المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413999
يتصفح الموقع حاليا : 282

البحث

البحث

عرض المادة

النظريات الحديثة والمعاصرة

النظريات الحديثة والمعاصرة:انتقد المفكرون السياسيون في القرن الماضي والقرن العشرين النظريات السياسية السابقة، وأبدوا اعتراضاتهم المتباينة عليها.فهل انتقدوها لأنها تعطي حق الحاكمية لغير الله، وتضرب صفحاً عن الدين، وضرورة قيام الحياة كلها على تعاليمه وانبثاق معاييرها وتصوراتها كافة من مبادئه وأحكامه؟.كلا، لم يحدث ذلك، بل إن احتمال حدوثه في هذه المرحلة التاريخية أبعد منه في المراحل السابقة، أما النظرية الخيالية فيرى هؤلاء أن من العبث أن يضاع الوقت في نقدها، وحسبها أن تكون خيالية بينما يعدون أنفسهم واقعيين.وأما نظرية الكنيسة القائمة على أساس مملكة الله أو مملكة المسيح كما كانت تسميها، فما أسهل أن تنتقد ويشدد عليها اللوم، فهي نظرية رجعية، لا لأنها مخالفة لحقيقة الدين، بل لأنها -في نظرهم- تقوم على أساس تحكيم الدين.والدين -أياً كانت صورته- هو العدو اللدود للباحثين العلميين هؤلاء، بعضهم يرى أن الدين عاطفة وجدانية أو رابطة روحية تصل قلب الإنسان في فترات من حياته بالسماء، ولا ينبغي بحال من الأحوال إقحامه فيما لا علاقة له به، وهو واقع الحياة اليومية بالنسبة للفرد فضلاً عن الدولة والمجتمع عامة، وإلا فالدمار والاستبداد!ويستشهدون بالتاريخ - تاريخ الكنيسة الكاثوليكية - التي كان رجالها أعتى الطغاة وأظلم الجبابرة.وبعضهم يغلو ويشتط فيقول: إن الدين من أساسه شر محض وداء عضال يجب أن يستأصل ويزال؛ لأنه مخدر للشعوب وعائق عن التطور ووسيلة يتقنع بها المستبدون والمحتكرون لامتصاص ثروات الطبقات الكادحة المنكوبة.ونظرية الحق الإلهي ينحى عليها باللائمة للعلة نفسها علة استمدادها من الدين؛ وإن كانت نسبتها إليه لا تعدو أن تكون من قبيل التزويق اللفظي.ولنأخذ هارولد لاسكي وهو كاتب سياسي بارز مثالاً للكتاب المحدثين:يلخص لاسكي هاتين النظريتين بإيجاز، ثم ينقدهما نقداً علمياً فيقول: "يمكننا أن نسمي نظرة الإنسان السائدة إبان تجربته البدائية بالنظرة اللاهوتية؛ فالقانون ليس سوى مجموعة من القواعد الإلهية التي منحها الإله أو الآلهة لمن يعيشون في ظلها، وبناء على ذلك فهي خليقة بأن تطاع لأن مصدرها الوحي المقدس، والمثل الواضح على ذلك قوانين موسى وشريعة حمورابي ... ".وتصبح هذه النظرة عند هيجل نظرة كونية عندما ينظر إلى سير التاريخ على أنه فكرة تكشف عن حرية تتزايد على الدوام، وتحقق وجودها خلال تطور الدولة.هذه النظريات كلها تتفق في خاصية واحدة هي أنها تجعل إبرام العقد خارج سيطرة الإنسان، فجوهر القانون دائماً بعيد عن الإنسان، وعليه أن يجده، ويكمن الصلاح في اتباع الإنسان شريعة لا يد له في وضعها.ومن الواضح قصور مثل هذه النظريات، فقد أثبتت البحوث التاريخية خطأ كل النظم التي تدعي أنها تعمل في ظل العقوبات اللاهوتية. فالإله الذي أوحى بها يتكلم لغة غامضة لا سحر فيها إلا على من نصبوا أنفسهم أتباعاً له (1).ومع أن لمناقشة هذه الأفكار -إجمالاً- موضعاً آخر من البحث؛ فإن مثل هذا الكلام لا ينبغي أن نتجاوزه دون تمحيص؛ لا سيما وأنه ليس فلتة من كاتب، وإنما هو اتجاه سائد وظاهرة عامة في الفكر السياسي الغربي.إن هذا الكلام وما شاكله من مواقف غير علمية يتخذها معظم الباحثين اللادينيين حيال أية قضية من قضايا الدين مما لا يليق بالباحث النزيه الذي يتحرى الدقة والموضوعية فيما يقول.ويتجلى فيه بوضوح جهالة مزدوجة بحقائق التاريخ وحقائق العلم على حد سواء، أما الجهالة التاريخية فتبدو في تعميم الأحكام، وهو خطأ ندر من ينجو منه من كتاب الجاهلية الغربية الصليبية، إذ يعممون أحكامهم عن الدين والشرائع جاهلين - أو متجاهلين - أن الدين في صورته الإلهية الحقة (الإسلام) لا يصح مطلقاً أن يعبر عنه ضمن الأديان والنحل الأخرى وأن يوصم بما توصم به المسيحية الرسمية التي دانت بها أوروبا ولا بما توصف به شريعة التوراة المحرفة التي يسميها لاسكي قوانين موسى.إن التاريخ - على العكس مما توهم لاسكي - ليسجل للأمة الإسلامية إبان تطبيقها الكامل لشريعة الله أزهى عصر عرفته البشرية عدالة ورخاء، وأنصع صفحة من صفحاته على الإطلاق، اللهم إلا إذا كانت البحوث التاريخية التي يقصدها لاسكي هي بحوث المتعصبين الغربيين الحاقدين!وأما الجهالة العلمية فتبرز في دعوى أن القانون الأمثل هو الذي يضعه الإنسان لنفسه، وليس الذي يضعه له الإله.وهي دعوى ناشئة لا عن الجهل بمقام الألوهية فحسب، بل عن الجهل الفاضح بحقيقة الإنسان وقصور علمه وعجز إدراكه ومحدودية معرفته، حيث أن في طبيعته وتكوينه من صفات النقص ونواحي الضعف ما يجعله أعجز وأجهل من أن يشرع لنفسه.وهو مهما اكتشف من نواميس الكون وأسرار الوجود فلن يصبح إلهاً بحال من الأحوال كما يتوهم المغرمون بالعلم، وصفة الحاكمية التي تعني حق التشريع من أخص صفات الألوهية وأوجبها.والإنسان في كل مرحلة من مراحل وجوده خلق ليعبد الله لا ليعبد نفسه؛ بدليل أنه يجد نفسه محكوماً بسنن ونواميس إلهية لا يستطيع - بالغاً ما بلغ - أن يتجاوز نطاقها.أما الجانب الإرادي من حياته فإنما أعطاه الله حرية الاختيار فيه ليبتليه أيكفر أم يشكر، وفي ذلك تكريم له ورفع لقدره بين المخلوقات، فإن اتبع فيه شريعة الله حصل له الانسجام مع نفسه ومع الكون كله، وإن اتبع هواه وتمرد على خالقه كان التصادم بينه وبين فطرته والكون، وعاش عيشة ضنكاً في الدنيا، فضلاً عن مصيره المحتوم في الآخرة (1).وما لنا نذهب بعيداً وهاهو لاسكي نفسه يعيب النظريات السياسية قديمها وحديثها - كما سيأتي قريباً - وينقد الديمقراطية معبودة قومه نقداً لاذعاً، ثم يقف عاجزاً عن الإتيان بنظرية سياسية عادلة لا تحابي فرداً على حساب آخر أو تظلم طبقة لمصلحة أُخرى (2).وهذا الموقف العاجز يقفه كل الكتاب السياسيين المعاصرين، والإنسان العصري يرى بأم عينه الأزمة الحادة في السياسة الدولية على الرغم من النظريات السياسية التي لا حصر لها.أما نظرية العقد الاجتماعي فإن محور الدراسات الحديثة هو فكرتها القائلة بأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم مصلحية نفعية متبادلة، ولا سند للسلطة الحاكمة سوى ذلك، ولكن العيب الذي أخذ عليها هو تصورها الخيالي للعقد، ذلك العقد الذي لا يستطيع أصحاب النظرية إثباته تاريخياً، فهو عقد وهمي لجأ الكتاب السياسيون الأوائل إلى افتراضه، إما هروباً من المواجهة الصريحة للسلطات الحاكمة آنذاك أو تزلفاً لها - على اختلاف بين أصحابها (3).أما بعد أن تخلصت الشعوب من عبادة الملوك ورجال الدين،وبلغت درجة لا بأس بها من الوعي السياسي وفي الوقت نفسه تخلص الكتاب من أحلام الرومانتيكية، واتجهوا إلى الواقعية فلم يعد هناك ما يدعو إلى افتراض نظريات لا أساس لها تاريخياً.وانطلاقاً من ذلك وجد علم السياسة الحديث بغيته المنشودة في كاتب آخر يتجلى بنظرة عصرية إلى الأمور، وإن كان وجوده التاريخي سابقاً لمشاهير النظريات الأخرى ذلك هو نيقولا ميكيافيللي الذي أطلق عليه لقب أول المحدثين، ويعد كتابه الأمير مصدر الإلهام في العصر الحديث بالنسبة للحكام والمفكرين السياسيين على حد سواء (1).هذا وقد كان للنظريات اللادينية في القرن التاسع عشر ونظرية التطور بصفة خاصة الإسهام الأكبر في بحث الميكافيلية، وإلباسها اللباس العلمي المبهرج بعد أن كانت من قبل مسبة لأصحابها، ومدعاة للتنفير من معتنقيها.لقد كانت مملكة المسيح التي يتحدث عنها بابوات الكنيسة الكاثوليكية تشتمل على تنظيمين:1 - التنظيم الروحي؛ ويمثله رجال الدين؛ ومجال عمله الكنائس والأديرة؛ ووظيفته الوعظ والتوجيه للخلاص من الخطيئة.2 - التنظيم الزمني؛ وتمثله الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية، وميدانه شئون الحياة الدنيوية.وكلا التنظيمين يمارس نشاطه في ظل روح أخلاقية مسيحية مع تفاوت بالالتزام بهذه الروح.فمن الوجهة العلمية كان الفصل بين الدين والسياسة موجوداً بالفعل أي أن نوعاً من العلمانية الموضوعية كان يسود الحياة الأوروبية طيلة القرون الوسطى، وذلك أمر طبيعي ما دام الحكم بما أنزل الله غير نافذ في المجتمع.ولكن أول من تبنى دعوة علمانية ذاتية، ودعا بصراحة إلى استبعاد للدين وعزله عن جانب مهم من جوانب الحياة هو مكيافيللي.والمكيافيلية باعتبارها منهجاً عملياً للحكم تقوم كما رسمها واضعها في الأمير على ثلاثة أسس متلازمة مستمدة من تصور لاديني صرف هي:1 - الاعتقاد بأن الإنسان شرير بطبعه، وأن رغبته في الخير مصطنعة يفتعلها لتحقيق غرض نفعي بحت (1)، وما دامت تلك هي طبيعته المتأصلة فلا حرج عليه ولا لوم إذا انساق وراءها.2 - الفصل التام بين السياسة وبين الدين والأخلاق؛ فقد رسم مكيافيللي للسياسة دائرة خاصة مستقلة بمعاييرها وأحكامها وسلوكها عن دائرة الدين والأخلاق، وفرق مكيافيللي تمام التفريق بين دراسة السياسة ودراسة الشئون الأخلاقية وأكد عدم وجود أي رابط بينهما (2).صحيح أن مكيافيللي لم ينكر الدين والأخلاق في ذاتهما كما هو الشأن في بعض النظريات المعاصرة، لكنه يجعل الحاكم في حل من التمسك بالضوابط المستمدة منهما، ويقصرها على أفراد الشعب.3 - إن الغاية تبرر الوسيلة، وهذه هي القاعدة العملية التي وضعها مكيافيللي بديلاً عن القواعد الدينية والأخلاقية، ولذلك فإن لها عنده تفسيراً خاصاً.كان الكتاب السياسيون منذ القدم، ومنهم فلاسفة الاغريق كأفلاطون وأرسطو وغيرهم يبحثون عن الغاية من الدولة والهدف من وجودها (1) فرأى بعضهم أن غايتها هي تحقيق المثل العليا السامية، ولهذا جاء اشتراطهم كون الحاكم فيلسوفاً، بينما ذهب آخرون إلى أنها تنفيذ القانون الإلهي أو القانون الطبيعي كما يسمونه.ولكن مكيافيللي ذا النزعة العملية ذهب إلى أن الدولة غاية بذاتها، والقبض على زمام الحكم هدف برأسه، ولا داعي للخوض فيما وراء ذلك.وفى سبيل تحقيق هذه الغاية لا مانع من سلوك أي سبيل يوصل إليها، واستخدام أية وسيلة من شأنها تسهيل ذلك مهما وصفت تلك السبل والوسائل بأنها غير أخلاقية، ومهما تنافت مع الدين ومنهجه في السلوك.فالمعيار الذي تقاس به صلاحية الوسيلة أو عدمها ليس معياراً موضوعياً؛ بل هو معيار ذاتي شخصي، وللسياسي وحده الحق في الحكم بصحة أي لون من ألوان السلوك أو خطئه وبطلانه.تلك صورة موجزة للمكيافيلية كما ظهرت في عصر النهضة.وبسبب نزعتها اللاأخلاقية الظاهرة عورضت بشدة في الأوساط الدينية والفكرية؛ فحرمت الكنيسة قراءة الأمير ونقده المؤلفون بعنف، وظلت كلمة مكيافيللي أشنع وصف يمكن أن يطلق على إنسان متحلل من قيود الدين والخلق، متجرد من الإنسانية والضمير.وهكذا بقيت زهاء ثلاثة قرون وهي في موضع المقت والازدراء، بينما نمت النظريات التي عُورضت آنفاً.ولما جاء القرن التاسع عشر قرن الانتفاضة الشاملة على الدين والأخلاق فكرياً وواقعياً ظهرت نظرية التطور العضوي على يد داروين. وكان قانونها وقاعدتها أن الحياة صراع والبقاء للأنسب أي للأقوى بطبيعة الحال.حينئذ آمن الناس على أساس علمي، بأن الوجود مرتبط بالقوة، وأن الصراع الحتمي على البقاء لا يسمح بالتفريق بين وسيلة وأخرى، فليست العبرة بنوعية الوسيلة، لكنها بضمان النتيجة وتحقيق الغاية التي هي البقاء في ذاته.المكيافيللية تقول إن الحق هو القوة!والداروينية تقول: إن الوجود هو القوة.والداروينية نظرية علمية -إذن- فلتكن المكيافيلية كذلك.وكانت الظروف تهيئ لمثل هذه المعادلة، فالكنيسة فقدت سلطانها الطاغي، والحياة السياسية والمجتمعة في القارة تموج بالصراعات والحروب الطاحنة والشحناء المدمرة، هذا من ناحية.ومن ناحية أخرى ارتبطت السياسة - في ذلك القرن - بالاقتصاد ارتباطاً قوياً، فازدادت بعداً عن الدين والمؤثرات الدينية.والواقع أن السياسة والاقتصاد وكل جوانب الحياة مترابطة ومتلازمة بحيث يصعب فصل كل منها عن الآخر، إلا أن الاقتصاد بصفة خاصة أصبح المحور الرئيسي للسياسة الدولية؛ بسبب الأوضاع التي كانت تعيشها القارة الأوروبية.ففي هذه الفترة شهدت الحياة الأوروبية انهيار نظام اجتماعي، وقيام نظام آخر محله، لقد انهار الإقطاع وولدت الرأسمالية.كان النظام الإقطاعي الذي ألمحنا عنه سابقاً يمثل صورة بشعة لإهدار الكرامة الإنسانية والحط من قيمة الإنسان، واستعباده بفظاعة لأناس من بني جنسه تجردوا من المعاني الإنسانية النبيلة.كان الإنسان في ظل هذا النظام مستعبداً لسلطتين غاشمتين: سلطة السادة الإقطاعيين، وسلطة رجال الدين فالسيد يملك الإقطاعية بمن عليها من الفلاحين، ويسن لها القوانين ويفرض عليها العقوبات كما يشاء -أي: أنه كان يجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في آن واحد.أما رجل الدين فيبارك الاستعباد بحجة أنه نتيجة للخطيئة الأولى، ويشارك السيد في تسخير العبيد لمصلحته الشخصية، إذ أن الكنيسة -كما سبق أن أوضحنا- جزء لا ينفك من النظام الإقطاعي، وفي ظل هذا الواقع المزري انبعث هنالك حركتان لهما أهمية قصوى في التاريخ الأوروبي: الحركة العلمية، والحركة الإصلاحية الدينية، وغير خاف الأثر الإسلامي فيهما وظهرت الطبقة البرجوازية مستندة إلى أقوال لوثر وكالفن، ومستفيدة من ثمار التقدم العلمي التجريبي، وظل دور هذه الطبقة محدوداً حتى بدأ ما يسمى الثورة الصناعية؛ حيث بدأ المصنع يستأثر بما كان للأرض من قيمة ونفوذ، واشتد التنافس بين رجال الصناعة في المدن والملاك الزراعيين في إقطاعيات الأرياف.وكانت الصناعة آنذاك تحتاج إلى أيد عاملة متوفرة ورخيصة، والعمال بطبيعة الوضع يعيشون في الريف تحت سيطرة السادة الإقطاعيين، فكان لابد من كسر السور المفروض عليهم؛ وإتاحة الفرصة لهم للانفلات من قيود الإقطاعية، لا لمصلحة حريتهم ولكن لمصلحة السادة البرجوازيين.حينئذ ظهر المذهب الطبيعي أو الفيزيوقراطي الذي كان ينادي بشعار دعه يعمل، دعه يمر، أي: دعه يعمل ما يشاء، ويمر من حيث يشاء، وكان ذلك فتحاً جديداً في الحياة الأوروبية.فعلى الرغم من أن حرية الإنسان في اختيار سبيل الرزق الحلال، وحقه في الانتقال إلى حيث شاء من أرض الله كانت بالنسبة للإنسان في الشرق الإسلامي أمراً بديهياً كالماء والهواء، فإن الحصول عليها في الغرب الإقطاعي يعد ظفراً بمكسب كبير للغاية.وكان نجاح الثورة الفرنسية حافزاً قوياً لبقية الشعوب الأوروبية، فاندلعت الثورات المتتابعة، وارتفعت صرخات المفكرين ممن يسمون دعاة الحرية منددين بالمساوئ التي يعج بها المجتمع، والقيود التي يرزح الفرد تحت نيرها.وبسبب ما عانته الشعوب من ويلات الحروب الطاحنة بين الطوائف الدينية، لا سيما بين الكاثوليك والبروتستانت وبسبب الطغيان الجائر الذي كان رجال الدين يفرضونه على الناس، وبسبب الحقد الصليبي الذي حجب الأوروبيين عن الاهتداء بهدى الله والدخول في دينه الحق؛ بسبب ذلك كانت الحرية التي طولب بها لا دينية، وكان الأساس الذي يراد بناء المجتمع الجديد عليه لادينياً كذلك، واستلهم الباحثون من التراث الفلسفي الإغريقي، ومن كتابات سبينوزا وجون لوك والموسوعيين الفرنسيين فكرة صياغة المجتمع وفق قوالب وتنظيمات علمانية.وفى الظلام تارة وعلانية تارة كانت المنظمات التلمودية تضرم الأحقاد، وتؤجج نار العداوة ضد الدين وتدفع الناس دفعاً إلى الإباحية والإلحاد.والتقت مشاعر الناس وتعلقت عواطفهم بكلمة سحرية خلابة ترمز لمبدأ جديد جذاب اتفق في المناداة به الطبيعيون والنفعيون والجماعيون والفرديون؛ ذلك هو مبدأ الديموقراطية، ومن الذي لا تخلب الديمقراطية لبّه من الشعوب المضطهدة والعقول المغلولة؟! الشعب هو سيد نفسه، وهو مصدر السلطات، ولا وصاية لأحد عليه.وللمواطن - أياً كانت عقيدته أو جنسيته حريات وحقوق لم يكن ليحلم بها من قبل؛ حرية العمل، حرية التنقل، حق إبداء الرأي، حرية السلوك، حرية العقيدة، حق التظاهر والاحتجاج ...وله كذلك ضمانات لم تكن - وهو في ظل الإقطاع -لتدور له في خلد: ضمان الاتهام، ضمان التحقيق، ضمانة المحاكمة، ضمانة التنفيذ (1).كل الناس بهرتهم هذه الشعارات وأسكرتهم هذه الأحلام، فحاولوا بكل جهدهم نسيان ذلك الماضي الرهيب ونبذه بكل قيمه ومثله، وإن كان من بينها الدين والأخلاق، وتحرقوا مشتاقين إلى مستقبل باهر وضاء، وطغى على الفكر والأدب اتجاه مغرق في التفاؤل واثق ثقة مطلقة في السعادة والتقدم اللذين لا حد لهما.وكان هنالك - بطبيعة الحال - فئة واحدة فقط تدرك النهاية الحقيقية والمغزى العميق للعملية، هذه الفئة هي طبقة الرأسمالية الذين يمثلون الخلاصة المتطورة للطبقة البرجوازية، وغني عن البيان القول بأن الرءوس البارزة في هذه الطبقة هم المرابون اليهود (1).ولنستمع إلى القصة من رواية باحث سياسي غربي:يقول كارل بيكر في كتاب: السبيل إلى عالم أفضل: "كان كل رجل أياً كانت المملكة التي يعيش فيها يدين بالولاء والطاعة للكنيسة ورجالها في الأمور الدينية كما كان يدفع للكنيسة مكوساً معينة، فضلاً عن تقاضيه أمام محاكمها التي لها أيضاً اختصاص توقيع العقوبة عليه في جرائم معينة. ولكنه كان يدين في الوقت ذاته بالولاء والطاعة لحكومة بلاده المدنية في المسائل المدنية، فكان يدفع لأمير المقاطعة أو للملك ضرائب أخرى معينة، وكان يتقاضى أمام محاكم الأديرة أو الملك، كما كانت هذه المحاكم توقع عليه العقوبة لارتكابه جرائم معينة، وهكذا كان أمراً مقضياً أن ينشب النزاع بين هاتين السلطتين التي تطالب كل منهما الناس بواجب الولاء لها، ولم يكن تاريخ غرب أوروبا طيلة العصور الوسطى، وفي كل جزء من أجزائه إلا تاريخاً لهذا الكفاح المستمر بين الكنيسة والدولة".ولقد تم انتقال السلطان والقوة من الكنيسة إلى الدولة خلال المائة عام التي انقضت في حروب أهلية ودولية بسبب المنازعات الدينية، وكانت هذه الحروب كفاحاً وحشياً دامياً لا يلين ولا يهدأ للظفر بالسلطان السياسي.وهكذا اختفى من أوروبا الغربية مجتمعها المسيحي الموحد، وأصبحت سيادة هذه الدول واستقلالها حقيقة واقعة ... ولقد جاءت المبادئ النظرية بعد ذلك لتؤيد هذه الحقيقة، فقد عرَّف ميكافيللي في كتابه المشهور الأمير الذي نشره قرابة عام 1513 الدولة بأنها قوة سياسية بحتة، كما أعلن فيه أن مهمة الأمراء والحكام أو وظيفتهم الوحيدة هي اكتساب السلطة واستخدامها، وهم في استخدامهم لهذه السلطة لهم أن يحكموا وحدهم على الأغراض والغايات والتي تتحقق عن طريقها، وهم من أجل ذلك غير مقيدين بقواعد الدين والأخلاق.وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ألغت الثورة الديموقراطية الحكم المطلق الذي كان للملوك، وأحلت محله سلطان الحكومة الذي تولته جمعيات نيابية ينتخبها الشعب، وجعلت هذه الثورة الدول على اختلافها أكثر اهتماماً بالأمور الدنيوية، وبالتالي أكثر استقلالاً من ذي قبل، وهكذا حلت إرادة الشعب محل الحق الإلهي.وكما كان الناس على استعداد لأن يقاتلوا ويموتوا في سبيل الدين والكنيسة، أصبح الرجل على أهبة القتال والموت في سبيل دولته وشعبه (1).ثم ننتقل مع بيكر إلى الكلام عن الديموقراطية حيث يقول: " الديمقراطية العصرية من حيث الفكرة والواقع إن هي إلا نتيجة لمعارضة قامت في وجه ذلك النظام الذي سار عليه المجتمع والحكومة، وكان سائداً في معظم الدول الأوروبية خلال القرنين (17و18) وقت أن كان يحكم الدول ملوك ادعوا السلطة المطلقة استناداً إلى الحق الإلهي، وقد استندت سلطة هؤلاء الملوك إلى طبقة الأعيان وإلى سلطة الكنيسة الموطدة وكانت غالبية الناس وبخاصة الأجراء والفلاحين تسام الظلم وتستغل، وكان نصيبهم من الحقوق ضئيلاً فلم يتمتعوا بالحرية السياسية أو حرية العبادة أو حرية الكلام أو الصحافة أو حرية العمل".ولم يكن للمواطنين أي ضمان ضد التعسف بهم أو القبض عليهم وحبسهم وتفتيش مساكنهم، وكانت الثورة الإنجليزية والثورتان الفرنسية والأمريكية موجهة ضد هذا النوع من الدكتاتورية لإحلال الديمقراطية الحرة محلها.وإن الفكرة الرئيسية التي تنطوي عليها الفلسفة الديمقراطية الحرة التي كانت تتمثل في أن الناس يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بصورة أفضل مما لو حكمهم الملوك وطبقة الأشراف ورجال الدين، وكان الكتاب يستعملون هاتين الكلمتين ( Laissez Faire) تعبيراً عن هذه الفكرة أي دع الناس أحراراً في أعمالهم، وكانوا يظنون أن واجب الحكومة ينحصر في حماية الأرواح والممتلكات والمحافظة على النظام وحماية البلاد ضد الاعتداء الخارجي.وكانت الفكرة العامة تنادي بأنه إذا سعى كل فرد وراء منافعه الذاتية فإن ضرباً من التوفيق بين مصالح الشعب المختلفة سرعان ما يزداد ظهوره أو يقل بصورة آلية، وكان يعبر عن هذه الفكرة بإيجاز في العبارة الآتية: إن المنافع الخاصة تؤدي بدورها إلى تحقيق المنفعة العامة.وهذه النظرية البسيطة هي نظرية تعمل لمصلحة القوي ضد الضعيف، وفي مجتمعات القرن الثامن عشر التي لم تكُ حياتها قد تعقدت بعد، كانت هذه النظرية تعمل لمصلحة أولئك الأفراد القلائل الذين أتاح لهم الحظ أن يقتنوا ثروة.ولكن بظهور الآلات ذات القوى المحركة أصبح واضحاً المنافسة الصناعية الحرة لم تؤد إلى النتيجة التي كان يتوقعها الاقتصاديون والفلاسفة السياسيون؛ فقد كانت الأرباح تعود على أصحاب الصناعة والآلات وحدهم ونهضت الآلات بأكبر عبء من العمل فامتلأت البلاد بالعمال العاطلين، ووجد أصحاب المصانع الأحرار أن ذلك فرصة لتخفيض الأجور وإطالة ساعات العمل، ووجد العمال أن حريتهم في اختيار مهنهم كانت محدودة بمقياس الحاجة إلى ساعات طويلة في أي عمل، يعرض لهم لقاء أجور تافهة لا تكاد تقيم أودهم، وكانت جموع النساء والأطفال الذين أنهكهم الجوع والضعف يشتغلون في العمل بمعدل 12 ساعة في اليوم داخل حوانيت قذرة وخطرة وغير صحية لقاء أُجَر لا تكاد تقيم أودهم (1).هكذا جاءت الديمقراطية، وهكذا تبددت الأحلام والأوهام التي نيطت بها، وأسفرت الثورة الصناعية التي واكبت الثورة الديمقراطية عن وجه كالح لا يقل شناعة وفظاعة عن صورة الإقطاع وانقلبت الحرية النسبية التي وصل إليها العمال والفلاحون قيوداً ثقيلة ترهق كواهلهم.وتعالت الصيحات والصرخات من جديد تعلن رفضها للنظام الطبيعي، الفردي وتطالب بأنظمة جماعية ديمقراطية وظهر بقوة صوت الاشتراكيين الأوائل، ومال إليهم طوائف كثيرة من المثقفين والعمال والفلاحين، وشكلوا جبهة مضادة للرأسماليين العتاة.وفى معمعة الصراع بين أنصار الديمقراطية الرأسمالية الفردية، ودعاة الديمقراطية الإشتراكية الجماعية ولدت نظرية التطور التي غيرت مجرى الفكر الغربي بأجمعه.فهذه النظرية بإجهازها على المسيحية الرسمية أفسحت الطريق لإبعاد الدين عامة بصفة نهائية من التأثير في أي منحى من مناحي الحياة، بل مهدت لرفضه رفضاً باتاً حتى في صورته الوجدانية المجردة.وبواسطة قانون الانتخاب الطبيعي وتنازع البقاء المفضي إلى بقاء الأنسب بعثت الداروينية النزعة المكيافيللية كما أسلفنا، فلقد كان صراع الدول القومية في العصر الحديث الذي يشبه في مظهره صراع أنواع الكائنات الحية مدعاة لتبرير المكيافيللية بل لتبنيها وتطبيقها، ويؤكد ذلك كريستيان غاوس في مقدمته لكتاب الأمير إذ يقول عن الكتاب:اختاره موسوليني في أيام تلمذته موضوعاً لأطروحته التي قدمها للدكتوراة، وكان هتلر يضع هذا الكتاب على مقربة من سريره، فيقرأ منه في كل ليلة قبل أن ينام، ولا يدهشنا قول ماكس ليرز في مقدمته لكتاب أحاديث أن لينين واستالين أيضاً تتلمذوا على مكيافيللي (1).وتتجلى الروح المكيافيللية بوضوح في قول إنجلز: "إن الأخلاق التي نؤمن بها هي كل عمل يؤدي إلى انتصار مبادئنا، مهما كان هذا العمل منافياً للأخلاق المعمول بهاً".وقول لينين: "يجب على المناضل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخداع والغش والتضليل. فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية" (2).أما الرأسمالية فلا تخفي أبداً حقيقتها المكيافيللية، بل إن مايلز كوبلاند صاحب لعبة الأمم ليقرر أنها منهج السياسة الأميركية (1).وإضافة إلى ذلك قدمت فلسفة التطور لكل من المعسكرين المتصارعين سنداً لكفاحه ضد المعسكر الآخر ومبرراً لجدارته وحده بالبقاء دون غريمه.فالرأسمالية ترى أنها الحقيقة بالخلود المؤهلة وحدها بمؤهلات الاستمرار والتقدم، ذلك لأنها العنصر القوي في الحياة الحديثة فلها - حسب قانون الانتقاء الطبيعي وتنازع البقاء - الحق في القضاء على العناصر الضعيفة بتصفيتها جسدياً أو إنهاكها اقتصادياً، وهكذا كانت الدول الرأسمالية دولاً استعمارية بالدرجة الأولى (2)، مع ملاحظة أن صورة الاستعمار في العقود الأخيرة تغيرت عنها في القرن الماضي.وغير خاف أثر فلسفة التطور في الماركسية، فقد استغلت النظرية الداروينية وطبقتها؛ بحيث تتفق مع صراع الطبقات، واتجه نظر الماركسية إلى زاوية أخرى، فهي لا توافق على البقاء للأقوى، لكنها ترى معتمدة على فلسفتها الديالكتية (الجدلية) أن البقاء للأحدث، وذلك ما تقول بها أيضاً فلسفة التطور (3).وعليه فإن الرأسمالية - في نظرها - أشبه بسلالة منقرضة لا مبرر لبقائها بعد ظهور عنصر أحدث منها وأرقى تطوراً وهو: الماركسية.ونستطيع أن نستنتج من ذلك أن هناك جامعاً مشتركاً لأنظمة الحكم اللادينية المعاصرة، بالإضافة إلى اتفاقها على طرح الدين ونبذ الأخلاق من دائرة العمل السياسي بالكلية، وهذا الجامع يحتوي على ثلاثة أسس:1 - مكيافيللية منهجاً عملياً.2 - فلسفة التطور مبرراً للبقاء والاستمرار.3 - الديمقراطية بصفتها نظاماً إنسانياً وضعياً يتقنع به كلا المعسكرين.





  • الاحد AM 07:31
    2016-04-24
  • 4437
Powered by: GateGold