المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409048
يتصفح الموقع حاليا : 357

البحث

البحث

عرض المادة

الزعم أن اختلاف القراءات القرآنية يؤدي إلى اختلاف في ألفاظ القرآن الكريم

         الزعم أن اختلاف القراءات القرآنية يؤدي إلى اختلاف في ألفاظ القرآن الكريم(*)

مضمون الشبهة:

يزعم بعض المتوهمين أن اختلاف القراءات القرآنية[1] يغير ألفاظ القرآن، ويتناقض مع ما في اللوح المحفوظ، ويعارض ما يرويه المسلمون من تأكيد الله - عز وجل - على عدم وجود اختلاف فيه.

وجوه إبطال الشبهة:

القراءات القرآنية توقيفية من عند الله عز وجل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منها»[2]، وقد وضع العلماء للقرءات شروطا وقواعد، بحيث تصب جميعا في معين واحد.

وقد زعم بعض أصحاب الشبهات أن اختلاف القراءات في بعض المواطن في القرآن الكريم يغير المعنى، ويناقض ما في اللوح المحفوظ، ويتعارض مع تأكيد الله - عز وجل - أن القرآن لا اختلاف فيه، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. يتساءلون: كيف يتحقق اتفاق المعنى مع وجود اختلاف في بعض الألفاظ باختلاف القراءات؟!

وهذا الزعم مردود عليه بما يلي:

1)  القراءات القرآنية وحي من عند الله عز وجل، والآية التي تنفي الاختلاف هي كذلك من عند الله عز وجل، قال تعالى: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، فكيف يرد التناقض من عنده عز وجل؟ ثم إن اختلاف القراءات لا يشمل كل كلمات القرآن، بل يرد في كلمات محددة، بالإضافة إلى أن التغير أكثره صوتي؛ ومن ثم فلا أثر على المعنى، إذ لا يوجد تدافع بين المعاني الناشئة عن ذلك الاختلاف. ولا على الأحكام في عمومها وجملتها.

2)  إن الكلمة التي تقرأ على وجهين أو أكثر، يكون لكل قراءة فيها معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه، فقراءة الكلمة القرآنية على أكثر من وجه نحوي أو صرفي، مما يساعد على أداء المعنى، ولا يعني تضاد المعاني أو تناقض المدلولات.

3)  للتعدد حكم عديدة منها: التيسير على الأمة ذات اللهجات المتعددة والألسنة المتباينة؛ حتى لا يشق عليها التزام وجه واحد في القراءة.

4)  الاختلاف في القراءات يعني: التنويع في طرق أداء القرآن، كما أنه لا يمس أصلا، ولا فرعا من التشريع؛ فالقراءات لم تحرم حلالا، ولم تحل حراما، أما الاختلاف بمعنى التناقض والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه فهو الذي ينفيه القرآن الكريم.

التفصيل:

أولا. القراءات القرآنية وحي من الله - عز وجل - وسنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، والأدلة على ذلك كثيرة، حيث تواترت نصوص السنة المطهرة بأحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف، ومن ذلك:

  1. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقرآني جبريل - عليه السلام - على حرف فراجعته، فلم أزل أستزيده ويزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف»[3].
  2. وعن أبي بن كعب رضي الله عنه: «أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عند أضاة[4] بني غفار، قال: "أتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، فإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة، فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرءوا عليه فقد أصابوا»[5].
  3. وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستمعت لقراءته، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكدت أساوره في الصلاة، فانتظرته حتى سلم، ثم لببته بردائه، فقلت: من أقرأك هذه السورة التي سمعتك تقرأ؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت له: كذبت، فوالله إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرآني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها، فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ بسورة الفرقان على حروف لم تقرئنيها، وأنت أقرأتني سورة الفرقان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرسله يا عمر، اقرأ يا هشام"، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها في الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هكذا أنزلت"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرأ يا عمر"، فقرأت القراءة التي أقرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ما تيسر منها»[6].

والمراد بالأحرف السبعة - على أرجح الأقوال - أنها سبع لغات من لغات العرب في المعنى الواحد[7].

كما أن تعدد القراءات لا يشمل آيات القرآن الكريم كاملا، بل يختص ببعض الكلمات في بعض الآيات، وقد أحصاها العلماء، وبينوا وجوه القراءات فيها.

وعلى سبيل المثال قوله تعالى: )مالك يوم الدين (4)( (الفاتحة)، والشاهد في الآية كلمة: )مالك( وفيها قراءتان:

  • مالك: اسم فاعل من ملك، وهي قراءة حفص وآخرين.
  • ملك: صفة لا اسم فاعل، وهي قراءة: نافع وآخرين.

ومعنى الأولى )مالك(: القاضي المتصرف في شئون يوم الدين، وهو يوم القيامة، أما معنى "ملك": فهو أعم من معنى )مالك(، أي: من بيده الأمر والنهي، ومقاليد كل شيء، ما ظهر منها وما خفي، وكلا المعنيين لائق بالله تعالى، وهما مدح لله عز وجل[8].

ثانيا. تعدد القراءات يثري المعنى؛ حيث إن القراءات القرآنية لا تؤدي إلى خلل في آيات القرآن الكريم، أو في تغير المعنى كما يزعمون، ونضرب مثالا على ذلك، قوله تعالى: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)( (يونس)، وقوله تعالى في قراءة أخرى: "نفصل الآيات".

وفاعل الفصل في القراءتين واحد هو "الله"، وقد اختلف التعبير عن الفاعل في القراءتين، فهو في القراءة الأولى "يفصل": ضمير مستتر عائد على "الله" في قوله: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق(، أي: يفصل هو الآيات، فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد لفظ الجلالة "الله".

وفي القراءة الثانية عبر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نفصل"؛ أي: نفصل نحن، والله واحد أحد، ولكن النون في "نفصل" لها معنى في اللغة العربية، وهو التعظيم إذ كان المراد منهما فردا لا جماعة، ووجه التعظيم بلاغة تنزيل الفرد منزلة الجماعة؛ تعظيما لشأنه، وإجلالا لقدره.

وفي هاتين الآيتين تكثير للمعنى، وهو وصف ملازم لكل القراءات[9].

ثالثا. الحكمة من نزول القرآن على سبعة أحرف كثيرة ومتنوعة؛ منها:

  1. تيسير القراءة والحفظ على أقوام أميين، لكل قبيل منهم لسان، ولا عهد لهم بحفظ الشرائع، فضلا عن أن يكون ذلك مما ألفوه، وهذه الحكمة نصت عليها الأحاديث النبوية، ومن ذلك: عن أبي - رضي الله عنه - قال: «لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جبريل عليه السلام، فقال: "يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز، والشيخ الكبير، والغلام،، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط"، قال: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف»[10].
  2. المبالغة في إعجاز القرآن بإيجازه؛ إذ كل قراءة بمنزلة الآية، وتنوع اللفظ بكلمة يقوم مقام آيات، ولو جعلت دلالة كل لفظ آية على حدتها، لم يخف ما كان في ذلك من التطويل.
  3. سهولة حفظه وتيسير نقله؛ إذ هو على هذه الصفة من البلاغة والوجازة، فإنه من يحفظ كلمة ذات أوجه أسهل عليه، وأقرب إلى فهمه، وأدعى لقبوله من حفظه جملا من الكلام تؤدي معاني تلك القراءات المختلفات، ولا سيما فيما كان خطه واحدا؛ فإن ذلك أسهل حفظا وأيسر لفظا.
  4. الدلالة على اختلاف الأحكام أو على الجمع بينها، مثال ذلك قراءتا "يطهرن" بالتخفيف والتشديد[11]، من قوله تعالى: )فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن( (البقرة: ٢٢٢)، فإنه ينبغي الجمع بين حكميهما؛ لأن الحائض لا يقربها زوجها حتى يحصل أصل الطهر بانقطاع الحيض على قراءة التخفيف، وحتى تغتسل على قراءة التشديد، فلا بد من الطهرين معا.
  5. ونضيف إلى الفوائد السابقة فائدة أخرى، وهي: أن اختلاف القراءات صار حجة لأهل اللغة؛ فالكوفيون - على سبيل المثال - يستدلون على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار بقراءة "والأرحام" بكسر الميم من قوله سبحانه وتعالى: )واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام( (النساء:١) [12].

رابعا. إن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث - نعني أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف - غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن؛ نقول ذلك لأن أعداء الإسلام يقولون: إن أحاديث نزول القرآن على سبعة أحرف تثبت الاختلاف في القرآن، مع أن القرآن نفسه يرفع الاختلاف عن نفسه، إذ يقول: )أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، ويقولون: إن ذلك تناقض، ولا ندري أيهما يكون الصادق؟!

ونجيب عن هذا: أن الاختلاف الذي تثبته تلك الأحاديث غير الاختلاف الذي ينفيه القرآن، وهذا كاف في دفع التناقض، فكلاهما صادق، وبيان ذلك: أن الأحاديث الشريفة تثبت الاختلاف بمعنى التنويع في طرق أداء القرآن، والنطق بألفاظه في دائرة محدودة لا تعدو سبعة أحرف، وبشرط التلقي فيها كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

أما القرآن، فينفي الاختلاف بمعنى التناقض والتدافع بين معاني القرآن وتعاليمه، مع ثبوت التنويع في وجوه التلفظ وطرق الأداء. ومعنى ذلك أن نزول القرآن على سبعة أحرف لا يلزم منه تناقض ولا تخاذل، ولا تضاد ولا تدافع بين مدلولات القرآن ومعانيه، وتعاليمه ومراميه بعضها مع بعض، بل القرآن كله سلسلة واحدة متصلة الحلقات، محكمة السور والآيات، متآخذة المبادئ والغايات، مهما تعددت طرق قراءاته، ومهما تنوعت فنون أدائه[13].

كما أن الاختلاف في القراءات لا يمس أصلا من أصول الدين، ولا فرعا من فروعه؛ حيث إنها لم تحل حراما، ولا حرمت حلالا، ولا تتعلق بالعقائد ولا العبادات، ولا المعاملات، ولم تثر بين المسلمين حربا، ولا عدها أحد شبهة على الكتاب الإلهي، فكل كلام في هذا الموضوع من قبيل العبث، أو الفهم الخاطئ لطبيعة هذه القراءات والحكمة من تعددها؛ فلا يقام له وزن عند المسلمين أو عند غيرهم.

ونستدل على أن المسلمين يعتبرون اختلاف القراءات أمرا مشروعا بأن قراء القرآن يرتلون آياته مع مراعاة هذه الاختلافات؛ فيكررون بعض الآيات على ضروب شتى، مما يدل على تمكنهم من فنهم، والمسلمون يقابلون ذلك بالتقدير والإعجاب.

فمثلا: الإمالة: تجد القارئ يستسيغها هنا، ولا يستسيغها هناك، وإذا سألته قال: هناك وردت، وهنا لم ترد، فيدل على أنه متبع مقلد، وهذا ينبئ أن يد التحريف لم تنل من هذا الكتاب.

نعم إن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي لم تنل منه أيدي المحرفين، وهذا ليس بشهادة جموع المسلمين فحسب، بل بشهادة المستشرقين المنصفين، قال المستشرق لوبلوا: "إن القرآن هو اليوم الكتاب الرباني الوحيد الذي ليس فيه أي تغيير".

وصفوة القول: إن تعدد القراءات وحي من عند الله - عز وجل - ما كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أمته من بعده أن يخترعوه من تلقاء أنفسهم، بل هو تيسير ورحمة من الله لعباده، وهي كلها مسموعة من جبريل - عليه السلام - ومنه لعامة المؤمنين، ثم شيوخ القرآن في الأجيال إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، كما أن تعدد القراءات لا يشمل إلا كلمات محصورة في بعض الآيات التي يعلمها أهل هذا الفن.

كما أن هناك حكما جليلة لتعدد القراءات؛ من أهمها: التيسير على الأمة ذات اللهجات المتعددة. ونضيف إلى ما سبق أن تعدد القراءات لا يعني اختلاف القرآن ولا تحريفه، إنما هو نطق ألفاظ القرآن كما نطقها النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجوه من التصريف، والإعراب، والكيفية الصوتية من تشديد وتخفيض، وفتح وإمالة.

وتعدد القراءات لم يترتب عليه أي اختلاف لا في أصول الدين ولا في فروعه، وإنما هي طرق أداء صوتية، أكثر منها نحوية وصرفية، لم ينتج عنها أي اختلاف في المعاني والألفاظ.

وبهذا البيان يتضح لنا أن مثيري الشبهة جهلوا معنى تعدد القراءات، وجهلوا فوائدها، فجاء زعمهم ينم عن جهلهم.

الإعجاز البلاغي في تعدد القراءات القرآنية:

لو كان هناك إنصاف لكانت الكلمات القرآنية التي تقرأ على وجهين أو أكثر مما يحمد للقرآن؛ حيث إن ذلك التعدد يعد من قبيل ثراء النص القرآني وإعجازه.

وندلل على ذلك من خلال بعض الآيات القرآنية التي قرئت بأكثر من قراءة:

  • قوله سبحانه وتعالى: )وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين( (المائدة: ٦) بالنصب والخفض في "أرجلكم"، وهذا من إعجاز القرآن في إيجازه؛ ففي قراءة النصب بيان لحكم غسل الرجل؛ حيث يكون العطف على معمول فعل الغسل: )فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق( (المائدة: ٦). وقراءة الجر بيان لحكم المسح على الخفين عند وجود ما يقتضيه؛ حيث يكون العطف على معمول فعل المسح: )وامسحوا برءوسكم وأرجلكم(، فنستفيد الحكمين من غير تطويل، وهذا من معاني الإعجاز في الإيجاز بالقرآن؛ حيث تدل كل قراءة على حكم شرعي دون تكرار اللفظ[14].
  • قوله تعالى: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون (5)( (يونس)، )ونفصل الآيات( (التوبة: ١١)، وفاعل الفصل في القراءتين واحد، هو "الله" عز وجل، وقد اختلف التعبير عن الفاعل في القراءتين، فهو في القراءة الأولى "يفصل": ضمير مستتر عائد على الله - عز وجل - في قوله: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق( فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد، هو لفظ الجلالة "الله". وفي القراءة الثانية عبر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نفصل"؛ أي: نفصل نحن.

والله واحد أحد، ولكن النون في "نفصل" لها معنى في اللغة العربية، هو التعظيم إذا كان المراد منها فردا لا جماعة. ووجه التعظيم بلاغة تنزيل الفرد منزلة "الجماعة"؛ تعظيما لشأنه، وإجلالا لقدره.

وللبلاغيين إضافة حسنة في قراءة "نفصل" بعد قوله: )ما خلق الله ذلك إلا بالحق( وهو ما يسمى: التفاتا، والالتفات هو الانتقال من الغيبة في )ما خلق الله( إلى المتكلم في "نفصل"؛ للإشعار بعظمة التفصيل وروعته[15].

  • قوله تعالى: )لقد جاءكم رسول من أنفسكم( (التوبة: ١٢٨)، بضم الفاء وفتحها في )أنفسكم(، فبضم الفاء: يدل على أنه من العرب، والعرب قومه، وذوو رحمه القريبة أو البعيدة، وبفتح الفاء: يدل على أنه من أواسط القوم وأعلاهم، فالقراءتان - والكلمة واحدة - تدلان بالنص على معنيين غير متضادين، وكلاهما صحيح صادق، فالنبي - صلى الله عليه وسلم - كان من العرب، وكان من أنفسهم، ترتبط مشاعره بمشاعرهم، ويحس بما يحسون، وهو مندمج فيهم، وقريب منهم، ثم كان مع هذا القرب النفسي من أعلى العرب منزلة، وأكرمهم. [16] فبلاغة القرآن في هذه الآية هي أن مجموع القراءتين دال على معنيين في لفظ واحد، متلاقيين غير متضادين.
  • قوله تعالى: )وبرزت الجحيم لمن يرى (36)( (النازعات)، حيث قرئت "ترى" بالتاء المفتوحة، وقد احتملت القراءة عند ابن جني تقديرين، قال: إن شئت كانت التاء في "ترى" للجحيم، أي: لمن تراه النار، وإن شئت كانت خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: لمن ترى يا محمد؛ أي: للناس، فأشار إلى بعضه، وغرضه جنسه وجميعه، كما قال لبيد:

ولقد سئمت من الحياة وطولها

وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟

فأشار إلى جنس الناس في هذا المعنى، ونحن نعلم أنه ليس جميعه مشاهدا حاضر الزمان.

  • قوله تعالى: )ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين( (الأحزاب: ٤٠) بفتح التاء وكسرها في "خاتم"؛ فالقراءة بكسر التاء: جاءت على معنى أنه - صلى الله عليه وسلم - قد ختمهم، أي: جاء آخرهم. أما القراءة بفتح التاء: فمعناها أن الأنبياء والرسل به - صلى الله عليه وسلم - قد ختموا كالخاتم والطابع، فهي على ذلك تشبيه[17].
  • قوله تعالى: )يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين (171)( (آل عمران)، بفتح همزة أن وكسرها؛ فقراءة فتح الهمزة تجعل "الواو" عاطفة، تربط ما بعدها بما قبلها في الحكم والإعراب، وتكون الجملة حينئذ داخلة في حيز ما يستبشر به الشهداء والمؤمنون. أما قراءة كسر الهمزة فتجعل "الواو" استئنافية، مما يرشح الجملة بعدها لإنشاء معنى جديد[18].
  • قوله تعالى: )إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين (40)( (الأعراف)، حيث قرئت "الجمل"؛ وعلى القراءة العامة "الجمل" يكون التركيب تشبيها في غاية الحسن؛ وذلك أن الجمل أعظم حيوان عند العرب، وأكبر جثة. وسم الإبرة في غاية الضيق، فلما كان المثل يضرب بعظم هذا وكبره، وبضيق ذلك، قيل: لا يدخلون الجنة حتى يتقحم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأشياء وأصغرها؛ فكأنه: حتى يوجد هذا المستحيل. ومثله في المعنى قول الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي

وصار القار كاللبن الحليب

وجاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: "الجمل" وكلها لغات في "القلس"[19].

فإذا ما أردنا أن نتبين الفرق بين المدلولين على كلتا القراءتين، وجدنا ثم مدلولا يراعي المناسبة، ومدلولا آخر لا يراعي تلك المناسبة، وإنما تتأتى بلاغته من تلك المفارقة العجيبة التي صور بها استحالة دخول هؤلاء الجنة باستحالة ولوج الجمل في سم الخياط، ولذلك كانت أوقع تأثيرا في نفوس المتلقين؛ كما نجد أن التشبيه في الآية على كلتا القراءتين لم يأت على صورته المعهودة، فلا نرى تصريحا لركنيه، ولكنهما يلمحان من السياق، ويفهمان من المعنى، وذلك ما اصطلح البلاغيون على تسميته بالتشبيه الضمني[20].

ولعله يحسن أن نختم القول في هذا الموضوع بقول المستشرق د. موير: "إن المصحف الذي جمعه عثمان رضي الله عنه، قد تواتر انتقاله من يد ليد، حتى وصل إلينا بدون أي تحريف، ولقد حفظ بعناية شديدة، بحيث لم يطرأ عليه أي تغيير يذكر، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أي تغيير على الإطلاق في النسخ التي لا حصر لها، المتداولة في البلاد الإسلامية الواسعة، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة، وهذا الاستعمال الإجماعي لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم حجة ودليل على صحة النص المنزل الموجود معنا، والذي يرجع إلى عهد الخليفة عثمان - رضي الله عنه - الذي مات مقتولا"[21].

وصدق الله العظيم إذ يقول: )ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا (82)( (النساء)، فتبارك من هذا كلامه.

 

 

(*) هل القرآن معصوم؟ عبد الله عبد الفادي.

[1]. القراءات: جمع قراءة، وهي مصدر قرأ؛ أي: نطق باللفظ، وتعريفها: صور نظم كلام الله تعالى من حيث وجوه الاختلافات المتواترة والمنسوبة إلى أئمة معينين ناقلين لها؛ كقراءة نافع وأبي عمرو.. إلخ

[2]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4706)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1936).

[3]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة (3047)، وفي موضع آخر، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1939).

[4]. الأضاة: المستنقع أو الغدير.

[5]. أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1943).

[6]. أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضائل القرآن، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (4706)، وفي مواضع أخرى، ومسلم في صحيحه، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب بيان أن القرآن على سبعة أحرف وبيان معناه (1936)، واللفظ للبخاري.

[7]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص148.

[8]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص42.

[9]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص49.

[10]. صحيح: أخرجه أحمد في مسنده، مسند الأنصار، حديث زر بن حبيش عن أبي بن كعب رضي الله عنه (21242)، والترمذي في سننه، كتاب القراءات، باب أنزل القرآن على سبعة أحرف (2944)، وصححه الأرنؤوط في تعليقه على المسند.

[11]. قرأها الجمهور بالتخفيف، وقرأ بالتشديد حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر والمفضل.

[12]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص21.

[13]. مناهل العرفان، محمد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة نزار مصطفى الباز، الرياض، 1417هـ/ 1996م، ص157.

[14]. مباحث في علوم القرآن، مناع القطان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط13، 1425هـ/ 2004م، ص170 بتصرف يسير.

[15]. حقائق الإسلام في مواجهة شبهات المشككين، د. محمود حمدي زقزوق، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، القاهرة، ط2، 1425هـ/ 2004م، ص49.

[16]. المعجزة الكبرى: القرآن، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1970م، ص49 بتصرف يسير.

[17]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص392 بتصرف يسير.

[18]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص379.

[19]. القلس: حبل غليظ يجمع من حبال كثيرة، فيفتل، وهو حبل السفينة، وقيل: الحبل الذي يصعد به النخل.

[20]. التوجيه البلاغي للقراءات القرآنية، د. أحمد سعد محمد، مكتبة الآداب، القاهرة، ط2، 1421هـ/ 2000م، ص396 بتصرف يسير.

[21]. مدخل إلى القرآن الكريم، محمد عبد الله دراز، دار القلم، الكويت، ط5، 1424 هـ/ 2003.

 

  • الاثنين PM 04:07
    2020-09-07
  • 1489
Powered by: GateGold