ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله رب العالمين واشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له، إله الاولين والاخرين ورب الناس اجمعين مالك الملك الواحد الاحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا ً احد واشهد ان محمدا ً عبده ورسوله صلوات ربي وسلامه عليه، بلغ الرسالة وأدى الامانة وجاهد في الله حق جهاده، وترك امته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها الا هالك.
اما بعد ،،
فهذه رسالة موجزة ونصيحة لازمة في وجوب التحاكم إلى شرع الله، والتحذير من التحاكم إلى غيره، كتبتها لَمَّا رأيت وقوع بعض الناس في هذا الزمان في تحكيم غير شرع الله، والتحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله من العرافين والكهان وكبار عشائر البادية ورجال القانون الوضعي وأشباههم ؛ جهلاً من بعضهم لحكم عملهم ذلك، ومعاندة ومحادة الله ورسوله من آخرين، وأرجو أن تكون نصيحتي هذه معلمة للجاهلين، ومذكرة للغافلين وسبباً في استقامة عباد الله على صراطه المستقيم، كما قال تعالى : ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: ٥٥] ، وقال سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِشَقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَبَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تكْتُمُونَهُ ﴾ [آل عمران: ۱۸۷].
والله المسئول سبحانه ان ينفع بها، ويوفق المسلمين عموما ً لالتزام شريعته، وتحكيم كتابه، واتباع سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون:
لقد خلق الله الجن والانس لعبادته، قال تعالى: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " الذاريات: 56، وقال تعالى: " وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " الاسراء: 23، وقال تعالى: " وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا " النساء: 36.
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه انه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال: "يا معاذ اتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله اعلم، قال: حق الله على العباد ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا ً وحق العباد على الله الا يعذب من لا يشرك به شيئا ً، قال: قالت يا رسول الله، أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا" رواه البخاري ومسلم.
وقد فسر العلماء رحمهم الله العبادة بمعان ٍ متقاربة من اجمعها ما ذكره شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله اذ يقول: "العبادة: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الاقوال والاعمال الظاهرة والباطنة".
وهذا على ان العبادة تقتضي الانقياد التام لله تعالى: امرا ً ونهيا ً واعتقادا ً وقولا ً وعملا ً، وان تكون حياة المرء قائمة على شريعة الله، يحل ما احل الله ويحرم ما حرم الله، ويخضع في سلوكه واعماله وتصرفاته كلها لشرع الله، متجردا ً من حظوظ نفسه ونوازع هواه، ليستوي هذا الفرد والجماعة والرجل والمرأة، فلا يكون عابدا ً لله من خضع لربه في بعض جوانب حياته، وخضع للمخلوقين في جوانب اخرى.
وهذا المعنى يؤكده قول الله تعالى: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا " النساء: 65، وقوله سبحانه: " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ " المائدة: 50.
وما روي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به".
فلا يتم ايمان العبد الا اذا آمن بالله، ورضي حكمه في القليل والكثير، وتحاكم الى شريعته وحدها في كل شأن من شئونه في الانفس والاموال والاعراض، والا كان عابدا ً لغيره كما قال تعالى: " وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ " النحل:36.
فمن خضع لله سبحانه واطاعه وتحاكم الى وحيه فهو العابد له، ومن خضع لغيره وتحاكم الى غير شرعه فقد عبد الطاغون وانقاد له، كما قال تعالى: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا " النساء: 60.
والعبودية لله وحده والبراءة من عبادة الطاغوت والتحاكم اليه، من مقتضى شهادة ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا ً عبده ورسوله، فالله سبحانه هو رب الناس وإلههم، وهو الذي خلقهم وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحييهم ويميتهم، ويحاسبهم ويجازيهم، وهو المستحق للعبادة دول كل ما سواه، قال تعالى: " أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ " الاعراف: 54.
فكما انه الخالق وحده، فهو الآمر سبحانه والواجب طاعة أمره.
وقد حكى الله عن اليهود والنصارى انهم اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا ً من دون الله، لما اطاعوه في تحليل الحرام وتحريم الحلال، قال الله تعالى: " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " التوبة: 31.
وقد روي عن عدي بن حاتم رضي الله عنه انه ظن ان عبادة الاحبار والرهبان انما تكون في الذبح لهم، والنذر لهم والسجود والركوع لهم فقط، ونحو ذلك وذلك عندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم مسلما ً وسمعه يقرأ هذه الاية فقال: يا رسول الله انا لسنا نعبدهم، يريد بذلك: النصارى، حيث كان نصرانيا ً قبل الاسلام، قال صلى الله عليه وسلم: "أليس يحرمون ما احل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم فتحلونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم" رواه احمد والترمذي وحسنه.
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ولهذا قال تعالى: " وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا " التوبة: 31، اي الذي اذا حرم الشيء فهو الحرام، وما حلله فهو الحلال، وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ، " لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " التوبة: 31، اي: تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والاعوان والاضداد والاولاد، لا اله الا هو ولا رب سواه. [ أ.هـ ص349 من الجزء الثاني].
فصل
اذا علم ان التحاكم الى شرع الله من مقتضى شهادة ان لا اله الا الله وان محمدا ً عبده ورسوله، فإن التحاكم الى الطواغيت والرساء والعرافين ونحوهم ينافي الايمان بالله عز وجل، وهو كفر وظلم وفسق، يقول الله تعالى: " وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) " المائدة: 44 – 45، ويقول: " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ " المائدة: 47.
وبيّن الله تعالى ان الحكم بغير ما انزل الله حكم الجاهلين، وان الإعراض عن حكم الله تعالى سبب لحلول عقابه وبأسه الذي لا يُرد عن القوم الظالمين، يقول سبحانه: " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) " المائدة: 49 – 50.
وأن القارئ لهذه الاية والمتدبر لها يتبين له ان الامر بالتحاكم الى ما انزل الله أكد بمؤكدات ثمانية:
الاول: الامر به في قوله تعالى: " وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ".
الثاني: ان لا تكون اهواء الناس ورغباتهم مانعة من الحكم به بأي حال من الاحوال، وذلك في قوله: " وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ ".
الثالث: التحذير من عدم تحكيم شرع الله في القليل والكثير، والصغير والكبير، يقول سبحانه: " وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ".
الرابع: ان التولي عن حكم الله وعدم قبول شيء منه ذنب عظيم، موجب للعقاب الأليم، قال تعالى: " فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ".
الخامس: التحذير من الاغترار بكثرة المعرضين عن حكم الله فإن الشكور من عبد الله قليل، يقول تعالى: " وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ".
السادس: وصف الحكم بغير ما انزل الله بأنه حكم الجاهلية، قال تعالى: " أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ ".
السابع: تقرير المعنى العظيم بأن حكم الله احسن الاحكام وأعدلها، يقول عز وجل: " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا ".
الثامن: ان مقتضى اليقين هو العلم بأن حكم الله هو خير الاحكام واكلمها، واتمها واعدلها وأن الواجب الانقياد له، مع الرضا والتسليم، يقول سبحانه: " وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ".
وهذه المعاني موجودة في آيات كثيرة في القرآن، وتدل عليها أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم وأفعاله، فمن ذلك قوله سبحانه: " فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ " النور:63، وقوله: " فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ " النساء: 65، وقوله: " وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ " الاحزاب: 36، وقوله: " اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم " الاعراف: 3.
وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم انه قال: "لا يؤمن احدكم حتى يكون هواه تبعا ً لما جئت به".
قال النووي: حديث صحيح، رويناه في كتاب الحجة بإسناد صحيح.
وروي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: "أليسوا يحلون ما حرم الله فتحلونه، ويحرمون ما احل الله فتحرمونه، قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم".
وقال ابن عباس رضي الله عنه لبعض من جادله في بعض المسائل: "يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله وتقولون: قال ابو بكر وعمر".
ومعنى هذا: ان العبد يجب عليه الانقياد التام لقول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم وتقديمهما على قول كل احد، وهذا معلوم من الدين بالضرورة.
ولهذا كان من مقتضى رحمه وحكمته سبحانه وتعالى ان يكون التحاكم بين العبادة بشرعه ووحيه، لأنه سبحانه المنزّه عما يصيب البشر من الضعف والهوى والعجز والجهل فهو سبحانه الحكيم العليم اللطيف الخبير يعلم أحوال عباده وما يصلحهم، وما يصلح لهم في حاضرهم ومستقبلهم، ومن تمام رحمته أن تولى الفصل بينهم في المنازعات والخصومات وشئون الحياة ؛ ليتحقق لهم العدل والخير والسعادة، بل والرضا والاطمئنان النفسي والراحة القلبية، ذلك أن العبد إذا علم أن الحكم الصادر في قضية يخاصم فيها هو حكم الله الخالق العليم الخبير- قبل ورضي وسَلَّم، حتى ولو كان الحكم خلاف ما يهوى ويريد، بخلاف ما إذا علم أن الحكم صادر من أناس بشر مثله لهم أهواؤهم وشهواتهم، فإنه لا يرضى ويستمر في المطالبة والمخاصمة؛ ولذلك لا ينقطع النزاع، ويدوم الخلاف، وإن الله سبحانه وتعالى، إذ يوجب على العباد التحاكم إلى وحيه ؛ رحمة بهم، واحسانا ً اليهم، فإنه سبحانه بيّن الطريق العام لذلك اتم بيان، واوضحه بقوله سبحانه: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا " النساء: 58 ، 59.
والآية وان كان فيها التوجيه العام للحاكم والمحكوم، والراعي والرعية، فإن فيها مع ذلك توجيه القضاة الى الحكم بالعدل، فقد أمرهم بأن يحكموا بالعدل وأمر المؤمنين ان يقبلوا ذلك الحكم الذي هو مقتضى ما شرعه الله سبحانه، وانزله على رسوله، وان يردوا الامر الى الله ورسوله في حال التنازع والاختلاف.
ومما تقدم يتبين لك ايها المسلم ان تحكيم شرع الله والتحاكم إليه مما أوجبه الله ورسوله، وأنه مقتضى العبودية لله والشهادة بالرسالة لنبيه محمد وأن الإعراض عن ذلك أو شيء منه موجب لعذاب الله وعقابه وهذا الأمر سواء بالنسبة لما تعامل به الدولة رعيتها، أو ما ينبغي أن تدين به جماعة المسلمين في كل مكان وزمان، وفي حال الاختلاف والتنازع الخاص والعام، سواء كان بين دولة وأخرى، أو بين جماعة وجماعة ، أو بين مسلم وآخر الحكم في ذلك كله سواء، فالله سبحانه له الخلق والأمر، وهو أحكم الحاكمين، ولا إيمان لمن اعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله أو تماثله وتشابهه، أو أجاز أن يحل محلها الأحكام الوضعية والأنظمة البشرية، وإن كان معتقداً بأن أحكام الله خير وأكمل وأعدل .
فالواجب على عامة المسلمين، وأمرائهم، وحكامهم، وأهل الحل والعقد فيهم أن يتقوا الله عز وجل ويحكموا شريعته في بلدانهم، وسائر شئونهم، وأن يقوا أنفسهم ومن تحت ولا يتهم عذاب الله في الدنيا والآخرة، وأن يعتبروا بما حل في البلدان التي أعرضت عن حكم الله وسارت في ركاب من قلد الغربيين، واتبع طريقتهم من الاختلاف، والتفرق، وضروب الفتن وقلة الخيرات وكون بعضهم يقتل بعضاً، ولا يزال الأمر عندهم في شدة، ولن تصلح أحوالهم ويرفع تسلط الأعداء عليهم سياسياً وفكرياً إلا إذا عادوا إلى الله سبحانه، وسلكوا سبيله المستقيم الذي رضيه لعباده، وأمرهم به، ووعدهم به جنات النعيم، وصدق سبحانه إذ يقول : ( وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَنتَكَ ايَتُنَا فَنَسِينَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ) [ طه : ١٢٤ - ١٢٦] .
ولا أعظم من الضنك الذي عاقب الله به من عصاه، ولم يستجب لأوامره، فاستبدل أحكام المخلوق ،الضعيف بأحكام الله رب العالمين، وما أسفه رأي من لديه كلام الله تعالى؛ لينطق بالحق، ويفصل في الأمور، ويبين الطريق، ويهدي الضال ثم ينبذه ليأخذ بدلاً منه أقوال رجل من الناس، أو نظام دولة من الدول، ألم يعلم هؤلاء أنهم خسروا الدنيا والآخرة فلم يحصلوا الفلاح والسعادة في الدنيا، ولم يسلموا من عقاب الله وعذابه يوم القيامة ؛ لكونهم استحلوا ما حرم الله عليهم ، وتركوا ما أوجب عليهم .
أسأل الله أن يجعل كلمتي هذه مذكرة للقوم، ومنبهة لهم للتفكر في أحوالهم، والنظر فيما فعلوه بأنفسهم وشعوبهم، فيعودوا إلى رشدهم، ويلزموا كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ؛ ليكونوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم حقاً، وليرفع ذكرهم بين شعوب الأرض، كما ارتفع به ذكر السلف الصالح، والقرون المفضلة من هذه الأمة، حتى ملكوا الأرض وسادوا الدنيا ودانت لهم العباد، كل ذلك بنصر الله الذي ينصر عباده المؤمنين الذين استجابوا له ولرسوله، ألا ليتهم يعلمون، أي كنز أضاعوا، وأي جرم ارتكبوا، وما جروه على أممهم من البلاء والمصائب، قال الله تعالى : ( وَإِنَّهُ لَذِكرُ لكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْتَلُونَ) [الزخرف : ٤٤] .
وجاء في الحديث عنه ما معناه: أن القرآن يرفع من الصدور والمصاحف في آخر الزمان، حين يزهد فيه أهله ويعرضون عنه تلاوة وتحكيماً).
فالحذر الحذر أن يصاب المسلمون بهذه المصيبة، أو تصاب بها أجيالهم المقبلة، بسبب صنيعهم، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وأوجه نصيحتي أيضاً إلى أقوام من المسلمين يعيشون بينهم، وقد علموا الدين، وشرع رب ذلك لازالوا يتحاكمون عند النزاع العالمين، ومع إلى رجال يحكمون بينهم بعادات وأعراف ويفصلون بينهم بعبارات وسجعات مشابهين في ذلك صنيع أهل الجاهلية الأولى.
وأرجو ممن بلغته موعظتي هذه أن يتوب إلى الله، وأن يكف عن تلك الأفعال المحرمة ويستغفر الله، ويندم على ما فات، وأن يتواصى مع إخوانه ومن حوله على إبطال كل عادة جاهلية، أو عرف مخالف لشرع الله، فإن التوبة تَجُبُّ ما قبلها ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وعلى ولاة أمور أولئك الناس وأمثالهم أن يحرصوا على تذكيرهم وموعظتهم بالحق، وبيانه لهم، وإيجاد الحكام الصالحين بينهم؛ ليحصل الخير بإذن الله ، ويكفوا عباد الله عن محادّته، وارتكاب معاصيه فما أحوج المسلمين اليوم إلى رحمة ربهم، التي يغير الله بها حالهم، ويرفعهم من حياة الذل والهوان الى حياة العز والشرف.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه بإحسان الى يوم الدين.
-
الخميس AM 09:34
2022-11-24 - 1424