المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409147
يتصفح الموقع حاليا : 300

البحث

البحث

عرض المادة

مغالطات علمانية

ادعت العلمانية أنها سيرورة تاريخية لا مفر منها، وأنها أرقى ما وصل إليه العقل البشري.

وبالتالي فهي حقيقة مطلقة، تنبني على أصول فلسفية وعقلية واحدة، وتقوم على أرض ديمقراطية صلبة.

وذلك ما نحاول مناقشته باختصار في هذه الفقرات:

1 - العلمانية وامتلاك الحقيقة المطلقة.

طالما رمت العلمانية الأديان بادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، في حين أكدت هي على نسبيتها، لكنها تحولت هي الأخرى إلى حقيقة مطلقة جديدة، وادعت لنفسها أنها أرفع ما وصله العقل البشري من الفلسفات والأفكار، وأنه إما هي أو الطوفان.

إن الاتجاه العلماني يعتبر نفسه ماسكا للحقيقة وصانعا لها، ويعامل الآخر على أنه مناف لها (1).

ويتعامل بعض هواة الحداثة مع الحداثة «كما لو أنها ديانة حديثة يدينون بها، بدليل أنهم يقفون منها موقف التبجيل والتعظيم والتقديس، وهذا التعبد أعني التعلق الوهمي يقلص القدرة على الخلق والابتكار، إنه يسلب الإرادة ويخنق الإمكانية». كذا قال العلماني اللبناني علي حرب في الممنوع والممتنع (247).

والحق ما شهدت به الأعداء.

واستمر علي حرب مؤكدا (263) أن المثقف العلماني يصدر في تعامله مع ذاته ومع غيره عن إحساس بمركزيته ونرجسيته بنخبويته وتفوقه، ولهذا فهو يمارس الاستبداد والهيمنة.

وزاد أن المشاريع العلمانية وخاصة الثورية منها آلت إلى نقيض شعاراتها وأعطت مردودا عكسيا وقادت إلى أسوأ النتائج (263).

وأن العلمانية تقوم على منظومة مغلقة أرثذوكسية وتقوم على وحدانية الحقيقة وتوراث الحق واحتكار المشروعية وديكتاتورية السلطة وامبريالية الشعارات المقدسة: العقل والحداثة والتقدم (266).

وذكر أن العلمانية لا تكف عن إنتاج أشكالها القدسية وأبعادها اللاهوتية، وقال: ولا تخلو المجتمعات الغربية الحديثة من الممارسات التقديسية بالرغم من أنها تمارس حياتها باسم العقلانية والعلمانية والديمقراطية. ولهذا فقد يمارس المرء علمانيته بطريقة لاهوتية أصولية، وذلك بقدر ما يتعامل مع الحقيقة بصورة دغمائية أحادية، وبقدر ما يتعامل مع المشروعية بطريقة قدسية لاهوتية، وبقدر ما يتعامل مع السلطة بطريقة فاشية. (267).

وقال: هذا هو شأن المثقف الحديث العلماني على ما يمارس علمانيته عندنا، إنه إذ يتحدث أو يدافع عن الحرية أو الديمقراطية أو العروبة، إنما يتماهى مع هذه الشعارات ويتصرف كأنه المعيار الذي تقاس به الحرية والديمقراطية والعروبة (268).

 


(1) الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين (66).

تحدث علي حرب عن تحول المشاريع الإيديولوجية العلمانية إلى نمط لاهوتي له مقدساته وله مبادؤه المتعالية التي قهر البشر تحت راياتها باسم الأمة أو الزعيم أو البروليتاريا أو المجتمع الاشتراكي (1).

وهكذا المثقف العلماني مارس دوره كما يقول علي حرب بطريقة نبوية رسولية إنه ألَّه أفكاره ومبادئه ونزَّه ممارساته أعني تجاربه وأخطاءه، وعصم زعماءه وقادته، إذن مارس استبداده باسم المبادئ السامية والقضايا المقدسة (2).

والعلمانية في نظر بعض العلمانيين حسب كمال عبد اللطيف بديل للعقائد والحقائق المطلقة السائدة. التفكير في العلمانية (17).

وعند آخر وهو الدكتور جوتفرايد كونزلن أن العلمانية بمثابة دين حل محل الدين المسيحي (3).

وكذا ذكر أركون أن الإيديولوجيات الحالية كالماركسية والليبرالية تحولت إلى أديان دنيوية (4).


(1) الممنوع والممتنع (262).
(2) نفس المرجع (262).
(3) مأزق المسيحية والعلمانية في أوروبا (17).
(4) قضايا في نقد العقل الديني (236) ونحو نقد العقل الإسلامي (175).

وأكد البروفسور لويس كنتوري الأستاذ بجامعة جورج تاون وأحد أبرز الخبراء الأمريكيين في شؤون الشرق الأوسط، في ندوة لندن يونيو 1994: إن الليبراليين من أكثر الناس ضيقا بالنقد، لاعتقادهم أنهم يملكون الحقيقة والمفتاح السحري للتقدم بعد الذي حققه الغرب من إنجازات على ذلك الصعيد. وقد آن الأوان لفك الارتباط بين المصطلحات الثلاثة: الليبرالية والعلمانية والتقدم، فليس صحيحا أنها متداخلة ومترابطة بحيث يتعلق كل منها بمصير الآخر، وبوجه أخص فإن تجربة قرنين من الزمان أثبتت في حالات عدة أن العلمانية لا تعني بالضرورة التقدم (1).

والعلمانية في صورتها الماركسية أكثر وضوحا في ادعائها امتلاك الحقيقة باعتراف جمع من العلمانيين.

فقد تحولت إلى عقيدة جاهزة مكتملة مطلقة الكمال، إنهم ينفون عنها صبغتها التاريخية، كما قال الجابري في الثرات والحداثة (106).

ولنتأمل أولا كلام أحد العلمانيين الماركسيين عن ماركسيته، قال: والحقيقة أن النظرية الماركسية هي أنضج النظريات وأعمقها وأصرحها كذلك في فهم الديمقراطية وتقييمها (2).

وصب جام غضبه على الديمقراطية التي أصبحت أحد أعظم المقدسات الآن قال: وليست عملية الانتخابات التي تتم مرة كل بضعة أعوام - على حد تعبير ماركس - إلا وسيلة يسمح بها البورجوازية للجماهير التي يستغلونها أن تقرر من سوف يذهب إلى البرلمان من هؤلاء البورجوازيين لتمثيلهم وسحقهم.

على أن البرلمانات البورجوازية ليست إلا أماكن للثرثرة وخداع الجماهير (3).


(1) المفترون (248).
(2) معارك فكرية (258).
(3) نفس المرجع (261).

وأكد أن الاشتراكية تقول بديكتاتورية البروليتاريا ضد الأقلية البورجوازية (1).

تمهيدا للقضاء على الديمقراطية نهائيا بالقضاء على الدولة نفسها (2).

وهنا يكون العنف ضد جهاز الدولة البورجوازي عنفا مشروعا (3).

بل تقوم ديكتاتورية البروليتاريا على سلطة القهر (4).

هكذا يقول محمود أمين العالم في يوم ما وفي زمان ما، لما كان مسلوب الإرادة، وكان يفكر بعقل غيره.

وإذا أضفنا إلى هذه المهازل أصول الماركسية التي تعتبر العامل الاقتصادي هو العامل المهيمن والحاسم في التاريخ، وبقية العوامل (الفكر والدين والفن وغيرها) انعكاس للعامل الاقتصادي لا غير. وأن البشرية مرت بستة مراحل: المشاعية البدائية ثم الرق ثم الإقطاع ثم الرأسمالية ثم الاشتراكية ثم الشيوعية. وأن الشيوعية مرحلة حتمية في تاريخ البشرية دلت عليها المادية الديالكتيكية العلمية، فيها يشيع كل شيء بما فيها النساء وتشيع الملكية.

وتحولت هذه العقائد إلى حقيقة مطلقة، لأنها تعتبر كل التفسيرات غير الماركسية رجعية وطوبوية وبورجوازية.


(1) نفس المرجع (262).
(2) نفس المرجع (263).
(3) نفس المرجع (266).
(4) نفس المرجع (267).

والمادية الديالكتيكية هي المفسر الوحيد للتاريخ وتقلباته وهي وحدها التفسير العلمي.

وبالتالي فالماركسية تمتلك الحقيقة المطلقة (1).

وهكذا تحولت الماركسية إلى قوالب فكرية مهترئة أو جامدة، كما قال أركون (2).

وأصبحت مفاهيم ماركس وإنجيله «رأس المال» نصوصا مقدسة (3).

وهكذا يقال عن الرأسمالية في مطلقاتها حول الحرية والمنفعة.

وهكذا العلمانية كلها تدور حول مطلقات ثابتة، وخاصة فيما يتعلق بالموقف من الدين والأخلاق والقيم، وقضايا حقوق الإنسان وغيرها.

وطالما اتهم أركون غيره بالدوغمائية واعتقاد امتلاك الحقيقة المطلقة، مع أنه هو كذلك له مطلقاته ودوغمائيته، والمناهج التي يستخدمها كمنهج النقد التاريخي والبنيوي الذي يؤمن بها إلى حد الهوس. ويدعو الناس إلى تبنيه والانخراط فيه.


(1) انظر قضايا في نقد العقل الديني (90).
(2) تاريخية الفكر العربي الإسلامي (295).
(3) أزمة الخطاب التقدمي (101).

وقد تحولت الحداثة -حسب ما يؤكد فادي إسماعيل- «بكل ما يتضمنه دينها من علمانية وعقلانية إلى جوهر مطلق يحتوي جملة من الشروط والتعريفات المقدسة والمنزلة، فإن جوهرها المتعالي يفقد إنسانيته ويتجه على يد قساوسته المحدثين في السلطة نحو همجية معاصرة تغطيها قشرة رقيقة من أوهام التقدم ومؤسساته» (1).

والحاصل أن العلماني تسيّج في سياج يدعي فيه امتلاك الحقيقة المطلقة التي تعلو فوق جميع الحقائق، بل لا حقيقة إلا هي، وتقوقع في معسكره الإيديولوجي مسفها كل ما هو خارجه، معتبرا أن العلمانية أرقى ما وصل له العقل البشري، بل هي الفردوس الأعلى الذي ليس فوقه أو بعده من نعيم. وليست العلمانية مرحلة من المراحل، بل هي المرحلة النهائية.

أليست هذه هي حقيقة الدوغمائية التي ينكرها العلمانيون على مخالفهم؟ بل ألم تتحول العلمانية إلى عقيدة حديدية متخشبة صارمة مغلقة؟ أليست هذه هي الفاشية والتطرف والعنصرية في أبهى صورها؟. أليست هذه نظرة متعالية وطقوسية؟ ألم تتحول العلمانية إلى معسكر عقائدي وسجن إيديولوجي حديدي مغلق؟ ألا تعتبر نفسها أرقى ما وصل إليه الفكر البشري كفلسفة للوجود؟ وبالتالي فهي حقيقة مطلقة، تحولت لدى أتباعها إلى مقدس يستحيل التنازل عليه مهما كانت الظروف والأحوال، وهذا هو المقدس (2)، وترى أنه يحق لها أن تمارس العنف لفرض القيم العلمانية، وهذا ما يفسر ظهور الاستعمار بعد ترسخ العلمانية في أوروبا.

ولا شك أن قلة من العلمانيين هم الذين اعترفوا بإيجابية هذه الأسئلة التي طرحناها هنا.


(1) الخطاب العربي المعاصر (155).
(2) وفي داخلها مقدسات كثيرة: الوطن، حقوق الإنسان، الرموز الوطنية. وانظر قضايا في نقد العقل الديني (165 - 169).

ويقف على رأسهم علي حرب، وخاصة في أوهام النخبة، وتركي علي الربيعو في أغلب كتبه.

وتنطلق العلمانية من رؤية دهرية أحادية الجانب، فهي ترى أنها تستند إلى حتمية تاريخية وأن الكون يتجه طوعا وكرها نحو رؤية دهرية علمانية تنحو نحو التخلص نهائيا من التصورات الدينية والخرافية (1).

وهي لا تعدو هنا أن تكون متأثرة بالتوجهات الوضعية والنزعات الإلحادية للقرن 19 وبداية القرن العشرين (2).

فأوجيست كونت مثلا يرى أن للتاريخ ثلاث مراحل: الحقبة الأسطورية الغيبية، ثم الحقبة المتافيزيقية، وأخيرا الحقبة الوضعية العلمية المتطابقة مع نظرة العلمانية الدهرية.

فالعلمانية إذن عندهم هي مرحلة نهائية لنضج الوعي (3).

ثم جاءت فلسفة ما بعد الحداثة، ورجوع التدين بقوة إلى أوروبا وأمريكا لبدء ضعف تلك الحتميات السابقة لتتحول فيما بعد إلى أفكار متجاوزة، كما حدث مع الشيوعية، التي غردت نفس التغريد سابقا، وضربت على نفس الوتر، ثم انهارت كما تنهار بناية متصدعة.


(1) في العلمانية والدين والديمقراطية (22).
(2) نفس المرجع.
(3) نفس المرجع (23).

[هل ترتكز العلمانية على أسس فلسفية وعقلية قطعية؟]

يزعم العلمانيون أن أطروحتهم تستند إلى أسس فلسفية عقلية ضرورية لا مجال للنزاع فيها، وهي بالتالي حتمية، يجب أن يذعن لها الجميع.

ومن أنشط العلمانيين لهذه الأطروحة عادل ضاهر في كتابه الأسس الفلسفية للعلمانية.

وتدور أطروحته والتي أكد عليها غير مرة (6 - 33) أنه لا يريد التوفيق بين العلمانية والإسلام، أو البحث عن أسس دينية للعلمانية كما فعل غيره من العلمانيين، خاصة علي عبد الرازق وخلف الله والعشماوي (1). إنما يريد تأسيس أسس فلسفية للعلمانية.

يحدثنا بهذه الأريحية وكأن الأسس الفلسفية مجمع عليها بين كافة العقلاء والفلاسفة، مقطوع بها، ليس أمامنا غير البناء عليها والارتكاز عليها.

مع أن لكل فيلسوف فلسفته، أو بعبارة أوضح وأكثر خلخلة لأسس عادل ضاهر: لكل مدرسة فلسفية أسسها الفلسفية التي تخالف وربما تناقض المدارس الأخرى. وداخل كل مدرسة أسس لكل فيلسوف. بدءا من فلاسفة اليونان ومرورا بالفلاسفة المسلمين، ووصولا للفلاسفة المعاصرين.

وعادل ضاهر أدرى مني بهذه الأمور، لكنه يحاول أن يغالط، لعله ينجح في تمرير الأطروحة. لكن ما هو العقل؟ وما هي الأسس العقلية الفلسفية التي يعتبرونها ضرورية حتمية؟.


(1) وكذا نصر أبو زيد، فقد زعم في كتابه الأخير دوائر الخوف (180) أن العلمانيين ينطلقون من المرجعية الدينية ذاتها التي ينطق منها خصومهم.

ولأمر ما جذع قصير أنفه، فقد تغافل عادل ضاهر عن طرح هذه الإشكالية.

لا يوجد تعريف موحد للعقل وماهيته واختلف الناس فيه: الفلاسفة والمتكلمون والفقهاء والمعاصرون، حتى ذكر الزركشي أنه قيل فيه ألف قول (1).

والأسس الفلسفية لمن اعتبر العقل هو مصدر المعرفة متناقضة ومتعارضة (2).

فإذا نظرنا في الفلاسفة وحدهم نجد فلاسفة اليونان مختلفين: ففلسفة سقراط قائمة على اللاأدرية وفلسفة أفلاطون قائمة على الحركة، وفلسفة بيرون قائمة على الشك. وليست الفلسفة الحديثة بأقل اختلاف من الفلسفة القديمة، فإن سبينوزا رفض فلسفة ديكارت، وأقام فلسفته على شكل من أشكال وحدة الوجود، ثم جاء كانط فنقد كل أشكال العقل، ثم أقام هيجل فلسفته على المطلق، ثم رفض فيورباخ كل الفلسفات السابقة، وأقام فلسفته على الطبيعة والأنسنة، وإذا كان باركلي قد أنكر المادة، فإن ماركس رفض كل ذلك وقرر أن المادة هي المتحكمة بكل ما في الكون، وهكذا لم يتفق الفلاسفة على هذه الأسس المزعومة (3).

وما هي الاعتبارات العقلية والفلسفية التي يسلم بها العقل؟ هل هي الفلسفة الميكافيلية التي أجازت للحاكم أن يبيد بشكل سريع وخاطف كل


(1) العلمانيون والقرآن (214) والتراث والحداثة (13).
(2) نفس المرجع.
(3) العلمانيون والقرآن (218).

المعارضين الذين يهددون ملكه، وذلك من أجل جلب الاستقرار للبلاد، والتي تبناها نابليون ومحمد علي وهتلر وستالين وغيرهم.

أم هي مثالية جان جاك روسو التي دعا إلى الهمجي النبيل؟.

أم هي اللاعقلانية المادية النيتشوية التي تكرس الإنسان الأقوى وتحكم بإبادة ملايين الضعفاء حتى لا يبقى إلا الإنسان الأعلى.

أم العقلانية المادية التي تتمثل في النفعية المطلقة دون أي اعتبارات إنسانية أخرى، والتي كرسها كل من وليم جيمس وجون ديوي وغيرهم.

أم هي العقلانية المادية التي رأت إبادة الملايين من الغجر والسلاف واليهود والأطفال المعوقين والمسنين ممن صنفوا باعتبارهم أفواها مستهلكة غير منتجة، كما فعلت النازية، وكما فعل ستالين الذي أباد ملايين الفلاحين الكولاك الذين كانوا يعوقون عملية الإنتاج الحتمية (1).


(1) العلمانيون والقرآن (218 - 219).

  • الخميس AM 05:27
    2022-08-04
  • 952
Powered by: GateGold