ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
واقع المجتمع اللاديني المعاصر
بمجموع الاتجاهات والمدارس الفكرية، وبتضافر عوامل أخرى مساندة كفرت أوروبا بالدين والأخلاق، ونبذ المجتمع كل مقوماته المستمدة من هذين الاتجاهين، وأصبحت القيم العليا فيه هي القيم المادية النفعية تحدوها مكيافيللية صريحة، وأضحى التعامل الاجتماعي قائماً على الرابطة المصلحية وحدها ممثلة في عقد اجتماعي أو أخلاق تجارية (1) وكما ترى فلسفة الذرائع البراجماتيزم (2) لم يعد للأخلاق قيمة ذاتية، وإنما يحكم على أي: تصرف وتعامل من خلال ما ينجم عنه عملياً من المصلحة النفعية ..
فماذا جنت المجتمعات الغربية من ذلك كله؟ ...
يقول مؤلفو تاريخ البشرية:
((كانت فكرة الإنسان عن نفسه كما ظهرت في منتصف القرن العشرين تعكس فهمه المتغير لعلاقته بالمجتمع وبالطبقة وبالله؛ ففي معظم أنحاء العالم، وخلال طبقات اجتماعية كثيرة وعلى نطاق واسع، رأى الناس أنهم قد سيطروا على قوى جديدة وفرص جديدة، وأنهم بسبيل هذه السيطرة فاعتقدوا أنهم بصدد فجر جديد لا يمكنهم إلا اجتلاء ملامحه بسرعة، أما مستقبله واحتمالاته فتدعو إلى الابتهاج وإلى الذعر في وقت واحد.
فقد أحس الناس في طول العالم وعرضه أنهم في سفينة قد انقطعت أسبابها بالبر، وعليهم أن يقودوها بغير خريطة عبر بحار مجهولة. كان هذا عند البعض بمثابة مغامرة كبرى لا تخلو من نشوة، وكان عند البعض الآخر خطراً يهدد بالويل الكبير، لقد وجد الإنسان الحديث نفسه في موقف مليء بالمتناقضات، وكلما ازداد سيطرة على بيئته زاد شعوراً بعجزه أمام القوى التي كان إطلاق بعضها من صنعه.
وكلما زادت درايته بالعالم خارج نطاق بيئته المباشرة، قلت قدرته على التصرف المباشر إزاء كثير مما يبدو أنه يؤثر على حياته اليومية، وكلما زادت المعرفة الجديدة من تقويضها لليقينيات السابقة، وكلما غيرت القوى الاجتماعية في النظم القديمة تزايد شعور الإنسان بالحاجة إلى مصدر من مصادر الأمن والطمأنينة يقوم عنده مقام المصادر التي فقدها)) (1).
إنه الإفلاس وإنها الحيرة والضياع ... !!
يقول ر. بوسكيه وزميله عن مشكلة الإنسان المعاصر: "أين أنا؟ في أي عصر؟ وفي أي وضع ما زلت مشتبكاً؟ أهناك ما يربطنى بالماضى والمستقبل وبالآخرين من أهل عصري؟ هل يمكن أن يجلب لي ذلك شيئاً ما؟ وبكلمة واحدة: أين مكاني؟ ".
هكذا يبدو الإنسان في المجتمع المعاصر مسيراً بالبيئة التي يعيش فيها، لقد فقد أعظم نصيب من حريته الداخلية ومن إحساسه بمسئولياته، ولن تكون الإنسانية سيدة مصيرها قبل أن يظفر الإنسان بحريته الباطنة وإحساسه بمسئولياته، ولكن أهو مستطيع هذا؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن نضعه لأنفسنا.
إن مجتمعنا منظم في مجال التقنية والاقتصاد تنظيماً عظيماً، ولكنه ليس كذلك في المجال البشري، فنحن نعيش على آراء وأخلاقيات واجتماعيات وفلسفات وسيكولوجية القرن التاسع عشر، وما زلنا كأجداد أجدادنا ... ، ومن المحتمل أننا ما زلنا نعيش على تنظيم ينتمى إلى القرن التاسع عشر ... ، لم يعد من الممكن أن نحيا في عصر الصواريخ وفق قواعد عصر الحصان ... ، ويمكن تفسير التفاوت بين التقدم الاقتصادي والتقدم الاجتماعي بسوء التكيف وسوء نظام مجتمعنا.
إن التطور الاقتصادي ليترجم الاختراعات العلمية التقنية إلى ثروات جديدة، ويبدو الإنسان وكأنه يغزو شيئاً فشيئاً الكوكب الذي يعيش فوقه، عرف الطبيعة، سيطر على الطاقة؛ استغل موارد المجتمع ظاهرها وباطنها، ومع هذا لا ينتفع المجتمع كله من هذه الحركة ... ، حتى داخل البلاد الصناعية نجد غالباً نفس الفوارق حسب الأقاليم والفئات الاجتماعية، ويزيد من خطورة هذه الفوارق ازدياد الحاجات التي تثيرها أغنى الجماعات، وكذلك التقدم الفني والتنظيم التجاري، وتلك دائرة جهنمية تدل على نقص في التنظيم الاجتماعي وكفاح مرير
(1) البروتوكول.
(2) فلسفة يتزعمها وليم جيمس وجورج سانتيانا وهى المعروفة بالفلسفة العملية، لأنها تنكر القيم المجردة والاحكام الموضوعية، ولا تؤمن إلا بالنتيجة العملية لأي سلوك وتدين بها أمريكا المعاصرة.
(3) (26/ 2: 1) (ص:24 - 25).
تحاول فيه كل مجموعة وكل فرد الدفاع عن مصالحه الخاصة قبل كل شيء (1).
ولنستمع إلى تجربة شاب أوروبي معاصر وهو يروي معاناته ومعاناة جيله كله: "لقد تميزت العقود الأولى من القرن العشرين بالفراغ الروحي، لقد أصبحت جميع القيم الأخلاقية التي ألفتها أوروبا عدة قرون غير ذات شكل مقرر محدود، وذلك بفعل الفظائع التي كانت قد حدثت ما بين 1914 - 1918، ولم يكن يبدو أن مجموعة جديدة من القيم ستفرض نفسها، لقد كان في الجو شعور من الهشاشة والخطر وإحساس مسبق بالجيشان الاجتماعي والعقلي جعل المرء يشك فيما إذا كان من الممكن أن يكون هناك مرة أخرى استقرار في أفكار الإنسان ومساعيه، كان كل شيء يبدو كأنه يسيل في فيضان غير منتظم ولم تستطع الحيرة الروحية لدى الشباب أن تجد لنفسها موطئ قدم، وبسبب فقدان المقاييس الأخلاقية الموثوق بها لم يستطع أحد أن يقدم إلينا -نحن الشباب- أجوبة مرضية عن كثير من الأسئلة التي كانت تحيرنا، كان العلم يقول: المعرفة هي كل شيء ونسي أن المعرفة دونما هدف أخلاقي لا يمكن أن تؤدى إلا إلى الفوضى والغموض".
إن المصلحين المجتمعين والثوريين والشيوعيين لم يكونوا يفكرون إلا بمقتضى ظروف خارجية اجتماعية أو اقتصادية، ومن ناحية أخرى فإن رجال الدين التقليدين لم يعرفوا شيئاً أفضل من أن يعزوا إلى إلههم صفات مقتبسة من عاداتهم الخاصة في التفكير، تلك العادات التي كانت قد أصبحت باردة لا معنى لها منذ زمن طويل.
(1) الإنسان في المجتمع المعاصر: مقتطفات: (16/ 44/132/ 220).
وعندما رأينا نحن الشباب أن هذه الصفات الإلهية المزعومة كثيراً ما كانت تتناقض إلى أبعد الحدود، مع ما كان يجرى في العالم من حولنا، كنا نقول لأنفسنا: إن القوة الدافعة للقضاء والقدر تختلف بصورة جلية واضحة عن الصفات المعزوة إلى الله، وإذن فإن الله موجود.
ولم يخطر إلا لعدد قليل جداً منا أن السبب في كل هذه الفوضى والاختلاط قد يكون مرده إلى استبداد حماة الدين الذين يزعمون أنهم هم الصالحون، والذين كانوا يزعمون أن من حقهم أن يصفوا الله، والذين بإلباسهم إياه ثيابهم الخاصة قد فصلوه عن الإنسان ومصيره.
هذا التحول الأخلاقي في الفرد كان يمكن أن يؤدي إلى الفوضى الأخلاقية والشك أو إلى إيجاد ملتمس شخصي خلاق لما يمكن أن يشكل الحياة الطيبة.
وفي إبان العملية العامة لانحلال المقاييس الأخلاقية الثابتة بعد الحرب العظمى زال كثير من الحواجز بين الجنسين، إن ما حدث لم يكن في اعتقادي ثورة على المحافظة التي كانت سائدة في القرن التاسع عشر، بقدر ما كان ارتداداً سلبياً من واقع كانت بعض المقاييس الأخلاقية المعينة فيه أبدية غير قابلة للشك إلى حالة اجتماعية، كان كل شيء فيها مدعاة للشك، انتقال رقاص الساعة من اعتقاد الأمس المريح باستمرار تقدم الإنسان ورقيه إلى الصحو المرير، الذي دعا إليه شبنجلر إلى النسبية الأخلاقية لنيتشه، فإلى العدمية الروحية التي غذاها واحتضنها التحليليون النفسيون (1).
والحق أن واقع المجتمعات اللادينية في الأرض ما يكاد يعجز الإدراك عن تصور فظائعه وأهواله، وأن ما تعانيه من أزمات وتتلوى فيه من جحيم قد أعيا الفلاسفة، وأقلق بال المصلحين وروّع قلوب المشفقين، وأثار تشاؤمية الشعراء والروائيين حتى أن كثير من الناس هناك نفض يده من كل أمل في الخلاص من دائرة مستحكمة الحلقات، واستسلم إلى حلم الموت اللذيذ يتعجله بيده أو يترقبه بفارغ الصبر!
وليس في استطاعتنا أن نلم أطراف الحديث عن هذا المجتمع الساقط الهابط من كل زواياه، ولكننا سنكتفي بعرض صور من مأساته من خلال مناقشة قضية واحدة من قضايا الدين والخلق، وهى في الواقع القضية الخلقية الكبرى في التاريخ.
(1) محمد أسد - الطريق إلى الإسلام: (85 - 88).
نموذج واحد للمأساة!
إن خير مثال يمكن أن يتخذه المرء مقياساً للمستوى الأخلاقى في أوروبا لهو قضية العرض، ومكانة المرأة في المجتمع، فقد تفاوتت هذه القضية بين تزمت الرهبانية الكنسية وانحلال الإباحية الفرويدية، واتخذت مساراً تاريخياً جديراً بالملاحظة والتتبع.
كانت الكنيسة تردد ما قالته الأساطير الإغريقية من أن المرأة هي سبب الشر في الأرض، وهو ما عمقته التوراة المحرفة بجعلها المرأة سبباً في إغواء الرجل والوقوع في الخطيئة، (1) جرياً على ذلك قال أحد رجال الكنيسة لتلاميذه مرة: "إذا رأيتم امرأة فلا تحسبوا أنكم ترون كائناً بشرياً، بل ولا كائناً وحشياً، وإنما الذي ترون هو الشيطان بذاته والذي تسمعون هو صفير الثعبان" (2).
(1) أنظر أساطير الإغريق من سلسلة تراث الإنسانية وسفر التكوين صح (3).
(2) أشعة خاصة بنور الإسلام: (29).
وقد تكون راي ستراتشي إحدى المطالبات بحقوق المرأة فيما بين الحربين، صادقة حينما قالت عن الرهبانية: "يستفاد من النظرية التي أوصت بهذا التطاول على المرأة أن الشهوة الجنسية هي أشنع الخطايا جميعاً، وأنها كانت في الحقيقة الخطيئة التي سببت سقوط الإنسان، وأن العفة الكاملة هي أعلى مثل في الحياة وأنه يجب أن يلعن النساء لأنهن سبب الغواية، وكان يقال إن الشيطان مولع بالظهور في شكل أنثى، وأنه طالما زار النساك بهذه الصورة في كهوفهم الجبلية، وصفوة القول أن مجرد التفكير في النساء كان خطراً، وأن المرأة نفسها كان نحساً من النحوس" (1).
وقد انعكس هذا المفهوم على وضع المرأة في عصر الإقطاع عامة، إذ كانت كما نقل راندال: "تربى المرأة الخادمة لتتعلم أصول حياة الزوجية فتعمل بشروط منهكة قاسية وتتغذى بلحم فج بسيط، وترتدي ثياباً رثة، وتظل تحت العبودية والرق، وإذا حملت يؤخذ الطفل من رحمها للعبودية ... ، تباع المرأة الخادمة المستعبدة وتشرى كالحيوان" (2).
لكن على الرغم من هذا، فقد كان العرض له قيمته العظمى، وكانت المحافظة عليه معيار الشرف والرجولة، أي: أنه كان هناك ارتباط تاريخي بين إهدار قيمة المرأة معنوياً واقتصادياً، وبين المحافظة الشديدة على العرض، وهي ثغرة لم تعدم من ينفذ منها فيما بعد.
وبقيام الثورة الفرنسية بدأت الشرارة الأولى في القضية التي أسميت: قضية المرأة، وتعتقد راي ستراتشي أن الثورة في ظاهرها لم تفد النساء فائدة مباشرة، وترى أن فائدتها تعود إلى أن النظرية
(1) تاريخ العالم: (1/ 297).
(2) تكوين العقل الحديث: (1/ 146).
المعنوية للحرية البشرية كانت قد سادت، وكان لا بد من أن تظهر دلائلها، إن عاجلاً وإن آجلاً) (1).
عندئذ ظفر الهدامون ببغيتهم المنشودة، وسنحت لهم الفرصة التي طال ارتقابها، إلا أن الموضوع لم يبرز إلى حيز الواقع الملموس إلا بعد الانقلاب الصناعي الذي جر الويلات والمصائب على المجتمعات الغربية عموماً، والطبقة الدنيا خاصة، فقد استغل الرأسماليون الربويون عوز الناس والمجاعة التي اجتاحت الأسر الكادحة لتشغيل النساء في مصانعهم بأجور زهيدة، وكان النساء في مناجم الفحم يجررن العربات المحملة في دهاليز واطئة، ويحملن أثقالاً عظيمة من الفحم إلى السطح، ويرقين سلالم شديدة الانحدار أو درجاً حلزونية) (2).
وعلى الرغم من ذلك فلم يخل الأمر من فائدة نسبية للنساء الفقيرات، إذ أدى ذلك إلى تحسين نسبي في معيشتهن وإلى شيء من التعديل في القيمة المجتمعة للمرأة، وقد ركز الهدامون وأبواقهم على هذه الفائدة النسبية وأسموا هذا التحول المجتمع تحرير المرأة، وراج هذا الاصطلاح في الصحافة حتى أصبح رمزاً خداعاً للمخطط الذي كان الهدامون التلموديون يدبرونه في الخفاء، وأسهم الكتاب -على اختلاف مقاصدهم- في ترسيخ ذلك، حتى لقد قال هارولد لاسكي بعد الحرب الأولى: لم تتحرر النساء من أغلالهن إلا بعد أن جعل الانقلاب الصناعي جهودهن الاقتصادية مظهراً مألوفاً من مظاهر المجتمع، فلم يكن بد من الاعتراف بهذه الجهود، وعندئذ فتحت لهن أبواب الأعمال التي ظن الناس أن دخولهن فيها ضرب من المحال
(1) تاريخ العالم: (1/ 400).
(2) المصدر السابق (1/ 401).
وزاد عدد المختزلات وعاملات المصانع والحوانيت فأصبحت هذه الزيادة وحدها تحتم تحريرهن من القيود السياسي ة، وكان حقهم في حماية مصالحهن الاقتصادية يتضمن أن القضاء والجمعية التشريعية، بل الشرطة لم يكن يستطاع إبقاؤها مغلقة دونهن، وتجادل الناس خمسين عاماً في هذا الأمر فلم ينتبهوا إلى شيء ذي عناء حتى جاءت الحرب بضراوتها فأوضحت ما للمرأة من شأن خطير في الحياة الاقتصادية، ولم يعد في وسع الرجل الذي أشاح عن كل نداء أن يعرض عما انطوى عليه هذا المشهد الذي زادته الحرب روعة وجلالاً) (1).
هكذا صور البعض ولكن الواقع كان شيئاً آخر يختلف تمام الاختلاف، مما حدا بالكثيرين إلى رفع صيحات الخطر والتحذير حتى من النساء أنفسهن:
تقول الكاتبة الإنجليزية أني رود عن ذلك: "إذا اشتغلت بناتنا في البيوت خوادم أو كالخوادم خير وأخف بلاء من اشتغالهن في المعامل، حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد.
أياليت بلادنا كبلاد المسلمين حيث فيها الحشمة والعفاف والطهارة رداء الخادمة والرقيق، اللذين يتنعمان بأرغد عيش ويعاملان معاملة أولاد رب البيت ولا يمس عرضهما بسوء، نعم إنه عار على بلاد الإنكليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطتهن للرجال، فما بالنا لا نسعى وراء ما يجعل البنت تعمل ما يوافق فطرتها الطبيعية كما قضت بذلك الديانة السماوية، وترك أعمال الرجال للرجال سلامة لشرفها" (2).
وتقول الكاتبة اللادي كوك أيضاً:
(1) المصدر السابق: (1/ 409).
(2) الإسلام روح المدنية: مصطفى الغلايينى: (211).
"إن الاختلاط يألفه الرجال، ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها، وعلى قدر الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنا، ولا يخفى ما في هذا من البلاء العظيم على المرأة، فيا أيها الآباء لا يغرنكم بعض دريهمات تكسبها بناتكم باشتغالهن في المعامل ونحوها، ومصيرهن إلى ما ذكرنا فعلموهن الابتعاد عن الرجال، إذ دلنا الإحصاء على أن البلاء الناتج من الزنا يعظم ويتفاقم حيث يكثر الاختلاط بين الرجال والنساء، ألم تروا أن أكثر أولاد الزنا أمهاتهن من المشتغلات في المعامل ومن الخادمات في البيوت ومن أكثر السيدات المعرضات للأنظار.
ولولا الأطباء الذين يعطون الأدوية للإسقاط لرأينا أضعاف ما نرى الآن، ولقد أدت بنا الحال إلى حد من الدناءة لم يكن تصوره في الإمكان حتى أصبح رجال مقاطعات من بلادنا لا يقبلون البنت ما لم تكن مجربة، أعني عندها أولاد من الزنا، فينتفع بشغلهم وهذا غاية الهبوط في المدنية، فكم قاست هذه المرأة من مرارة الحياة حتى قدرت على كفالتهم والذي اتخذته زوجاً لها لا ينظر لهؤلاء الأطفال ولا يتعهدهم بشيء يكون ويلاه من هذه الحالة التعيسة، ترى من كان معينا لهاً في الوحم ودواره والحمل وأثقاله والفصال ومرارته" (1).
وكتب أحد علماء الأخلاق قائلاً: "إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل ودور الصناعات مهما نشأ عنه من الثروة فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية، لأنه هاجم هيكل المنزل وقوض أركان العائلة وفرق الروابط الاجتماعية، فإنه بسلبه الزوجة من زوجها صار بنوع خاص لا نتيجة له إلا تسفيه أخلاق المرأة، لأن وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية كتربيتها أولادها وترتيبها مسكنها والاقتصاد في
(1) المصدر السابق: (212).
وسائل معيشتها، مع القيام بالاحتياجات العائلية، ولكن المعامل سلختها من كل هذه الواجبات، بحيث أصبحت المنازل غير منازل، وأضحت الأولاد تشب على غير التربية الحقيقية لكونها تلقى في زوايا الإهمال، وطفئت المحبة الزوجية، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة والقرينة المحبة للرجل، وصارت زميلته في العمل والمشاق" (1).
لكن هذه التحذيرات البالغة لم تغير من الواقع شيئاً، وإنما نبهت القوى الشريرة إلى إسكات مثل تلك الاعتراضات بإيجاد البديل غير الطبيعي، فقد شيدت المحاضن ودور الرعاية لتربية أولاد الزنا، وتنوعت الأدوية المانعة من الحمل بدلاً من المسقطة للجنين، واستطاع الهدامون أن يجعلوا تعليم البنات حقيقة واقعة وهي خطوة من غير المستطاع الرجوع عنها، كما أن الأزمات الاقتصادية -التي كان لهم دور فيها- دفعت بالعجلة إلى الأمام، وأصبحت القضية الشاغلة للنساء وللكتاب النسائيين هي المطالبة بمساواة الرجل في الأجور ومناهج التعليم والمقاعد النيابية .. إلخ، وتنوسيت المشكلة الأساسية مشكلة خروجها من البيت، حتى لم تعد تجد من يتحدث عنها.
وقام كتاب وصحفيون يفلسفون الواقع ويطالبون بالمزيد، فقال برتراند رسل: "إني لا أميز فرقاً البتة بين ما يسمونه الذكر وما يسمونه الأنثى، نعم يستحسن في المرأة التي سيعهد إليها بالعناية بالأطفال الصغار أن تتلقى قدراً معيناً من الإعداد المهني، لكن هذا لا يستلزم من الفروق إلا شبه ما بين الزارع والطحان، وهذا ليس أساسياً بأية حال من الأحوال، ولا يتطلب منا اعتباراً ونحن في مستوانا الحاضر" (2).
(1) عن دائرة المعارف فريدي وجدي: (8/ 639).
(2) في التربية: (46، 256).
وتطورت المطالب حتى أصبح الكتاب النسائيون يطالبون بالمساواة بين الرجل والمرأة في الفساد، ويصبون اللعنة على المجتمع الذي ينكر زنى الفتاة ويغض نظره عن الجريمة نفسها بالنسبة للفتى، يقول رسل أيضاً: "يجب أن يعالج الجنس من البداية كشيء طبيعى مبهج ومحتشم، وإذا أردنا أن نفعل خلاف ذلك فإننا نكون سممنا العلاقات فيما بين الرجل والمرأة وبين الآباء والأولاد".
إن الفضيلة التي تستند إلى الجهل لا قيمة لها وإن الفتيات لهن نفس الحق في المعرف الجنسية كالفتيان (1).
وهناك شيء أساسي في تعليم حب الجنس، فلا ينبغي اعتبار الغيرة إلحاحاً مبرراً على الحقوق، بل هي مأساة لمن يشعر بها، وهى خطأ بحق من تستهدفه (2).
ويضرب أمثلة لذلك في كتاب آخر: في ولاية نيويورك، حيث يعتبر الزنا جريمة عقوبتها السجن لم تقم حركة ذات أثر لتغيير القانون في هذا الشأن، ويقول كثير من الناس: وماذا يهم القانون إذا كان لا يطبق وأنا أعتقد أن هذه الحجة وهمية إلى حد كبير .. على الرغم من أن هذا القانون لا يطبق عادة، فإنه يمكن أن يحركه زوج تحدوه روح انتقامية (3).
ولكن الرجل الذي كان له أعظم الأثر في هدم الفضيلة، وفتح أعمق أزمة في تاريخ الأخلاق -على حد تعبير فوجيرولا (4) هو فرويد ونظريته في التحليل النفسي يقول فلوجل: "الحق أن بعض المحللين النفسيين كانوا يؤمنون بأن الموانع التقليدية التي تفرضها
(1) في التربية: (46، 256).
(2) المصدر السابق: (154).
(3) المجتمع البشري: (126).
(4) الثورة الفرويدية: (198).
مستوياتنا الخلقية عبء تنوء به الطبيعة البشرية، وكان من أثر ذلك كله أن المتحمسين من غير المختصين كانوا يدعون إلى التخلي الكامل عن التحكم وفرض النظام، سواء في ميدان التعليم أو ميدان العلاقات الجنسية، أو غير ذلك من الميادين إلى درجة جعلت الآباء يخشون من ممارسة أبسط أنواع الرقابة على أبنائهم مخافة إصابتهم بالكبت أو الأمراض العصبية".
ويقول: "إن التحليل النفسي بصرف النظر عن الإفراط في الحماس وسوء الفهم وسوء الاستخدام، قد ساعد -فعلاً- على تقويض أركان الأخلاق التقليدية، فلقد كشف عن شيء من السذاجة والخرق في عمل سلطات الرقابة الخلقية في الإنسان" (1).
ويقول الفيلسوف جود: "ولكن مذهب التحليل النفسي قد أثر في موقف الإنسان من الاستغراق في الحاضر والاستمتاع به، وحري أن يقال: إن هذا التأثير قد أتى بصورة مباشرة من أن يقال: إنه أتى عن طريق ما بعثه من الشك في الأخلاق التقليدية وما تنطوي عليه من القيود والمحرمات، فهو بالإضافة إلى نزعة الثقة من الاتجاهات القديمة التي تنحو إلى القصد والزهد في الحياة، قد أقام مذهباً إيجابياً يحمل الناس إلى ممارسة الحاضر والانغماس في تجاربه، فلم يقتصر على القول بأن من العبث أن نحرم أنفسنا طلباً للخلاص الموعود في الآخرة، بل جعل من واجبنا أن نتلمس اللذات، ونغفل عن شئون الروح؛ فالتحليل النفسي مسئول عن هذه العقيدة الإيجابية التي تتلخص في التعبير عن النفس، فكان من تعاليم فرويد أن كبح الدوافع الغريزية وكظم الرغبات الشعورية فيه إضرار بالشخصية يتناول أسسها العميقة.
(1) الإنسان والأخلاق والمجتمع: (42، 43).
بل إن النزعات الطهرية التي تنحو إلى الزهد والتقشف، وترى في حرمان النفس وإنكارها أسمى الفضائل، وتلتزم بالقيود والمحظورات هي نفسها وليدة للدوافع اللاشعورية، فقد أظهر فرويد أنها نوع من التبرير يتمسك به أولئك المحرومون من لذائذ الحياة أو الذين لا يسعهم الاستمتاع بها" (1).
وأثر الفرويدية في انهيار الفضيلة والدعوة إلى الإباحية أوضح من أن يذكر، ولنكتف بمثال على ذلك، وهو ما قاله أحد المؤلفين في كتاب اسمه توجيه المراهق: "ساعد التعليم المختلط بين البنين والبنات، ومعرفة الفتيات أن اشتراكهن في الألعاب الرياضية لا يعوق عملية الولادة فيما بعد، على انتشار العلاقات اليومية الطبيعية السوية بين الفتيان والفتيات، ذلك أنهم يشاهدون بعضهم بعضاً في حجر الدراسة، ويشتركون معاً في بعض الألعاب والتمثيليات، بل ويدرسون موضوعات واحدة، وهذا كله يتيح للفتيان والفتيات أن يفهم بعضهم بعضاً، وبدلاً من أن ينظر الفتيان إلى الفتيات نظرة سطحية تقوم على الإغراء الجسدي والتفاهة العقلية والجمود الروحي، فإنهم ينظرون إليهن على أنهن زميلات وصديقات، بينما تستجيب الفتيات اللاتي حسنت تربيتهن لهذا، ويستطعن أن يعرفن الفتيان معرفة تتسم بالأمانة".
وتجد أن كل شيء يؤيد هذا التعارف الوثيق بين الفتيان والفتيات، فعالم اليوم يعمل فيه الرجال والنساء، ويلعبون جنباً إلى جنب، فكيف يتسنى لهم أن يفعلوا ذلك إذا قضى كل جنس زهرة شبابه في عزلة تامة عن الجنس الآخر يجتر خيالاته وأوهامه عن فروق بين الجنسين لا أساس لها من الصحة؟!
(1) منازع الفكر الحديث: (283).
ولن يضيع عنصر الخيال الذي يسعى إلى توفيره الفتيان والفتيات في علاقاتهم نتيجة ما بينهم من تعارف وثيق، بل على العكس فإنه يحصنهم من الفتنة بحيث يكونون أقدر على التمييز في اختيار الشريك الذي يبحث عنه كل منهم.
وقد يكون هذا السلوك نوعاً من التكييف المنحط من وجهة النظر الأخلاقية الخالصة، ولكن الشباب يستطيعون بل ويفهمون هذا النوع من أنواع السلوك الذي لا يتفق حقيقة مع مصالحهم (1).
وظل هذا السعار يزداد، وظلت تلك الدعوات المحمومة تطغى على كل وسائل الثقافة والإعلام، وتهيمن على أعراف وتقاليد المجتمع حتى وصل انهيار الأخلاق والاستهانة بالفضيلة إلى حد أن أصبح الأمريكيون يعتقدون أن بقاء البنت عذراء قد يسبب الإصابة بمرض السرطان، لذلك يتخلصون من العذرية بسرعة، وأصبحت آخر صرعات الشذوذ الجنسي ممارسة الجنس مع أطفال دون سن الثالثة يتم اختطافهم من المكسيك ويباعون في الأسواق كالرقيق أو الدجاج، (2) وأصبح طلبة المدارس الابتدائية يشاهدون عروضاً سينمائية جنسية ضمن الأنشطة الدراسية اليومية، ويحملون المخدرات الشديدة التأثير في حقائبهم الدراسية، وأضحت الخيانة الزوجية الفاحشة تقليداً شائعاً لا يستطيع أحد إنكاره، بينما يمارس البنات البغاء والعلاقات المحرمة تحت سمع وبصر الوالدين والمجتمع كأي وسيلة ترفيهية.
وهاهو الواقع المحسوس في الغرب يشهد أن التدني الأخلاقي،
(1) دجلاس توم: (188 - 190).
(2) مجلة الدعوة المصرية: (26/ 1398هـ).
لاسيما ما يتصل بالعرض قد سفل إلى درجة من الدياثة والسخف لا نجد لها نظيراً حتى في عالم الحيوان.
وقد يقول قائل: إن مسألة الأخلاق من أساسها غير معترف بها في الغرب، فلا معنى للقول: بأن المجتمع اللاديني يعيش بلا أخلاق، إذ لا ضير في نظر ذلك المجتمع، أن يقال: إنه لا أخلاق له مادام لا يرى في الأخلاق إلا القيود التي فرضتها الكنيسة أو التقاليد البالية الموروثة من العصر الزراعي.
لكننا نقول: هل المسألة مسألة أخلاق تنتهك، وتقاليد تخالف فحسب؟
إن الدكتور أليكسيس كاريل يرى أن من أسباب تدهور الحضارة المعاصرة أن الناس يصادمون ما أسماه: القوانين الطبيعية التي تعني في القاموس الإسلامي سنن الله في الكون، ويقول: إنهم لم يدركوا أنهم لا يستطيعون أن يعتدوا على هذه القوانين دون أن يلاقوا جزاءهم (1).
فكل مخالفة لفطرة الله التي فطر الناس عليها لا بد أن تتقاضى جزاءها من سعادة المجتمع وطمأنينته. وذلك منطوق قوله تعالى: ((فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)) وليس في تاريخ البشرية أجمع نموذج للضلال والشقاء والمعيشة الضنك يوازي النموذج الذي تقدمه الحضارة الغربية المعاصرة.
لقد ضج عقلاء الغرب وجأروا بالشكوى، وحق لهم ذلك وهم يرون انهيار حضارتهم، ويشهدون مأساة مجتمعهم بأعينهم، ولم يفت بعضهم أن يدرك أن مخالفة الفطرة وتعطيل وظيفة الأمومة وخروج المرأة تزاحم الرجل في معترك الحياة هي سبب فعال في هذا الانهيار السريع والشرور المجتمعة المدمرة.
يقول شبنجلر في مؤلفه الشهير تدهور الحضارة الغربية: "عندما يبدأ الفكر العادي لشعب رفيع الثقافة والعلم بأن يعتبر إنجاب الأطفال هو قضية لها وجوهها المؤيدة والمناهضة، فعندئذ تكون نقط الانعطاف العظمى قد جاءت وحان أوانها، وعندما يتوجب علينا أن نقدم إطلاقاً الأسباب لقضية من قضايا الحياة، عندئذ تصبح الحياة ذاتها مشكوكاً في أمرها ومدار تساؤل ... وكما هي الحال في مدننا نحن معشر الغربيين أصبح اختيار الرجل للمرأة لا بوصفها أماً لأولاده كما هي الحال بين الفلاحين والبدائيين بل بوصفها رفيقة حياة معضلة للعقول ومشكلة، فالزواج عند أبسن يبدو على أنه الامتزاج الأرقى حيث يكون فيه كل من الفريقين حراً طليقاً .. وهكذا بمقدور شو أن يقول: إنه ما لم تفكر المرأة بأنوثتها وبواجبها إزاء زوجها وأطفالها والمجتمع والقانون وإزاء كل إنسان آخر ما عدا واجبها إزاء نفسها؛ فإنها لا تستطيع أن تحرر أنوثتها.
إن المرأة الفلاحة هي أم، وإن كامل رسالتها - هذه الرسالة التي تحن إليها منذ طفولتها - إنما تحتويها تلك الكلمة أم، ولكننا نرى اليوم امرأة أبسن المرأة الرفيقة الزميلة الخدن تخرج إلينا، ونراها بطلة جميع آداب المدن العالية العظمى، ابتداء من الدراما الشمالية حتى الرواية الباريسية، فهي بدلاً من أن يكون لها أطفال لها تصادمات وتناقضات نفسية، وما الزواج غير فن من براعة هدفه تحقيق التفاهم المتبادل.
وسيان أكانت القضية -قضية معارضة إنجاب الأطفال- هي قضية السيدة الأمريكية التي لن تقايض على حضور أي موسم حفلات بأي ثمن، أو قضية السيدة الباريسية التي تخشى أن يهجرها عشيقها، أو
(1) الإنسان ذلك المجهول: (10).
قضية بطلة أبسن التي لا تنتمي إلى أحد ما عدا نفسها، فالقضية واحدة، وجميعهن ملك ذواتهن فقط، وكل واحدة منهن عاقر عقيم، وعطفاً على ما أوردت نجد الواقعة ذاتها في الإسكندرية وفي المجتمع الروماني، وبداهة في كل مجتمع متمدن آخر ...
عند هذا المستوى تدخل المدنيات مرحلة من تدن وتناقض مرعبين في السكان، وتستمر هذه المرحلة قروناً من الزمن، وهنا يضمحل كامل هرم الإنسان الحضارى ويتلاشى ويزول" (1).
هذا التوقع من شبنجلر ليس متشائماً كما قد يظن، بل أصبح الواقع المعاصر يدعو إلى التصديق به إلى درجة اليقين، وتلك سنة الله في خلقه ولن تجد في سنة الله تبديلاً.
ولنعد إلى الوراء قرابة خمسين عاماً حيث السعير لم يتضح أواره، والبلاء لم تكتمل أطواره، لنجد كاتباً أمريكياً متفلسفاً ينادى بالويل والثبور، ويرفع عقيرته أسى للمصير المرعب الذي ينتظر أمته، نجد ول ديورانت يقول سنة (1929م):
وثقافتنا اليوم سطحية ومعرفتنا خطرة؛ لأننا أغبياء في الآلات فقراء في الأغراض، وقد ذهب اتزان العقل الذي نشأ ذات يوم من حرارة الإيمان الديني، وانتزع العلم منا الأسس المتعالية لأخلاقياتنا، ويبدو العالم كله مستغرقاً في فردية مضطربة تعكس تجزؤ خلقنا المضطرب، إننا نواجه مرة أخرى تلك المشكلة التي أقلقت بال سقراط نعني: كيف نهتدي إلى أخلاق طبيعية تحل محل الزواجر العلوية التي بطل أثرها في سلوك الناس، إننا نبدد تراثنا الاجتماعي بهذا الفساد الماجن من جهة، وبهذا الجنون الثوري من جهة أخرى، حيث نفقد الفلسفة، التي بدونها نفقد وهذه النظرة الكلية التي توحد الأغراض وترتب سلم الرغبات، إننا نهجر في لحظة مثاليتنا السلمية، ونلقى بأنفسنا في هذا الانتحار الجماعي للحرب، وعندنا مائة ألف سياسي، وليس عندنا رجل حكيم واحد، إننا نطوف حول الأرض بسرعة لم يسبق لها مثيل، ولكننا لا نعرف أين نذهب، ولم نفكر في ذلك، أو هل نجد هناك السعادة الشافية لأنفسنا المضطربة؟! أو أننا نهلك أنفسنا بمعرفتنا التي أسكرتنا بخمر القوة؟! ولن ننجو منها بغير الحكمة.
واختراع موانع الحمل وذيوعها هو السبب المباشر في تغيير أخلاقنا، فقد كان القانون الأخلاقي قديماً يقيد الصلة الجنسية بالزواج، لأن النكاح كان يؤدي إلى الأبوة بحيث لا يمكن الفصل بينهما، ولم يكن الوالد مسئولاً عن ولده إلا بطريق الزواج، أما اليوم فقد انحلت الرابطة بين الصلة الجنسية وبين التناسل، وخلقت موقفاً لم يكن آباؤنا يتوقعونه، لأن جميع العلاقات بين الرجل والمرأة آخذة في التغيير نتيجة هذا العامل، ويجب على القانون الأخلاقي في المستقبل أن يدخل في حسابه هذه التسهيلات الجديدة التي جاءت بها الاختراعات لتحقيق الرغبات المتأصلة.
فحياة المدينة تفضي إلى كل مثبط عن الزواج، في الوقت الذي تقدم فيه إلى الناس كل باعث على الصلة الجنسية وكل سبيل يسهل أداءها، ولكن النمو الجنسي يتم مبكراً عما كان من قبل، كما يتأخر النمو الاقتصادي، فإذا كان قمع الرغبة شيئاً عملياً ومعقولاً في ظل النظام الاقتصادي الزراعي، فإنه الآن يبدو أمراً عسيراً وغير طبيعي في حضارة صناعية أجلت الزواج حتى بالنسبة للرجل، حتى لقد يصل إلى سن الثلاثين، ولا مفر من أن يأخذ الجسم في الثورة وأن تضعف القوة على ضبط النفس عما كان في الزمن القديم، وتصبح العفة التي كانت فضيلة موضعاً للسخرية، ويختفي الحياء الذي كان يضفي على الجمال جمالاً، ويفاخر الرجال بتعدد خطاياهم، وتطالب النساء بحقها في مغامرات غير محدودة على قدم المساواة من الرجال، ويصبح الاتصال قبل الزواج أمراً مألوفاً، وتختفي البغايا من الشوارع بمنافسة الهاويات لا برقابة البوليس، لقد تمزقت أوصال القانون الأخلاقي الزراعي، ولم يعد العالم المدني يحكم به.
ولسنا نرى مقدار الشر الاجتماعي الذي يمكن أن نجعل تأخير الزواج مسئولاً عنه، ولا في أن بعض هذا الشر يرجع إلى ما فينا من رغبة في التعدد لم تهذب، لأن الطبيعة لم تهيئنا للاقتصار على زوجة واحدة، ويرجع بعضها الآخر إلى ولاء المتزوجين الذين يؤثرون شراء متعة جنسية جديدة على الملال الذي يحسونه في حصار قلعة مستسلمة، ولكن معظم هذا الشر يرجع في أكبر الظنون في عصرنا الحاضر إلى التأجيل غير الطبيعي للحياة الزوجية، وما يحدث من إباحة بعد الزواج فهو في الغالب ثمرة التعدد قبله، وقد نحاول فهم العلل الحيوية والاجتماعية في هذه الصناعة المزدهرة، وقد نتجاوز عنها باعتبار أنها أمر لا مفر منه في عالمٍ خلقه الإنسان، وهذا هو الرأي الشائع لمعظم المفكرين في الوقت الحاضر، غير أنه من المخجل أن نرضى في سرور عن صورة نصف مليون فتاة أمريكية يقدمن أنفسهن ضحايا على مذبح الإباحية، وهي تعرض علينا في المسارح وكتب الأدب المكشوفة، تلك التي تحاول كسب المال واستثارة الرغبة الجنسية في الرجال والنساء المحرومين -وهم في حمَّى الفوضى الصناعية- من حمَّى الزواج ورعايته للصحة.
ولا يقل الجانب الآخر من الصورة كآبة، لأن كل رجل يؤجل الزواج يصاحب فتيات الشوارع ممن يتسكعن في ابتذال ظاهر، ويجد الرجل بإرضاء غرائزه في هذه الفترة من التأجيل نظاماً دولياً مجهزاً بأحدث التحصينات، ومنظماً بأسمى دروب الإدارة العلمية، ويبدو أن
(1) (ج:1) (282 - 283).
العالم قد ابتدع كل طريقة يمكن تصورها لإثارة الرغبات وإشباعها (1).
وأكبر الظن أن هذا التجدد في الإقبال على اللذة قد تعاون أكثر مما نظن مع هجوم داروين على المعتقدات الدينية، وحين اكتشف الشبان والفتيات -وقد أكسبهم المال جرأة- أن الدين يشهر بملاذهم، التمسوا في العلم ألف سبب وسبب للتشهير بالدين، وأدى التزمت في حجب الحياة الجنسية والزهد فيها إلى رد فعل في الأدب وعلم النفس صوَّر الجنس مرادفاً للحياة، وقد كان علماء اللاهوت قديما يتجادلون في مسألة لمس يد الفتاة أيكون ذنبا؟ أما الآن فلنا أن ندهش ونقول: أليس من الإجرام أن نرى تلك اليد ولا نقبلها؟! لقد فقد الناس الإيمان وأخذوا يتجهون نحو الفرار من الحذر القديم إلى التجربة الطائشة.
وكانت الحرب العظمى الأولى آخر عامل في هذا التغيير؛ ذلك أن الحرب قوضت تقاليد التعاون والسلام المتكونين في ظل الصناعة والتجارة، وعودت الجنود الوحشية والإباحية، حتى إذا وضعت الحرب أوزارها عاد آلاف منهم إلى بلادهم، فكانوا بؤرة للفساد الخلقي، وأدت تلك الحرب إلى رخص قيمة الحياة بكثرة ما أطاحت من رءوس، ومهدت إلى ظهور العصابات والجرائم القائمة على الاضطرابات النفسية، وحطمت الإيمان بالعناية الإلهية، وانتزعت من الضمير سند العقيدة الدينية، وبعد انتهاء معركة الخير والشر بما فيها من مثالية ووحدة، ظهر جيل مخدوع وألقى بنفسه في أحضان الاستهتار والفردية والانحلال الخلقي، وأصبحت الحكومات في واد والشعب في واد آخر، واستأنفت الطبقات الصراع فيما بينها، واستهدفت الصناعات الربح بصرف النظر عن الصالح العام، وتجنب الرجال الزواج خشية المسئولية، وانتهى الأمر بالنساء إلى عبودية كاملة وإلى طفيليات فاسدة، ورأى الشباب نفسه قد منح حريات جديدة، تحميه الاختراعات من نتائج المغامرات النسائية في الماضي، وتحوطه من كل جانب ملايين المؤثرات الجنسية في الفن والحياة.
حتى إذا سئمت فتاة المدينة الانتظار اندفعت إلى عالم لم يسبق له مثيل في تيار المغامرات الواهية، فهي واقعة تحت تأثير إغراء مخيف من الغزل والتسلية وهدايا من الجوارب وحفلات من الشمبانيا في نظير الاستمتاع بالمباهج الجنسية.
وأخيراً تجد الرفيق الذي يطلب يدها للزواج، ويعقد عليها لا في الكنيسة، لأنهما من أحرار الفكر الذين ألحدوا عن الدين، ولم يعد للقانون الخلقي الذي ظل جاثماً على إيمانهما المهجور أثر في قلبهما، إنهما يتزوجان في قبو المكتب البلدي الذي يفوح منه عبير السياسة، ويستمعان إلى تعاويذ العمدة، إنهما لا يرتبطان بكلمة الشرف بل بعقد من المصلحة، لهما الحرية في أي وقت في التحلل منه، فلا مراسيم مهيبة ولا خطبة عظيمة ولا موسيقى رائعة ولا عمق نشوة في الانفعال، تحيل ألفاظ وعودهم إلى ذكريات لا تمحى من صفحة الذهن، ثم يقبل أحدهما صاحبه ضاحكاً، ويتوجهان إلى البيت في صخب.
إنه ليس بيتاً! فليس ثمة كوخ ينتظر الترحيب بهما أنشئ وسط الحشائش النضرة والأشجار الظليلة، بل يجب أن يخفيا أنفسهما خجلاً في زنزانة سجن، ليس هذا المسكن شيئاً روحياً كالبيت الذي كان يتخذ مظهراً ويكسب روحاً قبل ذلك بعشرين عاماً، بل مجرد شيء مادي فيه من الجفاف والبرودة ما تجده في مارستان، فهو يقوم وسط الضوضاء والحجارة والحديد.
وتصاب المرأة بخيبة أمل، فهي لا تجد في هذا البيت شيئاً يجعل جدرانه تحتمل في الليل والنهار، ولا تلبث إلا قليلاً حتى تهجره في كل مناسبة، ولا تعود إليه إلا قبل مطلع الفجر، ويخيب أمل الرجل.
ويكتشف بعد قليل أن هذه الحجرات تشبه تمام الشبه تلك التي كان يعيش فيها وهو أعزب، وأن علاقاته مع زوجته تشبه شبهاً عادياً تلك العلاقات غير البريئة التي كان يعقدها مع المستهترات من النساء.
ولما كان زواجهما ليس زواجاً بالمعنى الصحيح لأنه صلة جنسية -لا رباط أبوة- فإنه يفسد لفقدانه الأساس الذي يقوم عليه ومقومات الحياة، يموت هذا الزواج لانفصاله عن الحياة وعن النوع، وينكمش الزوجان في نفسيهما وحيدين كأنهما قطعتان منفصلتان، وتنتهى الغيرية الموجودة في الحب إلى فردية يبعثها ضغط حياة المساخر، وتعود إلى الرجل رغبته الطبيعية في التنويع، حين تؤدي الألفة إلى الاستخفاف، فليس عند المرأة جديد تبذله أكثر مما بذلته.
ويتوقع ديورانت آنذاك هذه الكوارث: "لا ريب أن زواج المتعة سيظفر بتأييد أكثر فأكثر، حيث لا يكون النسل مقصوداً، وسيزداد الزواج الحر مباحاً كان أم غير مباح، ومع أن حريتهما إلى جانب الرجل أميل، فسوف تعتبر المرأة هذا الزواج أقل شراً من عزلة عقيمة تقضيها في أيام لا يغازلها أحد، سينهار المستوى المزدوج، وستحث المرأة الرجل بعد تقليده في كل شيء على التجربة قبل الزواج، سينمو الطلاق وتزدحم المدن بضحايا الزيجات المحرمة، ثم يصاغ نظام الزواج بأسره في صور جديدة أكثر سماحة، وعندما يتم تصنيع المرأة ويصبح ضبط الحمل سراً شائعاً في كل طبقة يضحى الحمل أمراً عارضاً في حياة المرأة أو تحل نظم الدولة الخاصة بتربية
(1) هكذا يظن ديورانت ولكن جد بعده أشياء وأشياء!!
الأطفال محل عناية البيت ... وهذا كل شيء" (1).
ولقد تحقق كل ما توقع وأعظم منه، ونجم عنه الشقاء المستديم للمرأة وللمجتمع كله، وأما المرأة فقد دفع بها الوضع الاجتماعي الذي لا يرحم إلى أن أصبحت تطرد من المنزل بعد سن الثامنة عشرة، لكي تبدأ في الكدح لنيل لقمة العيش، وإذا ما رغبت - أو أجبرتها الظروف - في البقاء في المنزل مع أسرتها بعد هذه السن، فإنها تدفع لوالديها إيجار غرفتها وثمن طعامها وغسيل ملابسها، بل تدفع رسماً معيناً مقابل اتصالاتها الهاتفية (2).
وإذا حظيت الطريدة بأي عمل فإنها تستشعر دوماً تهديد البطالة والأزمات الاقتصادية، وتظل خاضعة لاستغلال الرأسماليين أو عبودية الدولة -إن كانت شيوعية- ويؤدي إرهاقها المستمر وقلقها الدائم، إلى أن تفقد طبيعتها الأنثوية، وتضحى عرضة للأمراض العصبية، وفي بعض الأحيان لا تجد وسيلة للخلاص من هذا الكابوس الرهيب أفضل من الانتحار، وقد تضخمت المشكلة وتعقدت، وسرت آثارها في كيان المجتمع كله، حتى لم يعد من الممكن الرجوع إلى الحالة السوية إلا بتغيير جذري يقتضي بناء المجتمع من أساسه وهذا التغيير بعيد الاحتمال في المجتمع الغربي اللاهث نحو الهاوية، بل إن الصيحات التي يطلقها الكثيرون ممن ذاقوا مرارة التجربة من النساء والرجال لا تجد لها صدى يذكر.
تقول أجاثا كريستى أشهر كاتبة إنجليزية للمؤلفات البوليسية: "إن المرأة الحديثة مغفلة؛ لأن مركزها في المجتمع يزداد سوءاً يوماً بعد يوم، فنحن النساء نتصرف تصرفاً أحمق، لأننا بذلنا الجهد الكبير في
(1) نقلت هذه المقتطفات من كتاب الإسلام ومشكلات الحضارة، (ص:133 - 140).
(2) انظر المرأة بين الفقه والقانون: مصطفى السباعي: (300).
السنين الماضية لحصول على حق العمل والمساواة في العمل مع الرجال، والرجال ليسوا أغبياء، فقد شجعونا على ذلك معلنين أنه لا مانع مطلقاً من أن تعمل الزوجة، وتضاعف دخل الزوج، ومن المحزن أن نجد بعد أن أثبتنا نحن النساء أننا الجنس اللطيف أننا نعود اليوم لنتساوى في الجهد والعرق الذي كان من نصيب الرجل وحده" (1).
وفي استفتاء لمعهد غالوب في أمريكا:
إن المرأة متعبة الآن، ويفضل (65%) من نساء أمريكا العودة إلى منازلهم، كانت المرأة تتوهم أنها بلغت أمنية العمل، أما اليوم وقد أدمت عثرات الطريق قدمها واستنزفت الجهود قواها، فإنها تود الرجوع إلى عشها لاحتضان فراخها (2).
ولكن المرأة الغربية المنكوبة إذ تحاول الرجوع إلى البيت ووظيفة الأمومة لا تستطيع، لأن المشكلة اتسع نطاقها إلى درجة تتعذر معها العودة الحقيقية، ولو حصل شيء من ذلك فإن المجتمع الذي تعود الانحلال والاختلاط يستنكره ويأباه، بل أصبح الزواج رغم هشاشته مصدر إزعاج للقائمين على تلك المجتمعات فقد طلعت الصحافة الغربية يوماً بخبر يقول: "انزعجت السلطات التعليمية في اسكتلندا بسبب موجة الزواج التي تعصف بالمدرسات، فقد تبين أنه من خلال عام (1960م) عينت (1563م) مدرسة في سكتلندا، وفي نهاية العام الدراسي تركت ألف منهن الوظيفة للزواج، وقالت السلطات إن الزواج يهدد النظام المدرسي" (3).
(1) مجلة الاعتصام العدد (3) السنة (1398هـ).
(2) المرأة بين الفقه والقانون (259).
(3) المصدر السابق: (257 - 268).
وحيال ذلك: ماذا في وسع المرأة أن تفعل؟ بأي شيء تواجه المجتمع النكد الذي يلهب ظهرها بالسياط، ويقطع عليها طريق العودة إلى فطرتها، ليس هناك إلا أحد سبيلين: إما الانتقام من هذا المجتمع الظالم بترويعه وتعكير صفوه، كما جاء في التقرير الذي نشرته الصحف من أنه بلغت عدد سرقات المتاجر الكبيرة في إنجلترا خلال عام (1960م) نحو (32194) سرقة، هذا عدا الحالات التي لم تبلغ لإدارة البوليس، والغريب أن (60%) من هذه السرقات ارتكبتها نساء جاوزن سن البلوغ، و (30%) ارتكبها ذكور أقل من السابعة عشرة، وتقول الإحصائيات: إن كل السارقات من النساء لم يكنَّ في حاجة للمال، (1) نعم إنها ليست الحاجة للمال، ولكنها الرغبة في الانتقام وتفريغ السخط.
وإما الانتقام من نفسها بالانتحار كما فعلت الممثلة الشهيرة مارلين مونرو، التي كتبت قبيل انتحارها نصيحة لبنات جنسها تقول فيها: "احذري المجد ... احذري من كل من يخدعك بالأضواء ... إنى أتعس امرأة على هذه الأرض ... لم أستطع أن أكون أماً ... إني امرأة أفضل البيت ... الحياة العائلية الشريفة على كل شيء ... إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة، بل إن هذه الحياة العائلية لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية، وتقول في النهاية: لقد ظلمني كل الناس ... ، وأن العمل في السينما يجعل من المرأة سلعة رخيصة تافهة مهما نالت من المجد والشهرة الزائفة".
وليس غريباً أن تؤكد الإحصائيات العالمية أن نسبة محاولات الانتحار عند النساء أكثر منها عند الرجال، يقول تقرير كتبه أحد
(1) نفس المصدر السابق.
الأطباء الاجتماعيين في فيينا: وقد لوحظ أن النساء أكثر محاولة من الرجال، ففي عام (1948م) كان عدد المحاولات في النساء (381) وهذا يوافق (58.61%) من المجموع، وفي عام (1956م) كان العدد (590) أي بنسبه (56.73%)، وفي عام (1959) كانت النسبة (55.92%)، كما لوحظ أن نسبة المحاولات في الفتيان والفتيات الذين تتراوح أعمارهم بين (14) عاماً و (20) عاما ترتفع باستمرار، فعند الفتيان كانت النسبة في عام (48م) - (6.5%)، وفي عام (1956م) (6.53%)، وفي عام (1959م) (6.81%)، وأما عند الفتيات فالتصاعد مخيف، ففي عام (1948م) حاولت (50) فتاة الانتحار، وهذا يشكل نسبة (7.69%) من مجموع محاولات الانتحار في ذلك العام، وفي عام (1956م) حاولت (89) فتاة الانتحار، وهذا يشكل نسبة (8.55%) وفي عام (1959م) حاولت (150م) فتاة الانتحار، وهذا يعني نسبة (14.20%) وهذا يعني أن كل تسعة أيام توجد ست محاولات انتحار، أربع منها من جانب الفتيات، واثنتان من جانب الفتيان (1).
وهذا غير المصائب التي يوقعها المجتمع بالمرأة، والتي هي في الواقع معاول تهدم المجتمع بكامله؛ إذ لا انفصام بين مشكلة المرأة في ذاتها ومشكلة المجتمع الذي تعيش فيه، من ذلك ما نشرته الصحف الأمريكية في (1977م) من أن فتاة أمريكية في إحدى الولايات الوسطى بالقرب من مدينة غير مشهورة وجدت مقتولة، وقد طرحت جثتها في الغابة، وحمل البوليس الجثة إلى المستشفى، ونشر إعلانا يتضمن سن الفتاة وصفاتها الجسدية لكي يحضر قريبها لتسلم الجثة، فماذا كانت النتيجة؟ ... تقول الصحف: إن المستشفى تلقى (1200) مكالمة من أناس كل منهم يشك في أنها قريبتة، ويستوضح بعض صفات
(1) المصدر السابق (273 - 274).
لفتاة أخرى، بينما حضر إلى المستشفى شخصياً قرابة (500) شخص لمعاينة الجثة (1).
وهذا يعني أن هؤلاء فقدوا فتيات يحملن نفس تلك الصفات، وفي السن نفسه، فكيف بمن يحملن صفات أخرى وفي مراحل من العمر أخرى؟! وإذا كان هذا على مستوى المدينة أو الولاية فكيف بالولايات كلها؟! والأغرب من ذلك كيف يقع هذا كله في أمريكا بلد الإباحية المطلقة؟!
ومن ذلك أيضاً نسب الطلاق المرتفعة باطراد، حيث كانت نسبة الطلاق في أمريكا سنة (1890م) (6%)، وأخذت تزداد حتى وصلت سنة (1948م) إلى (40%)، ولم تنخفض عن ذلك إذ أن تلك النسبة هي نسبة الطلاق لسنة 1978م (2).
أما المفاسد والشرور الاجتماعية الناتجة عن خروج المرأة عن فطرتها فأكثر من أن تحصر، وسنحاول إيجازها فيما يلي:
1 - فساد التربية: فبعد أن أصبحت عودة المرأة لوظيفتها الأساسية مستحيلة، ولم يعد عملها موضع نقاش، كان لابد من إيجاد محاضن ودور لتربية الأطفال، وعنها يقول أليكس كاريل: "لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبداله تدريب الأسرة بالمدرسة (كذا) استبدالاً تاماً، ولهذا تترك الأمهات أطفالهن لدور الحضانة حتى يستطعن الانصراف إلى أعمالهن أو مطامعهن المجتمعة أو مباذلهن أو هوايتهن الأدبية أو الفنية أو اللعب بالبريدج أو ارتياد السينما، وهكذا يضيعن أوقاتهن في الكسل، إنهن مسئولات عن اختفاء وحدة الأسرة واجتماعياتها، التي يتصل فيها الطفل بالكبار، فيتعلم منهم أموراً كثيرة.
إن الكلاب الصغيرة التي تنشأ مع جراء من نفس عمرها في حظيرة واحدة لا تنمو نمواً مكتملاً كالكلاب الحرة التي تستطيع أن تمضي في أثر والديها، والحال كذلك بالنسبة للأطفال الذين يعيشون وسط جمهور من الأطفال الآخرين، وأولئك الذين يعيشون بصحبة راشدين أو أذكياء.
(1) مجلة الدعوة بالرياض صفر (1397هـ).
(2) انظر السلام العالمي والإسلام/سيد قطب: (56)، وجريدة المدينة عدد (4306/ 1398هـ).
لأن الطفل يشكل نشاطه الفسيولوجي والعقلي والعاطفي طبقا للقوالب الموجودة في محيطه، إذ أنه لا يتعلم إلا قليلاً من الأطفال الذين هم في مثل سنه، وحينما يكون وحده فقط في المدرسة فإنه يظل غير مكتمل، ولكي يبلغ الفرد قوته الكامنة، فإنه يحتاج إلى عزلة نفسية واهتمام جماعة اجتماعية محددة تتكون من الأسرة" (1).
2 - جنوح الأحداث: وهو نتيجة طبيعية لفساد التربية وفقدان الأسرة، ولنأخذ مثلاً لذلك الإحصائيات التي أوردها رئيس شرف الرابطة الدولية لقضاة الأحداث: بلغ عدد الأحداث المحكومين في فرنسا سنة (1939م): (12165) وبلغ سنة (1968م): (44016) حسب جدول إحصائي ... وقد صار هذا التزايد في عدد الأحداث المنحرفين منذراً بأوخم العواقب، إذ بلغت أرقامه ضعفيها تقريباً في مدى ثماني سنوات. سنة (1960 - 26894).
ونسجل للمناسبة أن الارتفاع التي كانت سنة (1959=15.2) بالألف لفئة الصبيان المنحرفين (16 - 17) سنة بلغت (25.78) بالألف سنة (1965م) وفي الولايات المتحدة نجد أن نسبة ازدياد حالات الانحراف بين الأحداث الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة قد بلغت (17%)، بينما لم يزد عدد السكان في الأحداث الذين تقل أعمارهم عن (18) سنة إلا (3%).
(1) الإنسان ذلك المجهول: (305).
وبلغت نسبة ارتفاع عدد الفتيات المنحرفات سنة 1961م (18.6%) عن سنة 1960م، بينما لم يبلغ هذا الارتفاع أكثر من (14.2%) عند الفتيان للسنة نفسها.
ولابد لمن يريد أن يكون فكرة دقيقة عن مشكلة الانحراف في واقعها الراهن أن يضيف إلى المنحرفين المعروفين رسمياً عدداً آخر من المنحرفين لم تكتشفه السلطات بعد، ولا بد كذلك أن نضيف عدداً آخر، لم يتخذ بحقهم أكثر من إجراء إخضاعهم لدورات تثقيفية وإصلاحية ... وعلينا أن نضيف عدداً آخر من الأحداث المشردين باعتبار أن القانون الفرنسي لا يعتبر تشرد الأحداث جرماً يعاقب عليه القانون.
وليس الجديد هو هذه الإحصائيات فما أكثرها، ولكن الجديد هو أن جان شازال حاول تعليل أسباب الانحراف، فذكر من جملتها أن الأطفال الذين يحرمون من عناية الأم وعطفها، والذين لا يمكنهم أن يشعروا بحرارة المشاركة العميقة مع الأم، يعبرون عن اختباراتهم العاطفية على شكل ردات فعل من النوع العدائي والمعارض، وتعطش مفرط إلى المتعة، وحاجة طاغية إلى التسلط، وهكذا تكون على طريق الجنوح (1)، أي: أن رئيس شرف الرابطة الدولية لقضاة الأحداث أدرك الحقيقة، ولكن بعد فوات الأوان.
والحق أن المجتمع الذي تقوم قيمه وأسسه الأخلاقية على اللادينية أياً كانت الفلسفة التي يؤمن بها هو بيئة مناسبة للإجرام والجنوح؛ إذ ليس لديه ما يعوض التربية الأسرية المفقودة، ولذلك وصلت الحال في بعض الدول إلى درجة لا تكاد تصدق، ولنكتف بالتقرير الذي أصدره النائب الاتحادي العام في الولايات المتحدة عن الجرائم
(1) الطفولة الجانحة (8 - 13)، (53).
الأمريكية المسجلة رسمياً.
وتقع جريمة قتل كل 43 دقيقة، وتقع جريمة اغتصاب امرأة كل (19) دقيقة، وجريمة سطو على السيارات كل (48) ثانية، وجريمة اختطاف كل (20) ثانية، وجاء في مجلة الجيش الأمريكي عدد فبراير (1976م) أنه وقعت ضمن نطاق الجيش الأمريكي (55210) جريمة اغتصاب في عام (1974م) أي بزيادة قدرها (9%) عن عام (1973م) (1).
هذا مع العلم أن النسب آخذة في الارتفاع باطراد.
3 - فساد الفطرة: يقول مؤلف كتاب الثورة الفرويدية: "إن مثل الولايات المتحدة أو ما نعرفه على الأقل من الحياة الجنسية في هذه البلاد يوضح لنا أن تحرر المرأة المتزايد من خلال التطرف في المعاصرة يمكن أن يعطل المحتوى الجنسي للعلاقة ما بين الرجل والمرأة تعطيلاً خطراً، ففي المرحلة الأولى فإن العراقيل التي تحول دون طغيان الشهوانية تزول، وفي المرحلة الثانية فإن ما يصيب المرأة من ذكورة جزئية يؤدي إلى بعض فقدان الرجولة في الرجل" (2).
أي: أننا بغض النظر عن الإباحية الحيوانية في ميدان العلاقة الجنسية الطبيعية بين الرجال والنساء نجد إحصاءات محيرة عن الشذوذ الجنسي لدى الجنسين تبلغ نسبها حسب تقرير كنزي (20%) فإذا فرضنا أن تلك النسبة لم تزدد خلال العشرين سنة الأخيرة - وهو افتراض خاطئ، وعلمنا أن سكان أمريكا (240) مليوناً، فمعنى ذلك أن (48) مليوناً من الأميركيين شاذون جنسياً!!
وأغرب من ذلك أن (20) مليوناً منهم يمارسون الشذوذ بصفة تنظيمية علنية، فقد نشرت الصحف أن وفداً يبلغ تعداده عشرين
(1) مجلة المجتمع-العدد: (350).
(2) فوجيرولا: (ص:200).
شخصاً يمثلون منظمات اللواطة والسحاق في الولايات المتحدة الأمريكية قاموا بمقابلة السيدة مارغريت مساعدة الرئيس كارتر للعلاقات العامة للمطالبة بحق حرية العمل في المؤسسات العسكرية، وللسماح بمزيد من اللواطة في مكتب التحقيقات الفدرالي ووكالة الاستخبارات ووزارة الخارجية، ومنح صفة معفى من الضرائب لمنظماتهم، وقال رئيس الوفد: "إن هذه هي المرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة التي رأينا فيها أن الرئيس كارتر مناسب للاعتراف بحقوق ومتطلبات عشرين مليون أمريكي من الجنسين يمارسون عملية اللواط والسحاق والشذوذ الجنسي بأنواعه" (1).
وأسوأ من هذا أن تطالب البرلمانات في دول الشمال (اسكندنافية) باعتبار عقد الرجل على الرجل عقداً قانونياً مشروعاً يقام في الكنيسة، بل لقد تم عقد فعلي في إحدى الكنائس بولاية كاليفورنيا (2).
أما صلة ذلك بخروج المرأة من البيت وتفكك الأسرة، فقد اعترف بها أيضاً جان شازال، وإن كان جرى في تعبيره عنها على المصطلحات الفرويدية، يقول في كتابه المشار إليه: "إذا تعقد الطفل بمشاعر أوديبية من تأثير التفكك العائلي أو الأخطاء السيكولوجية العميقة، فقادته هذه المشاعر إلى التعلق بأمه والإحساس تجاه والده بالعدائية تختلط بها الحاجة إلى التمثل به، فإنه يستطيع أن يعبر عن طريق الجنوح عن اضطراب واقعه الانفعالي العاطفي، وحين يتعلق بأمه يصير خجولاً وسلبياً، وقد يتطور بسرعة خلال مراهقته نحو الاستمناء والصداقات الخاصة واللواط، يخشى المرأة حين لا تمثل بالنسبة إليه
(1) المجتمع العدد: (350) نقلاً عن الدستور الأردنية.
(2) انظر مجلة الدعوة المصرية العدد (26/ 1398).
صورة الأمومة، ويكون ذوقه أنثوياً ومشبعاً بالتصنع أحياناً، وقد تلاحقه صورة الأب، وقد يرغب عندئذ في مرافقة رجال ناضجين، وقد يجذبه لسوء الحظ بعض المصابين بالشذوذ الجنسي، والولد الذي يتعلق بأمه يشمل بعدوانية كل الذين يظهر له أن وجودهم يسلبه عطف الأمومة" (1).
4 - الأمراض العقلية والعصبية: جاء في تقرير لمنظمة الصحة العالمية أعدته لاجتماعها السنوي في جنيف لسنة (1978م):
يعاني حوالي (40) مليون شخص من أمراض عقلية أكيدة في العالم، وهناك أكثر من (80) مليوناً ممن يعانون تخلفاً خطيراً من جراء الإفراط في تعاطي الأدوية والمخدرات والمشروبات، بالإضافة إلى مائتي مليون شخص يعانون من اضطرابات عقلية أقل خطراً، ولكنها تعرضهم للتخلف العقلي أيضاً (2)
أما الولايات المتحدة بصفة خاصة فتقول الإحصائيات:
إن المرض العقلي يشكل أخطر تهديد لصحة أبناء شعبها إذ يشير تقرير المعهد القومي للصحة العقلية الصادر في يوليو (1954م): أن عدد المرضي الذين ترعاهم مستشفيات الأمراض العقلية يناظر مرضى المستشفيات الأخرى مجتمعة على اختلاف أنواعها، ولا يندرج بطبيعة الحال في هذا الإحصاء عشرات الآلاف من الحالات المرضية التي لم تقصد المستشفيات، وإنما تولى علاجها -إذا قدر لها أن تحظى بالعلاج- أطباء الأمراض العقلية (3).
(1) الطفولة الجانحة: (53).
(2) جريدة الندوة العدد (5848) لعام (1398).
(3) بافلوف وفرويد: (16).
وقد فطن بعض الباحثين إلى أن السبب في تدهور أخلاق وصحة الجيل الحاضر لا سيما الصحة العقلية ليس هو تعاطي المخدرات والمسكرات، فهذه أعراض للمشكلة الحقيقية، وهي فقدان رعاية الأم وما تمنحه من التوازن النفسي، فقد نشرت الدكتورة: ايدا إيلين بحثاً بينت فيه أن سبب الأزمات العائلية وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق، وتنادي الخبيرة الأمريكية بضرورة عودة الأمهات فوراً إلى البيت، حتى تعود للأخلاق حرمتها، وللأبناء والأولاد الرعاية التي حرمتهم منها رغبة الأم في أن ترفع مستواهم الاقتصادي، وقالت الدكتورة إيلين: إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريق الوحيد لإنقاذ الجيل من التدهور الذي يسير فيه (1).
نبذة عن المجتمع الشيوعي:
كان ما سبق لمحة عن البهيمية الهابطة والمعيشة الضنك والحياة النكدة التي يصلى سعيرها المجتمع الغربي المعاصر، وهي سحابة مظلمة تغطي سماء أوروبا كلها، وترسل صواعقها وشواظها على كل ركن من أركانها، ولكن الرفاق في موسكو يزعمون أن ذلك الوجه الكالح خاص بالمجتمعات البورجوازية، وأن شرور الغرب الاجتماعية مردها إلى طبعتة الطبقية ونظامه الرأسمالي، لذلك فهم يزعمون أن المجتمع العمالي البروليتاري مجتمع سليم متكافئ ذو أخلاق من النوع الذي تحدث عنه إنجلز سلفاً.
ولعل فيما أوردنا سابقاً عن الوضع السياسي والاقتصادي داخل الستار الحديدي غني في الرد على هذه المزاعم، فمجتمع ركيزته الحقد
(1) المرأة بين الفقه والقانون: (253).
وقوامه التجسس وطابعه الذعر والإرهاب لا يمكن بحال أن يكون مجتمعاً إنسانياً سليماً، وأنى يكون كذلك وهو يهدر قيمة الإنسان وكرامته في مقابل زيادة الإنتاج؟! ويجعل الغرض الأساسي لوجوده هو الكدح في معسكرات العمل أو المزارع الجماعية؟!
إن الحزب الشيوعي الذي يتحكم في أقوات الناس ويعلق سيفه الرهيب فوق رءوسهم، يملك فرصة أكبر للتحكم في أخلاقهم وعاداتهم ويعتمد أن يصوغ البشر في قوالب معينة حصيلتها النهاية إفساد الإنسانية وتحطيمها، فالفرد في ظل الأنظمة الحمراء مجبر على أن يحشر هو وكامل أفراد أسرته في غرفة واحدة هي غرفة جلوسهم ونومهم ومطبخهم، ثم هي غرفة في مجتمع إسكاني ضخم غير متجانس، فالشقة التي تتكون من ست غرف يكون معدل سكانها ثلاثين نسمة ينتمون لست أسر، منها أسرة من البلد نفسه، ومنها أسرة تعرض ربها للنقل التأديبي من إحدى الجمهوريات النائية، وثالثة تسكنها -مثلاً- أسرة قادمة من إحدى الدول الديمقراطية الشعبية التابعة لموسكو ... وهكذا، ويشترك سكان الشقة في دورة مياه واحدة، بالإضافة إلى أن دورات المياه العامة قد تكون بنيت بلا أبواب منذ إنشائها، وإذا كانت الغرفة لاتحتوي إلا على سرير واحد فردي، فإن الأبوين ينامان عليه حين ينام الأبناء ذكوراً وإناثاً حتى من البالغين على المنضدة متلاصقين، وهي المنضدة التي يستعملونها للمطبخ بالنهار، (1) وهذا بالطبع غير المساكن العمالية الملحقة بالمصانع، والتي حشر فيها العمال والعاملات الذين يصلون إلى عدة آلاف في المصانع الكبرى.
ويبلغ تعمد الإفساد في الدول الشيوعية حداً يجعل السياح العاديين الذين يتاح لهم التجول في البلاد الشيوعية يرونه بوضوح.
يقول سائح سويسري: "لقد انحطت القيم الأخلاقية في أكثر بلاد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن الفرق بين ما هي عليه الحالة في البلاد الشيوعية وما هي عليه في البلاد الأخرى هو أن الحكومات الشيوعية هي التي تسعى إلى إفساد الأخلاق وتحث عليه، كما أن أوضاع الناس وفقرهم ونظام حياتهم الذي فرضته عليهم الشيوعية كل أولئك تدعو إلى إفساد الأخلاق وتشجعه، فماذا ينتظر المجتمع من أناس تحشر الأسرة كلها الأب والأم والفتيات والفتيان الكبار والصغار في غرفة واحدة هي غرفة نومهم وجلوسهم ومطبخهم.
إن هذا النوع من الحياة والفقر وانعدام الوازع النفسي والديني كلها أمور تحض فساد الأخلاق حتى ولو لم تتيسر الأسباب، فكيف والحكومة هي التي تيسر كل شيء لفساد المجتمع؟! ففي أكثر البلاد الشيوعية وفي أمهات المدن بصورة خاصة أوجد الشيوعيون أماكن خاصة للفساد، ولست أقصد بذلك بيوت الدعارة، بل أقصد بذلك تلك الحدائق الواسعة ذات الخمائل الوارفة التي يتواري بها الفجار عن أعين الناس أو يرتكبون الفاحشة علىعين الناس بلا حرج ولا مبالاة، أو هي شوارع تترك بلا نور ليلاً لتسهل الدعارة، وقد صرح الماريشال تيتو في إحدى خطبه موجهاً كلامه للشعب قائلاً: لقد تركنا لكم الخمر والنساء، فخذوهما واتركوا لنا السياسة"
والمرأة -التي هي ميزان الأخلاق- أرخص سلعة في البلاد، وهي ترمي بنفسها على الرجل، ولا سيما على الغريب، وكل ما تطلبه هو أن يتزوجها ولو مؤقتاً، لكي يتسنى لها الفرار من البلاد والخلاص من جحيم الشيوعية، وبالتالي فإني رأيت الناس يعيشون في البلاد الشيوعية كما تعيش البهائم، وإني لأخشى إذا طال-لا قدر الله- عمر الشيوعية أن يظهر إلى عالم الوجود أناس يختلفون عن البشر، ويرجعون بالمدنية التي وصلنا إليها بآلاف السنين إلى حياة الغاب.
(1) انظر الديمقراطية والشيوعية: وليم أينشتاين: (263 - 264).
لذا فإني أرى بأن العالم سيظل قروناً بعد القضاء على الشيوعية حتى يستعيد كرامته وإنسانيته، إذ لابد من تربية جديدة صالحة حتى يكون إنساناً صالحاً (1).
أما فيما يتعلق بالزواج، فإن الزواج المعترف به من الوجهة النظرية في الغرب الرأسمالي باعتباره العلاقة المشروعة بين الجنسين لا يحظى بذلك هناك، فالشيوعية تعد الزواج وما ينشأ عنه من الأسرة وتربية الأطفال أثراً من آثار البورجوازية وبقية من تقاليد العصر الإقطاعي لا تليق بالمجتمع العمالي الحديث.
فالبيان الشيوعي يقول: "إن الأسرة البورجوازية سوف تختفي بشكل طبيعي باختفاء رأس المال، أما التهريج البورجوازي عن الأسرة وأهميتها في التربية وعن أهمية العلاقة بين الولد وأبويه فهو مما يثير الاشمئزاز، إن تقدم الصناعة الحديثة سوف يقطع كل الصلات العائلية بين أفراد الطبقة العاملة" (2).
ويتحدث آرثر كستلر -العضو السابق للحزب الشيوعي- عن المعادلة الشيوعية الصعبة فيقول: "أما بخصوص الدافع الجنسي فقد كان مقرراً ومعترفاً به إلا أنا كنا في حيرة بشأنه، كان نظام الأسرة كله عندنا أثراً من آثار النظام البورجوازي ينبغي نبذه، لأنه لا ينمي إلا الفردية والنفاق والاتجاه إلى اعتزال الصراع الطبقي، بينما الزواج البورجوازي لم يكن في نظرنا إلا شكلاً من أشكال البغاء يحظى برضاء المجتمع وموافقته، إلا أن السفاح والاتصال الجنسي العابر كان يعتبر أيضاً شيئاً سيئاً غير مقبول، من هذا نرى أن الفضيلة البورجوازية
(1) انظر دوماز: عائد من الجحيم. مقتطفات: (56 - 65).
(2) عن الصنم الذي هوى: (24).
كان شيئاً سيئاً، كما أن السفاح كان سيئاً كذلك، أما الموقف الصائب الذي ينبغي أن نتخذه نحو هذا الدافع الجنسي فهو الفضيلة العمالية التي تتلخص في أن الإنسان ينبغي له يتزوج، ويخلص لزوجته وينجب أبناء عماليين، فإذا تساءلت: أليست هذه الفضيلة البورجوازية التي استنكرناها من قبل؟ قيل لك: إن هذا التساؤل أيها الرفيق يدل على أنك لازلت تفكر بالطريقة الآلية لا بالطريقة الجدلية، إن نظام الزواج الذي يعتبر في المجتمع الرأسمالي مظهراً من مظاهر الفساد والتحلل يتحول منطقياً إلى عكس ذلك في المجتمع العمالي السليم، فهل فهمت أيها الرفيق أم تحب أن أعيد عليك جوابي بطريقة محكمة أكثر من هذه؟ " (1).
وما تحدثنا عنه من التفكك الأسري والتفسخ الاجتماعي في الغرب موجود بعينه في الدول الشيوعية مع إضافة شيء آخر أكثر خطورة، وهو الشعور الدائم بالهلع والرقابة البوليسية والشك والحذر من كل إنسان، حتى أفراد الأسرة والواحد لا يمكن أن يقوم بينهم تواد وتفاهم كاملان كما يكون بين خلق الله الآخرين، وخير شاهد على ذلك قصة الطفل البطل الذي وشى بوالده إلى الحكومة فحكمت عليه بعشرة أعوام من السجن والعمل سخرة (2).
والمرأة -خاصة- تعاني شقاءً لا حدود له، فهي لا تملك أن تبث شكواها فضلاً عن المطالبة بشيء من حقوقها، حتى زميلاتها في المصنع أو المزرعة لا تستطيع أن تفاتحهن بكل ما يعتلج في صدرها، لأن احتمال تسرب ذلك إلى الإدارة ماثل للعيان، وعقوبته لا يطاق تصورها، وهى عاملة بحكم طبيعة النظام وصرامته، ولذلك فهي محرومة من إرضاء
(1) المصدر السابق: (56 - 57).
(2) انظر الديمقراطية والشيوعية: وليم أينشتاين: (162).
غرائز الأمومة وعواطفها الأنثوية مقهورة مكبوتة، أما الأطفال فالمحاضن التي تقيمها لهم الدولة أكثر منها في الغرب، كما أنها أردأ منها في أساليب التربية ووسائل المعيشة، وهذا يضاعف البلاء الاجتماعي ويزيد المجتمع انحداراً إلى الهاوية.
وذلك الوضع لا تدعو إليه الظروف الاجتماعية فحسب، بل هو جزء من الفلسفة الشيوعية، فقد ذكر إنجلز أن من التدابير التي يجب على البروليتاريا أن تتخذها تربية جميع الأولاد منذ أن يصبحوا قادرين على الاستغناء عن عناية الأمهات في مؤسسات عامة تابعة للدولة وعلى حساب الأمة ... ، والحق المتساوي في الإرث للأولاد الشرعيين وغير الشرعيين (1).
وصفوة القول أن المجتمع الشيوعي هو أحط المجتمعات البشرية المعاصرة سواء من الناحية الأخلاقية أومن ناحية الطمأنينة النفسية والسعادة الاجتماعية، فهو مجتمع منحل مذعور يخيم عليه كابوس شقاء مطبق إلى حد أن الإنسان لا يستطيع أن يفكر في أمل حقيقي للخلاص.
وهذا التفسخ الفظيع والشقاء المريع الذي تعاني منه أوروبا اللادينية بشقيها الرأسمالي والشيوعي، هو النتيجة الطبيعية والعقوبة العاجلة لكفرها بالله وتنكرها لدينه والاحتكام إلى أهواء البشر وتخرصات المضللين، وإنه لمن سنن الله في خلقه أنه إن لم تعد إلى الله وتتمسك بهداه، فإن المستقبل سيكون أمر وأنكى.
(1) نصوص من إنجلز: (48).
-
الثلاثاء AM 10:33
2022-06-28 - 1391