المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 409164
يتصفح الموقع حاليا : 346

البحث

البحث

عرض المادة

الأدب المعاصر من الواقعية إلى اللامعقول:

إن أي باحث في الأدب المعاصر لا بد أن يرى بوضوح مؤثرات جديدة وقوية أدت به إلى الحال الراهنة، وميزته عن المدارس والاتجاهات السابقة.

وليس ضرورياً -بالطبع- أن تكون هذه المؤثرات أدبية محضة، فما دام الأدب هو صورة الحياة فإن كل التحولات التي طرأت على الحياة الأوروبية سوف يصحبها تحول مماثل في الفن والأدب، ويرى أحد النقاد الغربيين أن هناك أربعة من المفكرين يعود إليهم الفضل في الاتجاهات الفنية والنقدية الحديثة، هم داروين، وماركس، وفريزر، وفرويد (1).

والحق أن لداروين وفرويد خاصة أعظم الأثر في ذلك:

أما الداروينية فإن الفلسفة الحيوانية التي بنيت عليها ولدت في النفسية الأوروبية شعورين عميقين لا يمكن للأدب الأوروبي مهما تعددت مدارسه ومناهجه إلا أن يكون تعبيراً عن أحدهما:

1 - حيوانية الإنسان التي تلغي المشاعر الروحية تماماً، وتجعل الكائن البشري كتلة من اللحم كأي حيوان آخر، لا هم له إلا إرواء غرائزه البهيمية والحصول على أكبر قسط من المتاع الجسدي المحض.

2 - والشعور بتفاهة الحياة وحقارتها، ونفي أية غاية سامية لوجودها، وهو الشعور الذي عبرت عنه مدارس الضياع المختلفة تحت أسماء وشعارات شتى.

وأما الفرويدية فقد عمقت الاتجاه الحيواني موصلة إياه إلى الحضيض، وصاغته في فلسفة نظرية منمقة تجعل الوصال الجنسي هو الغاية والوسيلة، وهو محور الحياة ومحور البحث ومناط التفكير وعلة العلل.

وعمقت كذلك الشعور بالضياع والحيرة، فقد تركزت فلسفتها الجنسية حول الجوانب المجهولة - إن لم نقل المختلفة - كالعقل الباطن واللاوعي واللاشعور والأنا المثالية إلخ، وكأنها بذلك قدمت العوض المعاكس للإيمان والإحساس الروحي.

وهناك غير ما سبق عوامل ومؤثرات كثيرة:

فهناك الحربان العالميتان، وهما الكارثة التي حطمت القيم والأعراف والقوانين، وأذهلت بفظائعها المروعة عقول البشر، ولا يزال التهديد الذري واحتمال نشوب حرب ثالثة يسيطر على مخيلة الناس ويؤرق شعورهم.

وهناك التفسخ الاجتماعي، حيث الأسرة محطمة، والمشاعر النبيلة مفقودة، والتنافس الضاري على أشده، مما جعل الإنسان يعيش في دوامة رهيبة من القلق لا يجد موطئ قدم تسكن نفسه إليه منذ ولادته حتى مماته.

وهناك -أيضاً- النظريات العلمية الجديدة لا سيما النسبية ودورها يتجلى في أنها أفقدت الناس قيمة الأحكام المطلقة والإيمان والثقة في أية أسس ثابتة وعامة، ثم إنها تستعمل في بحوثها عن الكون والإنسان أرقاماً مذهلة يعجز العقل عن تصورها، وتتكلم بلغة محيرة مربكة تجعل المرء فريسة تناقض حاد بين إيمانه الوثيق بعلميتها وصدقها وبين عجزه عن إدراك مدلولاتها وتفسير معمياتها.

وهناك الوسائل الفنية الجديدة، كالسينما والتليفزيون والصحافة المتطورة ودور النشر الكبيرة، تلك التي جعلت تعميم المادة الأدبية وذيوعها أمراً ميسوراً للغاية وخلقت جواً من التنافس بين المؤلفين والمنتجين والرسامين:

بهذه المؤثرات جميعاً تأثر الأدب المعاصر وانفصل بالتالي عن الدين انفصالاً حاسماً ومهما قيل في تعداد مدارسه ومذاهبه، فإنه يتذبذب بين اتجاهين رئيسين هما: الإباحية والضياع، ويطلق النقاد على الأدب المعاصر في الجملة مسمى اللامعقول، وهو إطلاق له ما يبرره لاسيما في مدارس الضياع، ولا يرون أي تناقض بين ذلك وبين وصفه بأنه أدب واقعي، فإن واقعية القرن العشرين تتجلى في لا معقوليته.

والواقع أن الارتداد من الواقعية إلى اللامعقول يشبه الانتقال من الكلاسيكية إلى الرومانسية مع اختلاف صوري فقط، على أن رباط الوثنية يظل هو الرباط المشترك بين الجميع.

أولاً: الاتجاه الإباحي:

في كل مراحل التاريخ الأدبي الأوروبي لم ينفك الفن عن الإباحية، إلا أن صورها كانت تختلف وتسير متطورة ولكن إلى أسفل، وما أصدق قول برنتن:

إن الخشونة والفحش من الصفات الدائمة تقريباً في ثقافتنا الغربية (2) فالأغاني البذيئة والمسرحيات الوضعية في عصر النهضة تعقبها عبادة اللذة والجمال في الرومانسية، ثم تصبح الدعوة صريحة إلى الفجور والفاحشة في الأدب الواقعي، وتظل صورتها تكبر وتسفل حتى تصل إلى الأدب المكشوف.

وبذلك بعدت الشقة جداً بين رهبانية الكنيسة والفن، وصار بينهما هوة لا قرار لها، وإذا عرفنا أنه ما تزال نسبة تمثال افروديت إلهة الحب! عند الإغريق هي المقياس لأجساد ممثلات هوليود، (3) فلن يخفى علينا ارتكاس هذا الاتجاه إلى الوثنية.

ولنبدأ بالطريق من أوله -متجاوزين عصر النهضة- لنجد تلك المجموعة من الأدباء في العصر الحديث الذين كرسوا فنهم وحياتهم للإباحية.

فهناك الفريددي موسيه شاعر الليالي الذي كان أبيقورياً بأوسع معاني الكلمة، ومعاصروه أمثال بروسبير صاحب قصة كولومبيا وألكسندر دوماس الكبير والصغير، والأخير مشهور بقصة غادة الكاميليا وفلوبير صاحب مدام بوفاري ومعهم الكاتبة العربيدة جورج ساند صاحبة ليليا وأنديانا وينبغي ألا ننسى ستندال صاحب الأسود والأحمر وأوسكار وايلد (4).

وكل أدب هؤلاء محصور في تمجيد الرذيلة وتبرير أعمال العاهرات والإشفاق عليهن، ودخل هذا الاتجاه مرحلة أتم بالمدرسة الطبيعية التي يتزعمها الكاتب اليهودي إميل زولا صاحب الأرض والبهيمة وغيرها، وهي مدرسة إباحية متخصصة.

وعن هذا الاتجاه يقول أحد عظماء الأدب الأوروبى تولستوي سنة 1898:

أصبح المقياس الوحيد للفن الجيد والفن الرديء هو اللذة الشخصية، فالخير هو ما يبعث اللذة في نفوسهم وهذا هو الجميل، وبذا ارتدوا إلى تصور الإغريق البدائيين الذين أدانهم أفلاطون، وطبقاً لهذا الفهم في الحياة تكونت نظرية في الفن ويقول: (5)

ويقول: "إننا نشبه الفن المعاصر - مع غرابة هذا التشبيه - بامرأة تبيع جسدها لإرضاء الذين يبتغون اللذة بدلاً من أن تجعله مستودعاً للأمومة، فالفن المعاصر يشبه العاهر في أدق التفاصيل، فهو مثلها ليس وقفاً على عصر معين، وهو مثلها مبهرج، وهو مثلها قابل للبيع دائماً، وهو مثلها كله إغراء وكله هدم" (6) س.

ثم جاء فرويد، وجاءت الحرب الأولى، فاكتسب هذا الاتجاه قوة، واستشرت رذائله في الأوساط العامة وانهال الإقبال على إنتاجه الرخيص، ووجدها الهدامون والمتكسبون فرصةً لنفث سمومهم واستغلال مشاعر الناس واللعب بعواطفهم وإثارة غرائزهم، ويبرز هنا اسم ديفيد هربرت لورانس 1930، الذي كتب عدة روايات منها: أبناء وعشاق وعشيق ليدي تشارلي والأخيرة أثارت ضجة كبرى في إنجلترا بسبب جرأتها المتناهية في تصوير العسلاقات الجنسية ولم تنشر كاملة إلا مع بداية الستينات (7).

 

 


(1) ستانلي هايمان: النقد الأدبي: (158).

(2) قصة الفكر الغربى: (297).
(3) انظر المصدر السابق: (85).
(4) انظر سلسلة تراث الإنسانية تحت هذه الأسماء المذكورة لاسيما (ج:2، 7).

(5) عن دراسات أدبية: يوسف الشاروني: (84).
(6) عن دراسات أدبية: يوسف الشاروني: (84).
(7) سلسلة تراث الإنسانية: (7 - 263).

وبعده طلع ولسن بمذكرات مقاطعة هيكث سنة 1946 التي صادرتها محكمة القضايا الخاصة بعد أن بيع منها خمسون ألف نسخة في نحو أربعة أشهر، وهى تصور بالتفصيل الدقيق كما قال هايمان: عشرين دوراً من أدوار العملية الجنسية يقوم بها أربع عاهرات ... !! (1)

وهناك عدد لا يحصى ممن تفننوا في تصوير أعمال الدعارة والعهر مبررين ومسوغين، وأوقفوا حياتهم الأدبية لذلك، حيث الجمهور يتلهف لقراءتها والمنتجون يتسابقون لإخراجها مشاهد حية، ولا غرابة في أن أكثر الروايات الأدبية العالمية انتشاراً هي أكثرها إسفافاً ورذيلة.

وهذا كله في نطاق الأدب الجاد أو الهادف الذي يعد جزءاً من التراث الحضاري البشري والذي تكتبه شخصيات أدبية مرموقة، وترصد له الجوائز والمسابقات الدولية والقومية، ويكتب له النقاد والمعلمون.

أما ما يسمى أدب الجنس أو الأدب المكشوف الذي لا يصح أن يسمى أدباً بحال، فهو في كل العالم الغربي ملء السمع والبصر، يملأ الحوانيت، ويستنفذ الصحافة، ويسيطر على دور العرض السينمائي، ويستغرق أوقات الملايين من الناس، حتى الأطفال تكتب لهم مسلسلات جنسية وروايات جنسية ومسرحيات جنسية.

ثانياً: الاتجاه الضائع:

لم تستطع كل المذاهب الفكرية والفلسفات الاجتماعية أن تعطي الإنسان المعاصر -أو القرد حسب تعبير كامو- أي نوع من أنواع الثقة والاطمئنان.

بل على العكس كان دورها الفعال ينحصر في اجتثاث موروثات الكنيسة الهشة، التي كانت رغم هشاشتها تقدم شيئاً من الاستقرار والثقة في المصير.

وكانت العوامل النفسية والاجتماعية التي أشرنا إليها سلفاً تهدم كل أمل في الوصول إلى السعادة والإيمان بالقيم المجردة أياً كانت.

وأمام العملاق الميكانيكى الرهيب وسيطرة الآلة الطاغية شعر الإنسان بأنه قد سحق وأن وجوده قد تضاءل إلى حد أدنى مما كان عليه وهو يواجه جبرية الكنيسة واضعاً مصيره بين يدي قدرها المحتوم.

وهنا تحققت نبوءة شبنجلر وتكهنات أورويل عن مستقبل الجنس -أو القطيع- البشري، وأصبح مشكلة الإنسان العظمى في الحياة هي وجوده حياً، فالكلمة التي قالها أوغسطين: أصبحت أنا نفسي مشكلة بالنسبة لنفسي، لم تعد خاصة بالفلاسفة بل باتت ترددها شفاه الفرد العادي من أجيال الضياع!

ويتساءل الأديب المعاصر:

هل لحياتنا معنى؟ ما هو؟ ما هو مكان الإنسان في العالم؟ هنا يظهر حالاً لماذا كانت الأغراض البلزاكية مطمئنة أنها تنتمي إلى عالم يكون الإنسان فيه سيداً وهذه الأغراض كانت أموالا وأملاكاً لا هم إلا امتلاكها والاحتفاظ بها ...... وكانت ثمة هوية ثابتة بين هذه الأغراض ومالكها، صورة بسيطة هي في الوقت ميزة ووضعية اجتماعية، كان الإنسان سبب كل شيء مفتاح الكون وسيده الطبيعي بالحق الإلهي، أما اليوم فلم يبق الكثير من كل هذا.

ومع ذلك فهو يتبجح قائلاً: "إننا لا نؤمن أبداً بالمعاني الجامدة الجاهزة التي يقدمها النظام الإلهي القديم للإنسان وعلى أثره نظام القرن التاسع عشر العقلاني، ولكننا نضع كل أملنا في الإنسان، إن الأشكال التي خلقها هي التي تستطيع إعطاء العالم معنى" (2) وهذا هو دستور اللامعقول.

إن الأدب المعاصر يرفض الإيمان بالمعاني المحددة والقيم الثابتة المجردة تبعاً لعدم إيمانه بهدف كوني ثابت، إنه لا يريد أن يؤمن بذلك الهدف سواء في صورة القدر بالشكل الذي تقرره لاهوتيات الكنيسة، أو في صورة المثال كما تخيله أفلاطون وفلاسفة الاغريق، ففي نظر أدباء الضياع ينبغي ألا يكون هنالك إرادة تسير الحياة الإنسانية على خطة مرسومة إلى هدف مقصود، كما أنه ليس هناك نموذج سامٍ يفوق الإدراك تكون الحياة الحسية انعكاسه وصورته الموازية له.

والسبب الذي دفعهم لإنكار ذلك هو توهمهم أن الإيمان بشيء منه يتعارض مع ما زعموه حرية الإنسان من جهة، ومع ما يظهر في الكون من تناقض وتقلب تعجز عقولهم عن تفسيره من جهة أخرى.

ولم يظل هذا الاعتقاد فكرة مجردة، بل بني عليه الدستور العلمي للفن الذي ينص على أن الفن للفن، يقول يعضهم تحت عنوان: الالتزام الوحيد الممكن للكاتب هو الأدب:

ليس من الصواب الزعم أننا نخدم في رواياتنا قضية سياسية مهما كانت قضية تبدو لنا عادلة، وحتى لو كنا في حياتنا السياسية نحارب في سبيل انتصارها، إن الحياة السياسية تضطرنا دون انقطاع إلى افتراض معاني (كذا) معروفة: معاني تاريخية، معاني أخلاقية، إن الفن أكثر تواضعاً أو أكثر طموحاً، ففى نظره ليس هناك من شيء، معروف مسبقاً، وقبل العمل لا يوجد شيء، لا يقين ولا قضية ولا رسالة، فالظن أن عند الروائي شيئاً يريد أن يقوله، وأنه يبحث بعد ذلك كيف يقوله يمثل أخطر عمل مناقض للحقيقة (3).

هذا الإحساس بالضياع وعدم الانتماء في عالم يعج بالمعضلات الحضارية والمآسي الإنسانية، جعل الرواية المعاصرة تتخذ بطلها من نوع آخر ملائم لاتجاهها، ويستطيع المرء أن يعد نوعية البطل مؤشراً حقيقياً لتحديد الانتماء الفني وتطوره، فالأدب الكلاسيكي كان بطله هو ما يدل عليه المعنى الأصلي لكلمة بطل، ثم حولت الرومانسية بطلها إلى العاشق أو الصوفي، أما بطل الرواية الواقعية فهو غالباً الشهواني أو المادي، وفي أدب الضياع المعاصر نجد أن البطل هو الصعلوك أو المتشرد، أو هو -إجمالاً- ذلك الإنسان الذي مصيره الخيبة والدمار.

أمثلة من أدب الضياع (4):

تصور أزمة إنسان عادي كان يعيش حياة طبيعية كسائر الناس يفاجأ برجال شرطة غريبين يلقون القبض عليه ويحاول عبثاً أن يعرف السبب، ويحدث أن تحال قضيته إلى محكمة غريبة في أشخاصها وقانونها وبنائها، ويظل يترافع مدافعاً عن نفسه دون أن يعرف ماهية القضية، ويظل رهن الاعتقال إلا أنه اعتقال غير مألوف، فهو حر مأسور في آن واحد، يخضع للملاحقة والمتابعة في كل مكان، ويظل يشكو حاله لمعارفه وأصدقائه ويبحث عن محام قدير، لكنه يكتشف -يا للمصيبة- بأن معارفه كلهم أعضاء مجهولون في المحكمة الغريبة! حتى رجل الدين الذي لقيه صدفة في إحدى الكنائس، هو أيضاً عضو في المحكمة، وبعد فصول طويلة معقدة من المحاكمة ومع أنه لا يزال يجهل التهمة تنتهى حياة المتهم (5) بأن يقتاده مجهولان ويغتالانه خارج البلدة، وكانت آخر كلمة قالها (مثل الكلب) يعني: نفسه.

وتنتهى صفحات الرواية وفصول المحاكمة مبتورة، والموضوع لا يزال معلقاً فهي في الحقيقة لم تتم ولا يريد كافكا أن تتم!

والقضية، في حقيقتها، هي قضية الوجود الإنساني على هذه الأرض، قضية الحياة ذاتها كما تبدو للإنسان اللامنتمي، فمن خلال رؤيته يبرز إلى الوجود دون سابق استشارة، ويظل رهن الحياة تتقاذفه أقدارها ويطويه الليل والنهار، وهو قابع في متاهة يلهث ويتحسر حتى يداهمه الفناء المحتوم، دون أن يعرف السر في وجوده والقضية التي لأجلها جاء ثم ذهب واضمحل!

2 - الشيخ والبحر "همنغواي":

هنا يأتى اللامنتمى بنموذج آخر لتصوير المأساة الإنسانية وتجسيد المعضلة والمنعطف للحضارة البشرية، حيث تكون الكارثة والخسارة الفادحة هي النتيجة والثمرة من عمر طويل وخبرة كافية وصراع مرير في الأعماق!

 


(1) النقد الأدب، ستانلي هايمان: (75).

(2) معجم الأدب المعاصر: (62، 63).

(3) المصدر السابق: (63).
(4) هو فرانتس كافكا، أديب ألماني (1883 - 1924) اشتهر بهذه الرواية: انظر سلسلة تراث الإنسانية: (5/ 807).

(5) من الواضح أنه رمز لاسم كافكا.

فالشيخ الصياد أفنى عمره في منازلة أقدار البحار، وقد توغل هذه المرة في أعماق المحيط لا تنقصه الخبرة ولا يعوزه السلاح، غير أنه يظل متشبثاً بإصرار مميت على أن تفوز شبكته بأكبر نصيب، وبعد معاناة قاسية ومغامرات مضنية يظفر بما يروي أحلامه، ويجنح بزورقه طالباً بر الأمان، لكنه يفاجأ بعقبات ومهاجمات شتى تجعل الاحتفاظ بالصيد أعظم مخاطرة من الحصول عليه، وينفذ زاده وتتحطم بقايا سلاحه وتخور قواه والتماسيح والقرشان العظيمة لا تكف غاراتها الشرسة على زورقه، وأخيراً وبعد جهد جهيد وجراح بالغة يصل إلى الشاطئ وليس لديه من الصيد الثمين إلا هيكله العظمي في حين قد فقد كل شيء!!

وكما صور همنغواي أزمة الحضارة البشرية وأزمته الشخصية فقد تقمص شخصية الشيخ الخاسر، وآثر أن يغادر الحياة بعد أن ظهرت له أعراض الكارثة، ولم يجد وسيلة إلا أن يبادرها بالانتحار (1).

3 - الساعة الخامسة والعشرون:

رواية طويلة ألفها الكاتب الروماني كونستانتان جيورجيو وهي من أعظم الأعمال الأدبية التي تناولت بالتحليل المستفيض والتصوير الدقيق مأساة الضياع المتمثل في انهيار الحضارة الغربية وسحق إنسانية الإنسان، يقول فيها:

إنني أشعر أن حدثاً خطيراً قد وقع حولنا، إنني أجهل أين انفجر ومتى بدأ وكم يدوم؟ لكنني أشعر بوجوده، لقد أخذنا في الدوامة ولسوف تمزق هذه الدوامة جلودنا وتحطم عظامنا الواحد تلو الآخر، إنني أشعر بهذا الحدث الهائل شعوراً لا يضاهيه إلا إحساس الجرذان المسبق الذي يدعوهم إلى هجر مركب على وشك الغرق، لن يكون لنا أي مأوى في أي مكان في العالم (2).

ويصور جورجيو سبب المأساة بأن التقدم الآلي المجرد من القيم وتفوق الآلة الطاغي على الإنسان وذبول إنسانيته أمامها، كل هذا سيفضي بالمجتمع البشري إلى نهاية مرعبة، إذ يظهر سلالات من نوع خاص لا هي بشرية ولا هي آلية، أسماها المؤلف الرقيق التكني وبحكم كثرة الرقيق التكني، فإنه سوف يثور للسيطرة على العالم وسينتصر فعلاً، ويعود البشر الحقيقيون أقلية ضئيلة على الأرض:

المجتمع الحديث الذي يحوي على رجل واحد مقابل كل ثلاثين عبداً تكنياً، ينبغي أن ينظم وأن يعمل حسب النظم التكنية لأنه مجتمع خلق وبني على احتياجات ميكانيكية وليست إنسانية، وهنا تبدأ الفاجعة (!!) إن المخلوقات البشرية مرغمة على الحياة والتصرف وفق قوانين تكنية غريبة عن القوانين الإنسانية (3).

وعندما يثور العبيد الآليون فماذا ستكون النتيجة؟

إن هذه الثورة ستحدث على سطح الأرض كلها، ولن نستطيع الاختفاء لا في الغابات ولا في الجزر ولا في أي مكان، لن تستطيع أمة في العالم أن تحمينا (!!) سوف تشكل جيوش العالم كله من مأجورين يناضلون ويكافحون من أجل تدعيم المجتمع الآلي الذي لن تعيش فيه الفردية، ولعل هذا العصر هو الفترة الأكثر ظلمة في تاريخ البشرية، إذ لم يحدث لحد الآن أن احتقر الإنسان إلى هذا الحد.

والحياة البشرية لم تعد لها قيمة إلا بوصفها مصدر حركة، والقياسات أضحت علمية محضة، وهذا هو قانون بربريتنا الآلية المظلمة ولسوف نصبح بعد النصر الكلي عبيداً آليين (4).

ثم يتحدث المؤلف عن سلالة المواطنين في الشرق والغرب، في أمريكا وروسيا في ظل الشيوعية والديمقراطية على حد سواء فيقول: "إن الانسان لم يستطع السيطرة على كل الحيوانات المفترسة، غير أن حيواناً جديداً ظهر على سطح الأرض في الآونة الأخيرة، وهذا الحيوان الجديد اسمه المواطنون، إنهم لا يعيشون في الغابات ولا في الأدغال ولكن في المكاتب، ومع ذلك فإنهم أشد قسوة ووحشية من الحيوانات المتوحشة في الأدغال، لقد ولدوا من اتحاد الرجل مع الآلات، إنهم نوع من أبناء السفاح (!!) وهم أقوى الأصول والأجناس الموجودة الآن على سطح الأرض، إن وجههم يشبه وجه الرجل، بل إن المرء غالباً ما يخلط بينهم، ولكن لا يلبث المرء حتى يدرك بعد حين أنهم لا يتصرفون كما يتصرف الرجال بل كما تتصرف الآلات، إن لهم مقاييس وأجهزة تشبه الساعات بدلاً من القلوب وأدمغتهم نوع من الآلة، فهم بين الآلة والإنسان، ليسوا من هذه ولا ذاك، إن لهم رغبات الوحوش الضارية مع أنهم ليسوا وحوشاً ضارية بل إنهم مواطنون ... إنها سلالة اكتسحت الأرض".

والنتيجة التي يستخلصها المؤلف من وجود هذه السلالة هي: أن كلمة مواطن لم تعد مرادفة لمعنى إنسان (5)

ويتعرض المؤلف في روايته الطويلة لضروب الإفلاس والضياع التي ستمنى بها البشرية في كل ناحية، في الاجتماع والسياسة، في


(1) انتحر همنغواي سنة (1961) (انظر مجلة العربي عدد: 52) والقصة ترجمها: منير البعلبكي.

(2) عن تهافت العلمانية د. عماد الدين خليل: (175).
(3) المصدر السابق: (181).

(4) المصدر السابق: (182).
(5) المصدر السابق: (186).

الإبداع والشعر في الإنسانية. في كل شيء، ويقول: "إن كل ما تستطيع الحضارة تقديمه للإنسان: الأصفاد" (1).

وينبغي أن نشير هنا إلى عدة أعمال فنية في الاتجاه نفسه لا تقل عما ذكرنا: قلعة أكسل لأدموند ولسن، البحث عن الزمن الضائع لبروست، والعالم الطريف آلدوس هكسلي وكوكب القردة لبيريل بيل ورحلة في دنيا المستقبل لويلز.

وعلى مستوى المسرحية تجد البيت المحطم للقلب، وهي إحدى مسرحيات شو ويعرض فيها إفلاس حضارتنا الحديثة كما تجلَّى عقب الحرب الكبرى (2).

أما الشعر فيلمع اسم اليوت وقصيدته اليباب أو الأرض القفر ( The Waste Land) وقد كان لهذه القصيدة أثر كبير في الشعر الحديث، وهى تصور مشكلة الإنسان المعاصر الذي يبدو للشاعر تافهاً مشلول القوة محطم الإرادة يعيش في عالم يستحق الفناء.

[نماذج من مدارس الضياع]

1 - الوجودية:

ليست الوجودية - كما حددها سارتر في الوجودية مذهب إنساني (3) سوى صورة من صور الضياع، وحتى إن صدقنا زعمها أنها ثورة الإنسانية ضد كل ما هو لا إنساني فهي ليست إلا ثورة سلبية يائسة، لم تستطع أن تشخص الداء فضلاً عن تقديم الدواء، وكل ما تستطيع أن تقول بصدق إنها قدمته للإنسانية هو عرض وإبراز


(1) المصدر السابق: (191).
(2) المصدر السابق: (65).
(3) ترجمه إلى العربية: يوسف كمال الحاج.

بعض جوانب المأساة البشرية، تلك المأساة التي تعبر عنها جملة واحدة (البحث عن الإله) فهي ترفض الإيمان بالله كما تصوره الأديان ولكنها لا تجد البديل، والإنسان الذي تحاول تأليهه محصور مقهور أمام القدر الكوني وأمام سيطرة الآلة وأمام وضعه التاريخي المحدد، وحول إيجاد مخرج من هذا التناقض تأتي الفلسفات الوجودية بشعارات شتى، كالحرية عند سارتر والعبث عند البير كامو.

وما دامت الوجودية أولاً وأخيراً تعبيراً عن الضياع والإفلاس، فلنأخذ أحد أبطال البير كامو نموذجاً للإنسان الوجودي المتمثل في كامو نفسه: "إننى لأفكر أحياناً بما سيقوله عنا مؤرخو المستقبل، فعبارة واحدة تكفي لوصف الإنسان الحديث، كان يجامع ويقرأ الصحف، وبعد هذا التعريف لن يكون ثمة مجال لمزيد من البحث" (1)، "كان وجودي يتألف من الجسد بصورة خاصة، وهذا يفسر توافقي الداخلي وتلك السهولة في تصرفاتي التي كان الناس يشعرون بها .... "

كن واثقاً من أنني أتصرف بسهولة في كل شيء ولكنني في الوقت نفسه لم أكن لأقنع بشيء، كانت كل غبطة تجعلني أشتهي أخرى، وقد تنقلت من بهجة إلى بهجة، وكنت في بعض المناسبات أرقص ليالي كاملة ويزيد جنوني أكثر فأكثر بالناس والحياة، وفي بعض الأحيان حين يتأخر الوقت على تلك الليالي وحين يملؤني الرقص والنشوة الخفيفة وحماستي الوحشية وانطلاق الجميع بعنف بنشوة ذاهلة تعني، كان يلوح لي في اللحظة التي أكون فيها منهوكاً وبسرعة البرق، أنني كنت أفهم سر المخلوقات والعالم، ولكن التعب كان يختفي في


(1) السقطة: (9 - 10).

اليوم التالي ويختفى معه السر وأعود إلى الاندفاع من جديد (1).

والمرء حين يكون صاحياً مزوداً بالقليل من المعرفة الذاتية، غير قادر على العثور على سبب واحد لإسباغ الخلود على هذا القرد الشهواني (يعني: نفسه) عليه أن يبحث عن بديل لذلك الخلود، ولأنني كنت أحن إلى الحياة الأبدية، كنت أذهب إلى الفراش مع البغايا وأشرب الخمر ليالي بكاملها (2).

آه يا عزيزي، إن عبء الأيام مخيف بالنسبة لمن هو وحيد بدون إله، بدون سيد، ولهذا يجب على المرء أن يختار سيداً، إلهاً بدون مميزاته المألوفة، ثم إن تلك الكلمة قد فقدت معناها ولم تعد تستحق أن يجازف المرء بصدم أحد بها (3).

2 - الرمزية:

مدرسة ظهرت أصلا في القرن التاسع عشر رد فعل للنزعة الميكانيكية التي ادعت الإحاطة بفهم الكون وتفسيره عن طريق العقل والعلم، وأنكرت كل ما يندرج تحت سلطة المنطق وإدراك الحواس، إذ اعتقد الرمزيون أن تلك النزعة قاصرة عن تفسير الواقع فضلاً عن العوالم المجهولة في الكون والنفس، وحملهم ذلك إلى الشعور بأن وراء الإمكان الإيجابي سراً لم يكشف ومجهولاً لم يستكنه، وإلى جانب هذه النزعة إلى المجهول أدلى علم السكيولوجيا بأن في الإنسان حالتين: واعية ويدركها العقل والإيجاب، وغير واعية قصر العقل عنها، وقد تكون هذه الزاوية في الإنسان هي الحقيقة، وقد يكون الواقع


(1) المصدر السابق: (26 - 27).
(2) المصدر السابق: (85).
(3) نفس المصدر السابق: (108 - 109).

الموضوعي سراباً (1) على هذا الأساس قام الأدب الرمزى محاولاً تطويع اللغة. والأحداث للتعبير عن الحقائق المجهولة التي تلح الفطرة عليها بينما هي -في نظرهم- ستظل مجهولة إلى الأبد ولا وسيلة قط إلى تقريبها إلا هذا الأسلوب، ومن أشهر زعمائها بودلير ورامبو.

3 - السريالية:

مدرسة حديثة تهتم أكثر بالشعر والرسم، تبتدئ من الخط الذي تبتدئ منه الوجودية، ولكنها تفترق عنها في الإيغال في اللامعقول والإعراض عن الخوض في حقائق التاريخ والمشادات الفكرية والبحث المنطقي فيما يفوق الإدراك إلى الخوض في أعماق المجهول بلا موضوعية.

والأصل في هذه الحركة هو نظرية فرويد عن العقل الباطن، فالسريالية تريد أن تجعل من العقل الباطن الحقيقة النفسية بالذات، وتحول الفن إلى كتابة آلية لإيضاحه.

ولم يكن مطمعها الأول أن تؤسس نزعة إنسانية جديدة، أي: أن تعطي العالم تلاحماً (إتجاهاً)، لقد كانت على العكس تعارض كل تلاحم بحالة سخط لتغيير الحياة وبلوغ ما فوق الواقع الذي يلغي التناقضات التي مزقت الإنسان: واعٍ ولا واعٍ، أنا وعالم، طبيعي وما فوق الطبيعي (كذا).

أشهر شعرائها بريتون وأراغوان، وقد حدد بريتون الطريق الوحيد للبحث عن المطلق بأنه: إملاء الفكرة في غياب كل رقابة يمارسها العقل (2).


(1) الرمزية والأدب العربى، أنطون غطاس: (17).
(2) انظر معجم الأدب المعاصر: (30، 76).

4 - أدب التفسخ:

نوع من أدب الضياع يميل إلى التشاؤم والابتذال، ويتميز بأن أبطاله هم نوع من الكائنات التي فقدت الثقة بنفسها وبمستقبلها، والتي لا تؤمن أبداً بإمكان قيامها اليوم بحياة إنسانية.

وقد جعل روائيوه عملهم في الوسوسة الفيزيولوجية واستغلال بؤس البهيمة البشرية، كأنهم جعلوا شعارهم شعار أبطال ريمون: غير أن ليست الخليقة شيئاً إلا بالأحشاء التي تقودها، كأنه لا يوجد على الأرض شيء يرتاد أجمل من أمعاء إنسانية كلها حيوانية ومن بالوعات المدن الكبرى!! (1)

5 - أدب المستحيل:

اتجاه حديث ظهر بعد الحرب العالمية الثانية متأثراً بفظائعها، ترتكز فلسفته على الإلحاد القانط واعتقاد أن الإنسان هو ميت مؤجل بحيث لا يهتم أحد بإنقاذه.

يقول معجم الأدب المعاصر:

والمستحيل وأساطيره لم تسيطر عبثاً منذ عشرين سنة (أي:1945) على أدب قد نما تحت لواء الدعوى فإذا كان كتاب كامو هو الكتاب المفتاح لعام 1947 فلأنه كان يحمل آنذاك، تلك الفكرة القائلة: أن كل مجتمع في هذه الأيام يحمل جحيمه في نفسه، وأن كل مدينة يمكن أن تموت بالطاعون، إن أجيال ما بعد الحرب لا تزال تبدو تحت ضرب عاقبة جرح السنوات الأربعين، ما فائدة الصراع والصلاة والتأمل والإيمان؟! فالعالم الذي تتعذب فيه الناس ويموتون هو نفسه العالم الذي يتعذب فيه النمال وتموت، عالم طاغ وغير مفهوم.

عشرون سنة ودخان هيروشيما يعلمنا أن العالم ليس جدياً


(1) المصدر السابق: (43).

ولا دائم البقاء - إن ملاحظة روجيه نيميه هذه قد أبداها جيل بكامله جيل أبناء المستحيل (1).

6 - الأدب العدمي:

نوع آخر أكثر تشاؤماً وقنوطاً، إنتاجه هو عبارة عن ذلك العمل المؤلم الذي يصرخ بصوت عال في كل صرخة من صرخاته المبتورة إن الإنسان قد مات، وحيث ما من شيء ولا شخص ولا لغة على الخصوص تستطيع إغاثة ذرة الوجود تلك التي انكمشت في استحالتها الأساسية، وتعلن أنها تنتمى إلى العدم وأنها ستعود إليه وإلى الأبد، وأنها لا تتخيل نهاية أخرى سوى نهاية القذارة التي تنتظر صيد الماء؟ (2)

7 - أدب الهروب والحلم:

صورة أخرى من صور الضياع يقول عنها المصدر السابق:

إنه أدب لا يرفض أخلاق وغيبية أبائنا فقط، ولكنه يرفض الحقيقة النفسية وواقعية ملاحظته، يرفض فهم الأجهزة الآلية للروح؛ لأنه ليس هناك إيمان بعمل النفس يراد التقاط الحياة في منبعها والجثوم مباشرة على الزخم الحيوي وإمساك جذور الوجود المعقدة، إنها صوفية بدون إله.

أشهر رواده بلانشو وباتاي والأخير: كان يحلم بشعر ينكر الطبيعة وبمطلق يستغني عن القيم (3).

هذا وهناك مدارس واتجاهات أخرى كالتكعيبية والمستقبلية ... إلخ، لا تختلف في جوهرها عما سلف.


(1) بيار بواديفر: انظر (48 - 50).
(2) المصدر السابق: (46).
(3) (ص:51).

 

  • الاثنين PM 07:08
    2022-06-27
  • 1192
Powered by: GateGold