المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412400
يتصفح الموقع حاليا : 385

البحث

البحث

عرض المادة

التشكيك في عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لإصرار بعض أهله على عدم الإيمان به

                     التشكيك في عصمته صلى الله عليه وسلم؛ لإصرار بعض أهله على عدم الإيمان به(*)

مضمون الشبهة:

يشكك بعض الطاعنين في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعدم إيمان بعض أهله به وبدعوته، ولأن من أهله بعض فحول الكفر وطغاته، كما أن بيئته هي منبع الكفر، وكان ينبغي في زعمهم أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - من بيئة طيبة مؤمنة أي: يكون معصوما في نسبه حتى يكون أهلا لتلقي النبوة. هادفين من وراء ذلك إلى الطعن في عصمته صلى الله عليه وسلم.

وجوه إبطال الشبهة:

1)  إن طهارة نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - وشرفه من أصدق الأدلة على أهليته للنبوة.

2) إذا كان بعض أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعشيرته من المشركين الذين لم يؤمنوا به وماتوا على الكفر، فإننا نجد بعض الأنبياء السابقين عليه قد خالفهم بعض ذويهم من الآباء والأبناء، مثل: سيدنا نوح - عليه السلام - الذي خالفه ابنه ومات مشركا، وسيدنا إبراهيم - عليه السلام - الذي خالفه والده، ومات كافرا مشركا يعبد الأصنام. فهل قدح قادح في عصمة نوح وإبراهيم عليهما السلام؟!

3) لم يكن للبيئة المكية وما فيها من شرك ووثنية أي تأثير على النبي - صلى الله عليه وسلم - سواء قبل بعثته أم بعدها، مما يبرهن على عصمة الله له ورعايته إياه.

4) كان للعرب في جاهليتهم بعض الأخلاق المرذولة، غير أنهم كانوا ذوي فضائل وأخلاق متأصلة فيهم، فلم يكونوا شرا محضا.

التفصيل:

أولا. نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - من أصدق الأدلة على أهليته للنبوة:

لا شك أن الأنبياء الكرام هم أشرف الناس نسبا، كما أنهم أكملهم خلقا وخلقا؛ لذا سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كيف نسبه فيكم؟ فقال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب». ثم قال:«سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها» [1].

ومن شواهد ذلك من قصص الأنبياء السابقين قول قوم شعيب لشعيب عليه السلام: )ولولا رهطك لرجمناك( (هود: 91)، وقول قوم صالح لما أجمعوا على قتله عليه السلام: )قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون (49)( (النمل).

قال ابن خلدون في حديثه عن علامات النبوة: "ومن علاماتهم أيضا أن يكونوا ذوي أحساب في قومهم".

وأولى الأنبياء الكرام بكل فضيلة خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ورد في شرف نسبه أحاديث صحاح، منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله - عز وجل - اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشا من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم» [2].

وفي فضل قريش عن أم هانئ مرفوعا: «فضل الله قريشا بسبع خصال: فضلهم بأن عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قرشي، وفضلهم بأن نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأن نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيهم غيرهم )لإيلاف قريش( (قريش)، وفضلهم بأن فيهم النبوة، والخلافة، والحجابة، والسقاية» [3].

قال ابن حزم: هو أبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب - واسمه شيبة الحمد - بن هاشم - واسمه عمرو - بن عبد مناف - واسمه المغيرة - بن قصي - واسمه زيد - بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، ها هنا انتهى النسب الصحيح الذي لا شك فيه.

وعدنان - بلا شك - من ولد إسماعيل الذبيح رسول الله ابن إبراهيم خليل الله، عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام.

وقال ابن كثير: وذلك أنه - أي إبراهيم - عليه السلام - ولد لصلبه ولدان ذكران عظيمان: إسماعيل من هاجر، ثم إسحاق من سارة، وولد له يعقوب - أي من إسحاق - كما قال عز وجل: )ومن وراء إسحاق يعقوب (71)( (هود)، وهو إسرائيل الذي ينتسب إليه سائر أسباطهم، فكانت فيهم النبوة وكثروا جدا، بحيث لا يعلم عددهم إلا الذي بعثهم واختصهم بالرسالة والنبوة، حين ختموا بعيسى ابن مريم من بني إسرائيل.

وأما إسماعيل - عليه السلام - فكانت منه العرب على اختلاف قبائلها، ولم يوجد من سلالته من الأنبياء سوى خاتمهم على الإطلاق وسيدهم، وفخر بني آدم في الدنيا والآخرة محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي، فلم يوجد من هذا الفرع الشريف، والغصن المنيف[4]، سوى هذه الجوهرة الباهرة، والدرة الزاهرة، وواسطة العقد الفاخرة، وهو السيد الذي يفتخر به أهل الجمع، ويغبطه[5] الأولون والآخرون يوم القيامة[6].

ومن هذا البيان يتضح شرف نسبه صلى الله عليه وسلم، وعظمة أجداده، و لو مات بعض ذويه على الكفر، فهذا لا يقدح في نسبه أو عصمته ونبوته.

ثانيا. إذا كان بعض أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - من المشركين الذين لم يؤمنوا به وماتوا على الكفر، فقد كذب بعض الأنبياء السابقين من قبل آبائهم وأبنائهم، وماتوا على كفرهم:

إن مسألة إيمان أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعشيرته ليس فيها ما يدعو إلى الطعن في عصمته ونبوته صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن منهم من آمن به وصدقه منذ أن علم حاله، مثل ابن عمه جعفر بن أبي طالب وابن عمه علي بن أبي طالب، ومثل عمه العباس بن عبد المطلب، وحمزة بن عبد المطلب، وعبيد الله بن الحارث بن عبد المطلب، وغيرهم، ولم يكفر من أعمامه إلا أبو لهب، ومات كافرا، وهو الذي كان يؤذيه هو وزوجته فنزل فيهم قول الله عز وجل: )تبت يدا أبي لهب وتب (1) ما أغنى عنه ماله وما كسب (2) سيصلى نارا ذات لهب (3) وامرأته حمالة الحطب (4) في جيدها حبل من مسد (5)( (المسد).

وأما عمه أبو طالب، فإنه لم يؤمن، ولكنه كان يدافع عنه طيلة حياته، ويمنعه من قريش، وهذه هي سنة الحياة أن يكون فيها الطالح والصالح، فنجد في سير الأنبياء قبله - صلى الله عليه وسلم - أن سيدنا نوحا - عليه السلام - قد خالفه ابنه ولم يؤمن معه، قال عز وجل: )وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين (42) قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين (43)( (هود): "كان في معزل" أي: من دين أبيه، وقيل: عن السفينة، وقيل: إن نوحا لم يعلم أن ابنه كان كافرا، وأنه ظن أنه مؤمن، ولذلك قال له: )ولا تكن مع الكافرين (42)( (هود)، وكان ذلك قبل أن يستيقن القوم الغرق، وقوله )سآوي( أي: أرجع وأنضم )إلى جبل يعصمني( أي: يمنعني )من الماء( فلا أغرق، قال: )لا عاصم( أي: لا مانع؛ فإنه يوم حق فيه العذاب على الكفار إلا من رحمه الله فهو يعصمه، )وحال بينهما الموج( يعني بين نوح وابنه )فكان من المغرقين( [7].

وكذلك كان والد إبراهيم - عليه السلام - كافرا مشركا يعبد الأصنام، قال عز وجل: )واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا (41) إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا (42) يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا (43) يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا (44) يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا (45) قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا (46) قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا (47) وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيا (48)( (مريم).

فهذه الآيات توضح أن آزر والد إبراهيم - عليه السلام - لم يؤمن بما جاء به ابنه رغم دعوة إبراهيم - عليه السلام - له، فلما أصر أبوه على كفره مات مشركا.

وكذلك تحدث القرآن عن نساء كافرات في بيوت أنبياء، قال تعالى: )ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأت نوح وامرأت لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما( (التحريم: ١٠)، والخيانة هنا خيانة الدين؛ إذ كانتا مشركتين، فامرأة نوح كانت تسخر منه مع الساخرين من قومه، وامرأة لوط كانت تدل القوم على ضيوفه، وهي تعلم شأنهم مع ضيوفه[8].

وفي هذا كله دلالة على أن عدم إيمان بعض العشيرة والأهل بالنبي لا يطعن في عصمة هذا النبي، ولا في كونه نبيا مرسلا، فهذه سنة الحياة، كما أرادها الله عز وجل، فقد تجد الرجل ينجب أولادا، بعضهم صالح يحب الخير، وبعضهم طالح يحب الشر ويأمر به، وصدق الله العظيم إذ يقول: )إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)( (القصص).

ثالثا. ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحق، وعدم تأثره ببيئة مكة الوثنية:

لو لم يكن محمد هذا الرسول الكريم معدا بالفطرة للرسالة العظيمة التي قام بها، لما كان رسولا، ولو لم يكن ذلك الروح المشرق أهلا للاتصال بالقوى الإلهية اتصالا فوق العادة، لما أمكن أن تلقى إليه كلمة الله، وإلى ذلك يشير القرآن الكريم بقوله عز وجل: )الله أعلم حيث يجعل رسالته( (الأنعام: 124)، فمحمد خلق عظيما قبل أن يوحى إليه، وقبل أن يكون رسولا؛ نفر منذ صباه من عبادة الأوثان، وهي آلهة آبائه، ومصدر عزتهم في جزيرة العرب كلها، وكان منذ صباه الصادق الوفي، المحبوب المبجل في قومه؛ فسماه قومه الأمين، وكان فضله ظاهرا منذ شبابه، فدعته امرأة من صواحب الثروة الواسعة في قريش ومن أعلاها نسبا، إلى التزوج بها مع علمها بفقره.

ولما وقف لأول مرة على الصفا يدعو عشيرته إلى دينه، قال: «أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي؟ قالوا: ما جربنا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» [9].

كان - صلى الله عليه وسلم - قبل الرسالة أشد الناس نفورا من الظلم، وهضم حقوق الضعفاء، فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو أشرف حلف في العرب، وسببه أن رجلا من زبيد، من أهل اليمن، باع سلعة من العاص بن وائل السهمي، فظلمه بالثمن، فذكر ظلامته في قصيدة مطلعها:

يا آل فهر لـمظلوم بضاعته

ببطن مكة نائي الدار والنفر

فلما سمع بنو هاشم ذلك دعوا إلى تعاقد وتعاهد سمي "حلف الفضول"، فلا يجدون بمكة مظلوما من أهلها أو غيرهم، ممن دخلها من سائر الناس، إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه، حتى ترد عليه مظلمته.

وفي هذا الحلف يقول محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد الرسالة: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت» [10]. فنصرة الفقير والضعيف، هي أحب الأمور إلى نفسه.

ولد محمد - صلى الله عليه وسلم - كامل الخلق والمروءة، وعاش ولم يكن للبيئة سلطان على نفسه، بل كان طلب الحق والثبات عليه أبين صفاته الحميدة، وسنضرب بعض الأمثال على تلك الصفة البارزة في حياة بطل الإسلام الأعظم صلى الله عليه وسلم.

انظروا إليه وقد ولد في بيت رياسة متوارثة، عن هاشم عن عبد مناف عن قصي، قصي الذي دانت له الرقاب، واستأثر في مكة بالسلطان، وانفرد قومه قريش بالقيام على دين العرب، ورعاية أصنامها، وسدانة كعبتها[11]، والسقاية والرفادة[12]، وغيرها من المناصب التي ترفع الذكر في البلاد.

فهل منع هذا الميراث محمدا من طلب الحق والثبات عليه؟ كلا! لقد سفه أحلام آبائه، ودعا إلى هدم النظام الديني، الذي كان به فخر عشيرته وسلطانها.

وانظروا كذلك إليه في بني عبد مناف، وبين بني هاشم والمطلب، يلقى رعاية لم ينلها أحد من صبية هذا البيت؛ فهو الوحيد من البنين والحفدة الذي كان يجلس على فراش جده سيد القوم.

كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة، فكان بنوه يجلسون حول فراشه هذا حتى يخرج إليه، ولا يجلس عليه أحد من بنيه، إجلالا له، فكان رسول الله يأتي وهو غلام، فيجلس عليه، فيأخذه أعمامه ليؤخروه عنه، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم: دعوا ابني، فوالله إن له لشأنا، ثم يجلسه معه عليه، ويمسح ظهره، ويسر بما يراه يصنع.

وتهيأ عمه أبو طالب للرحيل إلى الشام في تجارة، فلما أجمع المسير ضبب[13] به محمد - صلى الله عليه وسلم - فرق له، وقال: والله لأخرجن به معي، ولا يفارقني أبدا، فخرج به معه، يحمله في ذلك السفر الشاق الطويل.

هذا التدليل والبر الذي حباه إياه جده وعمه، كان جديرا أن يصرفه إلى دين آبائه، ولكن نفس محمد - صلى الله عليه وسلم - لم تسكن إلى غير الحق، فلما وجده ثبت عليه في وجه قومه المدللين له، والبررة به.

فأي مثل في طلب الحق أعظم من ذلك الذي ضربه محمد صلى الله عليه وسلم؟ ولما أوفدت قريش زعماءها إلى أبي طالب تنذره، وتطلب إليه أن يكف ابن أخيه عنها، أو تنازله حتى يهلك أحد الفريقين، عظم الأمر على أبي طالب، وخشي دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، فبعث إلى محمد: فقال «يا ابن أخي إن بني عمك يزعمون أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مسجدهم فانته عن ذلك، فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره إلى السماء فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: ماأنا بأقدر أن أدع لكم ذلك على أن تستشعلوا لي منها شعلة، فقال أبو طالب: ما كذبنا ابن أخي فارجعوا»[14].

فبكاء محمد في طفولته ألزم أبا طالب أن يحمله إلى الشام، وثباته على الحق في كهولته جعله يعرض نفسه وأهله للهلاك، فلو لم يكن الحق الذي دان به محمد قد ملك قلبه، فلا يرى سواه، لكان وفاء عمه له هذا الوفاء، كافيا لصده عما هو فيه، أو كان كافيا على الأقل لقبوله هدنة يفرج بها عن عمه وأهله كربهم. فأي ثبات على العقيدة أعظم من هذا الثبات، وأي امتحان للإيمان أكثر من هذا الامتحان؟

ثم انظروا صورة أخرى، هي مثل في الكرامة والوفاء، وحرية الرأي، انظروا إلى رجل من آل عبد المطلب كان مولعا بالصيد، يخرج كل يوم للقنص، فإذا ما رجع طاف بالكعبة، ثم مر بأندية قريش يسلم على أهلها ويتحدث، وكان أعز فتى فيهم، وأبعدهم عن دين محمد، هو حمزة بن عبد المطلب، رجع يوما من قنصه، وطاف بالأوثان كعادته، فقالت له جارية: إن أبا الحكم بن هشام - أبا جهل - وجد محمدا ها هنا جالسا، فسبه ونال منه ما يكره، وانصرف عنه، ولم يكلمه محمد، فغضب حمزة وثار، وقصد إلى أبي جهل في مجمع قريش، وضربه بالقوس، فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ وأنا على دينه أقول ما يقول!

انظروا هذه الصورة: أعز فتى في قريش يتقرب إلى أصنامها، ويأنس بأنديتها، يخرج على القوم ودينهم، غضبا لكرامة ابن أخيه، وتحديا للذين تعرضوا لحريته، هل هناك أعظم من هذا الوفاء والبر بمحمد؟!

ثم انظروا إليه - صلى الله عليه وسلم - يشهد هذا الوفاء، ويرى بني عبد المطلب في فم الأسد، ولا يتزحزح عن مقامه، بل يهزأ بالدنيا، أرأيتم كيف يعشق الحق؟ وكيف يكون الثبات عليه؟ تلكم أظهر صفات محمد صلى الله عليه وسلم.

انظروا إليه كذلك في صورة أخرى: يفاوضه عن قومه عتبة بن ربيعة بجانب الكعبة، فيقول له: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت، من البسطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها، لعلك تقبل بعضها.

فقال محمد: قل يا أبا الوليد، قال عتبة: إن كنت إنما تريد بما جئت به مالا، جمعنا لك من أموالنا، حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفا، سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرا دونك، وإن كنت تريد به ملكا، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا[15] تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا، حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوي منه.

فلما فرغ قال له محمد: استمع مني يا أبا الوليد فتلا عليه: )حم (1) تنزيل من الرحمن الرحيم (2) كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون (3) بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون (4)( (فصلت).

ومضى يتلو عليه، وكان ذلك كل جوابه لما عرضت قريش، فلو لم يكن الحق الذي ملأ نفسه هو مطلبه الأسمى، لوجد في رفق قومه المخاصمين له ما يطفئ من حماسته، ويسكن من ثورته على دينها وآلهتها.

تلكم نفس محمد، خلقها المتجلي في كل صورة من صورها، حب الحق والثبات عليه، فالحق في ذاته هو الغاية التي دأب وراءها، وخاصم وابتلي وهاجر وقاتل لها، والناس جميعا طلاب للحق، أو يجب أن يكونوا كذلك، وقد ضرب لهم محمد المثل الأعلى. ولا يزال رسول الله في ميدان البطولة، تمر بين يديه أبطال العرب وغير العرب، كما تمر مئات السنين، وهو المثل الأعلى للثبات على الحق، والدعوة إلى أن يكون الناس كافة لله عبيدا، وفيما بينهم إخوانا[16].

رابعا. لم يكن العرب الذين عاش النبي - صلى الله عليه وسلم - بين ظهرانيهم شرا محضا:

كان للعرب في جاهليتهم بعض الأخلاق المرذولة، غير أنهم كانوا ذوي فضائل وأخلاق كريمة، متأصلة فيهم؛ ولهذا اختار الله خاتم الأنبياء منهم، ومن أخلاقهم الكريمة:

  1. حب الحرية، وإباء الضيم والذل: العربي بفطرته يعشق الحرية ويحيا لها، ويموت من أجلها، فقد نشأ طليقا لا سلطان لأحد عليه، ويأبى أن يعيش ذليلا، أو أن ينال من شرفه وعرضه ولو كلفه ذلك حياته.
  2. الشجاعة: فقد كانوا مضرب الأمثال فيها، وقد كان الواحد منهم يقابل الأسد في الصحراء فينازله حتى يقهره، وبعضهم لم يعرف الفرار ولا الهزيمة قط، وقد كان لهذه الفضيلة وزنها حينما جاء الإسلام، وفرض عليهم الجهاد.
  3. الكرم: وهو خلق متأصل في العرب، ولا سيما أهل البادية، وقد كان الواحد منهم لا يكون عنده إلا فرسه، أو ناقته، فيأتيه الضيف، فيسارع إلى ذبحها، أو نحرها له، وكان بعضهم لا يكتفي بإطعام الإنسان، بل كان يطعم الوحش والطير.
  4. المروءة والنجدة: والعربي بفطرته ذو مروءة فهو يأبى أن ينتهز ضعف الضعيف، وعجز العاجز كالمرأة، والشيخ، والمريض، وهو ذو شهامة إذا استنجد به أحد أنجده، ويرى من النذالة التخلي عنه.
  5. الوفاء بالعهد: وهو من صفات العرب المشهورة، وقصة السموأل بن عادياء في الوفاء مشهورة، فقد ضحى بابنه، ولم يقبل أن يخون العهد بتسليم الأدرع التي أودعت عنده، ومن أمثلة ذلك أيضا أنه لما ظفر الحارث بن عباد بقاتل ابنه، وهو المهلهل بن ربيعة في حرب البسوس، وهو لا يعرفه قال له: إذا دللتك على المهلهل تطلقني؟ قال له: نعم، فقال له: أنا مهلهل، فاكتفى بأن جز ناصيته وتركه، ولم يقبل أن يخلف وعده.
  6. العفو عند المقدرة: وقد كان الواحد منهم ينازل خصمه، وقرنه، حتى إذا أمكنه الله منه، عفا عنه وتركه، بل كان يأبى أن يجهز على جريح.
  7. حماية الجار وإجارة المستجير: وكانوا إذا استجار بالواحد منهم مستجير أجاره، وربما ضحى بنفسه وولده في سبيل إجارته، كما كانوا يرعون حقوق الجار، ولا سيما رعاية حرمه، والمحافظة على عرضه، قال عنترة:

وأغض طرفـي إن بدت لي جارتي

حتى يواري جارتي مأواها

  1. القناعة والرضا باليسير: ومن أخلاق العرب القناعة، وهي الرضا باليسير، ولعل طبيعة البلاد هي التي فطرتهم على هذا، فقد كان الواحد منهم يسير الأيام مكتفيا بتمرات يقيم بها صلبه، ورشفات من ماء يرطب بها كبده، وقلة تكاليف الحياة جعلتهم يكتفون بالقليل، قال قائلهم:

إذا ما لم تكن إبل فمعزى

كأن قرون جلتها العصي [17]

فتملأ بيتنا أقطا[18] وسمنا

وحسبك من غنى شبع وري

  1. قوة الروح، وعظمة النفس: العربي يمتاز إضافة إلى شجاعته البدنية، بقوة الروح وعظمة النفس، وإذا اجتمعت البطولة النفسية إلى البطولة الجسمانية صنعتا العجائب، وهذا ما حدث بعد تشرفهم بالإسلام، وتوحدهم تحت لوائه؛ فإنهم لم يهابوا الفرس ولا الروم على كثرة عددهم وعدتهم، وكان لهم معهم في حروبهم مواقف مشهورة.
  2. الصبر على المكاره، وقوة الاحتمال: ولعلهم اكتسبوا ذلك الخلق من طبيعة بلادهم الصحراوية الجافة، قليلة الزرع والماء، فألفوا اقتحام الجبال الوعرة، والسير في حر الظهيرة، ومرنوا على الحر والبرد؛ ولهذا لما دخلوا في الإسلام بعد ضربوا في الصبر وقوة الاحتمال مثلا لم تعرف لغيرهم، ولم يؤثر فيهم الحر والبرد، ولا وعورة الطريق، ولا بعد المسافة، ولا الجوع، ولا الظمأ حينما كلفوا بالجهاد.

هذه الفضائل وغيرها كانت رصيدا مدخرا في نفوس العرب حتى جاء الإسلام فنماها وقواها، ووجهها وجهة الحق والخير، فلا عجب إذا كانوا انطلقوا من شبه جزيرتهم كما ينطلق الملائكة الأطهار، ففتحوا الأرض، وملأوها إيمانا بعد أن ملئت كفرا، وعدلا بعد أن ملئت جورا وظلما، وفضائل بعد أن عمتها الرذائل، وخيرا بعد أن طفحت شرا، وتحققت سنة الله تعالى لهم حيث قال عز وجل: )ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين (5)( (القصص) [19].

ونخلص من هذا كله إلى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس بدعا من الأنبياء في عدم إيمان بعض أهله به، وإذا كان الأمر كذلك فإننا نتوجه لمثيري الشبهة بالتساؤل التالي: لـم طعنتم في هذا الصدد في محمد - صلى الله عليه وسلم - دون من عداه من الأنبياء؟!

الخلاصة:

  • لقد شاء الله تعالى أن يكون أنبياؤه ذوي أحساب في أقوامهم، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - هو أولى الأنبياء بكل فضيلة، لذا كان - صلى الله عليه وسلم - أشرف الناس نسبا، ولقد شهد له أعداؤه بذلك، فلما سأل هرقل أبا سفيان بن حرب عن نسب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «كيف نسبه فيكم؟ قال أبو سفيان: هو فينا ذو نسب، ثم قال هرقل: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها»[20].
  • إذا كان بعض أهل النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمنوا به، وماتوا على الكفر والشرك، فإننا نجد ذلك قد وقع مع بعض الرسل قبله؛ فهذا سيدنا إبراهيم يحاول أن يثني والده عن الشرك، ويدعوه للتوحيد وترك عبادة الأصنام، إلا أنه يأبى ذلك ويصر على الكفر ويموت عليه، وهذا سيدنا نوح - عليه السلام - يرفض ابنه الانضمام إليه والإيمان برسالته فيغرق مع من غرق ويموت كافرا.
  • إن كفر بعض أهل النبي وعشيرته لا يطعن في عصمته ونبوته؛ لأن ذلك ليس حجة عليه - ما دام قد دعاهم وألح عليهم، وقدر الله لهم ألا يؤمنوا، تصديقا لقوله عز وجل: )إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين (56)( (القصص).
  • إن ثبات النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحق قبل بعثته وبعدها ليدل على عصمته وأهليته - صلى الله عليه وسلم - للنبوة؛ فقد كان قبل الرسالة أشد الناس نفورا من الظلم وهضم حقوق الضعفاء، فما تحمس لعمل في الجاهلية تحمسه لحلف الفضول، وهو حلف لنصرة المظلوم، وأما بعد بعثته فهناك من المواقف التي تدل على ثباته على الحق ما لا يحصى رغم محاولات قومه الدءوبة لصده عن دعوته بشتى الوسائل سواء بالترغيب أو الترهيب.
  • انماز العرب بصفات جليلة جعلت منهم حملة لواء الإسلام، ومن هذه الصفات: الشجاعة والشهامة والنخوة ونصرة المظلوم ورعاية حق الجار وإكرام الضيف، فضلا عن جلدهم وقوتهم الراجعة إلى أثر البيئة فيهم... كل ذلك جعل منهم العنصر البشري الأمثل لحمل تبعات الدعوة وتبعات إبلاغها للناس كافة، وهذه الفضائل جميعها تنفي أن يكون العرب شرا محضا، كما يزعم من أثار هذه الشبهة.

 

 

 

(*) محمد في مكة، مونتجمري وات، ترجمة: د. عبد الرحمن الشيخ، حسن عيسى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2002م.

[1]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

[2]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي وتسليم الحجر عليه (6077).

[3]. حسن: أخرجه الطبراني، في المعجم الكبير (24/ 409)، برقم (9173)، والحاكم في مستدركه، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر أم هانئ فاختة بنت أبي طالب بن عبد المطلب ابنة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم (6877)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (1944).

[4]. المنيف: الشامخ المشرف على غيره.

[5]. يغبط: يتمنى ما عند الغير دون تمني زوال النعمة عنه.

[6]. وقفات تربوية مع السيرة النبوية، أحمد فريد، المكتبة التوفيقية، القاهرة، 1421هـ/ 2000م، ص21: 23 بتصرف.

[7]. الجامع لأحكام القرآن، القرطبي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1405هـ/ 1985م، ج9، ص38: 40 بتصرف.

[8]. في ظلال القرآن، سيد قطب، دار الشروق، القاهرة، ط13، 1407هـ/1987م، ج6، ص3621 بتصرف.

[9]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب سورة المسد (4687)، ومسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قوله تعالى: ) وأنذر عشيرتك الأقربين (214) ( (الشعراء) (529).

[10]. صحيح: أخرجه البيهقي في سننه، كتاب قسم الفيء والغنيمة، باب إعطاء الفيء على الديون ومن يقع به البداية (12859)، وصححه الألباني في صحيح السيرة النبوية، ص35.

[11]. سدانة الكعبة: خدمتها والقيام عليها.

[12]. الرفادة: إطعام الحجيج.

[13]. ضبب: تعلق به.

[14]. حسن: أخرجه أبو يعلى في مسنده، مسند عبدالله بن جعفر الهاشمي (6804)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة (92).

[15]. الرئي: التابع من الجن.

[16]. بطل الأبطال أو أبرز صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم، عبد الرحمن عزام، دار الهداية، القاهرة، دار القلم، الكويت، 1427هـ/ 2006م، ص12: 17 بتصرف يسير.

[17]. العصي: المسن منها.

[18]. الأقط: لبن محمض يجمد حتى يتحجر ويطبخ، أو يطبخ به.

[19]. السيرة النبوية في ضوء القرآن والسنة، د. محمد محمد أبو شهبة، دار القلم، دمشق، ط8، 1427هـ/2006م، ج1، ص94: 97 بتصرف يسير.

[20]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (7)، ومسلم في صحيحه، كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام (4707).

  • الثلاثاء PM 10:11
    2020-09-22
  • 1817
Powered by: GateGold