المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412318
يتصفح الموقع حاليا : 286

البحث

البحث

عرض المادة

ادعاء أن الهجرة إلى المدينة كانت بدوافع اقتصادية

                                   ادعاء أن الهجرة إلى المدينة كانت بدوافع اقتصادية (*)

مضمون الشبهة:

يدعي بعض المغالطين أن المسلمين الأولين الذين هاجروا إلى المدينة إنما كانوا فقراء خرجوا سعيا إلى المال، وأنهم بدءوا غارات نهب على القرى القريبة، ليحققوا حالا من الرخاء تخرجهم مما كانوا عليه من فقر عسير. مشككين بذلك في الأهداف النبيلة للهجرة النبوية المباركة.

وجوه إبطال الشبهة:

1) لم تظهر الدعوة الإسلامية منذ بداءتها الأولى حرصا على أن تحرز مالا أو تنال سلطانا من وراء الرسالة التي تريد نشرها في العالمين، بل إنها ردت إغراءات كثيرة بالمال والسلطة.

2)  لا يغلب على السابقين إلى الهجرة أنهم كانوا من فقراء المسلمين؛ بل كانوا من ذوي العشيرة والمال.

3) المزاعم عن غارات النهب التي اتهم بها المسلمون الأوائل مختلقة رأسا، بل عادة المسلمين يومذاك أنهم لا يبتدرون عدوهم بقتال حتى يبدأهم.

التفصيل:

أولا. الدعوة ترد إغراءات المال والسلطة وهذا هو ديدنها لأنها دعوة ربانية:

تشير الملابسات الأولى للدعوة الإسلامية في طورها المكي أن فرصا كثيرة سنحت لهذه الدعوة، ولو أنها أرادت أن تجمع المال والسلطان لما ضيعت فرصة واحدة من هذه الفرص، ولا سيما إذا كانت قريش هي أول من ابتدأ فعرض مثل هذا؛ عدولا عن الشدة إلى المساومات وتقديم الرغائب والمغريات.

ومثل ذلك ما ذكره ابن هشام عن ابن إسحاق قال: حدثني يزيد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن عتبة بن ربيعة، وكان سيدا، قال يوما، وهو في نادي قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في المسجد وحده: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه، ورأوا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثرون ويزيدون، فقالوا: بلى يا أبا الوليد قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة، حتى جلس إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا ابن أخي! إنك منا حيث قد علمت من السلطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل يا أبا الوليد أسمع".

قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستمع منه، قال: "أقد فرغت يا أبا الوليد"؟ قال: نعم، قال: "فاسمع مني"، قال: أفعل، فقال: )حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4) وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون (5)( (فصلت).

ثم مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت له، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما، يسمع منه، ثم انتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى السجدة منها فسجد، ثم قال: "قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك"([1]).

بل ضد ذلك كان؛ فإن صون قواعد الدعوة وترك الرخص في أمر بيانها كان وراء ما امتحنت به الدعوة في حادث الشعب؛ "ففي آخر العام السادس وأول السابع من البعثة عزمت قريش على مقاطعة بني المطلب وبني هاشم عشائر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقرروا: ألا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، ولا يجالسوهم، ولا يخالطوهم، ولا يدخلوا بيوتهم، ولا يكلموهم حتى يسلموا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليقتلوه، وكتبوا بذلك صحيفة، وعلقوها في جوف الكعبة. فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على كاتبها فشلت يده.

إنه - بلغة العصر - حصار اقتصادي واجتماعي ضد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومناصريه، وانحاز بنو المطلب وبنو هاشم إلى شعب أبي طالب، وقضوا فيه ثلاثة أعوام لقوا فيها عنتا وقسوة، وحرموا أسباب الحياة من الطعام والشراب، فأكلوا أوراق الشجر والجلود، وهزلت أجسامهم واصفرت وجوههم من الجهد والحرمان"([2]).

وإن احتمال مثل هذا مما يقدم دلالة واضحة على طبيعة الدعوة وحقيقة أولوياتها، بل يظهر تطور تاريخها أنها لم تحفل بالمال والحياة الرغيدة([3]) حتى بعد أن تملك أسبابها، وأصبح سلطانها واقعا لا طموحا، وها هو ذا محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد إقامة دولة المدينة وفتح مكة وبعثه بالرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام، يظل يحيا حياته البسيطة ولا ينهج نهج الرؤساء أصحاب الدول، فيحيط نفسه بالشرطة، ويجلس على عرش يحف به الوزراء والقادة، ويقيم في القصور الباذخة الشامخة بدل الحجرات الشديدة التواضع التي كان يسكن فيها زوجاته، ويأكل الأطعمة المترفة الفاخرة لا من بسيط الطعام وخشنه في معظم الأحيان ومن وسطه في الأحيان الأخرى.

ولقد بلغ من تواضعه أن كان بعض الأعراب البداة الجفاة يشدونه من طوق جلبابه حتى ليؤثر ذلك في رقبته، ويكلمونه بكلام خشن فلا يفكر مجرد تفكير في التنكيل بهم أو حتى معاقبتهم، مع أنه لو شاء كان قادرا على قتلهم.

ومعروفة العبارة التي قالها للرجل الذي ارتعد وهو يكلمه، إذ طمأنه بقوله النبيل الذي لا يمكن صدوره من فم ملك: «هون عليك، فإني ليست بملك. إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد»([4]) ([5]) ([6]).

فهل بعد هذا يأتي من يتقول زورا وبهتانا أن الهجرة كانت لأهداف اقتصادية؟!! وإذا سلمنا جدلا بهذا. فما هي هذه الأهداف الاقتصادية، وحياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة كانت أشد تواضعا وفقرا مما كانت عليه هو وصحابته في مكة؟!!

ثانيا. هجرة ذوي العشيرة دون المستضعفين:

لقد أجمعت المصادر المعتمدة أن أغلبية المسلمين الذين هاجروا إلى المدينة كانوا من الأغنياء مثل أبي بكر الصديق، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، ومصعب بن عمير - رضي الله عنهم - وغيرهم، حمل بعضهم ما استطاع من مال، وترك بعضهم أمواله وثروته في مكة وفضل ما عند الله من خير وفضل.

كما أن عددا آخر ممن أسلموا لا يقل عن عدد من هاجروا كانوا من الفقراء المستضعفين الذين لم يتمكنوا من الهجرة، إما خوفا من إعلان إسلامهم، وإما عجزا عن تدبير التكاليف المالية للهجرة إلى المدينة.

إذن فأغلبية الذين تمكنوا من الهجرة كانوا من الأغنياء، والذين لم يتمكنوا منها كانوا من الفقراء المستضعفين، ويبدو أن تقرير هذه الحقيقة وحدها كاف في دفع هذا الزعم من أصله.

فإذا ما أضفنا إلى هذا حقيقة أخرى، هي أن يثرب - على رخائها المادي - لم تكن أيامئذ دار أمن تعد من يريدون الثراء بشيء كثير، بل "إن الشحناء المتأصلة بين أهلها استنزفت دماءهم، وقطعت شملهم، وشغلت بعضهم بالبعض، حتى أوصلتهم الحروب الدائمة إلى درك أسف له العقلاء، وتمنوا الإنقاذ منه. كان الأوس والخزرج - وهم في الأصل قرابة واحدة - يعانون في يثرب آصار هذا الخصام العنيف، ويورثونه أبناءهم؛ حتى يشبوا - وهم في مهادهم - أعداء"([7]).

إذا أضفت هذه الحقيقة إلى تلك، فإن كلتيهما تكفيان في بيان أن هذا الزعم لا يقوم على تصور واضح لأحوال المهاجرين ولا لأوضاع هجرتهم.

إذن فأين ما كانوا يبغونه من ثراء وغنى من جراء هجرتهم إلى المدينة، وأحوال المدينة كما رأينا أنهكتها الحروب والانقسامات؟!!

ثالثا. غارات النهب فرية لا أصل لها:

لا يعرف في تاريخ هذه الفترة الأولى من الدعوة إلى الإسلام أن المسلمين افتتحوا مع المشركين أو اليهود قتالا حتى كان هؤلاء يبدءونهم، فإذا بدأهم هؤلاء فحال المسلمين الصبر قبل الهجرة، حتى كانت وقعة بدر التي كان مبدؤها تعرض المسلمين لقافلة تجارية لقريش.

فهل هذا الحادث الأول مما يرتب عليه أن المسلمين قاموا بغارات نهب؟ "لقد كان يوجد في شبه الجزيرة العربية أكثر من خمسمائة قبيلة تقوم بالتجارة من مكة والشام برحلتين في الصيف والشتاء، أي كانت تقوم بحوالي ألف قافلة تجارية كلها تمر من أمام المسلمين.

فهل خرج الرسول - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون على أية قافلة تجارية لأية قبيلة أخرى، حتى يقول المستشرقون على الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنه قاطع طريق، إن المسلمين لم يخرجوا إلا على قافلة واحدة لكفار قريش؛ لأخذ جزء من حقوقهم لدى كفار قريش؛ لأن المسلمين عندما هاجروا من مكة للمدينة تركوا ديارهم وأراضيهم وأغنامهم وأثاث منازلهم وكل ما يملكون، اغتصبها كفار قريش واستولوا عليها، وبذلك أصبح لهم حق لدى كفار قريش وهو قيمة ما تركوه بمكة من أرض ونخيل وأثاث منازل وبهائم وحيوانات، وعلى ذلك فعندما يخرج المسلمون على قافلة كفار قريش بقيادة أبي سفيان، فإن ذلك حق المسلمين الشرعي في جميع الأديان، بأن يأخذوا جزءا من حقوقهم لدى كفار قريش"([8]).

ثم إنا لا نجد بعد ذلك في المصادر التاريخية المعتمدة غارات قام بها المسلمون في المدينة ضد القوافل والقرى المجاورة، وإلا فما اسم هذه الغارات؟ وما تاريخها؟ من كان يزعم أن هناك غارات من هذا النوع، فليرشدنا إلى مصادرها، إنه لم يعرف عن المسلمين طوال تاريخهم أنهم لجأوا إلى مثل هذا النوع من الغارات الاعتدائية، ولم تكن حروبهم مع أعدائهم إلا حروبا دفاعية، ردا على اعتداءات أعدائهم ومؤامراتهم.

وبهذا يتبين لنا صدق نية الصحابة والنبي - صلى الله عليه وسلم - في هجرتهم إلى المدينة، وأنها كانت هجرة لا يبتغى بها إلا وجه الله ونشر الإسلام في كل مكان.

الخلاصة:

  • لا يجد المنصف أمارة واحدة في تاريخ الدعوة تلفته إلى حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته - رضي الله عنهم - على ملك أو مال، بل لا يجد إلا عزوفا عنهما، وإلا احتمال العنت والمشقة في سبيل أن تظهر مباديء الرسالة في جلاء ووضوح.
  • لم تكن الهجرة إلى المدينة ممكنة - في أكثر الأمر - لغير القادرين من ذوي المال والعشيرة، وأما المستضعفون والمستخفون بإسلامهم فغلبوا علي ما يريدون، وهذه حقيقة تأتي على هذه الدعوى من أصولها.
  • الحديث عن غارات نهب قام بها المسلمون لا يشهد له شيء من مرويات التاريخ، وما وقع يوم بدر هو ما كان يجب أن يقع، وكان الأمر الذي يستحق البحث، والعجب ألا يقدم من أخذت دوره وسلب ماله غصبا، على أخذ تجارة غاصبيه وقد عرضت له، وقصاراها أن تكون بعض ماله المغصوب.

 

 

 

(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.

[1]. السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: محمد بيومي، دار الإيمان، مصر، ط1، 1416هـ/1995م، ج1، ص182.

[2]. سماحة الإسلام في الدعوة إلى الله والعلاقات الإنسانية منهاجا وسيرة، د. عبد العظيم المطعني، مكتبة وهبة، القاهرة، ط1، 1414هـ/ 1993م، ص128.

[3]. الحياة الرغيدة: واسعة الرزق.

[4]. القديد: اللحم المقطع والمملح المجفف في الشمس.

[5]. صحيح: أخرجه ابن ماجه في السنن، كتاب الأطعمة، باب القديد (3312)، والطبراني في الأوسط، حرف الألف، باب من اسمه أحمد (1260)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1876).

[6]. اليسار الإسلامي وتطاولاته المفضوحة على الله والرسول والصحابة، د. إبراهيم عوض، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1420هـ/ 2000م، ص164.

[7]. فقه السيرة، محمد الغزالي، دار الكتب الإسلامية، القاهرة، ص154، 155.

[8]. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والخناجر المسمومة الموجهة إليه، د. نبيل لوقا بباوي، دار البباوي للنشر، القاهرة، 2006م، ص58، 59.

  • الخميس AM 12:55
    2020-10-22
  • 1307
Powered by: GateGold