول الله، نلت منك، وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف وجدت قلبك؟ قال: "مطمئنا بالإيمان"!! فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح عينيه بيده ويقول له: "إن عادوا لك فعد لهم بما قلت»[12]!!

ولهج بعض الناس بأن عمارا كفر، ولكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي لا ينطق عن الهوى صدع بالحق، فقال: "كلا، إن عمارا مليء إيمانا من مفرق رأسه إلى أخمص قدمه، واختلط الإيمان بلحمه ودمه"!! ثم ينزل الوحي من السماء على صدق إيمان عمار، قال تعالى: )من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم (106)( (النحل) [13].

استنادا إلى ما سبق فإن هذه النماذج البشرية العالية التي لم يعرف التاريخ مثلهم في استعذابهم البلاء والعذاب في سبيل الإيمان والعقيدة، إن هؤلاء الرجال والنساء خطوا صحائف مشرقة في تاريخ الإيمان، والبطولة والتضحية، فلله در هذه النفوس المؤمنة، ما أزكاها، وما أشرفها، وما أخلدها على الدهر، فكيف يقال إذا إن هؤلاء الأولين الأطهار كان إيمانهم فرارا من الظلم وتخلصا من الاضطهاد، وسعيا وراء لقمة العيش أو طلبا لرغد العيش كما يدعي المفترون؟!

ثالثا. الحكمة في كون الطلائع الأولى لدعوة الأنبياء أغلبهم من الفقراء والضعفاء:

"لقد بدأ الإسلام بتحرير الوجدان البشري من عبادة أحد غير الله، ومن الخضوع لأحد غير الله، فما لأحد غير الله من سلطان، وما من أحد يميته أو يحييه إلا الله، وما من أحد يملك له ضرا ولا نفعا، وما من أحد يرزقه من شيء في الأرض ولا في السماء، وليس بينه وبين الله وسيط ولا شفيع، والله وحده هو الذي يستطيع، والكل سواه عبيد، لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم شيئا: )قل هو الله أحد (1) الله الصمد (2) لم يلد ولم يولد (3) ولم يكن له كفوا أحد (4)( (الإخلاص).

والقرآن يؤكد هذه العقيدة ويوضحها ويرسخها، ليصل إلى تحرير الوجدان البشري من كل شبهة شرك في ألوهية أو ربوبية، قد تضغط هذا الوجدان وتخضعه لمخلوق من عباد الله، إن يكن نبيا أو رسولا، فإنه عبد من عباده لا إله! فإذا انتفى أن يكون عبد بذاته أميز عند الله من عبد بذاته، انتفت الوسائط بين الله وعباده جميعا، فلا كهانة ولا وساطة، بل يتصل كل فرد صلة مباشرة بخالقه، يتصل بشخصه الضعيف الفاني بقوة الأزل والأبد، يستمد منها القوة والعزة، والشجاعة، ويشعر برحمة الله وعنايته وعطفه فيشتد إيمانه وتقوي معنويته"[14].

هذه هي طبيعة دعوة الأنبياء والمرسلين، فطبيعي أن تصطدم أول ما تصطدم مع المتألهين في الأرض الذين سيزول ملكهم ويحطم سلطانهم ويصيرون أسوياء مع من كانوا يستعبدونهم، وهم لا يرضون بذلك.

يجيب د. البوطي على ذلك بقوله: "ومما يزيد الأمر وضوحا أن الذين دخلوا في الإسلام في هذه المرحلة، كان معظمهم خليطا من الفقراء والضعفاء والأرقاء، فما الحكمة في ذلك؟ وما السر في أن تؤسس الدولة الإسلامية على أركان من مثل هؤلاء الناس؟

والجواب: أن هذه الظاهرة هي الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء في فترتها الأولى، ألم تر إلى قوم نوح كيف كانوا يعيرونه بأن أتباعه الذين من حوله، ليسوا إلا من أراذل الناس ودهمائهم: )فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي( (هود: 27).

وإلى فرعون وشيعته كيف كانوا يرون أتباع موسى، أذلاء مستضعفين، حتى قال الله عنهم بعد أن تحدث عن هلاك فرعون وأشياعه: )وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها( (الأعراف: ١٣٧).

وإلى ثمود الذين أرسل الله إليهم صالحا، كيف تولى عنه الزعماء والمستكبرون، وآمن به الناس المستضعفون، حتى قال الله في ذلك: )قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم أتعلمون أن صالحا مرسل من ربه قالوا إنا بما أرسل به مؤمنون (75) قال الذين استكبروا إنا بالذي آمنتم به كافرون (76)( (الأعراف).

 والسر في ذلك أن حقيقة هذا الدين الذي بعث الله به عامة أنبيائه ورسله، إنما هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده.

وهي حقيقة تخدش أول ما تخدش ألوهية المتألهين، وحاكمية المتحكمين، وسطوة المتزعمين، وتناسب أول ما تناسب حالة المستضعفين والمستذلين والمستعبدين، فيكون رد الفعل أمام الدعوة إلى الإسلام وحده هو المكابرة والعناد من أولئك المتألهين والمتحكمين، والإذعان والاستجابة من هؤلاء المستضعفين، وانظر فإن هذه الحقيقة تتجلى بوضوح في الحديث الذي دار بين رستم قائد الجيش الفارسي في وقعة القادسية، وربعي بن عامر الجندي البسيط في جيش سعد بن أبي وقاص، فقد قال له رستم: ما الذي دعاكم إلى حربنا والولوع بديارنا؟

فقال: جئنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ثم نظر إلى صفوف الناس الراكعين عن يمين رستم وشماله، فقال متعجبا: "لقد كانت تبلغنا عنكم الأحلام، ولكني لا أرى قوما أسفه منكم، إننا معشر المسلمين لا يستعبد بعضنا بعضا، ولقد ظننت بأنكم تتواسون كما نتواسى، وكان أحسن من الذي صنعتم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض".

فالتفت الدهماء المستضعفون إلى بعضهم يتهامسون: صدق والله العربي، أما القادة والرؤساء فقد وجدوا في كلام ربعي هذا ما يشبه الصاعقة أصابت كيانهم فحطمته، وقال بعضهم لبعض: "لقد رمى بكلام لا تزال عبيدنا تنزع إليه".

ولا يعني هذا الكلام أن المستضعفين الذين أسرعوا إلى الإسلام قبل غيرهم لم يكن دخولهم فيه عن إيمان، بل عن قصد ورغبة في التخلص من أذى المستكبرين وسلطانهم؛ ذلك لأن الإيمان بالله وحده والتصديق بما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - كان قدرا مشتركا بين زعماء قريش ومستضعفيها.

فما منهم من أحد إلا وهو يعلم صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما يخبر عن ربه، غير أن الزعماء والكبراء فيهم كانت تصدهم زعامتهم عن الانقياد والاتباع له، وأجلى مثل على ذلك عمه أبو طالب، وأما الفقراء والمستضعفون فما كان يصدهم عن التجاوب مع إيمانهم والانقياد له - صلى الله عليه وسلم - شيء.

أضف إلى ذلك ما يشعر به أحدهم عند الإيمان بألوهية الله وحده من الاعتزاز به وعدم الاكتراث بسلطان غير سلطانه أو قوة غير قوته، فهذا الشعور الذي هو ثمرة للإيمان بالله - عز وجل - يزيده قوة، ويجعل صاحبه في نشوة وسعادة غامرة"[15].

الخلاصة:

  • إن إيمان المؤمنين الأوائل، وكل مؤمن بالله تعالى، هو محض استجابة لنداء الحق عن قناعة ويقين بأنه الدين الحق وأن محمدا - صلى الله عليه وسلم - مرسل من ربه، وإلا فما الذي كان يمسكهم على الضيق الخانق عندما لم تتحقق لهم الحياة الآمنة، والعيش الرغيد، بل على النقيض ذاقوا ألوان العذاب وشتى صنوف الاضطهاد فما ردهم ذلك عن دينهم.
  • إذا كان معظم أتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - من الضعفاء والفقراء، فقد كان منهم الأثرياء وذوو المكانة الاجتماعية، أمثال: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلى، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير، وحمزة بن عبد المطلب وغيرهم، فإذا كان الإيمان للتخلص من الظلم والفقر، فما الذي حدا بهؤلاء إلى الإيمان؟
  • النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعد أحدا بتحسين وضعه الاجتماعي، أو الاقتصادي، بل إنهم كانوا يعلمون من القرآن والواقع المشاهد أمامهم أن الابتلاء قرين الإيمان ومع ذلك تمسكوا بدينهم وثبتوا عليه، وصبروا السنين الطوال فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا.
  • إن الثمرة الطبيعية لدعوة الأنبياء في فترتها الأولى أن يكون معظم أتباعهم من الفقراء والضعفاء، والأرقاء؛ لأن حقيقة دعوة الأنبياء جميعا هي الخروج عن سلطان الناس وحكمهم إلى سلطان الله وحكمه وحده، وهذا يصطدم أول ما يصطدم بحاكمية المتحكمين وسطوة المتزعمين في الأرض، أما الفقراء والمستضعفون فما كان ليصدهم عن الإيمان بالله شيء.

 

 

 

(*) تهافت العلمانية في الصحافة العربية، سالم البهنساوي، دار الوفاء، المنصورة، ط2، 1413هـ/ 1992م.

[1]. الإحن: العداوة والأحقاد.

[2]. تعج: تمتلئ.

[3]. تهافت العلمانية في الصحافة العربية، سالم البهنساوي، دار الوفاء، المنصورة، ط2، 1413هـ/ 1992م، ص142 بتصرف يسير.

[4]. تعتلج: تضطرب.

[5]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/1978م، ص96: 98.

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الإكراه، باب من اختار الضرب والقتل والهوان على الكفر (6544)، وفي موضع آخر.

[7]. تهافت العلمانية في الصحافة العربية، سالم البهنساوي، دار الوفاء، المنصورة، ط2، 1413هـ/ 1992م، ص142، 143.

[8]. لأواء: المشقة وشدة.

[9]. ولنفيلن: ولنقبحن.

[10]. الجعل: دويبة من هوام الأرض، تشبه الخنفساء.

[11]. صحيح: أخرجه الطبراني في الكبير، مسند النساء، باب السيدة سمية بنت خباط مولاة أبي حذيفة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم (769)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ذكر مناقب عماد بن ياسر رضي الله عنه (5646)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 103).

[12]. صحيح: أخرجه الحاكم في مستدركه، كتاب التفسير، تفسير سورة النحل (3362)، والبيهقي في السنن الكبرى، كتاب المرتد، باب المكره على الردة، قال الله جل ثناؤه: ) من كفر بالله من بعد إيمانه ( (النحل) (16673)، وصححه الذهبي في التلخيص على مستدرك الحاكم (3362).

[13]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/ 2006م، ص337: 349 بتصرف.

[14]. العدالة الاجتماعية، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط16، 1427هـ / 2006م، ص33 : 35 بتصرف.

[15]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/1978م، ص77: 79.

  • الخميس AM 01:03
    2020-10-22
  • 1557
Powered by: GateGold