المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413816
يتصفح الموقع حاليا : 299

البحث

البحث

عرض المادة

علمانية الأدب والفن: العصر الحديث

(أ) الرومانسية:

لسنا في حاجة إلى إعادة القول بأن: حياة أوروبا هي عبارة عن خط بياني متذبذب تحكمه ردود الفعل المتناقضة، فقد أصبح ذلك حقيقة مقررة بعد أن رأينا شواهده في كل مجال، وهنا في مجال الأدب نلمس تلك الحقيقة بوضوح:

فالغبطة الكلاسيكية لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما جرت عليها سنة أوروبا في الارتداد، وإذا كان أعظم ايجابياتها هو الاهتمام بالإنسانية وإيقاظ العقل الأوروبى المطمور ليأخذ مركز التوجيه في الحياة، فإنه حتى هاتان لم تستقرا دون تطوير أو تغيير.

وكان التطوير من نصيب الأولى، أما الأخرى فكان نصيبها التغيير بل الثورة، ومن هذين انبثق المذهب الجديد الذي عرف بالرومانسية، والذي يقترن تاريخياً بمسمى عصر التنوير.

أولا - تطور النزعة الإنسانية:

لعل أصدق تعبير عن هذا التطور هو ما قاله مؤلفو كتاب ثلاثة قرون من الأدب: "إن القرن الثامن عشر لم يخصص للدين، وإنما خصص للعلم والسياسة، فلم يعد زعماؤه قسساً مسيحيين، بل فلاسفة طبيعيين ... ، لقد كان التغير عميقاً، ومن نواحٍ عدة كان القديم والجديد على طرفي نقيض، فالتطلع إلى ما وراء أشياء هذا العالم قد تراجع أمام التطلع إلى أشياء هذا العالم، لقد أصبح القديس الدائر حول محور الله عالماً إنسانياً محوره الإنسان، والحياة التي كانت تسير بهدي الكتاب المقدس، ولم يعد العالم مكاناً حيث العناية الإلهية دائمة الحضور والفعل تضبط وتدير كل ما يحدث حتى التافه منه (!) فلعين العقل صار العالم الآن جزءاً من آلة الكون التي وقد أخذت تدور مرة استمرت في الدوران لنفسها وبنفسها (!) حتى الله ذاته لم يعد شخصياً أباً يحب ويرهب، بل أصبح قوة عاقلة سحيقة البعد لا شخصية، علة أولى أدارت الآلة وتركتها تعمل بنظام كامل وفق نواميس رياضية وفيزيائية، ويسوع ابن الله أصبح يسوع ابن الإنسان (؟!).

(لم يعد موضوع البحث للجنس البشري هو الله، بل الإنسان).

(وتحسين حال الإنسان يمكن توقعها، لا عن طريق الدين بقدر ما يمكن توقعها عن طريق العلم والتربية والسياسة التي بها يستطاع إصلاح المجتمع) (1).

وهكذا أصبحت ثورة عصر النهضة المبهمة تملك منهجاً عقلياً ومساراً محدداً، وبذلك تواجهنا صورة وثنية جديدة أكثر وضوحاً.

وهذا هو المميز الأول للرومانسية، وعنه نشأ تأكيدها على سيادة القلب وحياة النفس الداخلية بمعنى حصر كل الاهتمامات في حدود الكائن البشري، بل في أعماق النفس الفردية، وينتقد الرومانسيون الأدب الكلاسيكى بأنه كان الهدف منه تصوير البشر، لا كما هم فعلياً ولكن كما هم مثالياً، (2) مما جعل الأدب تقليداً وليس تعبيراً، ولذلك فقد أهمل الرومانسيون الملاحم وحوروا المسرحيات، ونحوا بالأدب منحىً شخصياً داخلياً، فالكتابة الفنية تأتى في صورة اعترافات أو سيرة ذاتية، والشعر يصبح غنائياً عاطفياً يعبر عن المعاني الوجدانية للبشر، كالعشق والفرح والألم، ويبتغى - بالدرجة الأولى - إثارة السامع وامتاعه.

وكان من أبرز العوامل الاجتماعية المهيأة لذلك: طابع الفروسية التي كانت في ريعان شبابها، إذ احتضنت الرومانسية حتى اندمجت في كيانها، وأصبح الرومانسيون اللسان المعبر عن الحياة الفروسية بخصائصها وفضائلها (3).

وقد أفصح بعض زعماء المذهب عن علاقة رد الفعل القائمة بين الاتجاه الرومانسي والمسيحية، فالمسيحية كما عرفوها تكبت الإنسان وتصيبه بالميلانخوليا، ومن ثم فهي مسئولة عما أصاب الإنسانية من الانطواء والكآبة، وقد عزا الناقد الرومانسي الألماني شليجل الكآبة إلى الدين المسيحي الذي جعل الإنسان منفياً يشتاق إلى وطنه البعيد (4)

وانطلاقاً من ذلك وتمشياً مع التركيز على التعبير عن الذات جهد أولئك في أن يحولوا الشوق الصوفي المسيحي الذي كان يتجه إلى الله أو يسوع إلى حب عذري أو إباحي يعبر عنه في أسلوب غنائي، ويتجه إلى الجمال الخارجي للمحبوب الذي كان في الغالب امرأة وأحياناً الطبيعة.

ثانياً: الثورة على العقلانية التي سادت القرنين (17 - 18):

سبق أن عرفنا كيف فاجأ عصر التنوير أوروبا المسيحية بتلك الكلمتين المقدستين لديه (الطبيعة والعقل)، وجعل الأولى رمزاً خفياً للوثنية يحل محل اسم الله في المسيحية، والثانية وسيلة إلى فهم الإله الجديد بدلاً من وسيلة المسيحية الوحي.

ولقد وثق الهاربون من طغيان الكنيسة العلمي في مقدرة العقل وثوقاً أعمى، وكان لكشف كوبرنيكس، وقوانين جاليلو ونيوتن ومبادئ بيكون وديكارت العقلية أعظم الأثر في تمجيد العقل بل عبادته، ولما كان جل همم إغاظة الكنيسة والانتقام من عبوديتها فقد اشتطوا وغلوا في ذلك إلى أبعد الحدود.

لكنهم ما كادوا يلتقطون أنفاسهم وتستقر أعصابهم من مطاردة الكنيسة حتى بدأ بعضهم يبحث عما إذا كان إله العقل جديراً بما أعطي من قيمة وتقديس أم لا؟ وكانت النتيجة مرة، وهي أن العقل عاجز حقاً عن تفسير الطبيعة، وإذ كان كذلك فهو أعجز عن تفسير النفس الإنسانية وفهمها.

وتساءل أولئك: أليس من طريق للثورة على الكنيسة والوصول إلى فهم الطبيعة والإنسانية إلا طريق العقل وحده؟

واستطاعوا أن يكتشفوا طريقاً آخر أرحب من العقلانية بمنطقها الجامد وقوالبها المحددة، وأقوى من العقل اختراقاً للأسرار وتبديداً للغموض، ألا وهي الشعور العاطفي، ذلك الشعور الذي يمتطي آفاق الخيال الواسعة، فيسبر أغوار الذات الإنسانية العميقة، ويستجلي جمال الطبيعة، وهكذا أخذ الرومانسيون يرتفعون رويداً رويداً عن الأرض ويحلقون في الفضاء السحيق، ولكن إلى غير الله ومن غير طريق المسيحية.

كانوا يتحدثون عن الحب، ويبحثون عن الجمال ويفلسفونهما في أساليب ضبابية كثيفة، كما كانوا يتحدثون عن الشياطين والملائكة والسحر والعوالم المجهولة في محاولات دائبة ويائسة لاستكناه أسرار الكون وتحقيق السعادة الداخلية.

وأصبحوا ينقبون عن الحقائق الأبدية لا في الكتاب المقدس ولا في المؤلفات العقلية، ولكن في صفحة الطبيعة الخلابة ومناظرها الحالمة، وكل هذا أفضى بهم بالطبع إلى مثالية مغرقة جوفاء أعظم في بعض جوانبها من تلك التي انتقدوها على الكلاسيكيين.

ونتيجة أخرى مهمة هي أن الرومانسية باعتقادها أن غاية النشوة وقمة السعادة تكمن في أن يطلق الإنسان عنان نفسه لتذوب في حب الطبيعة وتفنى فيها كما يفني الصوفي في معبوده، ولذا أحلت الطبيعة محل الله والشعور محل العقل -بهذا الاعتقاد- تكشفت عن صورة وثنية جديدة (وكل الكلام الجميل المعسول الذي قيل لتبرير هذه الوثنية: أن الطبيعة محراب الله وأن الجمال صورة الله، إننا نعبد الله في خلقه ... إلى آخر هذه الجمل الرومانتيكية البراقة، كل هذا الكلام لا يستطيع أن يخفي تلك الروح الوثنية الغارقة في الوثنية التي تعبد المحسوس في حقيقة الأمر، لأنها تعجز عن إدراك الله بالروح، والروح غنية عن المحسوسات) (5)

ولقد عبر روسو -رائد الرومانسية- عن ذلك أوضح تعبير في راهب سافوي الذي هو صورة لذاته، إنه راهب بالفعل، ولكنه يختلف جذرياً عن رهبان الكنيسة، فهو راهب في صومعة الطبيعة يسبح بحمدها ويقدس لها.

وفي كتابات روسو (الاعترافات مثلاً) وقصائد بوب (مقال عن الإنسان) وجوته (فاوست)، وكذلك كيتس ولامارتين وأضرابهم نماذج واضحة للمذهب الرومانسى في أوج مجده.

ولما كان أعظم أثر للرومانسية ينحصر في رد الفعل الذي نجم عنها بولادة الأدب الواقعي اللاديني الحديث، فلن نفيض في الحديث عنها أكثر من هذا.

(ب) الواقعية:

كانت الرومانسية بخيالها الجانح صورة صادقة لعصرها عصر الهروب، الهروب من طغيان الكنيسة، الهروب من نير الإقطاع البغيض، الهروب من تقاليد الماضي المرير، (6) وجاءت الثورتان الفرنسية والصناعية، وجاءت الحروب الدينية والقومية، وتغيرت ملامح الحياة تغيراً بارزاً، فكان لا بد لصورة الحياة الأدبية أن تتغير كذلك.

كانت أوروبا الكلاسيكية والرومانسية قد عادت كما أسلفنا إلى الوثنية، وعبدت الإنسان أو الطبيعة بطريقتها الخاصة، أما الآن فالصورة تتخذ مظهراً أخر فلم ينحصر الاهتمام بالإنسان دون الإله فحسب، بل اقتصر - من الإنسان- على وضعه الدنيوي ومكانته الاجتماعية، على واقعه المعيشي وجزء معين من نزواته ورغباته والظروف المحيطة به التي يتأثر بها سلباً وإيجاباً.

هذا التحول من الإنسانية بمفهومها الكلي عند الكلاسيكيين، ومن الطبيعة والمثالية الفردية عند الرومانسيين إلى الإنسان العادي المشخص سيتخذ سريعاً صورة وثنية جديدة تعبد الإنسان وتحل محله الإله.

وكعادة أوروبا -لا تعرف الطريق السوي ولا الموقف الوسط- سقطت سقوطاً مفاجئاً من الفضاء السحيق إلى الوحل الهابط.

كانت الرومانسية تحاول تصوير أعلى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من القوة والمثالية في مواجهة تحدي الإله أو الطبيعة أو حتى نزواته وأهوائه، فجاءت الواقعية لتصوره في أدنى ما يمكن أن يصل إليه من الهبوط في لحظات الضعف القاتلة.

كان يصارع الأقدار ويحاول إخضاع الطبيعة، فإذا به ينهزم بضعف أمام نزوة عابرة ولذة ساقطة.

لقد أخذ الواقعيون على الرومانسيين مآخذ -ليست بعيدة عن الحقيقة- فهم ينكرون عليهم إهمالهم لشئون الجماهير، وإغفالهم لحقوق الإنسان المهدرة، وسكوتهم عن المظالم التي يعج بها المجتمع في حين كانوا محلقين بأحلامهم بحثاً عن الجمال والروعة والمثالية، جاعلين هدفهم الأسمى الفناء في الطبيعة.

بل قالوا -والتاريخ يسعفهم بشيء من الأدلة- إن الرومانسيين كانوا من الطبقات الأرستقراطية أو من المقربين إليها، وكانوا شعراء البلاطات وندماء الأباطرة، فهم وأدبهم جزء من ذلك الواقع الظالم الذي يجب رفضه إلى الأبد.

وأخذ عليها أنها في كل أعمالها الفنية كانت تقتصر على تصوير الإنسان المثالي واللحظة المثالية والمنظر المثالي، متناسية أن البشر المثاليين هم قلة نادرة في الناس، ومتخلية تماماً عن الإنسان السوي والحياة العادية بكل مشاكلها ومظاهرها إلى آخره، ما أخذوا وما نقدوا، فبالاعتماد على مثل هذه المبررات رفض أولئك الرومانسية وعابوا فنانيها، لكنهم لم يرفضوها -بالطبع- لأنها حركة وثنية متسترة، بل إن المتأمل لا يجد في تلك المبررات العديدة ما يشير إلى ذلك.

ولذلك فبديهي أن ينتقل الفن من انحراف إلى انحراف، ومن وثنية إلى أخرى شاء ذلك الواقعيون أم أبوا، ولعل في تتبعنا لخطوات الواقعية الأولى وملامحها ما يلقي الضوء على ما نقول.

الأهداف الأولى للحركة الواقعية:

شغل الواقعيون الأوائل أنفسهم من خلال رواياتهم التي انتزعت مكان الصدارة من الشعر الرومانسي بنقد ومناقشة أحوال الفرد والمجتمع، وهذا ليس انحرافاً - بالطبع - بل هو أمر مطلوب، ولكن الانحراف جاء من جهة الموقف الذي اتخذه أولئك من الدين والأخلاق والتقاليد أثناء تصويرهم للمشاكل الإنسانية الواقعية - هذا إذا سلمنا أن هدفهم هو تصوير المشكلة وعرضها، وليس شيئاً في أنفسهم يريدون تقديمه من خلال ذلك التصوير، (7) وهذا الموقف الذي يضعنا على أول الطريق إلى الوثنية المعاصرة - تركز في قضيتين متقاربتين: الأولى: الثورة على التقاليد الإقطاعية والمسيحية، وذلك قد لا يعدو في الحقيقة أن يكون جزءاً من الثورة على طغيان الكنيسة وظلم الإقطاع يتخذ مظهراً مغايراً، وإذا كان بلزاك (1851) هو أحد الرواد للواقعية، فلنقتطف شاهداً على ما نقول من إحدى رواياته؛ وهو محاورة بين قسيس عجوز وامرأة لم توفق في حياتها الزوجية: "قال العجوز: على أي حال يا سيدتي الماركيزة، هل فكرت قليلاً في كتل الآلام البشرية؟ هل رفعت عينيك نحو السماء؟

قالت: لا يا سيدي إذ تثقل القوانين الاجتماعية بشدة على قلبي وتمزقه لي تمزيقاً، حتى لا أستطيع الارتفاع بنفسي إلى السموات، ولعل القوانين ليست في قسوة آداب المجتمع. أوه! المجتمع!

- علينا يا سيدتي: أن نطيع هذه وتلك، فالقانون هو الكلمة، والآداب هي أفعال المجتمع.

عادت تقول الماركيزة مبدية حركة اشمئزاز: طاعة المجتمع؟ هيه! يا سيدي: إن شرورنا جميعاً تنشأ عنه، لم يضع الله أي قانون للشقاء، ولكن عندما تجمع الناس بعضهم مع بعض أفسدوا عمله، (8) ونحن (نحن النساء) لقد عاملتنا المدنية بأسوأ مما عاملتنا الطبيعة به، فالطبيعة تفرض علينا الآلام البدنية التي لم تخففوها في حين أضافت المدنية المشاعر التي تخونونها باستمرار، إذ تخنق الطبيعة الكائنات الضعيفة على حين تحكمون عليها أنتم بأن تعيش كي تقوموا بتسليمها إلى شقاء دائم، ويؤدي الزواج - وهو نظام يرتكن إليه المجتمع - إلى إشعارنا نحن وحدنا بأثقاله، فللرجل الحرية، وللمرأة الواجبات، علينا أن نهبكم حياتنا بأكملها، وليس عليكم من حياتكم نحونا إلا لحظات نادرة، ثم إن الرجل يختار هناك حيث نرضخ نحن عن عمى، أوه! يا سيدى لعلي أستطيع أن أقول لك كل شيء، فالزواج على نحو ما يطبق اليوم يبدو لي دعارة مشروعة منه تنبع كل آلامنا، وبعد أخذ ورد تعود الماركيزة فتقول للقسيس: " .. إنكم تفضحون المخلوقات المسكينة التي تبيع نفسها في مقابل بعض الدراهم لرجل عابر، فالجوع والحاجة تحللان هذه العشرة العابرة، هذا في حين يغفر المجتمع ويشجع الزيجات المباشرة برغم بشاعتها بين فتاة ساذجة ورجل لم تره أكثر من ثلاثة أشهر، فتباع طول حياتها، لا شك أن الثمن مرتفع إذا كنتم عندما تسمحون لها بالمكافأة على آلامها تقومون بتشريفها، ولكن لا ... إذ أن المجتمع يفتري على أفضل الفاضلات من بيننا! ذلك مصيرنا في وضوح من كلا وجهيه: الدعارة العامة والخزي والفضيحة، أو الدعارة الخفية والشقاء" (9).

والآن نستطيع أن نحكم بما إذا كانت واقعية بلزاك تهدف إلى تصوير مأساة بعض النساء أم تهدف إلى تصوير إفلاس رجل الدين وتهافت وفظاعة التقاليد، وليس غريباً بعد ذلك أن تصر معظم الروايات الواقعية على تصوير المجتمع في صورة العدو اللدود الذي يكبل الفرد ويحد حريته وتطلعاته.

الثانية: الهجوم المباشر على حقائق الدين: منذ بدء حركة النهضة نجد روح الكراهية للدين من قبل الأدباء والفنانين واضحة في إنتاجهم الشعري والفنى، إلا أن هذه الروح كانت تعبر عن نفسها من خلال الهجوم على رجال الدين، وفي القليل تجرأت على الهجوم المباشر على حقائقه، من ذلك ما رأينا في كوميديا دانتي وما سبق من قول

 

 

 


(1) أشرف على الكتاب: فورستر وفوك: (1/ 44 - 45).
(2) المصدر السابق: (1/ 144).
(3) حول تأثر الفروسية بالشعر العربى أنظر مثلاً: عالم العصور الوسطى ج ج كولتون: (96 - 97)، ترجمة جوزيف نسيم. (دار المعارف).

(4) ثلاثة قرون من الأدب: (1/ 134).

(5) جاهلية القرن العشرين: (226 - 227).
(6) وهى من هذه الناحية واقعية انظر ثلاثة قرون من الأدب وجاهلية القرن العشرين: (221).

(7) لا شك أن في الأدب الأوروبي الواقعي كتابات إنسانية هادفة في بعض روايات ديكنز وتولستوي وهيجو.

(8) من هذه العبارة يبدو تأثر بلزاك بنظرية روسو عن العقد المجتمع. 

(9) امرأة في الثلاثين: (145 - 154) ترجمة عبد الفتاح الديدي.

رابليه، وكذلك هناك مسرحيتا موليير المتزمت وطرطوف، والأخيرة تصور نفاق رجل الدين وجشعه (1) ومثلها قصة صاحب الطاحون لشوسر، يقول مؤلف قصة الفكر الغربي: "يرد كثيراً في الأدب الشعبي الوسيط ذكر القسيس الجشع والقسيس الفاسق والقسيس المغرور الذي تشغله أمور الدنيا، وكذلك لا يعطينا شوسر صورة طيبة عن رجال الدين، ومع ذلك فلم يكن في كل هذا إلا قليل من المرارة، وإنما كان يرمي إلى إنزال القسيس إلى المستوى البشري العام، ولم يقصد إلى تحدى بناء المسيحية الفلسفي والديني أي: نظرتها الشاملة إلى الكون، كما قصد إلى تحديها في أيام فولتير وتوم بين ... " (2).

تم تطور الأمر أكثر من ذلك في كتابات عصر التنوير إلا أن رجل الدين - بمفاسده - لا يزال هو المنفذ إلى مهاجمة الدين، ويظهر ذلك جلياً في قصة الراهبة لديدرو زعيم الموسوعيين الفرنسيين التي مثلت في الستينات بباريس تحت اسم المتدينة بناءً على اعتراض الكنيسة (3).

وجاءت الواقعية فاتخذت دور الهجوم المباشر على حقائق الدين مقرونة بالتشهير برجاله أو منفردة عنها، وبدأ ذلك مبكراً وصريحاً، وها هو ذا جوستاف فلوبير يعطي الشاهد على ذلك في روايته مدام بوفاري التي حوكم بسببها آنذاك:

ففي أحد فصولها: تسأل ربة النزل القسيس عما إذا كان يريد جرعة من النبيذ فيتعذر وينصرف، وما أن اطمأن الصيدلي إلى أنه لم يعد يسمع وقع قدمي القس، حتى أبدى رأيه في مسلكه فوصفه بأنه ناب، فقد بدأ رفضه أبغض ألوان الرياء، إذ أن القساوسة يحتسون الخمر في الخفاء، ويحاولون أن يستعيدوا الأيام التي كانت الكنيسة تتقاضى فيها الضرائب من رعاياها.

صاحبة النزل: إنه رغم قولك يستطيع أن يطوي أربعة من أمثالك على ركبتيه، لقد ساعد رجالنا على تخزين العشب الجاف.

الصيدلى: مرحى، أرسلو بناتكم إذن ليعترفن أمام رجال من هذا الصنف (!)، لو كنت في مركز الحكم لأمرت بأن يفصد القساوسة في كل شهر، في سبيل مصلحة البوليس والأخلاق.

- كف عن هذا يا مسيو هوميه، فأنت كافر لا دين لك.

- بل لي دين، ديني الخاص، وإن لدى من التقوى ما يفوق ما لدى هؤلاء .. رغم نفاقهم ودجلهم، إنني على العكس أعبد الله، أؤمن بالكائن الأعلى، أؤمن بوجود خالق كيفما يكن كنهه، ولكني في غير حاجة لأن أذهب إلى الكنيسة ... لأسمن من مالي رجالاً لا يصلحون لشيء، إن المرء ليستطيع أن يهتدي إلى الله في غابة أو في حقل أو حتى بمجرد تأمل قبة الأثير .. إن إلهى هو إله سقراط وفرنكلين وفولتير وبيرانجيه، إنني من أنصار الإيمان الذي دعا إليه قس سافوا (روسو)، ومن المؤمنين بمبادئ ثورة (1789م) الخالدة، ولا أستطيع أن أعبد إلهاً مزعوماً يسير في حديقته، وعصاه في يده، ويودع أصدقاءه أجواف الحيتان، ويموت صارخاً، ثم يبعث بعد ثلاثة أيام، هذه جميعاً في حد ذاتها سخافات تناقض تماماً كل قوانين الطبيعة.

وفي هذا ما يوضح لنا ضمناً كيف أن القسس ظلوا دائماً متشبثين بجهل صلد على مثل هذا نمت الحركة الواقعية وترعرعت مصورة ومواكبة الحياة الأوروبية التي أخذت تتحلل من عقائد المسيحية الكنسية وأخلاقها شيئاً فشيئاً.


(1) ترجمها للعربية: يوسف محمد رضا، وفي سلسلة تراث الإنسانية: (1/ 233) وقد أثارت ضيق رجال الدين حتى نادى أحدهم بحرق موليير حياً.
(2) جرين برنتن: (296 - 297).
(3) حدثني بذلك شاب مغربي مسلم يدرس في فرنسا.

 

 

  • الاثنين PM 07:01
    2022-06-27
  • 987
Powered by: GateGold