المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413902
يتصفح الموقع حاليا : 281

البحث

البحث

عرض المادة

مظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية: في الإجتماع والأخلاق

كانت الحياة الاجتماعية في العالم الإسلامي قد انحرفت منذ بضعة قرون، لكن صورة الانحراف لم تبلغ أوجها إلا في مطلع العصر الحديث، حيث أصبح المجتمع في أخلاقه وتقاليده وعاداته ينطلق من منطلقات غير إسلامية، إذ غلبت الأعراف الجاهلية والعواطف المتهورة والعادات المستحدثة على الأخلاق الإسلامية الأصيلة، غير أن الناس بحكم العاطفة الدينية الموروثة، وبما جبلوا عليه من الغيرة على فضائل الخلق، كانوا ينسبون كل قيم وموازين وأعراف مجتمعهم للدين، أو -على الأقل- يلتمسون لها فيه أصولاً، ورسخ ذلك الانحراف المتمسح بالدين حتى أصبح هو الواقع المألوف، الذي كان لدى الناس استعداد للوقوف في وجه من يحاول تغييره سواء أكان مجدداً إسلامياً أم مفسداً أجنبياً، وهم - على أي حال - يبررون موقفهم بالاستناد إلى الدين.

وفي القرن الماضي احتك المجتمع الإسلامي المنحرف بالمجتمع الغربي الشارد عن الدين، ومنذ اللحظة الأولى أحس الغرب - المغرور بتقدمه المادي - بتفوقه الاجتماعي على الشرق الذي -لا شك أنه- كان فيه من الفضائل ما يفتقده الغرب، لكن نظرة الغالب إلى المغلوب لا تسمح بالرؤية الصحيحة عادة، لا سيما والروح الصليبية من ورائها.

وبالمقابل أحس المجتمع الشرقي بالانبهار القاتل واستشعر النقص المرير، ولم يتردد الغربيون الكفرة في القول بأن سبب تخلف الشرقيين هو الإسلام، فقد استمدوا ذلك من الوهم الذي كان يسيطر على أولئك بأنهم مسلمون حقاً!

وهكذا كان الطريق مفتوحاً لمهاجمة الأخلاق الإسلامية وتدمير مقومات المجتمع، من خلال مهاجمة ذلك الواقع المتخلف الذي لا يمثل الإسلام، وكان النموذج الغربي المشاهد - الذي فصل الأخلاق عن الدين -يزيد الأمر قوة ووضوحاً.

وإذ علمت قوى الصليبية الحاقدة - من مستعمرين ومبشرين ومستشرقين -أن البؤرة التي تتجمع فيها أصول أخلاق ومقومات المجتمع المسلم هي المحافظة على العرض وأنها مفترق الطريق بين هذا المجتمع وغيره، فقد وضعت المخططات الماكرة لسلب هذه الميزة من المسلمين بإفساد المرأة المسلمة وإشاعة الدياثة بينهم.

ولما كانت الأمة الإسلامية هي المسئولة -أولاً وآخراً- عن كل هذا، ولما كان الجانب الذاتي من المشكلة هو الأخطر والأهم، فسوف نوليه جل اهتمامنا.

وفي بداية الأمر علينا أن نستحضر في أذهاننا الصورة الساخرة التي وصف بها المؤرخون المسلمون دياثة الإفرنج الصليبيين، (1) لنقارنها بهذه الصورة التي يقدمها لنا الجبرتي ضمن حوادث سنة 1216 هـ:

ومنها: تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء، وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر. ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم، وهن حلوات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة، ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة، ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقاً عنيفاً، مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية معهم وحرافيش العامة، فمالت إليهم (أي إلى الفرنسيين) نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل والفواحش، فتداخلن معهم لخضوعهم للنساء وبذل الأموال لهن، وكان ذلك التدخل -أولاً- مع بعض احتشام وخشية عار ومبالغة في إخضاعه، فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر، وحاربت الفرنسيس بولاق، وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم، فزيوهن بزي نسائهم، وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال، فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية، وتداخل مع أولئك المأسورات وغيرهن من النساء الفواجر، ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في حوز الفرنسيس ومن والاهم، وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهم لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن ولو شتمته أو ضربته بتاسومتها (!) فطرحن الحشمة والوقار والمبالاة والاعتبار، واستملن نظراءهن واختلسن عقولهن، لميل النفوس إلى الشهوات وخصوصاً عقول القاصرات، وخطب الكثير منهم بنات الأعيان وتزوجوهن رغبة في سلطانهم ونوالهم، فيظهر حال العقد الإسلام، وينطق بالشهادتين؛ لأنه ليس له عقيدة يخشى فسادها، وصار مع حكام الأخطاط منهم النساء المسلمات متزينات بزيهم ومشوا معهم في الأخطاط للنظر في أمور الرعية والأحكام العادية والأمر والنهي والمناداة، وتمشي المرأة بنفسها أو معها بعض أترابها وأضيافها على مثل شكلها، وأمامها القواسة والخدم وبأيديهم العصي يفرجون لهن الناس مثل ما يمر الحاكم ويأمرن وينهين في الأحكام.

ومنها: أنه لما أوفى النيل أذرعه ودخل الماء إلى الخليج وجرت فيه السفن، وقع عند ذلك من تبرج النساء واختلاطهن بالفرنسيس ومصاحبتهم لهن في المراكب والرقص والغناء والشرب، في النهار والليل في الفوانيس والشموع الموقدة وعليهن الملابس الفاخرة والحلي والجواهر المرصعة، وصحبتهم آلات الطرب وملاحو السفن يكثرون من الهزل والمجون، ويتجاوبون برفع الصوت في تحريك المقاديف بسخيف موضوعاتهم وكتائف مطبوعاتهم (!) وخصوصاً إذا دبت الحشيشة في رءوسهم وتحكمت في عقولهم، فيصرخون ويطبلون ويرقصون ويزمرون ويتجاوبون بمحاكاة ألفاظ الفرنساوية في غنائهم وتقليد كلامهم شيء كثير (2).

إذن فقد ظهرت مؤشرات واضحة على أن من المسلمين من هو مهيأ نفسياً لتقبل أسلوب الحياة الاجتماعية اللاديني الوافد من الغرب، وأن منهم من هو على استعداد لأن يدعو أمته لذلك لو حظى بالعناية اللازمة وعاش عيشة أوروبية.

ومنذ أيام محمد علي ابتدأت حركة الابتعاث إلى الدول الأوروبية، وكان من أشهر المبتعثين الأوائل الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي يعد كذلك من رواد الإصلاح، هذا الشيخ المبتعث كتب عن مدينة باريس كتاباً يصف فيه لأبناء أمته الحياة الاجتماعية في فرنسا -آنذاك- تعرض فيه لوصف النوادي والمراقص فقال:

(والغالب أن الجلوس للنساء، ولا يجلس أحد من الرجال إلا إذا اكتفت النساء، وإذا دخلت امرأة على أهل المجلس، ولم يكن ثم كرسي خال قام لها رجل وأجلسها ولا تقوم لها امرأة لتجلسها، فالأنثى -دائماً- في المجالس معظمة أكثر من الرجل، ثم إن الإنسان إذا دخل بيت صاحبه فإنه يجب عليه أن يحيي صاحبة البيت قبل صاحبه ولو كبر مقامه ما أمكن، فدرجته بعد زوجته أو نساء البيت) (3).

(ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العياقة والشلبنة (؟) لا من الفسق، فلذلك كان -دائماً- غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر فإنه من خصوصيات النساء لأنه لتهييج الشهوات، أما في باريس فإنه نمط مخصوص لا يشم منه رائحة العهر أبداً، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية وهكذا، وسواء كان يعرفها أو لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهن لسآمة أنفسهن من التعلق بشيء واحد، كما قال الشاعر:

أيا من ليس يرضيها خليل ولا ألفا خليل كل عام

أراك بقية من قوم موسى فهم لا يصبرون على طعام

وقد يقع في الرقص رقصة مخصوصة بأن يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمس المرأة أياً كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عد هذا من الأدب) (4).

هذا الكلام يوحي لقارئه بدلالات نذكر منها اثنتين:

1 - إن الأخلاق ليست مرتبطة بالدين، وهي فكرة انقدحت في ذهن الشيخ، لكنه لم يستطع أن يعبر عنها بجلاء، فها هو المجتمع يمارس ألوان الدياثة التي لا يرضاها الدين -طبعاً- ولكنها مع ذلك ليست

خارجة عن قوانين الحياء ولا يشم منها رائحة العهر، بل هي معدودة في باب الأدب. عجائب الآثار: 2/ 436 - 437.

وقد نمت هذه الفكرة وترعرعت حتى قيل صراحة: أن الحجاب وسيلة لستر الفواحش، وأن التبرج دليل على الشرف والبراءة، ومن ثم فلا علاقة بين الدين والأخلاق.

2 - إن هذا المجتمع الديوث يكرم المرأة ويحترمها، وفي المقابل نرى المجتمع الإسلامي يحافظ على العرض، لكنه يحتقر المرأة - حسب الواقع آنذاك -، وبذلك نصل إلى المفهوم الذي وجد في أوروبا نفسه وهو أن حقوق المرأة مرتبطة بتحررها من الدين، فما لم ينبذ الدين فلن تحصل على هذه الحقوق.

وقريب من قصد رفاعة ما قصده أحمد فارس الشدياق. إذ وصف بأسلوبه المقامي الخاص الحياة الغربية ووضع المرأة فيها في كتابه الساق على الساق (5).

وهكذا وجدت البذرة الأولى لما سمَّي (قضية المرأة)!

على أن الحركة التي تقوم على الوعي لا على السذاجة لم تكن منطلقة من آراء هذين - رفاعة والشدياق- وأمثالها، بل من أفكار شخصية أخرى هي شخصية جمال الدين الأسد أبادي -المعروف بالأفغاني.

كان جمال الدين متأثراً بشعارات الماسونية -التي رفعتها الثورة الفرنسية- لا سيما شعار المساواة، واعتقد أن من أعظم علل الشرق أن المرأة فيه ليست متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات، وكان من تلاميذه الذين سرت فيهم هذه الفكرة محمد عبده وقاسم أمين،


(1) انظر الاعتبار أسامة بن منقذ: (135) تحقيق فيليب حتي.

(2) عجائب الآثار: (2/ 436 - 437).

(3) تخليص الإبريز في تلخيص باريز: (168).
(4) المصدر السابق: (119).

(5) نظر مثلاً: فصل في وصف باريس: (623).

الذي كان مترجماً لجمعية العروة الوثقى، (1) وقد سبق الحديث عن الأول، أما الأخير فهو مبتعث إلى فرنسا للدراسة يقول عنه مؤرخ حياته:

(ويعود قاسم إلى قاعة المحاضرات بجامعة مونبلييه، وهو أشد رغبة في تعرف المزيد عن الحياة في أوروبا، وهناك يجد زميلته سلافا، فلا يتردد في سؤالها أن تصحبه إلى المجتمعات الفرنسية وتقبل هي في سرور باد، وصحبته فتاته إلى كثير من الحفلات وتعرف إلى كثير من الأسر، فوجد حياة اجتماعية تختلف عن الحياة في مصر، وجد السفور بدل الحجاب والاختلاط بدل العزلة والثقافة بدل الجهالة) (2).

وعاد قاسم إلى مصر يحمل إلى أمته فكرة خطرة عرضها على أصدقائه فتردد بعضهم، وأيده أكثرهم، وخاصة الزعماء مثل: سعد زغلول ومصطفى كامل وأحمد لطفي السيد، (3) وكذلك علي شعراوي زوج هدى شعراوي -الملقبة بزعيمة الحركة النسائية وغيرهم ممن قال عنهم كرومر: أسميهم حباً في الاختصار أتباع المرحوم المفتي السابق الشيخ محمد عبده (4).

وأظهر قاسم فكرته تلك في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة، وعند صدور الأول شك كثيرون في كونه كاتبه لما حواه الكتاب من عرض ومناقشة الأقوال الفقهية والأدلة الشرعية التي كان


(1) انظر قاسم أمين: (20 و34).
(2) قاسم أمين: (40).
(3) سبق الكلام عن لطفي السيد، وسيأتي الحديث عن سعد زغلول، أما مصطفى كامل فيذكر مؤرخ حياته أنه كان له أم روحية فرنسية تدعى جولييت آدم. الخ، انظر مصطفى كامل حياته وكفاحه، أحمد رشاد: (71) مع أن بينه وبين قاسم خلافات كثيرة.
(4) أحمد لطفي السيد: (137).

مثل قاسم قليل البضاعة منها، ولكنهم لم يشكوا في أن الذي دفعه إلى الفكرة أحد رجلين إما كرومر وإما محمد عبده (1) ويحل لطفي السيد الأشكال في كتابه قصة حياتي إذ يقول:

(إن قاسم أمين قرأ عليه وعلى الشيخ محمد عبده فصول كتاب تحرير المرأة في جنيف عام 1897م، قبل أن ينشره على الناس) (2).

وجاء مثل هذا في كتاب: قاسم أمين أيضاً (3).

وعلى أية حال فقد ظهر كتابه: تحرير المرأة الذي يمكن تلخيص أفكاره فيما يلي:

1 - إن المرأة مساوية للرجل في كل شيء، وإن تفوقه البدني سببه استعمال الأعضاء (4) ويتضح من هذا تعريضه بالقرآن الكريم وتأثره بالداروينية.

2 - إن الانتقاب والتبرقع ليسا من المشروعات الإسلامية لا للتعبد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده "وهي عادة عرضت على المسلمين" من مخالطة بعض الأمم، فاستحسنوها وأخذوا بها وبالغوا فيها وألبسوها لباس الدين، كسائر العادات الضارة التي تمكنت في الناس باسم الدين والدين منها براء لكن بالنسبة للأمم الأخرى فإن هذه العادة تلاشت طوعاً لمقتضيات الاجتماع وجرياً على سنة التقدم والترقي (5).


(1) قاسم أمين: (158).
(2) أحمد لطفي السيد: (133).
(3) (ص:158 - 159).
(4) تحرير المرأة: (19).
(5) تحرير المرأة: (67، 68، 79).

3 - إن الحجاب ليس عائقاً عن التقدم فحسب، بل هو مدعاة للرذيلة وغطاء للفاحشة، في حين أن الاختلاط يهذب النفس ويميت دوافع الشهوة!!

وقد حرص قاسم على تبرئة نفسه من تهمة الدعوة إلى تقليد الغرب في مناداته بهذه الفكرة، (1) مدعياً أن الدافع الوحيد هو الحرص على الأمة والغيرة على الدين والوطن، فهو يزعم أن أصل فكرته هو الرد على داركور المستشرق الذي هاجم الحجاب، ولست أدري ماذا ترك قاسم لداركور.

لكن كتابه الثاني: المرأة الجديدة يكذب ادعاءاته تلك فهو يقول فيه:

(هذا هو الداء الذي يلزم أن نبادر إلى علاجه وليس له دواء إلا أن نربي أولادنا على أن يتعرفوا شئون المدنية الغربية، ويقفوا على أصولها وفروعها وآثارها، وإذا أتى ذلك الحين -ونرجو ألا يكون بعيداً-انجلت الحقيقة أمام أعيننا ساطعة سطوع الشمس، وعرفنا قيمة التمدن الغربي وتيقنا أن من المستحيل أن يتم إصلاح ما في أحوالنا إذا لم يكن مؤسساً على العلوم العصرية) (2).

وقد طبق ذلك في بيته، فأحضر لابنتيه مربيتين: إحداهما فرنسية والأخرى إنجليزية، (3) وظل قاسم حريصاً على دعوته داعياً إلى فكرته إلى آخر نسمة من حياته القصيرة، ففي ليلة وفاته بالسكتة القلبية في 23 أبريل 1908 كان يقدم طالبات رومانيات في نادي المدارس العليا (4).


(1) انظر تحرير المرأة: (83).
(2) قاسم أمين: (192 - 193).
(3) المصدر السابق: (77).
(4) أحمد لطفي السيد: (215).

وقد ناصر قاسماً وأيده كثير من الزعماء والأدباء والصحفيين، منهم -غير من ذكرنا سلفاً- الشاعر ولي الدين يكن الذى يقول من قصيدة له:

أزيلي الحجاب عن الحسن يوماً وقولي مللتك يا حاجبه

فلا أنا منك ولا أنت مني فرح ذاهباً ها أنا ذاهبة (1)

والشاعر العراقي الزهاوي، ومن ذلك قوله:

هزءوا بالبنات والأمهات وأهانوا الزوجات والأخوات

هكذا المسلمون في كل صقع حجبوا للجهالة المسلمات

سجنوهن في البيوت فشلوا نصف شعب يهم بالحركات

منعوهن أن يرين ضياء فتعودن عيشة الظلمات

إن هذا الحجاب في كل أرض ضرر للفتيان والفتيات (2)

وكانت الصحافة أعظم المؤيدين للفكرة التي انتشرت في بلاد الشام والمغرب على إثر نجاحها في مصر.

أما بلاد الشام، فمن الواضح أن الدعوة فيها تعرقلت بالنسبة لمصر، حتى أن أول كتاب يتحدث عنها لم يصدر إلا سنة 1928م، أي بعد وفاة قاسم بعشرين سنة، وهو الكتاب الذي ألفته -أو ألف باسم- نظيرة زين الدين بعنوان السفور والحجاب، ولعل مما يثير الانتباه أن الذي قرظه هو علي عبد الرازق صاحب الإسلام وأصول الحكم، وكان مما قال:

(إني لأحسب مصر قد اجتازت -بحمد الله- طور البحث النظري


(1) ولي الدين يكن، مناهل الأدب العربي: (45).
(2) (ديوان الزهاوي: (319).

في مسألة السفور والحجاب إلى طور العمل والتنفيذ، فلست تجد بين المصريين إلا المخلفين منهم من يتساءل اليوم عن السفور هو من الدين أم لا؟ ومن العقل أم لا؟ ومن ضروريات الحياة الحديثة أم لا؟ بل نجدهم حتى الكثير من الرجعيين المحجبين منهم يؤمنون بأن السفور دين وعقل وضرورة لا مناص لحياة المدينة عنها.

أما إخواننا السوريون فيلوح أن للسفور والحجاب عندهم تاريخياً غير تاريخه في مصر، فهم لم يتجاوزا بعد طور البحث النظري الذي بدأه بيننا المرحوم قاسم أمين منذ أكثر من عشرين سنة، ولكنهم على ذلك يسيرون معنا جنباً إلى جنب في الطور الجديد الذي نسير فيه، طور السفور الفعلي الكلي الشامل) (1).

وأما بلاد المغرب فقد كانت تونس أسبقها إلى السفور والدعوة إليه، إذ كتب الطاهر الحداد سنة 1930 كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع وفي الإمكان أخذ نموذج لتأييد فكرته من المحاولة الفنية التي اشترك فيها محمود بيرم شاعراً وعلي الدعاجي راسماً، ذلك أن الشاعر قام يؤرخ للمراحل التي قطعتها المرأة التونسية قبل أن تلقي الحجاب، وذلك من خلال ستة عشر بيتاً جسمت كل رباعية منها مرحلة من مراحل تطور الحجاب، أبرز معانيها ووضحها علي الدعاجي بأربعة رسوم، ظهرت فيها المرأة في وضعيات متباينة.

ترسم الأبيات الأولى والصورة امرأة ضرب البرقع سفحاً دون ظهور أي جزء منها، وقد شبه بيرم انسدال ذلك البرقع الأسود على ذلك الوجه الصبوح بانسدال الليل على النهار:

سجى الليل ألا يرجى ... لهذا الليل من آخر

سواد يحجب الحق ... كقلب الجاحد الكافر


(1) مجلة الهلال أغسطس (1928).

وعندما دحرجت المرأة في الصورة الثانية جزءاً من النقاب ظهر القليل من نور وجهها المكفن، فوصف الشاعر هذه المحاولة بالنور الخادع ..

يلوح النور خداعاً كلون الضاحك الغادر

ضياء يرسل الشك لقلب الجازع الصابر

وتزيح المرأة في ريشة الرسام الدعاجي ذلك الخمار حتى الذقن دفعة واحدة تستقبل نور الحياة والشمس، فيرى الشاعر في هذه الخطوة المحتشمة بداية لصبح من الثقة المتبادلة بين الجنسين:

بدا الصبح وفي الصبح تجلى روضها الناظر

وقال الورد في الخدين غضوا عن دمي الطاهر

وفي النهاية لا تجد المرأة موجباً لبقاء هذا النقاب متدلياً عند الجيد فتزيحه دفعة واحدة، وتنتزع معه بذلك رواسب التقاليد الضيقة، فتظهر الشمس لعين الحق ويغمر نورها الدنيا:

وفي الشمس ترى الدنيا جميعاً حسنها باهر

يرتل كل ذي صوت ثناء المبدع القادر

ويعلم كل ذي عينين ما الحسناء بالعاهر

هنالك تحكم الأفهام بين العف والفاجر (1)

هذا من الوجهة النظرية، أما التطبيق الواقعي للفكرة فقد حمل العبء الأكبر منه الحركة التي أسميت حركة النهضة النسائية، وأشهر رائداتها: هدى شعراوي وسيزا نبراوي سكرتيرتها، وباحثة البادية، ومنيرة ثابت، وقد التف حولهن عصبة ممن خلعن رداء الحياء وسخرن أنفسهن لخدمة الدوائر الصليبية.


(1) مجلة الفكر، تونس ديسمبر (1975)، عدد خاص عن المرأة في عام المرأة!

اشتد الحماس لهذه الحركة - في فترة عصيبة حرجة -، وهذا التوقيت المشبوه يوحي بأن وراء الأكمة ما وراءها، ذلك أنه في سنة 1919 هبت مصر في وجه الاستعمار، ووقف الشعب بشجاعة مع عدد من المخلصين حقيقة يطالب بحقه من الحرية والحياة، وفي تلك الظروف الصاخبة التي تتميز بالغليان والاضطراب، وفي غمرة الثورة العارمة نشطت دعوتان مريبتان متآخيتان، إحداهما استغلت ظروف الثورة لسلخ الأمة عن انتمائها، وهي الدعوة إلى اللادينية تحت ستار الشعار الذي رفعته الزعامات المصطنعة (الدين لله والوطن للجميع) والأخرى: دعت إلى نسف الفضائل الإسلامية من خلال دعوتها إلى تحرير المرأة.

في ذلك الجو العاصف انبرت هدى ورفيقاتها للدفاع عن حقوق الوطن وطرد المحتلين، ولكن بماذا؟ لقد خرجن في مظاهرة ومزقن الحجاب وأحرقنه في ميدان عام، وكان هذا أعظم إسهام منهن في الثورة، وإذ حدث أن الجنود البريطانيين - لحاجة في نفس يعقوب - طوقوا الشوارع ساعة المظاهرة واعتدوا على بعض المتظاهرات، فقد بدا ذلك في أعين الشعب محاولة من بريطانيا لمنع المرأة المصرية من التحرر، وبذلك اكتسبت الحركة صفة البطولة الوطنية!! (1)

وتظهر الحقيقة أجلى وأوضح إذا علمنا أنه في تلك الفترة نفسها كان أتاتورك يهدم الإسلام تحت زيف البطولة الوطنية -أيضاً-.

لقد اعتبرت هذه البطولة مبرراً كافياً للانقضاض على الأخلاق، بل لمهاجمة أحكام الإسلام علانية، إذ ردد دعاة الإباحية قولهم: أليس الجنس اللطيف الذي أدى دوره في الثورة الوطنية بإخلاص، جديراً بأن


(1) انظر كتاب سعد زغلول بقلم سكرتيره: محمد إبراهيم الجزيري: (203) فما بعد.

يتساوى في كل شيء مع الجنس الخشن؟، أتريدون أن تقدم المرأة للوطن كل شيء ولا يقدم الوطن لها شيئاً؟!

ولكن الحق لم يلبث أن انكشف، وإذا بالحركة النسائية في حقيقتها حركة عميلة مريبة، ترتبط خارجياً بالدوائر الاستعمارية وداخلياً بالزعماء المصطنعين.

أما ارتباطها بالاستعمار - والجمعيات التبشيرية خاصة - فيؤيده خطاب هدى شعراوي الذي ألقته في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي بروما، وهذه مقدمته:

إنه ليسرني حقيقة أن أرى نفسي بينكن في هذه الجمعية المحترمة التي أمكن للمرأة المصرية أن تجيء لتناقش في حقوقها لأول مرة في التاريخ، وإنه لمما يدعوني إلى الاغتباط والفخر اختيارى لإظهار تلك الرابطة بين بنات النيل وأخواتهن في أوروبا (1).

وتختتم خطابها قائلة:

(والآن قبل أن أعود أرجو أن تسمحن لي أيتها السيدات على طلبكن بإلحاح إبداء الرغبة في إشراك المرأة المصرية في واجب الاتحاد الجليل، ولنا عظيم الرجاء في أن نصل بفضل نصائحكن الغالية التي نعتبرها السبيل الهادي، والنسج على منوالكن الذي نجد فيه خير كفيل إلى تحقيق آمالنا ورغائبنا، ونضع تحت تصرفكن أنفسنا في خدمة مبادئكن ونشر آرائكن) (2).

أما صلتها بالزعماء المصطنعين، فيؤكدها بصفة قاطعة سكرتير سعد زغلول -زعيم حزب الوفد- في كتابه عن حياته، فقد ذكر أن


(1) المرأة وآراء الفلاسفة: (142).
(2) المصدر السابق: (144).

سعداً هو الزعيم الحقيقي للحركة النسائية، مستشهداً بخطابه الذي ألقاه بمناسبة زيارة وفد مختلط من طلبة مدرسة الحقوق الفرنسية لمصر، ومنه:

(إنني من أنصار تحرير المرأة ومن المقتنعين به، لأنه بغير هذا التحرير لا نستطيع بلوغ غايتنا، ويقيني بهذا ليس وليد اليوم بل هو قديم العهد، فقد شاركت منذ أمد بعيد صديقي المرحوم قاسم بك أمين في أفكاره التي ضمنها كتابه الذي أهداه لي -يريد كتاب المرأة الجديدة (1).

ويضيف الكاتب أن زوجة سعد كانت مثقفة ثقافة فرنسية، وأنه كان يمنحها الحرية الكاملة (!) ويبدو من مسيرة زوجة سعد أنها أول زوجة زعيم سياسي عربي -تقريباً- تظهر معه سافرة في المحافل والصور، وتتسمى على الطريقة الغربية صفية زغلول، كما أنها أول من اتخذت بدعة لقب أم المصريين (2)

ويذكر الكاتب أن صفية زغلول هي الزعيمة النسائية الحقيقية، لكنها آثرت ألا تظهر ذلك، وأسندت هي وزوجها الأمر إلى هدى شعراوي التي عينها سعد رئيسة لجنة الوفد المركزية للسيدات سعد زغلول (3)، على أن سكرتير الزعيم يثبت -دون أن يدري - إدانة الزعيم والحركة النسائية وارتباطها بالاستعمار، وذلك في معرض حديثه عن صديقة سعد منيرة ثابت الملقبة "الفتاة الثائرة" وأول صحفية مصرية، فهو يقول:


(1) سعد زغلول: (203).
(2) سعد زغلول: (204).
(3) سعد زغلول (208).

(كانت الوزارة الزيورية تضطهد الصحافة الوفدية وتغلق جرائدها واحدة بعد الأخرى، ولا تسمح لوفدي بأية رخصة جديدة، وعلى حين فجأة غابت الآنسة منيرة ثابت أياماً عن بيت الأمة، ثم عادت تحمل رخصتين لصحيفتين جديدتين باسم: الأمل ولسبوار أولاهما عربية سياسية أسبوعية، والثانية فرنسية سياسية يومية، وقدمتهما للرئيس (سعد) لتكون رهن تصرفه، أما كيف حصلت على الرخصتين فلا أعرف عنه وإلى اليوم شيئاً) (1).

ثم تطور الأمر إلى تشكيل أحزاب نسائية، أهمها الحزب النسائي (1945) وحزب بنت النيل (1949)، وقد نشرت الصحف المصرية نفسها فضائح عن هذه الأحزاب، تثبت أنها كانت تتلقى الأموال من السفارات الغربية لا سيما الأميركية والإنجليزية (2)

وكان من ثمرة الحركة النسائية ولادة الصحافة النسائية، فقد صدرت مجلة فتاة الشرق قبل الحرب العظمى الأولى، ومما تجدر الإشارة إليه أن كل عدد من أعدادها يحوي نماذج وصوراً لأزياء الشهر، (3) التي ظهرت في أوروبا، الأمر الذي مهد لوقوع المرأة المسلمة في شباك مصيدة الأزياء اليهودية، كما وقعت المرأة النصرانية في الغرب.

وأسهمت المجلات غير النسائية بنصيبها في الحركة فكانت (الهلال) ومثلها (المقتطف) و (العصور) تنشر إلى جانب المناقشات الفكرية للموضوع صور المتبرجات من شرقيات وغربيات، وتحيطها بهالة من التعظيم وتغري القارئات بمحاكاتهن.

وفي المجال التعليمي حرص لطفي السيد وطه حسين وأتباعهما


(1) سعد زغلول (212).
(2) انظر الحركات النسائية وصلتها بالاستعمار، محمد عطية خميس: (89).
(3) انظر المجلد الأول من المجلة المذكورة سنة (1913)، مركز البحث العلمي.

على أن يكون التعليم مختلطاً فيه الذكور والإناث، واشتد الصراع في الجامعة من أجل ذلك، وكتب الرافعي شيطان وشيطانة رداً على طه حسين وسهير القلماوي، كما كتب مقالاً يحيي فيه طلبة الجامعة الذين رفضوا الاختلاط، (1) ولكن الانتصار كتب لدعاة الاختلاط، فقد كان في صفهم الزعماء السياسيون ومعظم الصحف، وكل القوى الدخيلة من مبشرين ومستشرقين في الجامعة وغيرها، إذ أن هذه القوى مجتمعة فزعت لظهور الحركة الإسلامية الطلابية وحاربتها أشد الحرب.

ولم يقنع الكتاب النسائيون بما حققته الدعوة من مكاسب ونجاح، ولعل مرد ذلك إلى أن الأسياد ينتظرون المزيد، بل ظلت الحرب النفسية مستمرة، فبعضهم يغرق في المبالغة والوهم، حتى يجعل وضع المرأة هو المسئول عن مشكلات مصر من أولها إلى آخرها، كما قال سلامة موسى:

"تعدد مشكلاتنا يوهم اختلافها في الأصل وأنها لا يتصل بعضها ببعض، ولكن المتأمل المفكر يستطيع أن يجد النقطة البؤرية لجميع هذه المشكلات، والنقطة البؤرية الوحيدة هنا هي أن نظامنا الإقطاعي في نظرته للعائلة ومركز المرأة والأخلاق الأبوية والنظرة الاجتماعية، كل هذا يعود إلى مشكلة واحدة هي أن آراءنا الإقطاعية القديمة التي ورثنا معظمها عن الدولة الرومانية الملعونة (لا يريد أن يعترف بالإسلام) لم تعد تصلح للحياة العصرية، وان متاعبنا وأرزاءنا واصطداماتنا تنبع من هذا الكفاح الذي نكافحه نحو حياة ديمقراطية جديدة، نتخلص بها من الحياة الإقطاعية القدمية" (2).


(1) وحي القلم: (3/ 163).
(2) الأدب للشعب: (66 - 67).

أما إسماعيل مظهر فقد جمع شبهاته القديمة وآراء غيره، ونسقها في كتاب أسماه (المرأة في عصر الديمقراطية) جاء فيه: "ومضى الكثيرون متعامين عن الحق الواضح الجلي قائلين بأن قضية المرأة قضية محلولة، وأن الزمن القديم قد وضع لها القواعد وفصل الفصول وأتم الفروع، مؤتمين في ذلك بنظريات وأقوال أبلاها الزمن وناء عليها الدهر، فأصبحت مهلهلة فضفاضة بادية العورات، ولكنهم يحاولون ستر عوراتها بالثرثرة الفارغة كقولهم المرأة للبيت وقولهم الرجل قوام على المرأة وقولهم: -كما قيل من قبل- المرأة ليس لها نفس ... " (1).

وفيه: "لقد اتخذ الرجعيون الذين يرهبون التطور فرقاً من أوهام سلطت عليهم، أو رغبة في بسط سلطانهم على النساء ... من بضعة نصوص أشير بها إلى حالات قامت في عصور غابرة، سبيلاً إلى استعباد النساء استعباداً أبدياً، لقد حُضَّت المرأة في ذلك العصر أن تقر في بيتها وأن لا تتبرج تبرج الجاهلية الأولى" (2).

ثم أخذ يناقش كلا الدليلين: "إن المعنى الذي يستخلصه أصحاب الرجعية من حض المرأة على أن تقر في البيت معنى غامض كل الغموض في هذا العصر، وبالرغم من ذلك الغموض الذي يكتنفه فإنهم لا يريدون أن يفسروه حتى تتحدد المعاني القائمة في نفوسهم منه.

أما إذا أرادوا أن تكون المرأة سجينة البيت، فكيف يوفقون بين


(1) (ص:96).
(2) (ص:118).

هذا المعنى وبين حاجات الحياة الضرورية؟ وإذا أرادوا أن يكون تفسيره أن تقر المرأة في البيت إذا لم يكن لها ما يشغلها خارجه، فذلك هو الواقع في حياتنا الحديثة" (1).

ولكن المصيبة التي أصابنا بها أولئك المستغرقين (كذا) في النظر في الحياة بمنظار القبلية البدائية، أنهم يعتقدون أن كل تجمل تبدو به المرأة هو تبرج وأنه تبرج الجاهلية الأولى، ذلك في حين أن كلمة (التبرج) ليس لها حدود التمرينات الرياضية، وفي حين أنه لم يصلنا عنهم وصف شامل لتبرج الجاهلية الأولى!!

فغالب الظن، بل الأرجح -تغليباً- أن المقصود به (أي: التبرج) عادة ألفت في الأزمان الأولى كانت في نشأتها شعيرة من شعائر الوثنية، أي: شعيرة دينية، فإن البغاء على ما يعرف -الآن- من تاريخه وتطوره قد نشأ في أوله نشأة دينية، فكان شعيرة من شعائر التقرب من الآلهة ..

ثم يقول: "فلما جاء الإسلام ... عطف إلى ناحية المرأة فاعتبرها نصف إنسان، وأضفى عليها من الكرامة والاحترام ذلك القدر الذي لا يزال -حتى الآن- موضع انبهار كل المشترعين ... غير أن خمسة عشر قرناً من الزمان كافية في الواقع لأن تهيئ العقلية الإنسانية إلى خطوات أخرى في التشريع للمرأة ....

ومن هذه الناحية لا أرى ما يمنع مطلقاً من أن ترفع المرأة إلى منزلة المساواة بالرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية في الميراث وفي قبول الشهادة وفي العمل وفي الاستقلال الفكري والاقتصادي،


(1) (ص:120).

وبالجملة في جميع الأشياء التي تكمل بها إنسانيتها، ذلك بأنها إنسان" (1).

ثم تلاه خالد محمد خالد وكتابه الديمقراطية أبداً "وكان نصيب المرأة من ديمقراطيتة شيئين:

1 - حق المرأة في وقف تعدد الزوجات، وعلى ذمته ينسب إلى محمد عبده أنه قال يجب تحريم التعدد الآن عملاً بحديث {لا ضرر ولا ضرار} (2).

2 - تأميم الطلاق-على حد تعبيره-" (3).

أما حسين مؤنس فيعد الحجاب الإسلامي هو العائق الأكبر في سبيل انتماء مصر للغرب، ذلك أنه ربطها بالمجتمعات الشرقية المتخلفة في حين أن المرأة المصرية القديمة كالمرأة الأوروبية الحديثة سواءً بسواءً وحضارتها واحدة، يقول: "وقد انهارت المجتمعات الشرقية كلها بسبب ظلمها للمرأة وحرمانها إياها من مكانها وحقها الطبيعيين، وهذه حقيقة لم يتنبه لها معظم من يدرسون تواريخ هذه الدول الشرقية من المشارقة، ولكنها معروفة للدارسين من أهل الغرب لأن مجتمعهم يقوم على المرأة والرجل مجتمعين، ومن ثم فهم يعرفون أهمية المرأة في المجتمع الإنساني، ويشيرون إلى ذلك ويقررون أنه أساس تقدم مجتمعهم على غيره من المجتمعات، وهذه الحقيقة- على ما يبدو من بساطتها-


(1) (ص:137 - 138).
(2) (ص: 164).
(3) الكتاب المذكور انظر: (164 - 165).

تفرق بين مجتمع ومجتمع وحضارة وحضارة، بل هي الحد الفاصل بين الحضارات التي أينعت وعاشت والحضارات التي ذبلت وماتت.

والحضارة المصرية القديمة من الطراز الذي أعطى المرأة حقها واعترف بها، ومنحها حقها كاملاً في البيت وفي ميدان العمل والحياة، بل إن عينيك لا تقع على رسم مصري قديم إلا وجدت المرأة فيه إلى جانب الرجل، ورأيتها رافعة الرأس تسير معه وتعمل معه ...

وحضارة مصر مشتركة من هذه الناحية الأساسية مع (حضارتنا) الراهنة، وأنا أقول: حضارتنا لأنك سترى أن ما نسميه -اليوم- بحضارة الغرب إن هو إلا الحضارة المصرية القديمة متطورة في اتجاه مستقيم" (1).

وهكذا ظل الناعقون يصيحون من كل مكان، ويسلكون كل اتجاه -فكرياً أم عملياً- حتى آل الأمر إلى الواقع المؤلم الذي عبر عنه أوفى تعبير جان بول رو بقوله: "إن التأثير الغربي الذي يظهر في كل المجالات ويقلب رأساً على عقب المجتمع الإسلامي، لا يبدو في جلاء أفضل مما يبدو في تحرير المرأة" (2).

لقد عمت الفوضى الأخلاقية العالم الإسلامي من أقصاه إلى أدناه على تفاوت في ذلك، وتولى الجيل الذي رباه المستعمرون تربية جيل جديد أكثر مسخاً وانحلالاً، وحوربت أحكام الله على يد أبطال الاستقلال أكثر مما حوربت بأيدي المستعمرين، ولنستمع إلى رو وهو يقرر ذلك قائلاً: "في تركية سنة 1929 صدر قانون مدني على غرار قانون


(1) مصر ورسالتها: (51 - 52).
(2) الإسلام في الغرب: (178).

نوشاتيل المدني السويسري، فحرم تعدد الزوجات وقضى على الحجاب والحريم ونظرة الطلاق، وفي برهة وجيزة جعل من المرأة التركية شقيقة المرأة السويسرية وصنوها" (1).

ثم يقول:

"والمرأة التركية عصرية تماماً فهي ترتدي أثواب السهرة العارية الكتفين والظهر، كما لا تحجم عن ارتداء المايو، ولكنها تتحاشى التطرف في ذلك، وأما الغزل وأحاديث الغرام فهي أمور لا تتم في العلن وكذلك التقبيل لا يجرى جهراً، وما من أحد يشكو من التفكك الخلقي (2)

وفي المغرب تمكن العهد الاستقلالي من أن يحقق في بضع سنوات ما لم يستطعه الاستعمار في عشرات السنين.

وفي الجزائر أوحت الثورة للنساء بالكفاح، فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام، وهنا تكون المعركة النضالية قد فعلت ما عجز السلام عن فعله، أي كما فعلت الثورة الشعبية المصرية.

وفي تونس أعلن السيد بورقيبة عدة قرارات هي بمثابة ثورة اجتماعية جديدة (10 آب سنة 1956م) وكان المقصد بهذه الثورة منع تعدد الزوجات وجعل السن الدنيا لزواج الفتاة الخامسة عشرة، ثم تحرير المواطنين والمواطنات الذين تخطوا العشرينات من عمرهم من موافقة الوالدين إذا ما أرادوا عقد الزواج، وفي نفس الوقت أعلن


(1) الإسلام في الغرب: (181).
(2) المصدر السابق: (186).

السيد بورقيبة ... بأن الطلاق لا بد من أن يخضع للمحاكم" (1).

هذا وقد نشرت مجلة العربي في استطلاع لها عن تونس صورة للوحات الدعاية المنصوبة في الشوارع، ففي كل ميدان لوحتان إحداهما تمثل أسرة ترتدي الزي المحتشم مشطوبة بإشارة (×) والأخرى تمثل أسرة متفرنجة متبرجة ومكتوب تحتها: كوني مثل هؤلاء!

أما القرارات التي أشار إليها رو فهي تلك القوانين التي تعاقب من يتزوج ثانية بالحلال، وتبري بل تشجع من يخادن عشراً بالحرام!

على أن السلاح الفتاك الذي استخدم الفضيلة وتقويض المجتمعات الإسلامية، ونقل الأوبئة الاجتماعية الغربية هو وسائل الإعلام من صحافة وإذاعة وسينما وتلفزيون. تلك التي تعرض بصورة فنية وأساليب متطورة كل ضروب الفتنة وصنوف الانحلال، وقد أصبحت بما لديها من قدرة التأثير وسعة القاعدة تشكل جبهة عريضة عاتية تبدو حيالها أية محاولة للإصلاح أو نداء للفضيلة عاجزة جداً" (2).

إلى جانب ذلك يأتي التعليم المختلط والنوادي المختلطة والشواطئ (البلاجات) المختلطة، وتأتي الأزياء الخليعة المستوردة من بيوت اليهود في الغرب، وتأتي موانع الحمل ووسائل الإجهاض.

إلى جانب ذلك يكون الاختلاط الفاضح في دوائر الحكومة والمؤسسات، وفي وسائل المواصلات وفي الشقق والمساكن، وفي كل مكان في معظم أقطار العالم الإسلامي.

ومن هنا فلا عجب أن سمعنا بين الحين والحين عن جرائم اجتماعية، تضاهي تلك التي تحدثنا عنها في أوروبا وأميركا، من قتل واختطاف واغتصاب وتشرد، ولا عجب أن تنتشر الأمراض الاجتماعية الفتاكة الناشئة عن فقد كل من الجنسين خصائصه المميزة، وليس ما نشاهده من تخنث الرجال وترجل النساء إلا صورة من ذلك.

ولا عجب أيضاً أن تتقوض البيوت وتنهار الأسر، ويصبح جنوح الأحداث مشكلة اجتماعية تعاني منها بلاد تدعي أنها إسلامية.

إن التربية غير السليمة لا يمكن أن تنتج إلا جيلاً غير سليم، وهاهو ذا الجيل المعاصر المنكود تتجاذبه الشهوات والشبهات وتمزقه التناقضات والغوايات، وتغتاله النزوات المتهورة والإغراءات القاتلة، فلا يستطيع إلا أن يسلم نفسه ذليلاً لشياطين الجن والإنس ينهشون فكره وجسمه، ويلهبون ظهره بسياطهم، حتى يسقط شلواً ممزقاً على مذبح الفسق والإباحية.

والعجيب -حقاً- أنه مع هذه النذر كلها لا تزال الدعوات المحمومة على أشدها، ولا تزال الموجة في عنفوانها، ولا تزال الصيحات تتعالى من كل مكان مطالبة بنبذ التقاليد وفصل الأخلاق عن الدين.

 


(1) المصدر السابق: (188 - 189).
(2) انظر كتاب سقوط القاهرة، عبد المنعم شميس.

 

  • الاثنين PM 06:31
    2022-06-27
  • 1220
Powered by: GateGold