المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413324
يتصفح الموقع حاليا : 161

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن تعذيب المشركين للمسلمين الأوائل كان معنويا فحسب

                    ادعاء أن تعذيب المشركين للمسلمين الأوائل كان معنويا فحسب(*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المشككين أن الإيذاء الذي وقع بالمسلمين من جانب قريش، إنما كان مقصورا على السخرية والتعريض، والهجوم بالكلام والشتائم، وأن التعذيب الجسماني كان شيئا لا يذكر. ويهدفون من وراء ذلك إلى محاولة التقليل من قيمة تضحيات مسلمي مكة في سبيل هذا الدين.

وجوه إبطال الشبهة:

1) كانت طبيعة الرسالة الإسلامية التغييرية والقاضية على الفساد، مصدر خطر على طواغيت مكة؛ لذا لم يسكتوا عنها وحاربوا من اعتنقها.

2) شهد المسلمون في المرحلة العلنية من الدعوة صورا عدة من الابتلاءات، والاضطهادات، والإشاعات الكاذبة، والتهديدات الباطلة، والإغراء بالجاه والسلطان، والتعذيب الجسماني.

3) الهجرة إلى الحبشة، ثم إلى المدينة دليل على شدة التعذيب والاضطهاد، وإلا فهل يتركون أوطانهم، وأموالهم، وأهليهم لمجرد الاستهزاء والسخرية بهم؟!

التفصيل:

أولا. طبيعة الرسالة الإسلامية التغييرية كانت مصدر خطر على طواغيت مكة:

لما جهر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدعوته، وتبين المشركون حقيقتها وأنها تغيير للأنظمة الجاهلية الحاكمة، وتحطيم للأنظمة السياسية المعادية للإسلام، ونزع الحاكمية من البشر وردها إلى مالك الملك وخالق الخلق - والتي يعبر عنها بكلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، والتي تعني أنه لا معبود، ولا مطاع، ولا مشرع، ولا حاكم إلا الله، وأي تشريع تكون الحاكمية فيه للبشر تشريع مرفوض، والسلطة فيه باطلة يجب القضاء عليها - وقف هؤلاء الطواغيت يعلنون العداوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه، ولهذا الدين، حينما أدركوا طبيعة الدعوة والرسالة، وأنها تغييرية وقضاء على الفساد الخلقي، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، وكل فساد[1].

من أجل ذلك أوذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأوذي من قبله جميع الأنبياء والرسل، ومن أجل ذلك أوذي أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مات منهم من مات تحت العذاب وعمي من عمي، رغم عظيم فضلهم وجليل قدرهم عند الله - عز وجل - وإذا كانت هذه سنة الله في عباده، فلن تجد لسنة الله تبديلا حتى مع أنبيائه وأصفيائه[2].

ثانيا. شهد المسلمون في المرحلة العلنية صورا عدة من الابتلاءات والاضطهادات:

لقد كانت المرحلة العلنية مرحلة ابتلاء عام وشامل، فما من مسلم أو مسلمة إلا وأوذي إيذاء شديدا، وما من صورة من صور الابتلاء إلا وقد وقعت على المسلمين والمسلمات، ويوضح لنا د. محمد عبد القادر أبو فارس أهم صور هذه الابتلاءات في النقاط الآتية:

  1. الحملات الإعلامية الظالمة الكاذبة:

لقد شن أولياء الشيطان حملات إعلامية كاذبة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه، هادفين من وراء ذلك تشويه صورة الرسول والمسلمين، وتنفير المشركين منها، حتى لا يتعاطفوا معهم، ولا يستمعوا للحق الذي يدعون الناس إليه.

ومن ثم لا يدخلون في دعوة التوحيد والتحرير، وتبقى الأوضاع الآسنة العفنة هي السائدة، ويبقى الطواغيت يصولون ويجولون ويفسدون ويستبدون، ولا متمرد على ظلمهم واستبدادهم، فقد افتروا على الرسول، فقالوا: كاذب، وساحر، وشاعر، وكاهن، ومجنون، فما أثر ذلك في عزيمته، بل ظل مثابرا يبلغ دعوته.

فسلكوا طريقا آخر، وهو طريق السخرية والاستهزاء والاستخفاف بالرسول، والذين آمنوا معه، قال تعالى: )وإذا رآك الذين كفروا إن يتخذونك إلا هزوا أهذا الذي يذكر آلهتكم وهم بذكر الرحمن هم كافرون (36)( (الأنبياء)، وقال تعالى: )إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون (29) وإذا مروا بهم يتغامزون (30) وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين (31) وإذا رأوهم قالوا إن هؤلاء لضالون (32)( (المطففين). إنها سورة في غاية القبح والشناعة أن يسخر الوضيع من الرفيع، والسفيه من العاقل الرشيد الحكيم، والغبي من الذكي، والأحمق من الألمعي.

  1. التهديد بإلحاق الأذى بالمؤمنين وتعطيل مصالحهم:

فلقد انطلقت أصوات منكرة من المشركين تتهدد وتتوعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل من آمن معه بالأذى والرجم إن بقوا على إسلامهم، قاصدين من ذلك إرهاب المؤمنين، وإرهاب الناس والآخرين حتى لا يدخلوا في دين الإسلام. وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: «قال أبو جهل: لئن رأيت محمدا عند الكعبة يصلي لأطأن عنقه، فبلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لو فعله لأخذته الملائكة»[3].

  1. الإغراء بالجاه والسلطان:

فحين يعجز الطغاة عن ثني أصحاب المبادئ عن مبادئهم بإشاعة الإشاعات الكاذبة، والتهديدات الباطلة، يلجأون إلى صورة أخرى هي صورة الإغراء والإغواء، على أن يتركوا دعوتهم. إنها وسيلة تغري بعض ضعاف الإيمان، أصحاب المنافع والمصالح، لا أصحاب المبادئ الإسلامية والقيم الإيمانية.

ولقد أكدت بعض الرويات على أن المشركين عرضوا على الرسول - صلى الله عليه وسلم - الملك والمال على أن يترك الدعوة إلى عبادة الله، وتحرير الناس من الشرك والاستعباد، وقالوا له:«إن كان إنما بك الباءة، فاختر أي نساء قريش فلنزوجك عشرا، وإن كان إنما بك الحاجة، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا واحدا»[4].

وجاء أيضا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «فماذا تظن قريش؟ والله إنني لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله له حتى يظهره الله له أو تنفرد هذه السالفة»[5].

  1. التعذيب:

لقد فشل الطواغيت في تخويف الرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه أو إغرائهم، فصبوا جام حقدهم على المؤمنين يعذبونهم تعذيبا شديدا، قاصدين من ذلك إرهاب المؤمنين حتى يتراجعوا عما هم عليه من الإيمان، وإرهاب الناس حتى لا يستجيبوا لدعاة الإيمان.

وقد مارس الطواغيت وأذنابهم صورا كثيرة من التعذيب ضد المؤمنين، فأحرقوا الأجساد بالنار، وضربوا المؤمنين ضربا مبرحا، وخنقوا المؤمنين، وألقوا القاذورات على رؤوس الشرفاء وأجسادهم.

فها هو ذا خباب بن الأرت يحدث عما لقيه من التعذيب فيقول: لقد رأيتني يوما، وقد أوقدوا لي نارا، ثم سلقوني فيها، ثم وضع رجل رجله على صدري، فما أتيت الأرض إلا بظهري، ثم كشف خباب عن ظهره لعمر بن الخطاب، فإذا هو قد برص، ولما علمت مولاته بإسلامه أخذت الحديدة - وقد أحمتها - ووضعتها على رأسه.

ومن صور التعذيب ما جرى لبلال بن رباح - رضي الله عنه - يلقى على الرمال المحرقة في حر الصحراء، وعلى ظهره الصخرة العظيمة، ثم يضعون في عنقه حبلا يسلمونه إلى الصبيان يطوفون به ويلبسونه في الحر الشديد درعا حديديا، وهو صابر محتسب لا يبالي بما لقي هو وإخوانه في سبيل الله.

وجاء عن عبد الله بن مسعود«أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي عند البيت، وأبو جهل وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور[6] بني فلان، فيضعه على ظهر محمد إذا سجد؟ فانبعث أشقى القوم فجاء به، فنظر حتى إذا سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وضعه على ظهره بين كتفيه وأنا أنظر لا أغني شيئا، لو كانت لي منعة. ثم قال: فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة فطرحته عن ظهره، فرفع رأسه ثم قال: "اللهم عليك بقريش" ثلاث مرات، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: "اللهم عليك بأبي جهل، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط»[7].

ومن صور التعذيب محاولة خنق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، «فبينما كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي إذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فوضع ثوبه على عنقه فخنقه خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر - رضي الله عنه - حتى أخذ منكبه، ودفعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله»[8]؟

هذا وقد تعرض المسلمون في هذه المرحلة إلى القتل، ومات بعضهم تحت التعذيب، كياسر وزوجته سمية، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يمر عليهم وهما يعذبان فيقول: صبرا آل ياسر، فإن موعدكم الجنة[9].

وبعد كل هذه المحاولات لاعتراض الدعوة الإسلامية، جمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانية، فلما رأى ذلك أبو طالب جمع بني المطلب، وهاشم، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم، وأن يمنعوه ممن أرادوا قتله، فاجتمع على ذلك مسلمهم وكافرهم.

فلما عرفت قريش ذلك أجمعوا ألا يجالسوهم ولا يبايعوهم، فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين واشتد عليهم البلاء والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلم يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه.. فاشتد البلاء عليهم حتى كان الأطفال يتضاغون من شدة الجوع[10]!!

هذه التضحيات هي باب يضيء على درب الدعوة الإسلامية، وهي مأثرة من التضحيات التي قدمها المسلمون الذين رفعوا لواء الإسلام، ولا يعرف حق هذه التضحيات غير خالق العالم جل وعلا.

ثالثا. الهجرة دليل على شدة التعذيب والاضطهاد:

لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يصيب أصحابه من البلاء، وأنه لا يقدر على أن يحميهم ويمنعهم مما هم فيه، قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه. فخرج عند ذلك المسلمون إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة وفرارا إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة في الإسلام[11].

وبعدها، لما جعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين، فضيقوا عليهم وتعبثوا بهم، ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشتم والأذى؛ شكا ذلك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واستأذنوه في الهجرة، فقال: قد أخبرت بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج إليها. فجعل القوم يتجهزون ويتوافقون ويتواسون ويخرجون ويخفون ذلك. والهجرة نفسها ضرب غير يسير من ضروب العذاب والألم في سبييل الدين.. إنها هجرة الوطن، والمال، والأهل، والأرض في سبيل الدين والاستمساك به، وإقامة دعائمه. فهل يقدم المسلمون على كل هذه التضحيات لمجرد الاستهزاء بهم والسخرية؟!

الخلاصة:

  • جن جنون طواغيت مكة حينما أدركوا أن الدعوة الإسلامية تهدف إلى الإطاحة بالأنظمة الجاهلية الحاكمة، ونزع الحاكمية من البشر إلى رب البشر، فوقفوا في طريق هذه الدعوة وحاولوا اعتراضها بشتى الطرق، فعكفوا على السخرية والاستهزاء بالرسول - صلى الله عليه وسلم - والذين آمنوا معه، ثم لجأوا إلى الإشاعات الكاذبة لصرف الناس عنهم، ثم إلى التهديدات الباطلة، ولما لم يفلحوا انتهجوا نهج الإغراء بالجاه والسلطان.
  • وفي النهاية وبعد فشل كل المحاولات لجأوا إلى التعذيب الجسماني الذي طال الجميع، الكبير والصغير، والرجال والنساء، والنبي - صلى الله عليه وسلم - وعامة المؤمنين.
  • لو افترضنا تعذيب المشركين للمسلمين كان معنويا، فحسب، كما يدعي بعض المستشرقين، فلماذا يضحي المسلمون بأوطانهم، وأموالهم، وأهليهم، ويهاجرون من مكة فرارا بدينهم؟!
  • إن كتب السير والتاريخ مملوءة بما يندى له الجبين من صور وألوان التعذيب وأصناف الاضطهادات التي كانت تمارسها قريش وغيرها ضد المسلمين الأوائل. فلماذا يصر هؤلاء على إنكارها مع أنها على كثرتها لا يمكن أن تنكر؟!

 

 

 

(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.

[1]. السيرة النبوية، د. محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، عمان، الأردن، ط1، 1418هـ/1997م، ص142، 143 بتصرف.

[2]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص86 بتصرف.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، سورة العلق (4675).

[4]. صحيح: أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، كتاب المغازي، باب في أذى قريش للنبي صلى الله عليه وسلم(36560)، وأبو يعلي في مسنده، مسند جابر (1818)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية (1/ 160).

[5]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الكوفيين، حديث المسور بن مخزمة الزهري ومروان بن الحكم رضي الله تعالى عنه ( 18930)، وصححه الألباني في فقه السيرة (1/ 318).

[6]. السلى: الأمعاء أو المشيمة. الجزور: ما يصلح لأن يذبح من الإبل، الجمع جزائر وجزر.

[7]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الوضوء، باب إذا ألقي على ظهر المصلي قذر أو جيفة لم تفسد عليه صلاته (237)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب ما لقي النبي من أذى المشركين والمنافقين (4750).

[8]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة، باب ما لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه من المشركين بمكة (3643)، وفي مواضع أخرى.

[9]. السيرة النبوية، د. محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، عمان، الأردن، ط1، 1418هـ/1997م، ص143: 147 بتصرف يسير.

[10]. خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم، الإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، ج1، 1425هـ/ 2004م، ص376 بتصرف.

[11]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص98، 99 بتصرف يسير.

  • الخميس AM 01:00
    2020-10-22
  • 2456
Powered by: GateGold