المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412291
يتصفح الموقع حاليا : 355

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار تدبير عسكري

    الزعم أن مؤاخاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بين المهاجرين والأنصار تدبير عسكري (*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المغالطين أن المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار إنما كانت تدبيرا عسكريا، أراد به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يوجد بين المهاجرين والأنصار انسجاما عسكريا في ميدان القتال، وأنه لم يقصد بها ناحية من النواحي الاجتماعية والإنسانية.

وجها إبطال الشبهة:

1) المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في الإسلام تدور في إطار عقدي واجتماعي وإنساني سام، ولا دخل للتدابير العسكرية فيه:

  • اجتماعيا: هدف إلى دمج عناصر هذا المجتمع الجديد في بوتقة[1] تنصهر فيها كل الفوارق، حتى تصبح جميعا جسدا واحدا.
  • إنسانيا: هدف إلى التكافل بين المهاجرين والأنصار في الأموال والمعيشة، وهو ما برع فيه الأنصار.
  • عقديا: هدف إلى أن تكون آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين المسلمين، إليها المرجع ومنها المنطلق، وهي مقدمة على رابطة النسب وغيرها من الروابط.

2) في الوقت الذي تمت فيه المؤاخاة لم تكن فكرة الحرب، وميدان القتال قد ظهرت إلى الوجود. ثم إن المهمات العسكرية الأولى قبل غزوة بدر لم يشترك فيها إلا المهاجرون، فلم لم يشترك الأنصار فيها إذا كانت المؤاخاة تدبيرا عسكريا؟!

التفصيل:

أولا. أهداف المؤاخاة تدور في إطار عقدي واجتماعي وإنساني، ولا دخل للتدابير العسكرية فيه:

دخل المهاجرون إلى المدينة بلا مال فقد خلفوا بيوتهم وأموالهم وأهليهم في مكة، فأين ينزلون وماذا يعملون؟ لهذا بادر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى علاج الموقف بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، إلى درجة أنهم صاروا يتوارثون بهذه المؤاخاة، وكانت مقدمة على القرابة إلى أن أنزل الله تعالى: )وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا (6)( (الأحزاب).

والمؤاخاة كانت من أهم الأسس التي اعتمدها النبي - صلى الله عليه وسلم - في سبيل بناء المجتمع والدولة الإسلامية، وتظهر أهميتها في تحقيق الأهداف الآتية:

  • الوحدة القائمة على العدالة الاجتماعية:

إن أية دولة لا يمكن أن تنهض وتقوم إلا على أساس من وحدة الأمة وتساندها، ولا يمكن لكل من الوحدة والتساند أن يتم بغير عامل التآخي والمحبة المتبادلة، فكل جماعة لا تؤلف بينها آصرة المودة والتآخي الحقيقي، لا يمكن أن تتحد حول مبدأ ما، وما لم يكن الاتحاد حقيقة قائمة في الأمة أو الجماعة فلا يمكن أن تتألف منها دولة[2].

لقد كانت خطة النبي - صلى الله عليه وسلم - فعالة في دمج عناصر هذا المجتمع الجديد في أخوة في الله تنصهر فيها كل الفوارق في النسب والغنى والفقر. لقد أصبحوا جسدا واحدا «إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»[3].

وإنه لأمر جليل أن نرى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم - بل قدرة دين الله - على علاج مشاكل الواقع بأسلوب مثالي، إذ لم نسمع من قبل أن أناسا قبلوا أن يقاسموا غيرهم أموالهم، لقد رأينا الاشتراكيين يطمحون إلى شيء من ذلك، لكنهم أرغموا الناس عليه إرغاما فسقطوا، وتناثرت بلدانهم إلى قطع ثائرة تسعى للاستقلال عنهم.

والجميل أن هذه الأخوة لم يستغلها فريق على حساب فريق، بل طبقها كل فريق بالتضحية والإخلاص، فانظر إلى عبد الرحمن بن عوف - وهو معدم - يواجه كرم الأنصارى بالتعفف وعزة النفس شاكرا له مواساته وسائلا عن السوق.

وانظر إلى باقي المهاجرين يعبرون عن امتناعهم وخجلهم من إيثار الأنصار لهم، وقد خافوا من ضياع أجورهم أمام عظمة الأنصار في إيثارهم[4].

يقول الدكتور البوطي موضحا أثر التآخي في إقامة وحدة اجتماعية قائمة على العدالة: "من أجل هذا اتخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حقيقة التآخي الذي أقامه بين المهاجرين والأنصار أساسا لمبادئ العدالة الاجتماعية، التي قام على تطبيقها أعظم وأروع نظام اجتماعي في العالم، ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل أحكام وقوانين شرعية ملزمة، ولكنها كلها إنما تأسست وقامت على تلك "الأرضية" الأولى ألا وهي الأخوة الإسلامية ولولا هذه الأخوة العظيمة، التي تأسست بدورها على حقيقة العقيدة الإسلامية، لما كان لتلك المبادئ أي أثر تطبيقي وإيجابي في شد أزر المجتمع الإسلامي ودعم كيانه"[5].

ويفصل القول في مسألة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار - موضحا الأهداف الاجتماعية والإنسانية والعقدية لهذه المؤاخاة - د. على الصلابي، يقول في سياق حديثه عن الهدف الاجتماعي: ساهم نظام المؤاخاة في ربط الأمة بعضها ببعض، فقد أقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الصلة على أساس الإخاء الكامل بينهم، هذا الإخاء الذي تذوب فيه عصبيات الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، وأن تسقط فوارق النسب واللون والوطن، فلا يتأخر أحد أو يتقدم إلا بمروءته وتقواه.

وقد جعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخوة، عقدا نافذا لا لفظا فارغا، وعملا يرتبط بالدماء والأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة ولا يقوم لها أثر.

وكانت عواطف الإيثار والمواساة والمؤانسة تمتزج في هذه الأخوة وتملأ المجتمع الجديد بأروع الأمثال[6].

  • التكافل الاجتماعي الوثيق:

لم يكن ما أقامه الرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه من مبدأ التآخي مجرد شعار في كلمة أجراها على ألسنتهم، وإنما كان حقيقة عملية تتصل بواقع الحياة وبكل أوجه العلاقات القائمة بين الأنصار والمهاجرين، ولذلك جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - من هذه الأخوة مسئولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الإخوة، وكانت هذه المسئولية تؤدى فيما بينهم على أكمل وجه[7].

كانت نفوس الأنصار صافية خالصة في حبها وطاعتها للرسول - صلى الله عليه وسلم -.. حتى وصفهم الله - عز وجل - بقوله: )والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)( (الحشر)؛ فلقد كان عطاؤهم عن محبة وتقدير لما لقي إخوانهم المهاجرون من عنت ومشقة وحرمان في إيمانهم وهجرتهم، فكانوا مقتنعين بما يعطى المهاجرون من عطايا.

كان المسلمون - وخاصة المهاجرين - يدركون قيمة العمل في دينهم، وأن اليد العليا خير وأحب إلى الله من اليد السفلى، ولهذا لم يركنوا إلى مساعدة الأنصار لهم، وسعوا إلى عمل ما يقدرون عليه، ورفضوا أن يكونوا عالة، ونرى النشاط والفعالية متمثلا في أحدهم - عبد الرحمن بن عوف - إذ لم تمض عليه أيام حتى أصبح ميسورا، وتزوج ودفع مهرا من الذهب وأولم بشاة، لقد مارس العمل الذي يتقنه، وأهل مكة ماهرون في التجارة.

كان إيمانهم يدفعهم إلى النشاط والفعالية، وبذل كل ما في الوسع، أما إيماننا الآن فيميت حركة الفكر واليد بدعوى أن كل شيء من عند الله، فالرزق على الله، والمصائب محن من عند الله، لقد حذفنا أنفسنا من الوجود كليا.

بينما أثبت الصحابي وجوده في كل مجال.. واعتبر المصائب ناتجة عن تقصيره وذنوبه و )إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم( (الرعد: 11).

لقد حفظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار أموالهم، ولم يقبل - ولا المهاجرون قبلوا - أن يقسم الأرض والنخيل بينهما.. وفي ذلك احترام لحق الملكية، ودفع للإنسان أن يفعل الخير تطوعا من نفسه، وتعليم للجميع ألا يستغل الدين لتحقيق مآرب شخصية.. وفرض التآخي في البداية أن يتوارث المهاجرون والأنصار بعضهم بعضا، فلما تحقق الغرض، وتكافل المجتمع، واستقرت أوضاع المهاجرين أرجع الله الأمر إلى نصابه، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث.. إلا من تطوع خيرا ضمن شروط الوصية بحيث لا يحرم صاحب حق من الميراث[8].

ويقول د. الصلابي موضحا أثر الأخوة الإيمانية في إقامة حقيقة التكافل: "والسبب الذي أدى إلى تقوية هذه الأخوة بين المهاجرين والأنصار، هو أن أهل هذا المجتمع ممن التقوا على دين الله وحده نشأهم دينهم الذي اعتنقوه على أن يقولوا ويفعلوا، وعلمهم الإيمان جميعا، فهم أبعد ما يكونون عن الشعارات التي لا تتجاوز أطراف الألسنة، وكانوا على النحو الذي حكاه الله عنهم في قوله تعالى: )إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون (51)( (النور).

وهذا الذي درج عليه المسلمون كفل البقاء والاستمرار لهذه الأخوة، التي شد الله بها أزر دينه ورسوله حتى آتت ثمارها في كل أطوار الدعوة طوال حياته صلى الله عليه وسلم، وامتد أثرها فجمع كلمة المهاجرين والأنصار عند استخلاف الصديق - رضي الله عنه - دون أن تطوع للأنصار أنفسهم أن يحدثوا صدعا [9] في شمل الأمة، مستجيبين في ذلك لشهوات السلطة وغريزة السيطرة، لذلك فإن سياسة المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار نوع من السبق السياسي، الذي اتبعه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تأصيل المودة وتمكينها في مشاعر المهاجرين والأنصار، الذين سهروا جميعا على رعاية هذه المودة وذلك الإخاء، بل كانوا يتسابقون في تنفيذ بنوده، ولا سيما الأنصار الذين لا يجد الكتاب والباحثون مهما تساموا إلى ذروة البيان خيرا من حديث الله عنهم، قال تعالى: )والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (9)( (الحشر)، ونلحظ في الآية السابقة أن الله تعالى شهد لهم بخمس شهادات:

o       تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم.

o       يحبون من هاجر إليهم.

o       لا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا.

o       ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.

o       ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.

وفي الآية السابقة فوائد عظيمة وحكم جليلة، ففي التعبير عن المدينة بلفظ (الدار) إشعار بأنها دار خاصة لكل متوطن بها متبوئ لها، فهي بالنسبة لأهلها كدار خاصة للفرد يهنأ بالأمن والاستقرار وهو في داخلها، وفي هذا الإشعار نوع من الأنس السري في النفس، يزيدها روحا وطمأنينة، تتنزل عليهم السكينة فتحفهم بنورها، كأنها سياج[10] من الرحمة مضروب عليهم، لا يلحقهم فزع ولا يدخل عليهم قلق"[11].

  • الارتباط العقدي الوثيق:

ومن الفوائد العقدية للمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، أن صارت آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين المسلمين جميعا.

إن المجتمع المدني الذي أقامه الإسلام كان مجتمعا عقديا يرتبط بالإسلام، ولا يعرف الموالاة إلا لله ولرسوله وللمؤمنين، وهو أعلى أنواع الارتباط وأرقاه، إذ يتصل بوحدة العقيدة، والفكر، والروح.

إن الولاء لله ورسوله والمؤمنين من أهم الآثار والنتائج المترتبة على الهجرة، وكان القرآن الكريم يربي المسلمين على هذه المعاني الرفيعة، فقد بين الحق - سبحانه وتعالى - أن ابن نوح وإن كان من أهله باعتبار القرابة، لكنه لم يعد من أهله لما فارق الحق، وكفر بالله ولم يتبع نبي الله، قال تعالى: )ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين (45)( (هود)، وقد حصر الإسلام الأخوة والموالاة بين المؤمنين فقط، قال تعالى: )إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون (10)( (الحجرات).

وقطع الولاية بين المؤمنين والكافرين من المشركين واليهود والنصارى حتى لو كانوا آباءهم أو إخوانهم أو أبناءهم، ووصف من يفعل ذلك من المؤمنين بالظلم، مما يدل على أن موالاة المؤمنين للكافرين من أعظم الذنوب، قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون (23)( (التوبة)، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل (1) إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون (2) لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير (3)( (الممتحنة) فإذا كان الله - سبحانه وتعالى - يحذر المؤمنين في الآيات السابقة من موالاة الكفار عامة، فهناك آيات كثيرة وردت في تحذير المؤمنين ونهيهم عن طاعة أهل الكتاب خاصة، أو اتخاذهم أولياء، أو الركون إليهم.

قال تعالى: )ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير (120)( (البقرة)، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين (100) وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم (101)( (آل عمران)، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين (51)( (المائدة) [12].

 قال صاحب "الظلال": "هذا النداء موجه إلى الجماعة المسلمة في المدينة، ولكنه في الوقت ذاته موجه لكل جماعة مسلمة تقوم في أي ركن من أركان الأرض إلى يوم القيامة، ولقد كانت المناسبة الحاضرة إذ ذاك لتوجيه هذا النداء للذين آمنوا، أن المفاصلة لم تكن كاملة ولا حاسمة بين بعض المسلمين في المدينة وبعض أهل الكتاب - وبخاصة اليهود - فقد كانت هناك علاقات ولاء وحلف، وعلاقات اقتصاد وتعامل، وعلاقات جيرة وصحبة، وكان هذا كله طبيعيا مع الوضع التاريخي والاقتصادي والاجتماعي في المدينة قبل الإسلام، بين أهل المدينة من العرب وبين اليهود بصفة خاصة.. وكان هذا الوضع يتيح لليهود أن يقوموا بدورهم في الكيد لهذا الدين وأهله، بكل صنوف الكيد التي عددتها وكشفتها النصوص القرآنية الكثيرة.

ونزل القرآن ليبث الوعي اللازم للمسلم في المعركة التي يخوضها بعقيدته، لتحقيق منهجه الجديد في واقع الحياة؛ ولينشيء في ضمير المسلم تلك المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من لا ينتمي إلى الجماعة المسلمة ولا يقف تحت رايتها الخاصة، المفاصلة التي لا تنهي السماحة الخلقية. فهذه صفة المسلم دائما؛ ولكنها تنهي الولاء الذي لا يكون في قلب المسلم إلا لله ورسوله والذين آمنوا.. الوعي والمفاصلة اللذان لا بد منهما للمسلم في كل أرض وفي كل جيل.

بعضهم أولياء بعض.. إنها حقيقة لا علاقة لها بالزمن.. لأنها حقيقة نابعة من طبيعة الأشياء.. إنهم لن يكونوا أولياء للجماعة المسلمة في أي أرض ولا في أي تاريخ.. وقد مضت القرون تلو القرون ترسم مصداق هذه القولة الصادقة، ولم تختل هذه القاعدة مرة واحدة، ولم يقع في هذه الأرض إلا ما قرره القرآن الكريم في صيغة الوصف الدائم، لا الحادث المفرد، واختيار الجملة الاسمية على هذا النحو.. بعضهم أولياء بعض... ليست مجرد تعبير! إنما هي اختيار مقصود للدلالة على الوصف الدائم الأصيل"[13].

ثانيا. وقت المؤاخاة سابق على وقت الإذن بالقتال، والمهاجرون كانوا وحدهم في المهمات العسكرية الأولى:

إن المشهور عند العلماء أن الجهاد قد أذن الله به إذا ابتدأ المعتدون من الكفار والمشركين، وذلك في السنة الثانية من الهجرة النبوية الشريفة، فكيف نقبل هذه النظرية التي يروجها المستشرقون، وقد تمت المؤاخاة في وقت لم تكن فكرة الحرب وميدان القتال قد ظهرت إلى الوجود[14]؟!

وعلاوة على هذا فإننا نلاحظ أن السرايا التي أرسلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل غزوة بدر، كان جميع أفرادها من المهاجرين فقط، ليس من بينهم رجل واحد من الأنصار. وهذا ما يؤكده المؤرخون. يقول ابن سعد في "الطبقات": والمجتمع عليه أنهم كانوا جميعا من المهاجرين، ولم يبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدا من الأنصار مبعثا حتى غزا بهم بدرا[15].

وبهذا يتجدد رفضنا لنظرية المستشرقين تلك؛ إذ لو كانت المؤاخاة تدبيرا عسكريا فلماذا يشترك المهاجرون فقط دون غيرهم في المهمات العسكرية الأولى؟!

أضف إلى ما سبق أنه يفهم من الروايات أن المؤاخاة مع المهاجرين القادمين ظلت قائمة مع الأنصار حتى فتح مكة؛ بل يمكن أن نجد لها أمثلة بعد فتح مكة.

وعلى كل حال فإنه يتضح من المصادر أن المؤاخاة كانت محاولة لإيجاد مجتمع مستقل متجانس كانت فيه قضية حق الوراثة قضية عرضية، أما بقية النظام فقد ظل موجودا حتى النهاية، وهو النظام الذي بني عليه المجتمع الإسلامي وتطور وارتقى، بل وكان وجوده منحصرا عليه تماما[16].

الخلاصة:

  • كانت المؤاخاة تدور في إطار اجتماعي وإنساني وعقدي لا دخل للتدابير العسكرية فيه. فقد هدفت من الناحية الاجتماعية إلى دمج عناصر هذا المجتمع الجديد في بوتقة تنصهر فيها كل الفوارق، حتى تصبح جميعا جسدا واحدا، وهدفت من الناحية الإنسانية إلى التكافل بين المهاجرين والأنصار في الأموال والمعيشة، وهو ما برع فيه الأنصار. كما هدفت من الناحية العقدية إلى أن تكون آصرة العقيدة هي أساس الارتباط بين المسلمين، إليها المرجع ومنها المنطلق، وهي مقدمة على النسب وغيره من الروابط.
  • ثبت لنا بطلان النظرية التي يروج لها المستشرقون؛ إذ إنه في الوقت الذي تمت فيه المؤاخاة لم تكن فكرة الحرب وميدان القتال قد ظهرت إلى الوجود، كما أن المهمات العسكرية الأولى كان المهاجرون فقط دون غيرهم هم الذين اشتركوا فيها، ولو كانت المؤاخاة تدبيرا عسكريا لاشترك معهم الأنصار.

 

 

 

(*) الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م.

[1]. البوتقة: وعاء تصهر فيه المعادن.

[2]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص156.

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم (5665)، ومسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة والأدب، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم (6751).

[4]. هدي السيرة النبوية، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ/ 2001م، ص170، 171 بتصرف يسير.

[5]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص157.

[6]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ج1، ص518.

[7]. فقه السيرة، د. محمد سعيد رمضان البوطي، مكتبة الدعوة الإسلامية، القاهرة، ط7، 1398هـ/ 1978م، ص157، 158.

[8]. هدي السيرة النبوية، حنان اللحام، دار الفكر، دمشق، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط1، 1422هـ / 2001م، ص171، 172.

[9]. الصدع: الشق.

[10]. السياج: السور.

[11]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ص519، 520.

[12]. السيرة النبوية، د. علي محمد محمد الصلابي، دار الفجر للتراث، القاهرة، ط1، 1424هـ/2003م، ص523، 524.

[13]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/ 1987م، ج2، ص910، 911 بتصرف يسير.

[14]. الجهاد في الإسلام، د. أحمد محمود كريمة، طبعة خاصة، 1424هـ/ 2003م، ص134.

[15]. السيرة النبوية، د. محمد عبد القادر أبو فارس، دار الفرقان، الأردن، ط1، 1418هـ / 1997م، ص284، 285.

[16]. الهجمات المغرضة على التاريخ الإسلامي، د. محمد ياسين مظهر صديقي، ترجمة: د. سمير عبد الحميد إبراهيم، هجر للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 1408هـ/ 1988م، ص68.

  • الخميس AM 12:52
    2020-10-22
  • 1884
Powered by: GateGold