المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 412430
يتصفح الموقع حاليا : 375

البحث

البحث

عرض المادة

علمانية العلم

سبق أن عرضنا في الباب الثاني فصلاً من الصراع بين الكنيسة وبين العلم، ولمحنا الخطوط العريضة لتلك المعركة الضارية وبعض نتائجها السيئة، ووصل بنا العرض التاريخي إلى القرن التاسع عشر، حيث رأينا في فصل آخر كيف أجهزت الداروينية على الرمق الباقي في حطام مدعيات الكنيسة وتعاليمها.

[موقف العلم المعاصر تجاه الدين في القرن التاسع عشر]

ولعل من الأوفق - قبل أن نعرض لموقف العلم المعاصر تجاه الدين - أن نلقى نظرة سريعة على الموقف في القرن الماضي، إذ هو بمثابة الأساس لما تلاه في هذا القرن، وقد حاول مؤلف كتاب تكوين العقل الحديث، أن يجمل الصورة العامة للنزاع بين العلم والدين آنذاك فكان هذا الموجز: "إن نمو العلم الميكانيكي والنقد العلمي للتوراة، وانفجار قنبلة التطور عام 1859م أبرزت الخلاف بين التقاليد الدينية والعلم الحديث".

وفصل ذلك في موضع تالٍ قائلاً: "أدى النقد التاريخي إلى إهمال الكثير من الاعتقادات، كما هدم العلم الميكانيكي بدوره مقداراً أكبر منها، ومنذ نقد ديفيد هيوم للمعجزات في القرن الثامن عشر رفض المتدينون الأحرار الاعتقاد بأي خرق للقانون الطبيعي ونظامه، وفسروا أخبار المعجزات بأنها من نتاج أسباب طبيعية إنسانية كالسذاجة والخيال والخرافة، ثم إن التفسيرات الجيولوجية والبيولوجية لماضي العالم قد أدت بالطبع إلى إهمال أي اعتقاد حرفي بالحوادث الواردة في الفصول الأولى من سفر التكوين.

وأخيراً: أهمل القرن التاسع بشكل أكيد الاعتقاد بأن الله مبدأ علمي، فقد اختفى الخالق صانع الساعة الذي تصوره عصر التنوير مع تقدم التفسيرات العقلية والعلمية عن كيفية تشكل الكون.

وإذا كان المتدينون من الناس مازالوا يعتقدون بوجود خالق وراء هذه العمليات الطويلة، فهم يفعلون ذلك على أسس دينية أكثر منها علمية) " (1).

وكما ابتهج الماديون بالنصر الحاسم - ظاهراً - الذي ظفر به العلم على الكنيسة في معركة (أصل الإنسان)، والانسحاب النهائي لها من حلبة الصراع؛ فقد كان الفلاسفة النظريون أيضاً لا يقلون عنهم، رغم الخلاف في وجهات نظر الفريقين الذي بلغ مداه في الصراع بين الواقعية والمثالية.

وإلى ذلك يشير (هنتر ميد) في كتابه عن الفلسفة: "في الجزء الأكبر من القرون الوسطى -مثلاً- كانت العلاقة الرسمية بين الفلسفة والدين، تتلخص في أن للفيلسوف الحرية في الوصول إلى أية نتائج قد يوحي بها تفكيره، شريطة ألا تكون هذه النتائج متعارضة مع نتائج الوحي واللاهوت المقدس، والواقع أن الفلسفة لم تتمكن من التحرر من هذه القيود إلا منذ أقل من قرنين من الزمان، حتى في البلاد الديمقراطية الليبرالية ذاتها، بل إن هذه الحرية قد اكتسبت في مجالات معينة منذ وقت يذكره أناس


(1) راندال: (2/ 225، 243).

مازالوا أحياء، ولما كان هذا الاستقلال قد اكتسب بعد كفاح مرير فمن المنطقي أن تنظر إليه جماعة المشتغلين بالفلسفة على أنه أهم الحريات المدنية، وأن تعده جديراً بأن يحفظ بأي ثمن" (1).

نعم ذاك هو الحال وتلك هي النتيجة.

انفلات من قيود الكنيسة وانعتاق من أغلالها، وفرحة غامرة بالفكاك من قبضتها، والتملص من وصايتها، فماذا يتوقع من عبدٍ أحس بنشوة الظفر لأنه أبق عن سيده، أو أسير شم نسيم الحرية بالفرار من معتقله؟

لقد اندفع تيار أهوج في كل القنوات الفكرية والعلمية في أوروبا، تيار يريد أن يجرف كل شيء اسمه دين أو له علاقة بهذا الاسم، ويطمس كل موحى من موحياته، ويمحو كل أثر من آثاره، وكانت غاية من يسمون (أحرار الفكر!) هو الدفع بهذا التيار إلى الأمام ما أمكن وبسرعة أقصى.

لا لأن ذلك ما يمليه (المنهج العلمى) (وحرية الفكر)، ولا لأنه مقتضى النظر الموضوعي المتسم بالتعقل والتروي، بل لأنه نتيجة رد الفعل المتهور ضد الكنيسة الذي لا تكاد حدته تخف حتى تلهبها آثار سياط الكنيسة في ظهورهم.

وكما عرف الناس ورأوا واقع ما قاله: (كويت) من (أن كل خطوة إلى الأمام في البحث عن المعرفة قد حوربت باسم الدين) (2) فقد بدا لهم مصداق ما قاله (الفرد وايتيهد): "ما من مسألة ناقض العلم فيها الدين إلا وكان الصواب بجانب العلم والخطأ حليف الدين" (3).


(1) الفلسفة أنواعها ومشكلاتها: (33).
(2) تاريخ البشرية. اليونسكو: (6/ 2/1).
(3) الجفوة المفتعلة بين العلم والدين: (12).

وما لهم لا يصدقون بذلك وقد رأوا بأم أعينهم سلسلة الهزائم المتلاحقة التي منيت بها الكنيسة أمام العلم، يضاف إلى ذلك طغيانها البغيض الذي يقابل المنجزات العلمية، والتيسيرات المذهلة التي حققها العلم في وسائل الحياة:

قالت الكنيسة: إن الأرض مسطحة وهى مركز الكون - لأجل عملية الخلاص - وقال كوبرنيق إنها كروية وتدور حول الشمس، وثبت لهم أن الكنيسة كاذبة والعلم مصيب! وقالت الكنيسة: إن الكون والإنسان خلقا في ستة أيام عادية سنة (4004ق. م) وقال (ليل وداروين) إن عمر الكون يقدر بمئات الملايين من السنين، والإنسان بالملايين، وثبت أنهما على حق وأن الكنيسة مبطلة.

وقالت الكنيسة إن (1+1+1=1) وأثبتت بديهيات الرياضة أن مجموع ذلك =3" وقالت الكنيسة -تبعاً لأرسطو: إن الكون مكون من أربعة عناصر" وقال العلم: إن عناصره تزيد على التسعين (1)، وصدق العلم وكذبت الكنيسة.

وقالت الكنيسة: إن التوراة والأناجيل والرسائل كتب موحاة من الله، وقال النقاد التاريخيون: إنها من صنع مؤلفين غير موضوعيين، وظهر أنهم على صواب فيما قالوا ... وقالت الكنيسة: إن الخبز والخمر في العشاء الرباني يتحولان إلى دم وجسد المسيح حقيقة. وقال العلم والعقل البديهة ذلك أبعد المحال.

وقالت الكنيسة: إن الرهبانية وسيلة للطهر، وفضيلة سامية، وقالت علوم النفس والاجتماع: إنها تصادم الطبيعة، وتفضي بالجنس البشري إلى الهلاك المحقق.

وقالت الكنيسة: إن المرض من الشياطين يمكن مداواته بإقامة القداس، والتمسح بالصلبان، وقال الطب: إن سبب المرض كائنات بالغة الدقة يمكن إفناؤها بالمستحضرات الكيماوية، وأخفقت الكنيسة في حين نجح العلم وأثبت جدواه.

وهكذا سلسلة طويلة محزنة، في مقدور الرجل العادى أن يستعرضها ليخرج بنتيجة حاسمة هي أن العلم دائماً على صواب، وأن الدين على خطأ باستمرار، لاسيما وأن الكنيسة قد علمته أن ليس ثمة شيء يستحق أن يسمى ديناً إلا تعاليمها المقدسة، وإزاء ذلك بدا من المنطقي جداً أن تتعالى أصوات الناقمين من العلماء وسواهم: ليتحرر العلم من قيود الدين، ولتذهب تعاليم الدين إلى الجحيم.

العلم هو وحده الحق والحكم وهو مصدر النور، كما أنه منبع الرفاهية، أما الدين فجمود ورجعية وخرافات وأساطير.

وإذا عرضت مسألة فليخرس الدين ولينطق العلم!

ليبحث العلماء، ويستخرجوا قوانين الطبيعة وأسرار الكون في الهواء الطلق بعيداً عن الدين!

الدين شيء، والعلم شيء آخر، لا علاقة بينهما إلا التضاد، وإذا كان لابد من إخضاع أحدهما للآخر فليخضع الدين، ولتطبق كل حقائق الدين كالوحي والمعجزات والروح والخلود داخل المعامل والمختبرات، وإلا فلتسقط إلى الأبد!

والحذر الحذر أن يخطئ رجل العلم؛ فيضمن أبحاثه وتجاربه شيئاً من مصطلحات رجل الدين، أو يقحم شيئاً من تفسيرات الدين في صلب تفسيراته لمظاهر الطبيعة؛ لأن ذلك إفساد للروح العلمية وأي إفساد!

 


(1) وصلت الآن إلى حوالى (104) عنصر.

وإذا جاز لرجل العلم أن يعتقد شيئاً من الدين بدافع شخصي فإن عليه -كما عبر بوترو- حين يدخل المعمل أن يترك بالباب معتقداته الدينية ويستعيدها عند خروجه) (1).

ومن خلال هذا نتبين أن موقف الكنيسة كان العامل الأكبر الذي أفضى إلى العداوة الشرسة للدين من قبل العلم، والتحلل الكامل من كل قضاياه ومؤثراته.

على أن هناك عاملاً آخر يرفد هذا العامل ويؤازره، وهو عامل داخلي نابع من طبيعة النفسية الجاهلية الأوروبية ذاتها، ومستقر في شعورها أو لا شعورها، وبإمكانه أن يقوم بأثر واضح حتى وإن لم يوجد العامل الخارجي المتمثل في موقف الكنيسة.

ذلك أن الإرث الدينى والوثنى في النفسية الأوروبية يصور العلاقة بين الإله والمخلوقين - فيما يتعلق بالعلم والمعرفة -على أنها صراع محتدم وتنافس ضار، الإله يفرض الجهل على الإنسان، ويتعمد تجهيله إلى الأبد بأية وسيلة خشية أن ينافسه على مقام الألوهية، لو وقع فى يده شيء من نور العلم والإنسان يسلك وسائل شتى، ويستعين بوسائط عديدة لكي يستغفل الإله، ويختطف من وراء أسواره شيئاً من العلم يمكنه من التحرر والانطلاق.

أما الإرث الديني فتمثله (قصة آدم عليه السلام) كما رواها سفر التكوين من العهد العتيق: "وأخذ الرب الإله الإنسان، وجعله في جنة عدن ليفلحها ويغرسها، وأمر الرب الإله الإنسان قائلاً: من جميع شجر الجنة تأكل، أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، فإنك يوم تأكل منها تموت موتاً). (وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية الذي صنعه الرب الإله، فقالت للمرأة: أيقيناً قال الله لا تأكلا من جميع شجر الجنة؟ فقالت المرأة للحية: من الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة، فقال الله لا تأكلا منها


(1) العلم والدين في الفلسفة المعاصرة: اميل بوترو: (32).

ولا تمساه كيلا تموتا، فقالت الحية للمرأة: لن تموتا!! إنما الله عالم أنكما في يوم تأكلان منها تنفتح أعينكما وتصيران كآلهة عارفي الخير والشر ورأت المرأة أن الشجرة طيبة للمأكل وشهية للعيون، وأن الشجرة منية العقل فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت بعلها أيضاً معها، فأكل فانفتحت أعينهما! فعلما أنهما عريانان فخاطا من ورق التين وصنعا لهما مآزر. وقال الرب الإله: هوذا آدم قد صار كواحد منا، يعرف الخير والشر، والآن لعله يمد يده فيأخذ من شجرة الحياة أيضاً، ويأكل فيحيا إلى الدهر؛ فأخرجه الرب الإله من جنة عدن".

وأما الإرث الوثني، فخير نموذج له الأسطورة الإغريقية الشهيرة: زيوس هو رب الآلهة والناس جميعاً، وكانت الصراعات بينه وبين الآلهة تنشب باستمرار، وكان بينه وبين الإله (بروميتوس) عداوة أيضاً، فخلق بروميتوس الإنسان من الطين، وعندما انتهى من تشكيله نفخت فيه الروح الإلهة (أثينا)، وحقد (زيوس) على الجنس البشري، وقصد حرمانهم من كل خير في الدنيا، وابتلاهم بحرمانهم من النار التي هي ضرورية جداً للإنسان، ولكن (بروميتوس) سرق النار، من السماء أو من مصنع (هيفايستوس) إله النار والحرف وبخاصة الحدادة، كما علم البشر الفنون والحرف متحدياً الإله الأكبر، فلما تعلم الإنسان ذلك يئس (زيوس) من مقدرته على إهلاكه، لكنه ظل على الدوام يتحين الفرصة للانتقام منه وتقليل فرص المعرفة أمامه، كيلا يتجاوز حدوده فيصبح إلهاً" (1).

هذا ولا يحط من قيمة هذا العامل أن علماء الغرب قد نبذوا الإيمان بالدين والأساطير إيماناً اعتقادياً، وأصبحت قضايا تاريخية وأدبية (فإنه من المشهور في علم النفس أن الإنسان قد يفقد جميع الاعتقادات


(1) انظر مثلاً أساطير الإغريق، (ج5)، سلسلة تراث الإنسانية.

الدينية التي تلقنها أثناء طفولته، بينما تظل بعض الخرافات الخاصة في قوتها تتحدى كل تعليل عقلى في جميع أدوار ذلك الإنسان) (1).

هكذا رسخ في النفسية الأوروبية شعور متأصل بأن كل طفر للإنسان فى مجال العلم والمعرفة إنما هو هزيمة لإرادة الإله، وكل كشف يعرض له إنما هو سرقة واغتصاب من كنزه المحظور؛ ولذلك أصبح أعز أمانيها ليس أن تتحرر من قيود الإله فحسب، بل أن (تقهره قهراً) حسب الاستعمال الشائع لدى العلماء! عند إحراز أي تقدم في أي ميدان، وحتى بعد أن تخلت أوروبا عن عبادة زيوس وجوبيتر، ورفضت عبادة إله الكنيسة معتنقة عبادة (الطبيعة) ظلت هذه الأمنية (قهر الطبيعة) أعظم أحلامها.

يقول كتاب تاريخ البشرية الذي أصدرته اليونسكو: "كانت الفكرة العامة في معظم المجتمعات في الماضي أن الطبيعة موجودة ببساطة تؤثر في حياة الإنسان على نحو لا يتغير، وإزاء قوتها العارمة لم يحاول أن يطوعها كثيراً لاحتياجاته، بل كان عليه أن يكيف نفسه وفق ما يلائمها، ولكن إنسان القرن العشرين قد أخذ بخناق الطبيعة مصمماً على أن يستخرج أسرارها، وأن يستعمل مواردها وأن يقهر آثارها الخطرة" (2).

ويقول نخبة من العلماء السوفيت في كتاب أصدروه: "الطبيعة كتوم لا تبوح بأسرارها، فهى تكتب قوانينها بنظام شفري غامض ثم تحكم غلقها وإخفاءها بعيداً في خزانات متينة،


(1) محمد أسد الإسلام على مفترق طرق: (61).
(2) (6/ 2:1)، (ص:21).

وهي لا تكشف عن أسرارها إلا قسراً، فلا تعطي الباحثين من هذه الأسرار في كثير من الأحيان إلا بدائل للحقيقة فقط" (1).

وهذا يذكرنا بقول (داروين) -أيضاً- أن الطبيعة كانت تكذب عليه مراراً خلال مشاهداته (2).

وإذا كانت هذه هي نظرة العلماء إلى الطبيعة، أي الإله الجميل الذي فروا إلى أحضانه هرباً من سطوة إله الكنيسة، فما بالك بنظرتهم إلى الله تعالى، الذي لا يتبادر إلى أذهانهم عند إطلاقه إلا أنه إله الكنيسة الطاغي الحقود، الذي يتعمد تجهيل الجنس البشري وحرمه من المعرفة؟، لقد ذهب بهم الغلو إلى حد أنهم يرفضون ذكر اسم الله على أي بحث علمي أو فيه، حتى لو كان للتبرك فقط.

ولنفرض أن عالماً لا دينياً قاده عقله ونظره إلى استنتاج حقائق رائعة وأسرار مذهلة؛ لم تملك فطرته حيالها إلا أن تستيقظ قائلة: إن الله هو الذي صنع هذا، وغير سائغ أن ننسبه إلى أي مسمى أعمى غامض كالطبيعة والمصادفة ... إلخ، فماذا يكون موقف (أحرار الفكر العلميين) منه؟

يقول (ليكونت دي نوي): "لا يشعر اللاأدريون والملحدون بشيء من القلق لكون عالمنا المعضي (العضوي) الحي، لا يمكن فهمه بدون افتراض الله، (ويظهر إيمانهم ببعض العناصر الطبيعية التي لا يعرفون عنها إلا النزر اليسير بمظهر إيمان لا عقلي، وهم يشعرون بذلك، وقد ظل بعضهم عبيداً للفظية ساذجة، وقد بدا لي البرهان على ذلك في رسالة تلقيتها بعد نشر أحد مؤلفاتي يوجه إلي صاحبها أشد اللوم، لأنني استعضت عن كلمة


(1) الفضاء الخارجي والإنسان: (25).
(2) فن البحث العلمي و. أ. ب. بفردج: (49).

(مضاد للمصادفة)، وهى مرضية في نظره بكلمة (الله) التي يجب أن تنسخ من المعاجم ويمنع استعمالها)، (ويدل الاعتراض الوارد في الرسالة المذكورة على أن عدم التسامح المنتشر في القرون الوسطى لم يمت، مع أنه انتقل إلى المعسكر الثاني، ولحسن الطالع لا يتمتع مراسلي بالسلطة الكافية لفرض اعتقاداته الصبيانية على مواطنيه باسم العقل، ويمكن التثبت أيضاً من أن بعض (أحرار الفكر) ينظرون إلى الحرية نظرة تشبه نظرة الديكتاتوريين" (1).

وحين رأى أنصار المنهج العلمي أن الذي يدعو الباحثين إلى الإيمان بالله، ونسبة الأفعال الكونية، هو ما يرونه في الكون من دقة وحكمة وإتقان تدل بوضوح على أن له غاية محددة، وهدفاً مقصوداً، مما يدعم الإيمان بالله، لما رأوا ذلك بحثوا عن أجدى السبل للحيلولة دون الوصول إلى هذه النتيجة، فلم يجدوا إلا القول المتعصب المتحكم بأن الوجود ليس له غاية أصلاً، وأن القول بذلك ينافي فن البحث العلمي، وقد عبر بعضهم عن ذلك قائلاً: "إن العلماء يجب أن يتساءلوا عن الكيفية لا عن السبب. إن السؤال عن السبب، يعني أن هناك غرضاً عاقلاً وراء تصميم الأشياء، وأن عوامل فوق طبيعية توجه الأفعال نحو غايات معينة، وهذه هي وجهة النظر (الغائية)، وهى وجهة نظر يرفضها العلم الحالي الذي يجاهد في فهم طريقة عمل جميع الظواهر الطبيعية، وقد أشار فون بروكه إلى ذلك ذات مرة قائلاً: إن الغائية سيدة لا يقدر أي عالم بيولوجي أن يحيا بدونها، ومع ذلك فهو يخجل أن يظهر بصحبتها أمام الناس".

إلى هذا الحد بلغت مصادمة الفطرة، وبلغ إرهاب أعداء الدين


(1) مصير الإنسان: (275/ 277).

لمن يسايرها، وهو إرهاب معنوى يقوم بالدور نفسه الذي كانت السلطة الكهنوتية تمارسه، كما أن لأحرار الفكر طغيانهم الفكري الذي يضارع طغيان الكنيسة، وكيف لا يكون كذلك وهو إنما نشأ رد فعل له؟ فحين تفرض الكنيسة بالقوة أن يؤمن الإنسان بالثالوث رغم أنفه، كذلك يوجب هؤلاء أن يكون الإنسان ملحداً رغم أنفه، والفرق بينهما هو مصدر الإرغام فقط.

يقول وليم جيمس: "لا يزال بعض رجال المذهب الوضعي ينادي اليوم قائلاً: هناك إله واحد مقدس يقف في جلاله وعظمته بين أنقاض كل إله غيره وكل وثن، وهو الحقيقة العلمية، وليس له إلا أمر واحد وقول واحد وهو: أن ليس لكم أن تؤمنوا بإله" (1).

وعندما يحرج الباحث العلمي في مأزق لا يستطيع معه إلا أن يقول: (الله) كما في مسألة نشأة الحياة، وأصل الكون وأمثالها، فماذا يصنع؟ أيساير العقل والفطرة فيصرح بذلك، ويعد نفسه مخلاً بأسلوب البحث العلمي، ومقصراً في متابعة المنهج العلمي السليم، أم يتوقف عن المسألة نهائياً؟

إن رواد الفكر الحر! قد سبقوا إلى حل المعضلة، ووضعوا أمام الباحث خياراً بين أساليب أحلاها مر، معتقدين أنها تؤدي إلى المقصود دون إخلال بالمنهج العلمي منها:

1 - استعمال صيغة الفعل اللازم وإسناده إلى ما حقه أن يكون مفعولاً في الأصل، ويظهر ذلك جلياً

في أسلوب (جيمس جينز) عند حديثه عن نشأة الحياة الأولى، فهو يقول: "الأرض مغطاة بالسحب بشكل يسمح بنفاذ ضوء الشمس ويجعل درجة الحرارة ثابتة رغم شدة البرد ليلاً ...


(1) العقل والدين: (98).

اتحد ثانى أكسيد الكربون الموجود في الهواء مع بخار الماء الذي انبعث من أحد الينابيع الحارة بواسطة الشمس ...

نشأ من ذلك هلام يتكون من مواد كربوايدراتية، أمتصت هذه المادة النيتروجين من بعض مركبات النشادر ...

نشأ أول كائن مفترض وهو (البيرثبيون)، وصادف أن زحف فوقع على جزيء من الطعام فامتصه.

تحول هذا الكائن إلى (البروتوزون)، وهو أدنى الحيوانات الموجودة" (1).

وكقول (أوبارين): "نشأت الحياة على الأرض من تطور المادة غير العضوية نتيجة لسلسلة من التفاعلات الكيميائية" (2).

2 - استعمال كلمة (الطبيعة) ذلك المعبود الذي أشرنا إلى ظروف تأليهه سابقاً. وذلك كالعبارة المشهورة عن داروين (الطبيعة تخلق كل شيء، ولا حد لقدرتها على الخلق).

وكقول هيكل (صاحب نظرية الأثير): "الطبيعة تحتوي في ذاتها على كل القوى المطلوبة لإحداث جميع صور الوجود فيها، والأنواع ينشأ بعضها من بعض بالتحول طبقاً لقوانين، وتبعاً لترتيب في الإمكان منذ الآن تحديده ... ، فلا شيء في الطبيعة لا يفسر بالطبيعة ولا شيء تقدم على الطبيعة ولا شيء يسمو عليها، فالطبيعة عند من يعرف قوانينها، وبخاصة الانتخاب الطبيعي والتطور هي ذاتها التي خلقت نفسها" (3).


(1) تاريخ العالم (1/ 94 - 95).
(2) سلسلة تراث الإنسانية: (2/ 174).
(3) العلم والدين في الفلسفة المعاصرة: (أميل بوترو): (105 - 106).

وهذا الأسلوب أكثر الأساليب استعمالاً، وهو الذي امتلأت به الكتب (العلمية)، وتؤثره المناهج الدراسية على كافة المستويات.

3 - استعمال صيغة الفعل المبنى للمجهول للتخلص من نسبة الفعل إلى فاعل ما، وذلك كما في قول (جوليان هكسلي): "توجد مجموعات لا حصر لها من الظروف المختلفة، والتي يمكن أن تتلاءم معها الحياة)، وقوله: (الطريقة المتقنة التي خلق بها الإنسان وتركيبه الطبيعي يمكن أن تدرك فقط بوضوح بالنسبة لبيئته" (1).

4 - استعمالات أخرى هي أشبه ما تكون بصفات غير صحيحة لله تعالى؛ مثل الاصطلاح الذي أطلقه (أدنكتون): (مضاد للمصادفة)! (2) ومعلوم أن المضاد لها هو الحكمة والتدبير.

هذا وليست معضلة أصل الحياة هي المشكلة الوحيدة التي تواجه (المفكرين الأحرار)، ولكنها من أكثر المشاكل إثارة للتخبط والاضطراب بينهم، وهى تصلح نموذجاً للمنهج اللاديني الذي يأبى التسليم بأية قوة غير مادية لا تنتظم مع آليته الجامدة.

فقد كانت النظرية السائدة في القرن التاسع عشر هي نظرية (التولد الذاتي) التي اشتهر بها (أغاسيز) ومؤيدوه، وظل الماديون متشبثين بها بإصرار وعناد في مقابل القائلين بالخلق الإلهي، حتى انهارت وتقوضت دعائمها على يد (باستور) بعد سلسلة من المشادات والتجارب تؤلف قصة رائعة (3).

حينئذ لم يجد الملاحدة ما يسترون به عورتهم إلا نسيجاً مهلهلاً


(1) العلم أسراره وخفاياه (570 - 578).
(2) مصير الإنسان: (71).
(3) انظر فصل (باستور) مواقف حاسمة في تاريخ العلم: جيمس. ب. كونانت.

أسموه (نظرية المصادفة)، وكان أشهر أبطال النظرية من إنجلترا أمثال (جيمس جينز) و (برترداند رسل) ولا تزال -حالياً- أوسع النظريات انتشاراً بين علماء الأحياء المعاصرين لاسيما في أمريكا.

ولكن هذه النظرية أثارت من علامات الاستفهام مما جعلها عرضة للنقد والتشهير، وتوالت البحوث المضادة لها حتى استطاع العالم السويسرى الشهير (شارل أوجين جي) أن يسدد إليها ضربة قاضية في منتصف هذا القرن، فقد أثبت بالأساليب الرياضية التي لا مراء فيها أن هذه النظرية غير علمية على الإطلاق، وأن حجم الكون الذي يمكن أن تنشأ فيه أدنى درجة من الحياة بطريق المصادفة هو أكبر من حجم كوننا حسب تقدير (ألبرت آينشتاين) بأرقام لا يمكن التعبير عنها بالألفاظ.

(كرة نصف قطرها = 10 أس 82سنة ضوئية) (1).

وبذلك وقع الماديون في مأزق جديد أشد حرجاً، وكان المفروض أن ينتقلوا إلى الاحتمال الحقيقي، وهو الخلق الإلهي، لكن الغرور والتعصب جعلهم ينتكسون مرة ثانية إلى القول بنظرية التوالد الذاتي، مع محاولات يائسة وتفسيرات جديدة للخروج من التناقض، الذي يقعون فيه نتيجة إيمانهم اليوم بما ثبت بطلانه بالأمس.

ولنأخذ -مثلاً- لهذا التفكير المنتكس رجلين أحدهما من كبار علماء الحياة في الغرب، والآخر رئيس الأكاديمية العلمية السوفيتية.

أما الأول فهو (جورج والد) وقد أسهب في الحديث عن نظرية التولد الذاتي، وفصل القول في قصة تهافتها وانهيارها، لكنه عاد ليقول:


(1) أي: (10) أمامها (82) صفراً. انظر مصير الإنسان: (65 - 66) وانظر كذلك العلم يدعو للإيمان، كريس موريسون، والله يتجلى في عصر العلم، مجموعة من العلماء.

"ونحن ننقل إلى المبتدئين في علم الأحياء هذه القصة لتمثل انتصار العقل على الاعتقاد، وهي تمثل في الحقيقة عكس ذلك تقريباً، فالنظرة الصائبة هي الاعتقاد في التولد الذاتي، والبديل الآخر الوحيد لها هو الاعتقاد في الخلق الخارق للطبيعة الذي يعد حدثاً فريداً وأساسياً، ولا يوجد بديل ثالث لهما؛ ولهذا السبب فقد اعتبر كثيرون من المشتغلين بالعلوم منذ قرن مضى عقيدة التولد الذاتي كضرورة فلسفية. وإن من أعراض عجزنا الفلسفى حالياً أن هذه الضرورة فقدت تقديرها.

(وبرغم أن أحدث المشتغلين بعلم الأحياء قد أثلج صدورهم انهيار عقيدة التوالد الذاتي، فإنهم ليسوا على استعداد لتقبل العقيدة البديلة لها وهي الخلق الخاص، ومن ثم فقد فقدوا جميع الاحتمالات!.).

(وإنى لأعتقد أن ليس ثمة اعتقاد بأنه اختيار أمام المشتغل بالعلوم سوى أن يتفهم أصل الحياة عن طريق فرض التولد الذاتى، ويبدو التعارض -فيما أبديناه سابقاً فقط- في الاعتقاد أن المعضيات الحية تبعث تلقائياً في الظروف الحالية، ومن ثم فلابد لنا من مواجهة مشكلة مختلفة نوعاً ما؛ وهي كيف يمكن أن تبعث الكائنات تلقائياً في الظروف المختلفة في فترة غابرة وتعجز بعد ذلك عن إبداء هذه المقدرة) " (1).

ورأى والد: (أنه لو استطاع العلم أن ينتج في المعمل مادة حية من أبسط المواد تركيباً وهي مادة ( D.N.A) فإن معضلة النشوء الذاتي ستحل، وسترتقي الفرضية إلى درجة الحقيقة العلمية).

وأخيراً ... وبعد أن أجهد نفسه في بحوث عقيمة حول ذلك اعترف بعجزه بمرارة، ولكنه لم يثب إلى رشده، بل أخذ يمني نفسه، ويعلل


(1) العلم أسراره وخفاياه: (304).

المتطلعين إلى نتائج هذه التجارب بأن النشوء الذاتى ممكن علمياً، ولكن للأجيال القادمة، وبشرط واحد فقط: هو أن تكون التجربة على غير هذا الكوكب فهو يقول: "إذا عجزنا عن تحقيق ما نتمناه فليس معناه أننا فقدنا كل شيء، فسلالتنا البشرية سوف تحاول مرة أخرى في غير هذا المكان" (1).

والنتيجة نفسها تكررت مع الشاهد الآخر (أوبارين)، فقد كلفه (استالين) أن يثبت علمياً بأن الحياة نشأت تلقائياً من المادة ليدعم بذلك العقيدة الرسمية للدولة.

وفعلاً أمضى أوبارين وأعضاء أكاديميته (20) عاماً في محاولات دائبة غير مجدية، إلا أنه في سنة 1955م قال: "إن النجاح الذي حققته علوم البيولوجيا السوفييتية حديثاً يؤيد (الوعد) بأن مسألة خلق كائنات حية بسيطة بطرق صناعية ليس ممكناً فحسب، بل سيتحقق عما قريب".

وظل الناس يترقبون هذا الوعد، ومات استالين قبل أن تقر عينه بتحقيقه، وفي سنة 1959م في المؤتمر الدولي للبحار بنيويورك لم يفاجئ أوبارين العلماء بقوله: "إن جميع المحاولات التي أجريت لتوليد الحياة من مواد غير عضوية سواء تحت ظروف طبيعية أو في المعمل قد باءت بالفشل" (2).

وبالرغم من هذه الخيبة فلم يرعو عن غيه، ويؤمن بالخلق الإلهى، بل وعد وعداً آخر بأن في الإمكان توليد الحياة بشرط أن تكون المحاولة


(1) المصدر السابق: (318).
(2) سلسلة تراث الإنسانية: (2/ 180).

على كوكب غير الأرض، وذلك نظراً لأن ظروف المجتمع الحالية لم تعد مهيأة لذلك) (1).

ومعنى كلام هذين العالمين: (إن على المرء أن يؤمن بنظرية التولد الذاتي رغم أنفه، فإذا ساوره الشك في صحتها، ورغب التأكد من ذلك، فما عليه إلا أن يحزم أمتعته، ويستعد للقيام برحلة فضاء في أعماق الكون حتى يصادف كوكباً تشابه ظروف الأرض عند نشوء الحياة الأولى عليها، أو ينتظر حتى تأتى الأجيال القادمة وتقوم بهذه الرحلة، وحينئذٍ سيتأكد لديه تماماً أن نظرية الخلق الإلهي نظرية رجعية، وأن نظرية التولد الذاتي نظرية علمية صحيحة (100%)!!

على أن هناك حقيقة كبرى غابت عن ذهن العالمين العبقريين، وهى أنهما لو استطاعا -فرضاً- تحضير مادة حية في المعمل من المواد غير العضوية لما قالا: إن شيئاً من المصادفة أو النشوء الذاتي أو الطبيعة هو الذي أنشأها، بل سيقولان بتبجح: إن ذلك نتيجة جهودنا وثمرة بحوثنا الدائبة.

ولعل مسألة أصل الحياة تلقي الضوء على الأسلوب الذي ينتهجه الماديون، والمنهج الذي يطبقه الباحثون اللادينيون في ميدان التعليم والبحث، وهو المنهج الذي يفرض على أتباعه الانسلاخ والتجرد عن كل موحى من موحيات الدين مهما أيدها العلم، وهتفت لها الفطرة، ويلجئهم إلى الهروب من الإيمان بالله، وإن أدى بهم ذلك إلى ارتكاب حماقات لا تليق بألقابهم العلمية العريضة.

وإذا كان علم القرن العشرين في أوروبا عامة يرفض التحالف مع الدين، فإن للعمل داخل الستار الحديدى وضعاً أشد تطرفاً وأسوأ


(1) انظر: الله جل جلاله-سعيد حوى: (57).

استخداماً ... ففي الوقت الذي يرفع فيه علماء الغرب الديمقراطي شعار (العلم للعلم) نجد العلماء السوفيت يرفعون شعار (العلم للعقيدة)، وفي أوقات أكثر صراحة يقولون: (العلم للحزب)، وقد صرح أحد علماء روسيا قائلاً: "العلم السوفييتي إنما هو علم حزبي، علم طبقي)، وأخذ يندد بما عدا ذلك من الشعارات معلناً أن ما يقال عن دولية العلم وكليته كلام فارغ، تستخدمه الطبقة البرجوازية ومن يصغون لها مذاهبها".

ويقول رئيس أكاديمية العلوم السوفيتية سنة 1929:

(إن الفيزياء السوفييتية كالعلم السوفييتى دخلا في حياة الدولة منذ زمن بعيد، ووجها كل قواهما إلى خدمة بلدنا هذا لاستيفاء كل الحاجات اللازمة لبناء مجتمع شيوعي).

(والفيزياء الشيوعية تبني عملها على ما اعتنق العالم من المادية المنطقية، تلك التي رفع من أمرها تآليف لينين واستالين، وهي تآليف أمدتهما العبقرية فيها بروح منها) (1).

والعجيب في أمر علماء الشيوعية -وكل أمرها عجب- أن نتائج بحوثهم معروفة لهم سلفاً، فمن المحال أن يخرج أي كشف من كشوفهم عن الدائرة التي رسمها لهم الحزب الشيوعي، أو يصادم أي رأي من آراء ماركس وإنجلز العلمية بالرغم من أن أقصى ما وصل إليه عصرهما من علوم لا يساوي شيئاً إذا قورن بالمستوى الحالي في كل الميادين، ولا يستثنى من ذلك إلا التنقيحات والتعديلات التي أجريت رسمياً على يد لينين واستالين.

ولذلك فإن هذا الجمود الأعمى كان ولا يزال محط نقد وتشهير


(1) هو وما قبله: مواقف حاسمة في تاريخ العلم: (489 - 490).

كثير من المفكرين الشيوعيين، لا سيما من كانوا خارج الستار الحديدى.

وقد سمى روجيه غارودي هذا النوع من العبودية الفكرية مرة (المعتقدية)، ومرة (الأفكار اللاهوتية) يقول غارودي:

(وهكذا قبلنا في حماس -حتى دون أن تفرض علينا- بالمعتقدية الستالينية، وكانت هذه الستالينية مركزة كلها في عشرين صفحة خاطفة يفترض أنها تضم خلاصة كتب الحكمة الفلسفية، وكما كانت هناك كتب تعلمك (اللاتينية بلا دموع)، وأخرى تعلمك (اليونانية وأنت تضحك)، كانت هذه الصفحات تضع الفلسفة في متناول الجميع وفي ثلاثة دروس:

الدرس الأول: في الأمور العامة (الأنطولوجيا) مبادئ المادية الثلاثة.

الدرس الثانى: في المنطق: قوانين الجدلية الأربعة.

الدرس الثالث: في فلسفة التاريخ: المراحل الخمسة لصراع الطبقات.

وطوال العهد الذي سيطر عليه هذا الأسلوب من التفكير لم يكن هناك من فلسفة ماركسية.

بل هذا مدرسوي (1) يزعم أن عنده الجواب على كل الأمور دون أن يعرف طبيعتها من علم الحياة إلى فلسفة الجمال مروراً بالزراعة والكيمياء (2).

وكان استالين يفرض على العلماء نتائج معينة يجب عليهم الكدح الدائب لإثباتها علمياً -كما سبق في مسألة أصل الحياة- كما أن موضوع قوانين الوراثة يعتبر مما يثير السخرية البالغة، فالعقيدة الماركسية تنكر بشدة أن يكون للعوامل الوراثية من الأثر ما يزعمه علماء الوراثة


(1) الفلسفة المدرسية هي فلسفة القرون الوسطى الأوربية.
(2) ماركسية القرن العشرين (34 - 35).

البورجوازيون في الغرب، لأن ذلك يضعف قيمة العامل الاقتصادي البيئي الذي هو كل شيء في نظرها، لذلك فإن استالين حسب تعبير رسل قد تمادى حتى أصدر قراراً بأن قوانين الوراثة الطبيعية يجب أن تصير -من الآن فصاعداً- مغايرة لما كانت عليه، وإن على الخلايا ناقلات الوراثة أن تنصاع للقرارات السوفييتية لا لذلك القس الرجعي مندل (1).

وقد أوضح - آرثر كستلر- العضو السابق للحزب الشيوعي - المآسي التي يتعرض لها العلماء السوفييت الذين تقودهم تجاربهم إلى نتائج مغايرة لسياسة الحزب الرسمية، مهما كان مجال عملهم علمياً بحتاً كالكيمياء والفيزياء، فما بالك بمن يوصله بحثه إلى شيء من الإيمان بالله أو الدين؟!

إن مثل هذا الشقي سيتلقى جزاءً رادعاً، ولا يشفع له ما أمضاه من سني عمره في خدمة الحزب الشيوعي (2).

ونستطيع أن نقول: إن طبيعة المنهج اللاديني في العلم والبحث تفرضها في الغرب الرأسمالي دوافع نفسية وعوامل تاريخية موروثة بينما تفرضها في الشرق - بالإضافة إلى ذلك - القوة الإرهابية للبوليس السري.

أثر الفصل بين العلم والدين في المجتمع المعاصر:

عندما انتصر العلم الحديث على خرافات الكنيسة وأساطير القرون الوسطى الأوروبية وهدم أساليب البحث وطرق الاستنباط المدرسية التقليدية كان ذلك بلا ريب نصراً كبيراً للإنسانية في كل مكان، وفتحاً جديداً في عالم المعرفة والنور.

لكن هذا النصر والفتح اختفيا تحت ركام الاستغلال البشع لما أنجزه الإنسان من تقدم في المعرفة، استخدم للقضاء على الدين ذاته ودك أسسه باسم العلم.

لقد صورت المعركة التاريخية بين العلم وبين الخرافة على أنها معركة حقيقية بين الدين والعلم، ونتيجة لذلك افتعلت عداوة أبدية بين خصمين لم ينشب بينهما شجار على الإطلاق، ولا يمكن أن يكون بينهما خصام في وضع سوي على الإطلاق.

وأياً ما كان الأمر فقد نجح المغرضون والهدامون - من الموتورين بطغيان الكنيسة وأعداء الجنس البشري المتربصين - في اختلاق هذا الخصام النكد، وزحزحت حقائق وقيم الدين من ميدان العلم والبحث، وظل العلم يمارس عمله متخبطاً في دائرة مغلقة لا علاقة لها بدين أو خلق، ولا تهدف إلى غاية أسمى ومثل أعلى، فماذا كانت النتيجة؟


(1) العقل والمادة: (305 - 306) ? ومندل هو مكتشف قانون الوراثة في القرن الماضي.
(2) انظر: االصنم لذي هوي (76)، وكذلك مواقف حاسمة في تاريخ العلم (49) فصاعداً.

إن بعض المنتسبين للعمل يعتقدون عن طيب خاطر، أنهم قد أحسنوا صنعاً بعزل العلم عن الدين، وإن إشفاقهم على الدين من مواجهة العلم هو الذي دفعهم إلى المناداة بالفصل التام بينهما، وهي دعوى تجد آذاناً مصغية لدى بعض المنتسبين إلى الدين كذلك.

ولكن الواقع المحسوس في أوروبا يكذب هذه الدعوى فوق أنها في الأصل تنم عن الجهل بالدين أكثر مما تدل على الحرص عليه، ولقد كان بوترو على حق حين قال ناقداً هذا الاتجاه في القرن الماضي:

(لم يعرف العلم ولا الدين أن يقتصر كفايته وعمله على ماله من ميدان فسيح، أما الحكمة الجارية (اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله) فقد فسرت في ذلك الوقت لا على أن الملكات الدينية في الإنسان ليس لها شأن بملكاته العلمية فقط (1).

بل على أنه يوجد في الأشياء نفسها عالمان هما الفكرة والمادة، الميدان الروحي والميدان الزمني، وليس لأحدهما أن يتدخل في شأن الآخر بأي وجه من الوجوه، ولكن هذا الفرض إذا كان توفيقاً مريحاً فليس هو الحقيقة الواقعة، بل يكاد يكون عكس هذا هو الواقع " (2).

إن أصحاب هذا الاتجاه قد ارتكبوا غلطة كبرى -وهي من الغلطات الرئيسية للجاهلية المعاصرة- وذلك بتوهمهم أن النفس البشرية تقبل التجزئة، ويمكن أن يكون لكل جزء منها دائرته الخاصة، لقد كان أول ثمار هذا الفصل أن فشا الإلحاد بشكل


(1) حتى على هذا التفسير تظل العبارة مرفوضة من وجهة النظر الإسلامية.
(2) العلم والدين: (38).

لم يعرف التاريخ له مثيلاً، وقوضت دعائم الدين، واجتثت تصوراته وإيحاءاته الأخلاقية باسم العلم والمعرفة، وطبقت أوروبا عملياً النصيحة التي أسداها هيكل؛ وهي أن التعليم أعظم عمل يقوم به المجتمع الذي يرغب في التخلص من الأديان (1).

فكان أن جردت المناهج التعليمية، وكذلك البحوث والدراسات العامة من كل معنى ديني، وأصبحت علمانية بحتة، ووضع التناقض النفسي الشاب المثقف أمام خيار صعب بين الإيمان بالله مع وصمة الرجعية والجمود، وبين الإلحاد المقرون بالتنور وحرية الفكر، واختارت الأغلبية الساحقة الإلحاد فراراً من التهم الملصقة بالمؤمنين وتمشياً مع ما سمي التطور والعصرية.

يقول جود: "لا أستطيع أن أعد أكثر من ستة من معارفي ممن أعدهم مؤمنين بالمسيح والمسيحية، في حين أستطيع أن أعد بسهولة أكثر من مائة من معارفي الملحدين ... أصبح من النادر أن تجد مثقفاً متديناً ... أصبح الذين يذهبون إلى الكنيسة هم في الأغلب من الطاعنين في السن أو النساء غير المثقفات؛ وهم مع ذلك لا يزيدون على العشر (أي من سكان بريطانيا " (2).

وحول ما أسماه كاتبوه: نظرة الناس إلى آلهتهم في القرن العشرين، كتب مؤلفو تاريخ البشرية الذي أصدرته منظمة اليونسكو: "مع أن يقينيات علم نيوتن في القرن التاسع عشر قد حلت محلها النسبية العلمية واللايقين، فقد زاد تغلغل العلم في المناطق التي كان يحتلها الدين، حين اتجه أصحاب البيولوجيا والكيمياء إلى فهم


(1) المصدر السابق: (114).
(2) الجفوة المفتعلة بين العلم والدين: (11).

طبيعة الحياة، وحين وصل علماء الفلك إلى مكتشفات جديدة حول أصول العالم المحتمل ومستقبله، وحين تغلغل علماء النفس في أغوار الانفعالات وشبه الشعور واكتشفوا منطقة التدين، وحين أدى تزايد حجم المدن الصناعية باستمرار إلى وجود مجتمع غير ملائم دينياً مؤثر في عدد متزايد من سكان العالم. وفي المناطق التي يسيطر عليها الشيوعيون نشرت المعارف العلمية عن العالم والمجتمع، لتكون وسيلة لمحاربة العقائد الدينية، وأصبح ينظر إلى المؤسسات الدينية على أنها ستار للاستغلال البورجوازي الذي لا مكان له في المجتمع الحديث" (1).

والنتيجة التي حدثت في المجال العلمي التجريبي نفسها حدثت في مجال الفلسفة النظرية، فقد وقع ديكارت في الغلطة نفسها باعتقاده أن الثنائية بين العلم والدين -كما حاول أن يحدد فلسفتها- ستحول دون انهيار المسيحية، وتتيح لكل من الدين والعلم الحرية في مجاله الخاص، ولكن آل الأمر إلى أن تقول الفلسفة الحديثة: "يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني ... بأنه موقف تجرد ونظر خالص، فهو يرى أن مسألة الله بأسرها من حيث وجوده، ومن حيث طبيعته معاً هي مسألة مفتوحة تماماً".

فالفلسفة لا تعرف أموراً مقدسة لا يمكن الاقتراب منها، والمفكر الميتافيزيقي لا يشعر عند معالجته لمفهوم الكائن الأسمى بخشوع يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى من تلك المسائل القصوى التي يحار لها ذهن الإنسان.

وإن من أول ما يتعلمه دارس الفلسفة أن نفس وجود ميدان


(1) (6: 2 - 1) (ص:290 - 291).

الفلسفة هذا بوصفه نشاطاً عقلياً له دلالته، يتوقف على حقنا في مناقشة أية فكرة أو أي تصور أو أي قيمة أو قانون أو نشاط أو نظام داخل في نطاق التجربة البشرية، وكما يقال أحياناً على سبيل المزاح: فحتى الله نفسه ينبغي أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة (1).

وهناك مشكلة أخرى هي في الواقع امتداد للمشكلة سالفة الذكر، وهي نفي الغائية التي تبناها العلميون منهجياً كما سبق، فقد مدوا نطاقها حتى ألف الناس أن يسمعوا منهم أن وجودهم على هذه الأرض لا غاية له ولا هدف، بل قذف به سير التطور البطيء الطويل صدفة واتفاقاً؛ أو حسب رأي هيكل أن الإنسان في ضوء الفلسفة العلمية لن يكون مركز الكون وغايته، بل حلقة في سلسلة الكائنات كما تتصل الديدان باللافقاريات أو الأسماك بالديدان، وليس امتياز الإنسان إلا حالة من التقدم الاستثنائي الذي امتازت به الفقريات على أنواع جنسها خلال التطور العام (2).

وقد عاد ذلك بأسوأ الأثر على الأخلاق والقيم الإنسانية التي ظل بنو الإنسان محتفظين بها منذ وجدوا على الأرض، وخرجت في أوروبا أجيال آمنت بالعبثية والعدمية والفوضوية والوجودية وأضرابها من أشكال الفلسفات العابثة التائهة، وعمت موجة غريبة طاغية من التبرم والضيق بالحياة، ومحاولة الهروب من السير في جادتها، وأصبح التخلص من التفكير في ذلك هو الغاية الكبرى لكثير من الناس، لا سيما ذوو الإحساس المرهف.

وتنغصت حياة الناس بقلق وذعر لا يكادون يستبينون مصدريهما، وأخذت تعصف بهم دوامة من الحيرة والضياع تزداد سعاراً كلما تذكروا أن وجودهم في هذه الدنيا لا يزيد هدفاً وحكمة عن وجود أدنى الديدان وأحط الحشرات.

ونتج عن ذلك -مما نتج- أن استهان الفرد بنفسه، وفقدت حياته معناها وقيمتها، فأصبح الانتحار بوسائله المتعددة أمراً مألوفاً، بل أصبحت المسابقات والمباريات الفردية والجماعية تعتمد بالدرجة الأولى على المخاطرة والزج بالنفس في الأهوال، واستأثرت مناظر العنف باهتمام الناس سواء أكانت على الطبيعة أم في وسائل الإعلام.

وقد ضج كثير من الباحثين المشفقين لهذه المآسي المروعة، وعلى رأسهم الدكتور إليكسس كاريل، وتلميذه ليكونت دي نوي الذي ألف حول هذا الموضوع كتابه الشهير مصير الإنسان، وهذه بعض أقواله في مقدمته: "كان نمو الجبهة المادية من الحضارة ابتدءاً من منتصف القرن التاسع عشر قد أثار اهتمام البشر، وجعلهم ينتظرون بشيء من القلق ما يتمخض عنه الغد من معجزة، فلم يبق لهم الوقت الكافي للاهتمام بالمشاكل الحقيقية، أعني المشاكل الإنسانية، وقد تعاقبت الاكتشافات الرائعة المدهشة بدون انقطاع منذ سنة 1880 إلى سنة 1915م، فبهرت عقول الناس كما يبهر أول مشهد من السيرك عقول الأطفال، وأنستهم المأكل والمشرب، وقد أصبح هذا المشهد الجسيم رمزاً للواقع، وصرف النظر عن القيم الحقيقية وقد طمسها نور الكوكب الجديد ... لقد شعر الكثيرون بالخطر المحدق وأنذروا به، غير أن أحداً لم يصغ إليهم، لأن معبوداً جديداً غريباً كان قد ولد، ولأن عبادة جديدة قد طغت على الشعب هي عبادة المستحدث".

 


(1) الفلسفة أنواعها ومشكلاتها: (38)، ولا يخفى ما في هذا الهراء من التناقض والسخف اللذين لا داعي لهما إلا الغرور الكاذب والجرأة الوقحة.
(2) العلم والدين: (105).

"وكان من الطبيعي أن يتحول تدريجياً الاحترام الذي كان يستأثر به الكهنة دون سواهم، إلى أولئك الذين أفلحوا في تسخير قوى الطبيعة وكشف بعض أسرارها، وهكذا انتشرت المادية ويا للأسف ليس بين العلماء فحسب، بل بين الشعب أيضاً".

((إن القلق العصري ناتج -على الأخص- عن أن الذكاء حرم الإنسان كل مبرر لوجوده بأن قوض باسم علم لا يزال في المهد أسس التعاليم التي ظلت -حتى اليوم- تعطي الحياة الفردية معنى الجهاد، وتشير إلى هدف سامٍ يجب بلوغه وهي الأديان)).

((إن نكران حرية الإرادة ونكران التبعية الخلقية، واعتبار الإنسان مجرد وحدة فيزيائية كيماوية وجزءاً من مادة حية قل أن تتميز عن الحياة، كل هذا يؤدي حتماً إلى موت الإنسان الخلقي وخنق كل روحانية وكل أمل فيه، ويؤدي إلى ذلك الشعور الرهيب الموهن بالبطلان الكامل)).

والواقع أن ما يميز الإنسان كإنسان هو وجود الفكرة المجردة والخلقية الروحية فيه، وهو إن فخر فإنما يفخر بها، وحقيقة وجودها لا تقل عن حقيقة وجود الجسد وهي التي تعطي الجسد قيمة لا يحصل عليها بدونها (1).

ومن جهة أخرى كتب مؤلفو تاريخ البشرية المشار إليه سلفاً يقولون: "إن سيطرة الإنسان على الطبيعة قد كانت من أسباب زلزلة يقينه فيما يتعلق بغاية الحياة الإنسانية؛ ذلك أن الإنسان كان راضياً بما كتب له، وبأن مصيره يُحدَّد بقوانين أخلاقية عليا من عند الله، فكان يشعر بأنه يخدم غرضاً سامياً إذا هو سار على هدى الأخلاق الكريمة، وهكذا


(1) مقتطفات من (9 - 17).

نرى أن ارتفاع مكان الإنسان في مواجهة الطبيعة قد أعطاه إحساساً كبيراً بقوته الخاصة، ولكنه لم يمنحه الضوابط الأخلاقية لحسن استخدام هذه القوة".

ولما كان كل اكتشاف أو اختراع جديد يأتي معه بأخطاء كبيرة تحدق بالإنسان، فقد انتابت الإنسان آمال كبرى، وكأنما قد فتحت له فردوساً جديداً لم يكن يخطر له على بال، ولكن ظهرت بظهورها أخطار كثيرة غير إمكانية استخدامها عمداً لأغراض التدمير والخراب.

وقد أخذ الناس يتساءلون: ترى هل حياتهم لها غاية؟ أم أن البشرية إنما تسير إلى الأمام بلا تبصر، يدفعها إلى الحركة ذكاؤها القلق الذي لا يستقر على حال؟ وما هي واجبات الإنسان نحو إخوته من البشر؟ ما هي المبادئ الأخلاقية التي تستطيع أن تهدي الإنسان إلى خير السبل لاستخدام مقدراته الجديدة؟ كيف يستطيع مع استخدام هذه القدرات أن يختار السبيل المؤدي إلى خير البشر؟ (1).

وكان من الآثار السيئة - كذلك - لفصل العلم عن الدين ذلك التخبط المزعج الذي وقع فيه من يسمون علماء، خصوصاً فيما يتعلق بالشئون التي لا يستطيع الإدراك البشري منفرداً أن يسبر أغوارها.

فمثلاً: تعددت النظريات حول نشأة الكون إلى درجة تجعل أي مطلع عليها يشك فيها كلها، ومع ذلك فوجهات النظر فيها أقل اختلافاً منها فيما يتعلق بالنفس البشرية وسلوك الإنسان وانفعالاته وشعوره وحريته وإرادته، ففي الغرب اليوم عشرات المدارس النفسية ومئات الاتجاهات الفلسفية، كل منها يفسر الإنسان تفسيراً خاصاً، ويعالجه من وجهة نظر مغايرة، ويكفي شواهد على ذلك التحليلية والسلوكية والروحية والعبثية والوجودية والبراجماتية ... و ... إلخ.


(1) (6: 2 - 1) (ص:22).

وكذلك الشأن فيما يتعلق بالبحوث والدراسات الاجتماعية، فهناك عشرات من المدارس الكبيرة ينضوي تحتها ما لا يحصى من الاتجاهات الأقل شأناً، ومن أشهرها: المدرسة الاجتماعية المتطرفة دور كايم، والمدرسة النفسية جبرائيل تارد، والمدرسة العضوية سبنسر، والمدرسة الآلية باركلي، سيمون، والمدرسة الحيوانية الداروينيون، والمدرسة الفوضوية باكونين ... وكل مدرسة تلعن أختها (1).

أما الاضطراب حول الذات الإلهية فأوسع من أن يحصر، فإضافة إلى الذين ينكرون وجود الله -تبارك وتعالى- نجد من يقترح أن يكون الأثير العام هو الإله الذي يمكن أن يوفق بين العلم وبين عقائد رجال الدين، (2) ومن يرى أن الله تعالى هو المركز الذي تنبع منه العوالم كما تنبع الصواريخ من باقة عظيمة مع مراعاة أن هذا المركز ليس شيئاً، بل هو انبثاق مستمر أو نبع متواصل، (3) كما بعثت الفلسفات الصوفية القديمة، لا سيما وحدة الوجود، وسئل بعضهم، فزعم أن الإنسان هو الإله على الحقيقة! (4) بينما اكتفى آخرون بترديد لفظ الطبيعة وغلا فريق منهم في الشك حتى زعم أن الكون كله وهم لا حقيقة له، ولا وجود لشيء خارج الذهن، وليس هناك حقيقة موضوعية على الإطلاق، (5) ووصل الجنون ببعضهم إلى حد أن ادعى أنه هو الله -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، (6) أما الحيارى التائهون فجموع لا تحصى.


(1) انظر على سبيل المثال: علم الاجتماع ومدارسه د. مصطفى الخشاب.
(2) هو آرنست هيكل. العلم والدين. وليم جيمس: (89).
(3) برجسون. سلسلة ترث الإنسانية: (2/ 448).
(4) منهم نيتشه ثم جوليان هكسلي.
(5) من هؤلاء جيمس جينز: انظر الله يتجلى في عصر العلم: الفصل الأول.
(6) منهم نجنسكي. انظر اللامنتمي: كولن ولسن: (49).

وكان من نتيجة النفور الشديد من الدين أن أقحم بعض المنتسبين إلى العلم أنفسهم فيما لا يقع في دائرة عملهم، وأخذهم شعور من الغرور الكاذب جعلهم يجزمون بأمور لا يملكون عليها أي برهان، ويتوقعون للعلم البشري أن يحيط بعالمي الغيب والشهادة.

يقول رسل: "القول بأن الإنسان حصيلة أسباب غير مقصودة أو أن أصله ونشأته وآماله ومخاوفه وميوله ومعتقداته هي حاصل التركيبات الذرية العرضية، وأن لا النار ولا البطولة ولا حدة التفكير والشعور تستطيع أن تحفظ حياة الإنسان بعد القبر، وأن كل جهد الإنسان على مر العصور وكل العبادة وكل الإلهام وكل العبقرية والإنسانية مصيرها إلى الزوال عند نهاية النظام الكوني وحطامه، كل هذه الأشياء وإن كانت نوعاً ما عرضة للنقاش فيها، فإنها أكيدة بشكل، حتى أن ما من أية فلسفة ترفضها يمكن أن تعيش" (1).

ويقول هكسلي: "إني لا أفهم إذا صح وجود حياة أخرى تحياها النفوس، كيف لا نستطيع أن نجد سبيلاً إلى استكشاف هذه الحياة الأخرى، فلا شيء مما يتصل بالإنسان يمكن أن يتوارى عمداً عن الإنسان" (2).

ويقول هيكل: "لو أعطيت وقتاً ومواد كيماوية لصنعت إنساناً" (3).

وهناك كثير من أمثال هذا الغرور الأحمق الذي ولده الشعور بأن الانسان خصم للخالق، وأن في إمكانه أن يسرق علم كل شيء كما سرق النار المقدسة من قبل، وإلا فلو أن لهؤلاء المسمين علماء إيماناً بالله -على الحقيقة- لكانوا أكثر الناس خشوعاً واعترافاً بين يديه.

وقد بلغ من غرور علماء الغرب وفرط استكبارهم أنه حتى نقاد الحضارة الغربية والمتنبئين لها بالانهيار يطلبون الدواء الناجح والحلول السريعة من العلم نفسه، ويهيبون بالعلماء إلى دراسة مستقبل الجنس البشري، والعمل على إنقاذه، ويطالبون بعقد مؤتمرات دولية لبحث هذه الشئون، وهكذا تتخبط أوروبا وتحار، ومنهج الله ميسر قريب!

بقي أن نشير إلى نتيجة أخرى -من نتائج فصل العالم عن الدين- وهي في نظر عامة الغربيين أكثر النتائج سوءاً، مع أنها في نظرنا عرض للمرض، وليست هي المرض ذاته، وهي مشكلة سوء استخدام العلم المتمثل في الدمار الذي يهدد البشرية صباح مساء نتيجة الكشوف في ميدان الذرة والحرب عموماً، يقول أحد الباحثين في كتاب (العلم أسراره وخفاياه): "إن العلم يواجه ورطة شديدة، فالعلم هو البحث عن الحقيقة، وأساس العلم العقيدة الراسخة بأن الحقيقة تستحق الاكتشاف، وأن البحث عنها إنما ينبع من أشرف صفة من صفات الروح الإنسانية، ومع ذلك فهذا البحث عن الحقيقة هو نفسه الذي جعل حضارتنا تقترب من حافة هاوية الدمار.

وعندما نواجه الآن السخرية التي تحولت إلى مأساة، وهي أننا كلما نجحنا في توسيع آفاق معرفتنا كان ذلك نذيراً بقرب الخطر الذي يهدد بالقضاء المبرم على الحياة البشرية على هذا الكوكب.

فهذا السعي وراء الحقيقة أمدنا في آخر الأمر بالأدوات التي تمكننا من هدم مجتمعنا بأيدينا وبالقضاء على كل الآمال المشرقة لجنسنا؛ ما عسانا فاعلين في هذا الموقف؟


(1) ليس بالعلم وحده: (133 - 134).
(2) عن الطاقة الروحية: برجنسون: (22).
(3) عن العلم يدعو للإيمان: (150).

هل نكبح جماح العلم أم نتمسك بطلب الحقيقة رغم ما في ذلك من تمزيق وتبديد لمجتمعنا؟! " (1).

أما دي نوي فقد كاد يضع يده على مكمن الداء إذ قال: "إن الذكاء بنفسه خطر إذا لم يخضع لإدراك حدسي أو عقلي للقيم الخلقية، وهو لم يفض إلى المادية بل إلى أعمال فظيعة، وقد كتب هذا الكتاب قبل اختراع القنبلة الذرية التي تبين ما نقول بطريقة واضحة، وفهم الجمهور أن انتصاراً فائقاً للعلم تحدى الطمأنينة الإنسانية بأسرها، وحينئذٍ فهمت الأمم الدعوة متحضرة أن الإتحاد الخلقي وحده يقدر أن يدفع عنها هذا التهديد، وكان الوقت قصيراً، فلم نجد سبيلاً إلى الحماية إلا بواسطة اتفاقات خطية ويعلم الكل أنه لا قيمة للاتفاقات ولا ثقة بها إلا بالنسبة إلى الإنسان الذي يذيلها بتوقيعه، وإذا لم يكن هذا الإنسان مستقيماً مخلصاً، وإذا لم يكن يمثل شعباً يحترم كلمته، فلا تعني شيئاً على الإطلاق" ..

ولأول مرة في تاريخ الإنسان أصبح النزاع بين الذكاء الصرف والقيم الخلقية قضية حياة أو موت، وكل ما نأمله هو أن تستفيد الإنسانية من هذه الأمثولة، لكننا لسوء الحظ لسنا واثقين من ذلك (2).

هذا قليل من كثير من النتائج السيئة التي جلبها الصراع المشئوم بين دين أوروبا وعلمها، ودفع إليها التعصب المقيت من قبل دعاة اللادينية في مجال مفروض فيه أن يكون أعظم طريق إلى الله وأقوى دافع إلى خشيته.

ولعل هذا العرض الموجز يعطينا الدليل القاطع على أن للفصل بين العلم والدين في أوروبا ظروفه وأسبابه الخاصة، ويقدم لنا شاهداً آخر - بالإضافة إلى شواهد كثيرة - على أن الجاهلية المعاصرة مهما تمسحت بالعلم والعقلانية- إنما تتحكم فيها ردود الفعل المتعارضة جيئة وذهاباً دون أن تطعم - ولو مرة واحدة - لذة الهدوء والاستقرار.

 


(1) (3/ 720 - 721).
(2) مصير الإنسان: (226 - 227).

 

  • الاثنين AM 06:16
    2022-07-04
  • 964
Powered by: GateGold