المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413966
يتصفح الموقع حاليا : 336

البحث

البحث

عرض المادة

مظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية: في التربية والثقافة

قبل أن يصطدم الغرب المتحضر بالشرق المتخلف كانت التربية في الأخير متأخرة أسلوباً وموضوعاً، وكانت الثقافة جامدة ومحدودة.

كان نصيب الأمة الإسلامية من المعرفة ينحصر في بقايا التراث الفكري الذي دونه علماء الكلام والفقه واللغة في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية تلك البقايا التي تسمى "الكتب الصفراء" أو "الثقافة التقليدية" وفي أحسن الأحوال "الثقافة الأصلية" كما في بلاد المغرب.

ولا شك أن هذه البقايا تشكل جانباً من جوانب الثقافة الإسلامية في مفهومها الواسع بغض النظر عن مدى صدقها في تمثيل حقيقة التصور الإسلامي المفترضة في ذلك الجانب، ولكن من المؤكد أن ذلك لا يصح اعتباره الصورة الكاملة المثلى للثقافة الإسلامية، ومن ثم فإن الحكم على الإسلام من خلال النظرة لذلك الجانب وحده خاطئ يقيناً.

ولسنا الآن بصدد الحديث عن مفهوم العلم في التصور الإسلامي، ولكن الذي يهمنا هو إيضاح أن المستوى العلمي للمسلمين في القرن الماضي لا يمثل هذا المفهوم أبداً، بل إنه - في بعض الأحيان - ليتنافى معه تمام المنافاة.

ولنأخذ شاهداً قريباً لذلك من الأزهر الذي صبت عليه اللعنات لجموده وتخلفه.

كان الأزهر منذ تأسيسه يدرس في حلقاته المكتظة الفلك والجبر والهندسة والطب كما يدرس الفقه والنحو والحديث سواء بسواء بلا حرج ولا غضاضة.

وظل كذلك إلى عصر ليس ببعيد، فها هو ذا الجبرتي يورد في تاريخه أسماء كثيرين ممن نبغوا في هذه العلوم بالنسبة لعصرهم - منهم والده - وإن كان مستواهم متخلفاً بالنسبة لما هو عليه حال معاصريهم في الغرب، ذلك أن هؤلاء يمثلون الدفعات الأخيرة لحضارة منهارة، في حين يمثل أولئك -الغربيون- طلائع متقدمة لحضارة فتية، ومع ذبول الحضارة الإسلامية التدريجي تقلص ميدان العلم ليقتصر على العلوم الضرورية التي لا يمكن للمجتمع الإسلامي أن يحيا بغيرها، وأهملت العلوم الأخرى لا تحريماً لها، ولكن عجزاً وتهاوناً يمليها الواقع المنهار من كل ناحية.

وفي فترة الركود العلمي تلك، ولدت أجيال بررت ذلك العجز والتهاون بصنوف المعاذير، ثم استساغت الانغلاق، وفسرت الدين نفسه تفسيراً ضيقاً، وحددت علومه تحديداً نابعاً من واقعها المظلم، لا من حقيقة الدين وجوهره.

وفيما كانت الأوضاع تنحدر إلى الهاوية، تلقت الأمة ضربة عنيفة من يد نابليون - طليعة الحضارة الغربية الكافرة - أيقظتها هذه الضربة من نومها، ولكنها أفقدتها صوابها.

لقد فتح المسلمون أعينهم على وسائل جديدة، وإمكانيات حديثة تسندها علوم ناهضة، وتعززها بحوث دائبة، وكان من الممكن -عقلاً- أن ينهضوا من كبوتهم مستفيدين مما رأوا، ولكنهم - واقعاً - لم يفعلوا ذلك لأنهم:

أولاً: لم يكونوا يملكون القدرة على التمييز وتقدير التجربة حق قدرها.

وثانياً: كان اقتران العلوم الجديدة بتلك الحملة الصليبية الوحشية - التي انتهكت حرمة الأزهر نفسه -دافعاً لمقت تلك العلوم ورفضها إطلاقاً.

وحدثت نفرة شديدة بين علم الأزهر الذي كان يعتقد أنه يمثل الثقافة الإسلامية أصدق تمثيل وبين علم الغرب الذي بدا لأعين الأزهريين علماً غريباً خاصاً بالكفار.

من هذا الخطأ التاريخي تقريباً نشأت الازدواجية الخطرة في العالم الإسلامي: تعليم ديني ضيق محدود، وتعليم لا ديني يشمل نشاطات الفكر كلها.

وقد حاول محمد علي في أول الأمر أن يدخل العلوم الحديثة ضمن مناهج الأزهر، إلا أنه خشي معارضة الأزهريين، فقام على الفور بإنشاء نظامه التعليمي الحديث، وهكذا انقسم التعليم في مصر إلى نظام ديني ونظام مدني حديث (1).

ولما كان اللقاء بين شيخ الأزهر وجومار (2) مستحيلاً، فقد كان لا بد من الصراع بين أتباع وثقافة كل منهما، ورأى أبناء جومار أن القضاء على الأزهر يكون ببقائه جامداً معزولاً عن الحياة ومتغيراتها.


(1) تاريخ ونظام التعليم في مصر: منير عطا الله وزملاؤه: (79).
(2) أستاذ فرنسي عهد إليه محمد علي بالإشراف على الطلبة المبتعثين.

فاستصدروا من الخديوى إسماعيل سنة (1872م) القانون الخاص بتنظيم الأزهر وإصلاحه، وتنص فقرة (ب) منه على:

تحديد الدراسات التي تعطى بالأزهر بإحدى عشرة مادة هي: الفقه وأصول الدين والتوحيد والحديث والتفسير والنحو والصرف والمعاني والبيان والبديع والمنطق (1)

ووافق ذلك هوى في نفوس علماء الأزهر، وبذلك قطع الطريق أمام وعي ذاتي لإصلاح الأزهر حقيقة.

أما المدارس الحديثة التي أنشأها محمد علي وأولاده فقد كانت مجالاتها أرحب وفرصها أوسع، وكانت البعثات إلى الخارج قائمة على قدم وساق.

والناحية الأشد خطورة هي الوسائل التي ينتهجها كلا النظامين التعليميين: النظام الديني -كما سمي- يقوم في الكتاتيب المتفرقة في القرى والأمصار للمرحلة الابتدائية، والجامع الأزهر للمرحلة العليا.

والكتاتيب يدرس فيها فقهاء (2) يجتمع حولهم الطلبة في مظاهر ريفية يحملون الألواح القديمة والمصاحف، والفقيه يتوسطهم بعمامته وفي يده عصا طويلة، ويقوم بتلقينهم بطريقة تغاير روح التربية الإسلامية المأثورة التي كانت في عصرها أرقى أساليب التربية العالمية.

وطلاب الجامع نفسه يتحلقون في أروقته مفترشين الحصر البالية، يتصدرهم شيخ لا يكاد يختلف في مظهره عن فقيه الكتاب (3).

وعندما يكمل الطالب دراسته تكون شهادته إجازة خطية يكتبها له الشيخ بيده ناعتاً تلميذه بالألقاب العلمية العريضة.

أما إيرادات هذا التعليم فتأتي من هبات وصدقات المحسنين وأوقاف المتبرعين وهدايا رجال الدولة، أي أنها فوق كونها غير منظمة يصحبها أيضاً المن والرياء.

وعلى عكس ذلك كانت المدارس الحديثة:

فلها أبنية فخمة ووسائل متقدمة وميزانيات ثابتة ومناهج حديثة، ويديرها خبراء فرنسيون يشعر مظهرهم وتصرفاتهم بالحداثة والتحضر.

ولندع النظام الأزهري على جموده الذي سيظل عليه حتى ينسف كلية - كما سنرى - ولنتابع سير التعليم اللاديني واتجاهاته الثقافية.

يتحدث جب عن شيء من ذلك قائلاً: (وكانت المصادر الأولى التي أخذ الفكر الأوروبي يشع منها هي المدارس المهنية التي أنشأها محمد علي والبعثات العلمية التي أرسلها إلى أوروبا).

ويذكر أن منها مدرسة الألسن التي كان يشرف عليها العالم الفذ رفاعة الطهطاوي (1801 - 1873) وهو تلميذ جومار البار.

ثم كانت الموجة الثانية من موجات التغريب في عهد الخديوي إسماعيل، ويمكننا أن نختار محمد عثمان جلال (1829 - 1798) تلميذ رفاعة مثالاً للجناح المتقدم من هذه الحركة، فقد كانت أبرز آثاره الأدبية ترجمات لبعض المؤلفات الفرنسية ذات الشهرة، مثل بول وفرجيني، وخرافات لا فونتين وبعض ملاهي موليير، والأمر الذي يجدر التنويه به في عمله هذا ليس هو فكر الترجمة في ذاتها، بل الروح التجديدية التي تكمن وراءها (!) فقد ترجم لا فونتين إلى شعر سهل لا تصنع فيه ولا رهق، إلا أنه حين ترجم ملاهي موليير كتبها بلهجة العامة في مصر، ولم يكن الوقت قد حان بعد للإقدام على مثل هذا العمل الجريء (!) غير أن ما تجلى في تلك الخطوة من انفكاك تام من أسر الماضي كان دليلاً على روح العصر، قال الخديوي إسماعيل: إن مصر أصبحت قطعة من أوروبا ولذا كان لا بد للأدب المصري من أن يعبر عن استقلاله عن التقاليد الآسيوية والأفريقية (4).

كانت حركة التغريب الأولى فرنسية الاتجاه، فلما احتل الإنجليز مصر أصبحت الحركة إنجليزية، واتخذت طابعاً جديداً أعمق وأوسع، فقد كان الاستعمار الإنجليزي يهدف إلى ما ذكره اللورد ميكالي عن الهند:

يجب أن ننشئ جماعة تكون ترجماناً بيننا وبين ملايين من رعيتنا، وستكون هذه الجماعة هندية في اللون والدم، إنجليزية في الذوق والرأي واللغة والتفكير) (5).

فالاستعمار -كما قال أحد شعراء المسلمين في الهند - أذكى من فرعون الذي استخدم سياسة قتل الأولاد، ولم يفتح لهم مدارس وكليات تقتلهم من حيث لا يشعرون كما فعل المستعمرون (6).

فقد افتتحوا مدارس غربية قلباً وقالباً في المراكز الثقافية الكبرى للعالم الإسلامي، ورسموا المخططات لاستئصال التعليم الأصلي.

من هذه المدارس الكليات التبشيرية التي أنشئت في لاهور وبيروت وإسلامبول والقاهرة وغيرها، عدا المدارس الأقل شأناً التي انتشرت في الهند وبلاد الشام ومصر وبصفة أظهر في بلاد المغرب.

ومما لا شك فيه أن هذه المدارس كان لها أعظم الأثر في توجيه النهضة الفكرية وجهة لا دينية، وتوسيع الهوة بين التعليم الديني واللاديني، كما شجع الاستعمار واحتضن الحركات الفكرية والأدبية التي قام بها النصارى - لا سيما الشاميون - حيث كانت جمعياتهم وصحفهم في الشام ومصر من أشد أجنحة التغريب تأثيراً.

أما احتواء التعليم الأصلي والسيطرة عليه فأقوى الشواهد عليه المخطط البطيء الماكر، الذي وضعه كرومر ووزيره القسيس دنلوب في مصر، والذي استخدم أحدث ما وصلت إليه التربية وعلم النفس في عصره لإخراج جيل ممسوخ قابل للاستعباد.

فتح دنلوب مدارس حكومية ابتدائية تدرس العلوم المدنية وتعلم اللغة الإنجليزية لغة الاستعمار وتخرج موظفين كتبة، في الدواوين التي يحتلها ويديرها الإنجليز، يقبضون رواتب تعد بالجنيهات لا بالقروش.

ولم يكن الأمر في حاجة إلى مزيد من الإغراء، فمن ذا الذي يبعث بابنه بعد اليوم إلى الأزهر إلا الفقراء العاجزون عن دفع المصروفات، وهو يرى له المستقبل المضمون في وظيفة الحكومة حيث (يرطن) بلغة السادة المستعمرين؟!

وانصرف الناس القادرون - من ذوات أنفسهم - عن الأزهر، واتجهوا إلى مدارس الحكومة بعد الثورة الأولى التي أثارها الحس الباطني المسلم على هذه المدارس الكافرة التي لا تعلم القرآن ولا تعلم الدين، وأصبح هؤلاء المتعلمون طبقة جديدة تستمد طبقيتها من أنها من أبناء الأسر أولاً، ومن مركزها الاجتماعى في وظيفة الحكومة ثانياً، ومن التشجيع الظاهر والخفي الذي تلقاه من سلطات الاستعمار بعد هذا وذاك (7).


(1) تاريخ ونظام التعليم في مصر: (105).
(2) الفقيه في عرف ذلك الزمن هم معلم الكتاب.
(3) انظر مثلاً: زعماء الإصلاح أحمد أمين: (285).

(4) دراسات في حضارة الإسلام: (320 - 321).
(5) نحو التربية الإسلامية الحرة: الندوي: (32).
(6) انظر روائع إقبال.

(7) هل نحن مسلمون: (136 - 137).

وبالإضافة إلى أسلوب التربية السيئ المتعمد لم يشأ دنلوب أن تخلو المدارس تماماً من الدين - ولو فعل ذلك لكان أفضل - بل قرر مادة (دين) لكنه جعلها مادة ثانوية في قيمتها الدراسية، ثم إن حصصها كانت توضع في نهاية اليوم المدرسي، وقد كل التلاميذ وملوا وحنوا إلى الانفلات من سجن المدرسة البغيض إلى فسحة الشارع أو رحب البيت، وكانت هذه الحصص توكل إلى أسن مدرس في المدرسة، يسعل ويتفل، ويمثل أمام التلاميذ ضعف الحياة الفانية المنهارة ... فيرتبط الدين في وجدانهم بالعجز والفناء والشيخوخة، كما يرتبط بالملل والضجر والنفور (2).

وقرر كذلك -لغاية خبيثة - مادة "لغة عربية" وفي الوقت الذي كان فيه مدرس اللغة الإنجليزية يتقاضى مرتباً شهرياً اثني عشر جنيهاً كاملة، كان زميله مدرس اللغة العربية لا يقبض سوى أربعة جنيهات، مما جعل الفرق بينهما في المكانة الاجتماعية شاسعاً، وجعل اللغة العربية في ذاتها موضع الاحتقار والازدراء (3).

وليس أنكى من ذلك إلا المناهج التي كانت تدرس في مدارس الحكومة، والتي كانت مملوءة بالطعن والسموم فيما يتعلق بالإسلام وتاريخه وحضارته، ومفعمة بالتقدير والإكبار الذي يصل درجة التقديس فيما يتعلق بأوروبا وتاريخها وحضارتها، ومن بين طلاب هذه المدارس تنتقى نخبة معينة للابتعاث إلى أوروبا وهناك يتم المسخ الكامل لها، لكي تعود إلى بلادها فتقبض على مقاليد الفكر والثقافة وتوجهها حسب إرادة السادة المستعمرين.

والعمل نفسه-مع اختلاف في الوسائل - سلكته فرنسا في الشام وبلاد المغرب، وقد نشأ نتيجة لهذه التربية الاستعمارية جيل مقطوع الصلة بدينه، مفتون بالغرب وتياراته الثقافية المختلفة التي تتفق في شيء واحد هو تحللها من الالتزام بالدين، يتحدث ولفرد كانتول سمث بإجمال عن التأثير الثقافي الغربي قائلاً:

إن من أهم أسباب حركة الحرية والإباحية التي تسود اليوم في العالم الإسلامي، ومن أكبر عواملها نفوذ الغرب، فقد بلغت هذه الحركة أوجها في أوروبا من أواخر القرن التاسع عشر إلى الحرب العالمية الأولى، وهكذا شأن نهضة أوروبا وتقدمها، وقد سافر كثير من الشباب المسلم إلى الغرب واطلعوا على روح أوروبا وقيمها وأعجبوا بها إلى (أبعد) حد، وينطبق هذا بخاصة على الطلاب الذين درسوا في جامعات أوروبا بعدد لم يزل يزداد مع الأيام، وهم الذين سببوا استيراد كثير من أفكار الغرب وقيمه إلى العالم الإسلامي، وقد حازت قصب السبق في هذا المضمار تلك المعاهد الثقافية التي قامت بتربية جيل بأكمله على النمط الغربي الحديث، وكان مما صدره الغرب إلى العالم الإسلامي تلك الأفكار المتعددة الجديدة التي تقع في الأهمية بمكان، والاتجاهات العقلية الدقيقة الفجة (كذا) والميول الحديثة التي كان في نشرها أوفر نصيب لنمط التعليم الغربي الحديث، ويفوقها في ذلك تأثير معاهد الغرب الحقوقية والسياسية والاجتماعية الجديدة ونفوذها الزائد، ومنها ما يسلط إجباراً وما يحاول تسليطه، وبينما قام بعض المسلمين لمقاومة هذا التيار رحب به البعض الآخر، إن بعضهم قد وقع تحت تأثير هذه التربية رسمياً، وبعضهم قد رحب بهذا التيار بدافع من أنفسهم، وأنتج ذلك أن كثيراً من المسلمين اعترفوا بهذه النظريات والمعاهد كحقيقة ثابتة، وخضعوا لها بالتدريج، وهكذا استمرت عملية التغريب بسرعة وقوة بالغتين (3).

لم يمض على سيطرة الاستعمار فترة من الزمن حتى كان العالم الإسلامي خاضعاً لتأثير التربية والفكر خضوعاً يتفاوت حسب الأقاليم المختلفة.

ففي تركيا - التي لم تحتل احتلالاً مباشراً - بلغ التأثير ذروته في الردة العقائدية والفكرية العنيفة، التي انتهجها أتاتورك لطمس الإسلام بيد من حديد، وفي الهند فقدت الثقافة الإسلامية ريادتها، وتقوقعت في المؤسسات الأهلية الصغيرة، وضاع كثير من نشاطها في زحمة الصراع الداخلي والخارجي، أما في العالم العربي فلعل أصدق وصف لحاله هو ما قاله توينبي من أن الصراع الفكري فيه بين الأفكار الغربية والإسلام لم ينتج عملاً غربياً ناجحاً، مثل ذلك الذي في تركية، وإنما كان نتاجه هجيناً لا هو غربي ولا هو إسلامي (4).

وقد قال أحد المستشرقين: إن في القاهرة مائتي مطبعة وسبع عشرة، تصدر ما معدله كتاب أو نشرة واحدة في اليوم ثم يستدرك موضحاً أن أكثرية ما يصدر هو ترجمات للقصص الغربية (5) وهذا يعطينا الدليل على مدى ما وصلت إليه الهجنة، فإن أمة تتجه إلى القصص الغرامية في وقت هي أحوج ما تكون فيه إلى ترجمة العلوم التطبيقية والأخذ بأسباب النهضة لجديرة بهذا الوصف.

وقد أخرج هذا الهجين الممسوخ دعوات ونتائج سيئة نذكر منها على سبيل التمثيل ما يلي:

 

1 - الدعوة إلى الارتماء في أحضان الغرب وأخذ حضارته دون وعي ولا تمييز: وقد تزعم هذا الاتجاه كثير من هجناء الفكر، منهم صاحب كتاب (مستقبل الثقافة في مصر) الذي يقول:

بل نحن قد خطونا أبعد حداً مما ذكرت فالتزمنا أمام أوروبا أن نذهب مذهبها في الحكم، ونسير سيرتها في الإدارة، ونسلك طريقها في التشريع، التزامنا هذا كله أمام أوروبا، وهل كان إمضاء معاهدة الاستقلال ومعاهدة إلغاء الامتيازات إلا التزاماً صريحاً قاطعاً أمام العالم المتحضر بأننا سنسير سيرة الأوروبيين في الحكم والإدارة والتشريع؟ فلو هممنا الآن أن نعود أدراجنا وأن نحيي النظم العتيقة لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولوجدنا أمامنا عقاباً لا تجتاز ولا تذلل عقاباً نقيمها نحن لأننا حرصاء على التقدم والرقي، وعقاباً تقيمها أوروبا لأننا عاهدنا على أن نسايرها ونجاريها في طريق الحضارة الحديثة (6).

ويقول عن التعليم خاصة:

من الناس من يريد التعليم مدنياً خالصاً، وألاَّ يكون الدين جزءاً من أجزاء المنهج المقومة له، على أن يترك للأسر النهوض بالتعليم الديني وألاَّ تقيم الدولة في سبيل هذا التعليم من المصاعب والعقاب ما يجعله عسيراً، ومنهم من يرى أن التعليم الديني واجب كتعليم اللغة وكتعليم التاريخ القومي، لأنه جزء مؤسس للشخصية الوطنية، فلا ينبغي إهماله ولا التقصير في ذاته، وواضح جداً أن هذا الرأي الأخير هو مذهب المصريين وأن من غير المعقول أن يطلب إلى المصريين، الآن أن يقيموا التعليم في بلادهم على أساس مدني خالص وأن يترك الدين للأسر (7).

ومثل طه حسين سلامة موسى، الذي يقول متحدثاً عن نفسه:

(إنه شرقي مثل سائر مواطنيه، ولكنه ثار على الشرق عندما أيقن أن عاداته تعوق ارتقاءه، ودعا إلى أن يأخذ الشرقيون بعادات الغربيين كي يقووا مثلهم، ولكنه لم يجن من هذه الدعوة غير الكراهية والنفور، وأحس بالتناقض العميق بينه وبين المجتمع، وهو تناقض كاد يفصل بينه وبين مواطنيه، فإن أسلوب حياته وأهدافه الثقافية والسياسية والروحية تنأى عن عادات مجتمعه، إنه ليخالف سائر الكتاب إذ هو -وإن كان يكتب بالعربية- فإنه يفكر تفكيراً أوروبياً) (8).

ومن هؤلاء أحمد لطفي وصهره إسماعيل مظهر وقاسم أمين.

2 - احتقار الماضي الإسلامي وتربية الأجيال تربية لا دينية حديثة: ولنأخذ مثالاً على هذا ما قاله مؤلف كتاب مصر ورسالتها:

(عندما فتح العرب مصر عام 640 وكانت ولاية بيزنطية تحكم من القسطنطينية، وعندما غزا الفرنسيون مصر عام 1798 وجدوها ولاية عثمانية تحكم من نفس القسطنطينية، التي حملت اسماً جديداً وهو إستامبول أو الأستانة، ولم يكن حالها عام 1798 بأحسن من حالها عام 640، كان الناس في بؤس وذل وكان البلد في خراب!

فكأن اثني عشر قرناً من تاريخ هذا البلد ضاعت سدى، كأن هذه السنوات الكثيرة قد انقضت ونحن نيام بعيدين (كذا) عن الوجود!

شيء لم يحدث في تاريخ بلد مثل مصر أبداً، تصور اثني عشر قرناً ونصف تذهب سدى! قد يقال قد قامت خلالها دول وأمجاد ...


(1) المصدر السابق: (139).
(2) انظر بالتفصيل: هل نحن مسلمون: (142 - 143).

(3) عن التربية الإسلامية الحرة: (36 - 37).
(4) مختصر دراسة التاريخ: (3/ 113).
(5) دراسات في حضارة الإسلام: (318).

(6) عن الاتجاهات الوطنية: (2/ 234)، وللتوسع في الموضوع يراجع نقد مستقبل الثقافة في مصر: سيد قطب.
(7) الاتجاهات الوطنية: (2/ 235).

(8) الأدب للشعب: (131).

ولكنها تلاشت كأن لم تغن بالأمس، وعاد المصري - وهو مدار هذا التاريخ ومقياسه - بالضبط كما كان في أواخر عصر الرومان ..

ما الذي حدث؟

الذي حدث أننا تخلينا عن رسالتنا (!)، واتجهنا بكليتنا نحو الشرق فاختل ميزان تاريخنا، وكان ذلك الانكسار العظيم (1)

وبناء على هذه الأفكار طولب بتربية الأجيال الجديدة تربية لا صلة لها بذلك الماضي، وهاهي ذي بعض نصوص من نشرة مؤتمر التربية العربي المسمى: الحلقة الدراسية العربية الأولى للتربية وعلم النفس:

يجب أن تعمل التربية العربية على خلق خصائص جديدة في الشخصية العربية الناشئة، بحيث تستأصل منها رواسب العصر التركي والاستغلال الاستعماري، وتصنع بدلاً منها خصائص مضادة تتحقق بها القومية العربية الشاملة في المستقبل القريب، فالمواطن العربي يجب أن يكون شخصاً تقدمياً يؤمن بفلسفة التغير والتطور، يجب أن يعتبر نفسه مسئولاً عن المستقبل لا عن الماضي ومسؤولاً أمام الأجيال القادمة لا أمام رفات الموتى (2).

وعن التربية التقليدية - كما أسماها - يتحدث المحاضر نفسه عن التربية الإسلامية باحتقار شديد ممثلاً لها بقوله:

كان الطفل يشترى من أسواق النخاسة ... ، ثم يدخل القلعة، وتتبع معه طريقة التلقين الدقيق فيخرج منها بعد أعوام قليلة مسلماً


(1) حسين مؤنس: (81 - 82).
(2) من كلمة "أبو الفتوح رضوان " في المؤتمر: (77) من النشرة.

متعصباً لإسلامه، ومملوكاً يعتقد أنه ملك للأمير الذي اشتراه ورباه ... ".

إلى أن يقول: لهذا كانت طريقة التلقين سيئة السمعة كطريقة تربوية، لأنها تؤدي إلى تعصب حيواني عاطفي غير قائم على الفكر والاقتناع (1) وعلى لسان محاضر آخر يقول المؤتمر:.

في تجاربنا الخاصة إن أخطر ما تتعرض له سيكولوجية الأطفال في هذا الصدد هو التعصب الديني، (2) ويشرح مفهوم الدين كما يتصوره:

الدين أداة الفكر يسند المجتمع عن طريق القدوة والتعليم والإرشاد والترغيب والترهيب ... ، والتربية الدينية الخاطئة قد تعمل في تزييف الأهداف وفي جعلها أداة للشر الغريزي، وكثيراً ما يستغل الدين لأغراض السياسة الحزبية، وربما نتج عن هذا الارتباط بين الدين والسياسة أخطر ما يهدد العلاقات والروابط القومية.

ويرى الكثيرون أن الكتب السماوية ليس من أغراضها أن تكون موسوعات يبحث المؤمنون فيها عن مشاكل العصر كي يجدوا فيها حلاً لمشكلات العمال في القرن العشرين -على سبيل المثال-، بل هي أداة تلهم المؤمن لاستعمال الفكر في حل مشاكله الطارئة (3).

3 - تطوير الأزهر (تطويعه): كان الأزهر - رغم تخلفه ورغم تقصيره في إبراز الثقافة الإسلامية المتكاملة - قلعة إسلامية يحسب لها أعداء الإسلام كل حساب، وكان فيه رجال يلتهبون غيرة على الإسلام، ويجابهون الطاغوت - داخلياً كان أم خارجياً - بكل جرأة.

فهو الذي قاوم الحملة الفرنسية وقتل أحد منسوبيه قائدها، وهو الذي تزعم الثورة الشعبية سنة 1919م، وفوق هذا كان رابطة إسلامية عامة تهتز لما يحدث على الرقعة الإسلامية الكبيرة.

ولذلك ظل الأزهر سنين طويلة محط المقت ومصب اللعنات من قبل دعاة التغريب واللادينية، حتى جعلوه رأس المشاكل الثقافية في مصر والعقبة الكئود في سبيل النهضة!

وأعظم من تجرأ على الأزهر في القرن الماضي - عن حسن نية وربما عن شعور بالنقص - هو خريجه الشهير الشيخ محمد عبده الذي سبق شيء من الحديث عنه، وربما كان هذا من أهم أسباب التقدير والتمجيد اللذين حظي بهما الشيخ من المستشرقين والمبشرين وأذنابهم بلا استثناء.

ثم جاء طه حسين ولطفي السيد وأضرابهما مبتدئين من حيث انتهى محمد عبده وجيله، وطالبوا بإلحاح أن تزال هذه الصخرة العتيقة التي تعترض الجسر الثقافي العريض الذي يمتد من أوروبا إلى مصر عابراً البحر الأبيض المتوسط، أي: أن يستبعد آخر أثر شرقي من مصر التي اكتشفت -حسب رأيهم- أن هويتها غربية (100%).

وكان على الأزهر إما أن يساير الموجة العاتية فيفقد رسالته، وإما أن يحكم على نفسه بالفناء.

ورأى أذيال الغرب وكذلك المتحررون! من علماء الأزهر أن الوسيلة المثلى للخروج من الأزمة هي تطوير الأزهر، أي أن يفقد رسالته في سبيل الاحتفاظ بوجوده.

 


(1) النشرة السابقة: (78).
(2) من كلام التجاني الماحي في المؤتمر (180) من النشرة.
(3) النشرة السابقة: (192 - 193).

وصدرت القوانين من سنة 1936 حتى سنة 1961 بشأن تطوير الأزهر، (1) واستطاع دعاة اللادينية أن يدخلوا تاء التأنيث على الجامع الأزهر، وبذلك تحول من وكر لثقافة العصور الوسطى إلى مركز ثقافي عصري مدني!!

أما أثر هذا الانتصار للثقافة المستوردة في معاهد الثقافة الإسلامية خارج مصر - التي كانت تعد الأزهر أباً روحياً أو على الأقل سنداً قوياً لها - فقد كان سريعاً وواضحاً، إذ تم تطويع البقية الباقية منها إما بدوافع ذاتية وإما بقوانين إجبارية.

4 - الدعوة إلى العامية: ليست اللغة العربية أداة الثقافة الإسلامية فحسب، بل هي مقوم من مقومات الشخصية الإسلامية للفرد والمجتمع، وليس غريباً أن يشن المستشرقون والمبشرون عليها هجمات شرسة تتعلق بألفاظها وتراكيبها ومقدرتها على مسايرة العصر، فقد كانوا يرومون هدم القرآن بهدم لغته، ليصبح كالإنجيل اللاتيني لا يقرؤه إلا رجال الدين، غير أن المؤسف حقاً هو أن يتصدى لمقاومة العربية أناس يحملون أسماء إسلامية كانت الفصحى سبب بروزهم الفكري، ويكتبون بها سمومهم الرامية إلى إلغائها، وأن يعد ذلك جزءاً من التفكير الإصلاحي وهدفاً من أهداف المصلحين.

كان زعيم الإصلاح الشيخ محمد عبده محقاً في رفض الأسلوب الكتابي القائم على الصناعة اللفظية، والدعوة إلى كتابة سلسلة حرة ولكنه - دون أن يدري -فتح الباب لهدم العربية- لأول مرة في تاريخها-، وذلك أنه دعا إلى تصحيح الخطأ المشهور من أخطاء النحو والصرف التي كانت تتخلل الكتابة في عصره (2)


(1) انظر تاريخ ونظام التعليم في مصر: (156، 223).
(2) من كتاب: قاسم أمين: ماهر حسن فهمي: (23).

وعلى هذا الأساس وضعت القاعدة الخاطئة: (صحيح مشهور خير من فصيح مهجور) ثم توسع فيها حتى جاء اليوم الذي طولب فيه بهدم النحو العربي كله!

وكان عبد الله النديم - تلميذ محمد عبده - ممن أسهم في هذا المجال لا بالدعوة إلى العامية، بل باستخدامها في لغة الصحافة، ذلك أن مجلة الأستاذ التي كان يصدرها تحتوي في كل عدد من أعدادها مقالاً أو أكثر باللهجة الدارجة (1)

ثم جاء الجيل المستعبد للغرب معلناً عداوته للثقافة الإسلامية واللغة العربية، وأشهر زعمائه أحمد لطفي السيد، وزميله ورفيق عمره عبد العزيز فهمي، وزوج أخته إسماعيل مظهر، ثم صديقه الحميم طه حسين.

ولعل تسليط شيء من الضوء على حياة لطفي السيد - أستاذ الجيل كما سموه ومحور هذه الدعوى - يعطينا لمحة عن دوافع الفكرة وأهدافها:

كان لطفي السيد من أخلص تلاميذ محمد عبده له، وأتيحت له الفرصة أكثر من شيخه، إذ عاش بعده ما يزيد على أربعين سنة، أي أنه عمر أكثر من تسعين عاماً.

وأهم مناصبه الثقافية توليه لإدارة الجامعة المصرية عند تأسيسها، ثم توليه لوزارة المعارف آخر عمره.

أما أعماله السياسية فقد كان أحد زعماء حزب الأمة، باعتباره رئيس تحرير "الجريدة" صحيفة الحزب، واشتهر بعدواته لفكرة الجامعة


(1) انظر المجلد الأول منها-بمركز البحث العلمي في مكة المكرمة.

الإسلامية، ورفعه شعار مصر للمصريين، وشعار: سياسة المنافع لا سياسة العواطف (1).

ولا يستطيع الكاتبون عن حياته أن يخفوا أنه فاوض كتشنر ثم جراهام، على أن تنفصل مصر عن تركية، وتصبح دولة مستقلة يحكمها الخديوي تحت وصاية بريطانية، (2).

أما فكره فكان متأثراً جداً بداروين ومل وروسو وأضرابهم من الغربيين، (3) وكان مع كل ناعق من دعاة التفرنج والعصرية، فقد حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ بها من كاتب أو صحفي آخر (4).

وعندما أصدرت الحكومة قراراً بنقل صديقه وشريك دعوته طه حسين من الجامعة - بسبب الضجة التي ثارت حوله - لم يسع لطفي السيد إلا أن يقدم استقالته من منصب وزير المعارف احتجاجاً على ذلك (5)

ومع زعمه أن الفصحى معقدة وقديمة نراه يمضي ربع قرن من حياته في ترجمة كتب أرسطو (6)

وقد ذكر مؤرخ حياته حسين فوزي النجار بعض الحوادث التي تدل - كما يرى - على أنه كان لا يؤمن بالغيبيات والقوى الخفية (7).

وقد علل لطفي السيد لتأخر مصر وتقدم الغرب، بأن مصر تستعمل


(1) انظر كتاب: احمد لطفي السيد: حسين فوزي النجار: (183)، وفيما يتعلق بشعار مصر للمصريين، انظر ما كتبه برنارد لويس في الغرب والشرق الأوسط: (112).
(2) انظر أحمد لطفي السيد: (187 - 190).
(3) انظر أحمد لطفي السيد: (94، 177).
(4) انظر أحمد لطفي السيد: (214).
(5) انظر أحمد لطفي السيد: (278).
(6) انظر أحمد لطفي السيد: (89) الحاشية.
(7) المصدر السابق: (92).

لغتين: لغة للثقافة وأخرى للتخاطب، والحل الذي رآه وقدم له الاقتراحات الكثيرة هو النزول بالفصحى إلى مستوى العامية، حتى يتم مع الزمن توحيد اللغتين في لغة واحدة هي -بالطبع- العامية (1)

أما زميله الأول عبد العزيز فهمي فقد كان أكثر جرأة منه حين دعا إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وهي الدعوة التي ولدت - لحسن الحظ - ميتة.

وأما صديقه طه حسين فقد كان لدعوته للعامية صدى واضحاً لكتابات المستشرقين، وكذلك آراؤه في الشعر الجاهلي، ورحم الله الرافعي فقد فضح هذه الدعوى وعرى كاتبها (2)

لقد كان كل دعاة العامية أناساً مشبوهين وصلتهم بالدوائر الاستعمارية واضحة، وذلك ما يؤكد أنها كانت جزءاً من المخطط اليهودي الصليبي للقضاء على الإسلام، بل إنه من المؤكد أن الدعوة العامية إنما ظهرت أصلاً من أفكار المستعمرين وفي أحضان المبشرين يتضح ذلك من أسماء دعاتها الأوائل، أمثال بوريان وماسبيرو (3).

وجدير بالذكر أن الذي خلف عبد العزيز فهمي في المجمع اللغوي هو توفيق الحكيم الذي دعا إلى قاعدة "سكّن تسلم" (4) وليس مثل هذه الدعوى أسى إلا أن تفتح كليات اللغة العربية والآداب في البلاد العربية الباب لما أسموه "التراث أو الأدب الشعبي" وأن تحضر فيه رسائل جامعية عليا، على أن الفكرة لم تقتصر على مصر،


(1) انظر بعض مقترحاته للموضوع في فقه اللغة علي عبد الواحد وافي: (184).
(2) انظر كتابه: تحت راية القرآن.
(3) انظر حصوننا مهددة من داخلها، د. محمد محمد حسين: (251).
(4) انظر زعماء وفنانون وأدباء، كامل الشناوي: (181).

فقد كان لها أذيال في الشام، منهم المتطرف كسعيد عقل، ومنهم المتدرج كبعض المهجريين.

5 - اقتباس الأنظمة والمناهج اللادينية من الغرب: لم يقتصر الأمر على مناهج كرومر ودنلوب، فقد كان أذيال الفكر الغربي لا يقلون عنهما رغبة في صبغ مصر والعالم الإسلامي بالصبغة اللادينية الغربية.

وقد كان من أهداف أعداء الإسلام ما أوصى به مؤتمر القاهرة التبشيري المنعقد سنة 1906م، من وجوب إنشاء جامعة علمانية على نمط الجامعة الفرنسية (1) لمناهضة الأزهر، والذي قالوا: "إنه يتهدد كنيسة المسيح بالخطر! ".

وقد قام الأذيال بتنفيذ المهمة، إذ أنه بعد انتهاء المؤتمر بسنتين -تقريباً- أسس سعد زغلول وأحمد لطفي السيد وزملاؤهم الجامعة المصرية، وكان النص الأول من شروط إنشائها هو: ألا تختص بجنس أو دين، بل تكون لجميع سكان مصر على اختلاف جنسياتهم وأديانهم، فتكون واسطة للألفة بينهم (2)

وهذا الشرط الجائر -في جامعة تقوم في بلد مسلم وعلى نفقات شعب مسلم- انعكست آثاره على مناهج التعليم في الجامعة، فلم يكن من بينها شيء من علوم الإسلام احتراماً لمشاعر القلة غير المسلمة، وهكذا كان التعليم الجامعي الحديث علمانياً من البداية، وكان نتاجه تلك الجموع المستعبدة للغرب فكراً وسلوكاً، النافرة من دين آبائها وأجدادها.


(1) أحمد لطفي السيد: (262).
(2) الغارة على العالم الإسلامي: (7).

ولم يكن الأمر مقصوراً على المناهج، بل تعداها إلى أسلوب التربية وفلسفة السلوك، فقد طبق الاختلاط بين الذكور والإناث في الجامعة المصرية، التي كانت مركزاً لأنصار دعوة قاسم أمين المريبة، وتبعتها معظم جامعات العالم الإسلامي، كما أدخلت التقاليد الغربية المنافية للإسلام في صلب النظام الجامعي، إذ شيدت في إطاره معاهد عليا للرقص والتمثيل والنحت والموسيقى، كيف لا وقد قال قاسم أمين صديق لطفي السيد في كتابه كلمات:

لعل أكبر الأسباب في انحطاط الأمة المصرية تأخرها في الفنون الجميلة: التمثيل والتصوير والموسيقى (1).

والمؤسف ما أثبته العقاد من أن دراسة الفنون الجميلة من بنات أفكار محمد عبده (2)

وقد يكون أمر المناهج أهون خطراً لو أنها إذ أهملت العلوم الشرعية البحتة حورت المقررات الأخرى بما يوافق التصور الإسلامي، وحذفت منها الإيحاءات الفلسفية غير العلمية، التي لا مبرر لها إلا ظروف الصراع بين الكنيسة والعلم في أوروبا، -كما أسلفنا في مواطنها- ولكن الواقع أن أنظمة التعليم في العالم الإسلامي تدرس تلك العلوم بصورتها الغربية المعادية للدين، دون التفريق بين دين ودين.

صحيح أن الاستعمار فرض تلك الأنظمة فرضاً، ولكنها لا تزال بعد رحيله كما كانت أو أشد، بل إنها لتطبق في بلاد لم تطأها لمستعمر قدم!

ولا يعوزنا أن نمثل لهذا فهو ملء السمع والبصر:

الداروينية -التي عرضنا سلفاً رأي الباحثين المحققين من الغربيين فيها- تدرسها مناهجنا على أنها حقيقة علمية في مواد كثيرة كالأحياء والتاريخ الطبيعي وعلم الأرض ... سواء ذُكر داروين أو لم يذكر.

ونظرية فرويد المتهافتة نجدها مقررة في أقسام علم النفس في الجامعات قاطبة على أساس أنها نظرية علمية كذلك!

وفي أقسام الاجتماعيات تدرس نظرية دوركايم، بل يدرس علم الاجتماع بكامله على المنهج الغربي، ونحن نعلم مما سبق أنه كعلم النفس بني أصلاً على أسس لادينية.

وفي أقسام الكيمياء والفيزياء والفلك والطب ... إلخ، تدرس مناهج محشوة بإيحاءات فلسفية أو وثنية في العبارات المسمومة مثل "المادة لا تفنى ولا تستحدث" ومثل "خلقت الطبيعة كذا".

وكذلك تعمد تفسير وقوع الزلازل وسقوط النجوم وتكوين الجنين وما أشبهها تفسيراً مادياً صرفاً.

ومن ذلك أيضاً الإتيان ببعض ما ثبت في القرآن والسنة تحت العبارة التقليدية "وكان الناس قبل ظهور العلم الحديث يعتقدون كذا" أو "كانت الكتب القديمة تقول كذا" ومثلها "كان الناس قديماً ينسبون ما يعجزون عن تفسيره إلى القوى الغيبية الخفية".

وإجمالاً نجد أن هذه المناهج يغلب عليها -إن لم تكن كلها- الطابع المادي.

أما المقررات الأدبية البحتة -وهي التي لم يكن متوقعاً أن تتأثر بأفكار الغرب- فقد يعجب المرء إذا علم أنها ربما فاقت المقررات العلمية في ذلك.

ويكفي في هذه العجالة أن نلم بمادتي التاريخ والمطالعة في معظم المناهج المعاصرة:

أما التاريخ فقد صيغ منهجه في قالب غربي، فهو مقسم أقساماً ثلاثة كبرى:

1 - التاريخ القديم: وهو يشمل الحضارات الجاهلية التي لا توصف بذلك إطلاقاً.

2 - تاريخ العصور الوسطى: ويشمل فترة ما قبل ظهور الإسلام بقليل، ثم يندرج فيه تبعاً للمنهج الغربي التاريخ الإسلامي كله تقريباً.

3 - التاريخ الحديث: وهو يبتدئ - غالباً - من قدوم حملة نابليون لاحتلال مصر التي تسمى "فجر النهضة الحديثة" وينتهي بالتاريخ المعاصر.

ولا يخفى ما في هذه القسمة - في حد ذاتها - من إيحاءات ودلالات

هذا في المنهج، أما المضمون: فقد حشيت مقررات التاريخ بدسائس المستشرقين وسموم المبشرين، وكتبت بأساليب شديدة التأثر بالأساليب الغربية التي تفسر التاريخ تفسيراً مادياً، أو على ضوء رؤى فلسفية خاصة، مع إسقاط أو التقليل من قيمة العامل الإيماني الذي هو أسس العوامل في التاريخ الإسلامي.

فنحن نقرأ في هذه المقررات -مثلاً-: أن غزوة بدر كان هدفها تعويض ممتلكات المسلمين بمكة، وأن فتح مصر - خاصة - كان سببه ما عرفه عمرو بن العاص عنها في الجاهلية من خصوبة الأرض ووفرة خيرات .. وأن فتح الأندلس هدفه مد الامبراطورية الإسلامية إلى أوروبا .. وأن العالم العربي خضع للاستعمار التركي عدة قرون .. وأن حركة الشيخ محمد عبد الوهاب أول ثورة عربية ضد الاحتلال التركي ... إلخ.

وعموماً كتب التاريخ الإسلامي على شكل سلسلة عنيفة من الصراعات والدسائس السياسية، وكتبت الحضارة الإسلامية على شكل ألوان فولكلورية.

أما المزايا العظيمة للتاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية -تلك التي لم تجتمعا قط في تاريخ وحضارة أمة على وجه البسيطة - فهي مغفلة أو مشوهة.

أما مادة: المطالعة فكأنما هي ملخص موجز للغزو الثقافي الغربي، إذ تحوي موضوعات منوعة يجمعها الإعجاب بالغرب وتمجيد حضارته ورجالها، والخلو من التصورات الإسلامية والقيم الإيمانية إلا قليلاً.

فإذا تصفحت أحد هذه المقررات لا سيما المطالعة الثانوية، فلن تعدم أن تجد فيه مثل هذه الموضوعات:

(ماجلان قاهر البحار، كيف اكتشفت أميركا؟ إبراهيم لنكولن محرر العبيد، تحرير المرأة، ظهور القومية العربية، نابليون فاتح أوروبا، عمر بن أبي ربيعة، هدفك في الحياة، الوطنية الصادقة).

6 - استيراد المذاهب اللادينية في الفكر والأدب: كانت فلسفة كومت الوضعية في فرنسا، ونظرية داروين في إنجلترا من أعظم النظريات التي تأثر بهما الفكر الغربي -كما سبق- وقد عاصرت اليقظة المنبهرة في العالم الإسلامي هاتين النظريتين وهما في أوج عظمتهما، فتأثرت بهما أبلغ التأثر، ومن ثم سارت النهضة الفكرية والأدبية الحديثة مساراً غربياً، حتى آل الأمر إلى الواقع الفكري والأدبي المعاصر، على أن الأدب خاصة تأثر -بالرومانسية، التي اكتهلت في تلك الفترة، وفي هذا القرن استوردت الواقعية واللامعقول بمدارسه المتعددة. 


(1) قاسم أمين: (39).
(2) انظر: فصل الفنون الجميلة من كتاب: محمد عبده.

أما الفكر فقد تأثر الشيخ محمد عبده بفلسفة كومت العقلية، حتى لنستطيع أن نقول: إن اتجاهه الاعتزالي يعزى إليها لا إلى المعتزلة المسلمين، ومعلوم تأثر كل زعماء الفكر في مطلع هذا القرن بالشيخ من قريب أو بعيد.

وكان من الآثار الخطرة ما حاول الشيخ ومدرسته القيام به من التوفيق بين الإيمان والنزعة العقلية، وبغض النظر عن مدى نتائجها ومقدار توفيقهم فيها، نجد أنها بدت أقل خطراً في ذلك الوقت من النزعات المتأثرة بفلسفة التطور، لاقتران الأخيرة بالمروق الصريح من الدين والدعوة إلى الإلحاد، (1)

فقد ظهر ثلاثة من الكتاب أسهموا بصفة بارزة في نقل الداروينية إلى الشرق بطريق الترجمة المباشرة وبالدراسة المستفيضة في الصحف، هم: شبلي شميل وسلامة موسى وإسماعيل مظهر (2).

والأولان نصرانيان أشهرا إلحادهما وكفرهما بكل دين، (3) أما الأخير فمسلم الأصل إلا أنه كتب ما لا يتردد أحد في نسبة قائله إلى الكفر، وكان لكتبهم وأبحاثهم الأثر الكبير في جيلهم ومن تلاه، حتى أنك لن


(1) كتب الشيخ الجسر الرسالة الحميدية، التي تعد خارقة بالنسبة لعصره بين فيها أن الداروينية في حال ثبوت فكرتها عن التطور لا تدعو مطلقاً إلى الإلحاد، انظر الفصل المخصص لذلك من كتاب قصة الإيمان لنديم الجسر.
(2) ألف شبلي شميل: فلسفة النشوء والارتقاء، وسلامة موسى: نظرية التطور وأصل الإنسان وإسماعيل مظهر: ملقى السبيل في مذهب النشوء والارتقاء.
(3) ولعلهما إنما يتظاهران بذلك لغرض خبيث، فقد كان سلامة موسى عضواً في جمعية الشبان المسيحيين.

تجد من المعاصرين من كتب في موضوع أصل الإنسان إلا وهو سائر على الطريق نفسه.

ولما كان انتشار الإلحاد في العصر الحديث -أو على الأقل الشك واللاأدرية- يشكل ظاهرة بين المفكرين والمثقفين، فلنكتف به مثالاً على استيراد المذاهب الفكرية الحديثة.

(كان من ضمن القائمين بهذه الحركة إسماعيل أحمد أدهم، الذي جاء إلى مصر (من تركية بعد إعلان العلمانية)، وحاول نشر الأفكار الإلحادية بين أهلها، وقد ألف رسالة صغيرة عنوانها: لماذا أنا ملحد؟ وطبعها في مطبعة التعاون بالإسكندرية، ومما جاء فيها: (أسست جماعة نشر الإلحاد بتركيا، وكانت لنا مطبوعات صغيرة أذكر منها: ماهية الدين، قصة تطور الدين ونشأته، العقائد، قصة تطور فكرة الله، فكرة الخلود، وبعد هذا فكرنا في الاتصال بجمعية نشر الإلحاد الأميركية، وكان نتيجة ذلك تحويل اسم جماعتنا إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد، وكان صديقي البحاثة إسماعيل مظهر في ذلك الوقت - 1928 - يصدر مجلة العصور في مصر، وكانت تمثل حركة معتدلة في نشر الفكر والتفكير والدعوة للإلحاد (1).

وكتب إسماعيل مظهر في عدد مارس 1928 من مجلته مقالاً جاء فيه:

(أما تفكير الإنسان الجدي فأصبح في تحديد علاقته لا بواجب الوجود ولكن بالكون، فبعد أن أسقط العلم الإنسان عن عرش الملائكة العلوي، وأنزله إلى أفق الحيوان، أخذت الإنسان فكرة جديدة ليست بأقل إشكالاً من الفكرة التي ملكت زمامه من ناحية الأديان.


(1) ذيل الملل والنحل، محمد سيد كيلاني: (91) (مطبوع مع الملل والنحل).

بعد أن أظهر النشوئيون أصل الإنسان الحيواني وأثبتوه علمياً (!)، وبعد أن أثبت الجيولوجيون قدم الأرض والفلكيون قدم النظام الشمسي، وأظهر هؤلاء بأبحاثهم سلسلة التدرج الطويل التي مضى عليها الكون لينتهي بظهور الحياة، فوق الأرض أخذ العقل الإنساني سمته نحو التفكير كما هي عادته فيما يختص وراء هذه السلسة الطويلة من قصد، وهل كانت متجهة بكل ما فيها من الصور لأن تنتهي بالإنسان على أنه القصد الأخير منها؟

أما الثابت حتى اليوم، فليس مما يرضي التفاؤل في مصير الإنسان، ولست أدري لماذا لا يشارك الإنسان الحيوانات في نهايتها المحزنة ما دام يشاركها في بداياتها الجميلة (1).

وينتهي تأثره بداروين، إلى قوله:

اكتفت الأديان بالقول: بأن الغاية من خلق الإنسان والجن هي أن يعبدوا الله، -فكرة حسنة- ولكنها غير صحيحة (!) إذ لو صح هذا -إذن- لاعتقد بجانبه بأن الله في حاجة لأن يعبده الأنس والجن (!)، ولظهر النظام الكوني في مجموعه بمظهر شيء ما خلق إلا ليعضد الحياة الإنسانية التي يجب أن تسخر لعبادة الله، وهذا في معتقدي أبعد الأشياء عن أن يكون الغاية من وجود الإنسان (2).

والحق أن إسماعيل مظهر لم يكن إلا نموذجاً لكتاب كثيرين يتفاوتون في درجة التصريح بما يعتقدون لكنهم متساوون في المنطلق والغاية، مثل منصور فهمي ولطفي السيد وأمين الخولي وطه حسين، وأخيراً صادق العظم صاحب كتاب (نقد الفكر الديني)، وآخرين ممن لا تأويل لما يكتبون إلا الخروج على الإسلام، غير أن بعضهم تخفى تحت


(1) المصدر السابق: (98).
(2) المصدر السابق: (100).

أقنعة البحث العلمي أو التمذهب الأدبي، حتى لا يصدم مشاعر الجماهير فتنصرف عن إنتاجه.

وكما ظهر ذلك في الكتاب فقد ظهر في الشعراء، ويبدو لي أن شعراء مصر أقل من شعراء العراق كالرصافي والزهاوي في ذلك، فالزهاوي -مثلاً- (1936) يمتلئ ديوانه بالأفكار الإلحادية التي لا تخرج في جملتها عن نظرية داروين أو نظرية هيكل الأثيرية، التي هي في الواقع امتداد للداروينية، من ذلك قوله:

إني أفكر في الطبيعة فاحصاً فيعد تفكيري من الإلحاد

ووجدت أن الكائنات سلالة لا فرق بين خفيها والبادي

أما الزمان فإن في دورانه ما يربط الآزال بالآباد (1)

وقوله:

ما حياة قديمها غير باد لك إلا تطور في جماد

إنها تتبنى لها في نظام كل ما يقضي حاجتها من عتاد (2)

(كذا) ومن رباعياته:

ما نحن إلا أقرد من نسل قرد هالك

فخر لنا ارتقاؤنا في سلم المدارك (3)

بل نجده يهجو المخالفين لنظرية داروين من معاصريه:

إن الذين عن الأقراد قد بعدوا ... لم يجحدوا أنهم منهن قد ولدوا


(1) ديوان الزهاوي: (525، 599).
(2) المصدر السابق: (525، 599) والبيت مكسور في الأصل.
(3) ديوان الزهاوي: (525، 599).

أما الألى لم يزالوا في مداركهم أدنى إلى أصلهم منهم فقد جحدوا (1)

وعن الأثير يقول:

ما لأجل الإنسان يشتغل الكون وتأتي بعد الدهور الدهور

كل شيء فإنه في تلاش بتوالي الأزمان إلا الأثير (2)

ويقول:

إنما هذه الحياة شرار من زفير الأثير ثار شعاعاً

وأشد منه قوله:

ولعل الأثير في كل أرض وسماء كالله في التأثير

ولعل الذاتين واحدة في الأ صل والخلف جاء في التعبير (3)

وهذا وقد كان من نتيجة شيوع هذه الأفكار في الفكر والشعر والصحافة التمهيد لانتشار الأفكار المادية لا سيما الشيوعية، وتغذيتها بروح الشك العام في كل شيء تقريباً، حتى أصبح الشباب المثقف في العالم الإسلامي فريسة الشكوك القاتلة والوساوس الشيطانية، وانتظم كثير منهم في صفوف المنظمات اليسارية، وغيرها من الأحزاب اللادينية. لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية حيث أصبحت الاشتراكية "موضة العصر" كما يقولون!

ومثل المذاهب الفكرية كانت المذاهب الأدبية!

فالرومانسية وجدت صدى لها في الشرق، كما في روايات جرجي زيدان التي شوه بها التاريخ الإسلامي ليحاكي الرومانسيين الإنجليز،


(1) المصدر السابق: (444).
(2) المصدر السابق: (50).
(3) ديوان الزهاوي: (472، 275).

أما المازني فلم تكن رومانسيته واضحة فحسب، (1)

بل إنه ليكتب في أحد كتبه تحت عنوان الفصل عبارة منقولة عن الكتاب المحرف المسمى المقدس، تقليداً أعمى للكتاب الغربيين في القرن الماضي، إذ كان من عادتهم أن توضع على رأس كل فصل عبارة شهيرة (2)

على أن فريقاً من الأدباء اتجه بادئ الأمر إلى الترجمة، فتمت ترجمة أعمال معظم أدباء أوروبا المشهورين من شكسبير إلى تولستوي، ومع أن بعضها روائع إنسانية فقد كان الاتجاه الإباحي هو الطاغي على الترجمات، كما في أعمال الكسندر دوماس وأميل زولا وأناتول فرانس.

وظل الاتجاه الإباحي هو المسيطر تقريباً على حركة الترجمة الأدبية تحت ستار الواقعية حتى الحرب العالمية الثانية، ثم ظهرت أصداء اللامعقول على أثر نضوجها في الغرب -حينئذ-، كما ظهرت الكتابة الأسطورية التي اتخذها سارتر وكامو أسلوباً للتعبير عن فلسفة الضياع والعبث، إلا أنهما استخدما أساطير اليونان، أما العرب أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم فقد استخدموا التاريخ الإسلامي والقصص القرآني، كما في على هامش السيرة والفتنة الكبرى وأصحاب الكهف ... إلخ.

وقد أسهمت وسائل الإعلام - التي يدير معظمها أناس علمانيون - من صحافة وإذاعة ومسرح ... إسهاماً قوياً في تنمية الاتجاه الإباحي وتعميمه، وبالتالي في هبوط الأدب أسلوباً ومضموناً كما في كتابات إحسان عبد القدوس وشيعته نثراً وأعمال نزار قباني وزمرته شعراً.


(1) انظر كتابه: إبراهيم الثاني.
(2) انظر دراسات في حضارة الإسلام، جب: (392).

ومع أن الأدب الحديث في غالبه علماني موضوعياً، فقد ظهرت له دعوات علمانية ذاتية، تطالب بفصله عن الدين، بل وعن الأخلاق تحت شعارات "الفن للفن" و"الأدب غير الملتزم" والأدب للشعب والأدب للواقع ...

وممن طالب بفصل الأدب عن القيم الدينية سلامة موسى، فمن كلامه قوله عن رسالة الأب:

(إن رسالته العصرية دينية ولكنها مع ذلك بشرية، وهذه الجملة الأخيرة تحتاج إلى تفسير، ذلك أن الأديان الغيبية القديمة كانت تحملنا تبعات وتطالبنا بواجبات، ولكن القيم الأخلاقية والاجتماعية في هذه الأديان كانت قيم الآخرة ولم تكن قيم الدنيا، فكان علينا أن نكون صالحين، نمارس الفضيلة ونصلي ونصوم حتى نستمتع بالفردوس ولا نتعرض للعقوبة بعد الموت فالقيم هنا أخروية، ولكن الأدب الفرنسي العصري بل الأوروبي كله يحملنا -أيضاً- تبعات ويطالبنا بواجبات ولكن القيم الأخلاقية والاجتماعية فيه هي قيم الدنيا فقط، فيجب أن نكون صالحين لأن نمارس الفضيلة كي نخدم المجتمع البشري ونرقى بشخصيتنا أخلاقاً ومعارف، ونجعل من كوكبنا فردوساً نجد فيه السعادة والخير والشرف) (1).

وكما برزت الوجودية في إنتاج أنيس منصور، والماركسية في كتابات نجيب محفوظ، برز الاتجاه الضائع الناهج نهج اللامعقول في شعر بدر شاكر السياب، كما في أنشودة المطر، ومثله الشاعر اللبناني الملقب أدونيس (2)

على أن الاتجاه إلى اللامعقول لم يفض إلى الثورة على الأدب


(1) الأدب للشعب: (112).
(2) اسمه الأصلي: أحمد سعيد علي.

الأصيل في - مضمونه ومحتواه، بل تعداه إلى الشكل والأسلوب -مثلما فعل إليوت اليهودي، (1): بالشعر الإنجليزي- وذلك بظهور ما يسمى الشعر الحر الذي هو في الحقيقة نوع من الهذيان والإسهال العقلي - على حد تعبير الشيخ الغزالي في إحدى محاضراته.

وقد بدأه باكثير والسياب بترجمة الشعر الأوروبي إلى عربية منثورة، ثم جاء الجيل التالي الذي كان هزيلاً ممسوخاً في كل شيء فانحصر إنتاجه في هذا الهذيان.

وما دمنا قد تعرضنا لذكر ذلك الغثاء فلنأت بمثال له:

يقول أحد أدعيائه (محمد الفيتوري):

(نار خطايانا

تسيل في حنايانا

فلنتكئ على عظام موتانا

ولنصمت الآنا ...

برج كنيسة قديمة، وراهب قلق

وغيمة تشد قدميها، وتعبر الأفق

ورجل بلا عنق ...

وامرأة على الرصيف تنزلق

وقطة في أسفل السلم تختنق

وصوت ناقوس يدق

يرسم دورة على الفضاء، ويدق ... الخ).

يقول الشيخ الغزالي بعد إيراد هذا الغثاء:

(ودعك من أضغاث الأحلام التي ينقلك إلى جوها هذا الكلام


(1) انظر تهافت العلمانية، عماد الدين خليل، فصل: الشهود، علماً بأن إليوت يدعي أنه غير ذلك، انظر ترجمته في (الشعر بين رواد ثلاثة) منح خوري.

المفكك ... ، ودعك من تقطع الروابط العقلية بين هذه الألفاظ المتصيدة، فهي كما قيل: سمك، لبن، تمر هندي ...

ولكن الشيء الذي لا تدعه والذي يثير انتباهك حتماً هو جراثيم الاستعمار الثقافي، أو الغزو الصليبي الذي سيطر على هذا الشاعر الهائم.

فهو في القاهرة المدينة المعروفة بشمسها الصاحية ومآذنها السامقة وصبغتها الإسلامية الأولى، ولكن التبعية الفكرية والنفسية الغالبة على هذا الشخص التائه جعلته لا يرى إلا الغيوم وأبراج الكنائس والرهبان القلقين ورنين النواقيس وكأنه في لندن أو روما لا في مصر) (1).


(1) حصاد الغرور: (194 - 195).

 

  • الاثنين PM 06:19
    2022-06-27
  • 1058
Powered by: GateGold