ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
مظاهر العلمانية في الحياة الإسلامية: في الحكم والتشريع
روى الإمام أحمد أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {لينقضن الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة يتشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضاً الحكم، وآخرهن الصلاة}.
ولقد بدأ الانحراف في تصرفات الحكام المسلمين قديماً، غير أن النقض الواعي لهذه العروة لم يظهر إلا في العصر الحديث، حين بلغ المسلمون قرارة الضعف وغاية التدهور، كان الإسلام طيلة القرون السابقة أعمق في النفوس من أن يستبدل به أي منهج آخر، وكانت الجاهلية أحقر من أن تطاوله أو تطمع في أبنائه.
غير أن الحال في العصر الحديث قد انعكس تماماً، فلم يبق من الإسلام -واقعياً - إلا تلك التصورات الخاطئة التي سلف الحديث عنها، وفي الوقت نفسه كانت الجاهلية الأوروبية المنتفشة تتولى قيادة الفكر البشري وتوجيه الحضارة الإنسانية، ونتيجة لهذا الوضع المزدوج تسربت العلمانية إلى العالم الإسلامي، وانتقضت تلك العروة الكبرى.
فمن الوجهة السياسية لم يكن في العالم الإسلامي شيء يمكن أن يسمى الوعي السياسي، بل كان الأمر متروكاً لأهواء الحاكم حتى أن الوصف الذي يطلقه بعض الباحثين الغربيين على حال المسلمين في القرن الماضي - رغم ما فيه من مبالغة - ليس بعيداً عن الصحة، ومن ذلك قول أحدهم: "قد كتبت شريعة موجزة في جبهة كل شرقي، شريعة ليس لها مثيل في الوصايا الأوروبية العشر، وهي: عليك أيها الرجل الشرقي أن تحل الرجل الذي يقيمه الله عليك ملكاً وتقدسه وتعبده، فإذا أحبك فأحبه، وإذا استلب أموالك ومتاعك واضطهدك شر اضطهاد فأحبه على ذلك أيضاً، وإياك أن تحول عن هذا له، لأنه سيدك وأنت عبده ومولاك المتصرف بك تصرف صاحب الأمانة في أمانته" (1).
ومن الوجهة التشريعية كان القضاء -غير المنظم- في العالم الإسلامي يعتمد على الشروح والحواشي والمختصرات المتأخرة التي كانت أقرب إلى الطلاسم والمعميات إلى حد جعل الذين يفقهونها - لا سيما مع الركود العلمي العام - قلة ضئيلة، ثم إنها في الحقيقة لم تكن المصدر الوحيد للتشريع، فبجانبها كانت أهواء ذوي السلطة وأعراف المجتمع وتقاليد القبيلة ... إلخ.
وإذ كان سبب هذا الواقع المؤلم هو - كما سبق - الانحراف في تصور الإسلام وفهمه، وبالتالي في تطبيقه وتحكيمه، فقد كان الحل الوحيد الصحيح للمشكلة هو العودة إلى الإسلام إيماناً جازماً وعقيدةً خالصةً وتطبيقاً كاملاً.
لكن هذه العودة لم تقع، بل كان انحراف أخطر وأعظم أنتجه الشق الثاني من الأزمة وهو تفوق الجاهلية وسيطرتها العامة.
هذا التفوق وتلك السيطرة كانا دون شك مذهلين في كل ميدان، ولكن المسلمين - المتخلفين فهما وواقعاً - رأوهما أعظم بكثير جداً من حقيقتهما إلى حد أن الصدمة النفسية التي حاقت بالأمة الإسلامية احتاجت إلى عشرات السنين لتخفيف آثارها، وإلى الكثير من المحاولات والتجارب المتدرجة.
وفي النماذج التي سيقت سلفاً عن إمكان تقبل المسلمين الذاتي للعلمانية ما يوضح هذه الحقيقة.
ومن أهم القضايا التي يجدر الانتباه إليها أن الانحراف غير المقصود ابتدأ من منطلق التخلص من جمود الفقه الإسلامي أمام التغيرات الحيوية الجديدة، ومن توهم المسلمين بأن سبب تخلفهم هو عجزهم التنظيمي والإداري، وأن محاكاة أساليب الحياة الغربية جديرة بالقضاء على ذلك التخلف، وعلى هذا الأساس قامت الحركة المسماة حركة الإصلاح في جناحي العالم الإسلامي تركية ومصر.
في تركية:
في سنة 1255هـ1839م أصدر السلطان عبد الحميد مرسومه الشهير: "لا يخفى على عموم الناس أن دولتنا العلية منذ مبدأ ظهورها وهي جارية على رعاية الأحكام القرآنية الجليلة والقوانين الشرعية المنيفة بتمامها، ولذا كانت قوة ومكانة سلطتنا السنية ورفاهية وعمارية أهاليها وصلت حد الغاية، وقد انعكس الأمر منذ 150 سنة بسبب عدم الانقياد والامتثال للشرع الشريف ولا للقوانين المنيفة بناء على طرو الكوارث المتعاقبة والأسباب المتنوعة، فتبدلت قوتها بالضعف وثروتها بالفقر .. واعتماداً على المعونة الإلهية ... قد رؤي من الآن فصاعداً أهمية لزوم وضع وتأسيس قوانين جديدة تتحسن بها إدارة ممالك دولتنا العلية المحروسة، والمواد الأساسية لهذه القوانين هي عبارة عن الأمن على الأرواح وحفظ العرض والناموس والمال وتعيين الخراج وهيئة طلب العساكر للخدمة ومدة استخدامهم" (2).
والحق أن الإصلاح كان ضرورياً جداً، وليس لأحد أن يعترض على الفكرة في ذاتها، ولكن ما صاحبها من سوء الفهم وغبش التصور بالإضافة إلى مرونة الاصطلاح وسعة مدللاته، كل ذلك أدى آخر الأمر إلى سحق الشريعة الإسلامية بكاملها تحت شعار الإصلاح نفسه، وهو ما فعله أتاتورك.
وفي استطاعتنا أن نلحظ ذلك من أول الطريق بمطالعة تقرير اللجنة المشكلة لدراسة الحالة التشريعية في البلاد والتي انبثق عنها إخراج مجلة الأحكام العدلية: "لا يخفي على حضرة الصدر العالي أن الجهة التي تتعلق بأمر الدنيا من علم الفقه كما أنها تنقسم إلى مناكحات ومعاملات وعقوبة، كذلك القوانين السياسية للأمم المتمدنة تنقسم إلى هذه الأقسام الثلاثة (!) ويسمى قسم المعاملات منها القانون المدني (!) لكنه لما زاد اتساع المعاملات التجارية في هذه الأعصار مست الحاجة إلى استثناء كثير من المعاملات كالسفتجة التي يسمونها حوالة، وكأحكام الإفلاس وغيرهما من القانون الأصلي ووضع لهذه المستثنيات قانون مخصوص يسمى قانون التجارة" (3).
هكذا كانت الثلمة الأولى في الشريعة متمثلة في قانون التجارة، والمصيبة الكبرى هي الأساس الفكري الذي بني عليه القانون وهو اعتباره جزءاً من القانون المدني الذي هو بعينه ما يسمى في الاصطلاح الفقهي المعاملات (4).
ثم تلك الفكرة الدخيلة: مقارنة الإسلام بالأنظمة الكافرة واعتبار أممها متمدنة!
هذه السذاجة والغفلة عند منفذي الإصلاح الأوائل أصبحت عند الشباب التركي الدارس في أوروبا فكرة واعية ومبدأ مرسوماً، ومن ثم استبد أولئك المثقفون ثقافة غربية بمسمى الاصلاح، وحددوا مواصفاته الخاصة التي ترمي في النهاية إلى نبذ الإسلام والتمسك بركاب أوروبا الكافرة.
سرت في قلوب أولئك روح التفرنج وتطور الأمر إلى أن نشأت حركة ثورية تطالب بالإصلاح الداخلي الذي تمثل عندها في وضع حد لسلطة عبد الحميد المطلقة، وكان قادة هذه الحركة من مختلف الاتجاهات والميول والارتباطات لا يجمعهم إلا هذا الهدف ... وهو قيام حكومة دستورية، ثم لا يتفقون على شئ بعد ذلك المطلب.
نظرياتهم السياسية متعددة بقدر ما أتيح لكل منهم أن يقرأ في اللغة الأجنبية التي يتقنها! صباح الدين وقع بيده كتاب أدموند ديمولان عن سر تقدم الإنكليز السكسونيين (5) ومن ثم اعتنق فكرة اللامركزية.
وأحمد رضا كان من سوء حظه أنه تعرف على أوغست كومت فاعتنق الوضعية إلى حد الإصرار على تأريخ منشوراته بالتاريخ الخاص للوضعيين وحذف التاريخ الهجري ليقود بهذه المنشورات دولة الخلافة!
وأحمد رضا أمه نمساوية وأبوه كان يعرف باسم إنكليزي علي بك نظراً لميوله للإنكليز وحبه لهم (6).
ونامق كمال كان وطنياً متأثراً بالنزعة القومية التي عاصرها أثناء إقامته في العواصم الأوروبية المختلفة (7) ووقع الصدام المحتوم بين هذه الحركة وبين السلطان عبد الحميد -رحمه الله- الذي كان يروم الإصلاح الحقيقي ممثلاً في دعوته إلى الجامعة الإسلامية وإعلان الجهاد.
وفي سنة 1897 استطاع بحنكته ودهائه أن يشل هذه الحركة، ويستميل كثيراً من عناصرها، ولكن الجو الذي خلقته هذه الحركة والأفكار التي نشرتها ضد الإسلام، كانت دافعاً مشجعاً لنشوء حركات سرية تآمريه تتمسح بشعارات وأهداف هذه الحركة، وتخفي في أعماقها ما لم يكن في الحسبان.
نستطيع القول أن الحركة السالفة الذكر والتي تزعمها مدحت باشا وأعوانه تصور الجانب الذاتي من المأساة، وها قد تهيأ الجو لأعداء الأمة المتربصين كي يقضوا على الإسلام عقيدة وشريعة معتمدين على ذلك الجانب!
ذلك أنه في تلك السنة نفسها 1897 اجتمع المؤتمر الصهيوني الأول وقرر أن تقوم دولة إسرائيل في فلسطين التابعة لحكم عبد الحميد.
وبسبب أن السلطان رفض بإصرار المساومة على فلسطين ولكون الحقد اليهودي على الإسلام لم يخمد طوال العصور، ونظراً لنجاح التجربة اليهودية في أوروبا فقد اقتضى الأمر تدمير الخلافة العثمانية بثورة شبيهة بالثورة الفرنسية في أهدافها وشعاراتها لتكون فاتحة ظهور دول علمانية في العالم الإسلامي على النمط الأوروبي، ومن ثم تفتح الطريق أمام الهدف الأعظم والحلم القديم قيام حكومة يهودية عالمية دستورها التلمود وملكها من نسل داود (8).
ولا غرابة إطلاقاً في أن تكون اليد الطولى في هذا التدمير لأولئك اليهود الذين وسعتهم سماحة الإسلام حين ضيقت عليهم أسبانيا النصرانية (9).
ولا غرابة كذلك في أن يجد التلموديون عناصر إسلامية من المغفلين أو ضعاف الإيمان يبذلون تضحيات عظيمة، ويشكلون التغطية الضرورية اللازمة للمؤامرة.
من هذين العنصرين (اليهود الدونمة والمأجورين أو المغفلين من أدعياء الإسلام) تكونت الحركة العلمانية المسماة بحركة الاتحاد والترقي التي كانت تسير وفق طقوس الماسونية العالمية.
ولندع رأي شَيْخ الإِسْلامِ فيهم (10) ولننظر ما قاله سيتون واطسن:
إن الأدمغة الحقيقة في الحركة كانت يهودية أو يهودية - مسلمة، وقد جاءت مساعدتها المالية من الدونمة الأغنياء، ومن يهود سلانيك ومن الرأسماليين العالميين أو شبه العالميين في فينا وبودابست وبرلين، وربما في باريس ولندن أيضاً.
إن الحقيقة البارزة في تكوين جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية، فمنذ تأسيسها لم يظهر بين زعمائها وقادتها عضو واحد من أصل تركي صافٍ ... ولم يكن أحد من الناس يجرؤ أن يتنبأ أن هذه الفئة اليهودية المغمورة المعروفة بالدونمة ستلعب دوراً رئيسياً في ثورة كان لها نتائج خطيرة في سير التاريخ (11)
وبعد صراع مرير مع الخليفة، وقفت فيه كل القوى الدخيلة والعميلة ضده، انتصرت هذه العصبة، وأقصت عبد الحميد عن الخلافة بالقوة سنة 1325هـ1909م وكان الذي أخذ بثأر هرتسل منه هو قره صو اليهودي! وبزواله زالت العقبة الأخيرة في طريق مخططها اللاديني!
فصلت تلك العصبة الخلافة عن السياسة، واختارت سلطاناً جديداً لم يكن يساوي في نظرهم إلا أحد البابوات المؤقتين، ورأوا أن المناخ لم يتهيأ بعد لإلغاء منصب الخلافة.
أما فكرة الجامعة الإسلامية فقد أبطلها أولئك، ونادوا بفكرة القومية الطورانية معلنين أن حركتهم تهدف إلى تتريك الولايات العثمانية، وكانوا يقصدون -العرب- مما دفع العرب إلى التعلق ببريطانيا، ووضع مستقبلهم في يد عميل المخابرات لورانس، منادين هم أيضاً بالثورة العربية والقومية العربية.
ويذكر برنارد لويس أن المستشرقين ومنهم: الكونت قسطنطين
بوزريسكي الذي ادعى الإسلام، وتسمى مصطفى جلال الدين هم الذين أسسوا فكرة الطورانية (12)
ثم أعلنت عصبتهم الدستور ذلك الصنم الذي جعلته دعايتهم العريضة أعظم الغايات، وجاء الدستور معبراً عن أهدافهم اللادينية إذ رفع شعارات الماسونية، وشدد على الحرية الدينية ومساواة غير المسلمين بالمسلمين في كل شيء باسم الوحدة الوطنية , وعطل عمل المحاكم الشرعية باسم الاصلاح والتقنين، مما أتاح الفرصة لأعداء الإسلام كي يتمكنوا من العمل بكل حرية ونشاط.
وإذا اعتبرنا أفكار ضياء كوك ألب مؤشراً للانتماء الفكري لهذه الحركة، فسنجدها دون أدنى شك حركة لا دينية سافرة، لكن الناس ظلوا مترددين بشأنها؛ لأنها لم تظهر أهدافها الحقيقية، فقد كان المخطط ينفذ بدقة ماهرة.
لقد كانت اللعبة العالمية تقتضي اصطناع بطل تتراجع أمامه جيوش الحلفاء الجرارة! وتعلق الأمة الإسلامية اليائسة فيه أملها الكبير وحلمها المنشود، وفي أوج عظمته وانتفاخه ينقض على الرمق الباقي في جسم الأمة، فينهشه ويجهز عليها إلى الأبد! (13) وهذا أفضل قطعاً من كل المائة مشروع لتقسيم تركيا (14) وهدم الإسلام.
وتمت صناعة البطل بنجاح باهر، ووقف يتحدى الحلفاء، وألقى باليونان في البحر (15) ولم ير الحلفاء بداً من التفاوض معه! وكانت ثمرة المفاوضات هي - الاتفاقية المعروفة باتفاقية كيرزن ذات الشروط الأربعة:
1 - إلغاء الخلافة الإسلامية نهائياً من تركيا.
2 - أن تقطع تركيا كل صلة مع الإسلام.
3 - أن تضمن تركيا تجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية في تركيا.
4 - أن يستبدل الدستور العثماني القائم على الإسلام بدستور مدني بحت (16)
ويصف المؤرخ أرمسترونج خطوات تنفيذ الاتفاقية قائلاً:
انطلق كمال أتاتورك يكمل عمل التحطيم الشامل الذي شرع فيه، وقد قرر أنه يجب عليه أن يفصل تركيا عن ماضيها المتعفن الفاسد، يجب عليه أن يزيل جميع الأنقاض التي تحيط بها، هو حطم فعلاً النسيج السياسي القديم، ونقل السلطنة إلى ديمقراطية، وحول الامبراطورية إلى قطر فحسب، وجعل الدولة الدينية جمهورية عادية، إنه طرد السلطان الخليفة، وقطع جميع الصلات عن الامبراطورية العثمانية، وقد بدأ الآن في تغيير عقلية الشعب بكاملها وتصوراته القديمة وعاداته ولباسه وأخلاقه وتقاليده وأساليب الحديث ومناهج الحياة المنزلية التي تربطه بالماضي (17)
وامتدح توينبي عمله، واعتبره أعظم من هتلر عبقرية في فن الهدم وقطع الصلة بالماضي.
وقال: إن الدولة القومية التركية التي أقامها مصطفى كمال على النسق الغربي تبدو - وقت كتابة هذه السطور -
عملاً ناجحاً لم يتحقق مثله حتى ذلك الوقت في أي بلد إسلامي آخر (18)
وامتدحه ولفرد كانتول سمث - على طريقته الخاصة - قائلاً:
رأينا تركيا في سبيل رفعة شأنها وخلق مثل عليا جديدة لم تتردد في سحق السلطات الدينية وألغت تعاليمها وحررت الإسلام وكشفت النقاب عن الدين الحق القويم!! (19)
نصب مصطفى كمال نفسه إلهاً من دون الله يشرع للأمة كما يشاء، فلفق قانوناً فريداً يتكون أكثره من القانون السويسري والقانون الإيطالي وغيرهما وأكمل الباقي من عنده، ومع ذلك فهو يدعي أنه كله من عنده قائلاً:
نحن لا نريد شرعاً فيه قال وقالوا، ولكن شرعاً فيه قلنا وتقول (20)
ويصف أحد الكتاب الغربيين جلسة في مجلس النواب فيقول: إن مصطفى كمال وقف قائلاً:
إن التشريع والقضاء في أمة عصرية يجب أن يكونا عصريين مطابقين لأحوال الزمان لا للمبادئ والتقاليد
ثم اقتفاه وزير العدل شارحاً ومفسراً:
إن الشعب التركي جدير بأن يفكر بنفسه بدون أن يتقيد بما فكر غيره من قبله، وقد كان كل مادة من مواد كتبنا القضائية مبدوءة بكلمة قال المقدسة، فأما الآن فلا يهمنا أصلاً ماذا قالوا في الماضي، بل يهمنا أن نفكر نحن ونقول نحن (21)
ويعترض عليه مرة أحد القانونيين بقوله:
إن هذا النظام الذي تريدون وضعه لا يوجد في أي كتاب للقانون. فيتلقى الجواب التالي:
-إن النظم ليست إلا أشياء وأموراً تكيفت ومرت من التجارب ... علي أن أنفذ ما أريد وعليكم أن تدرجوا ما أعمل في الكتب!! (22).
ونتيجة التطرف والغلو المفرط والأعمال التي لا مبرر لها إلا تنفيس الحقد الأوروبي على الإسلام ومركب النقص الذي كان يستشعره الكماليون - اتخذت تركيا المتعلمنة تدبيرات وإجراءات غريبة حقاً:
فقد ألغت بالعنف والإرهاب الكتابة التركية بالأحرف العربية، ثم تجرأت فحرمت الأذان بالعربية، وكتبت المصحف أو ترجمته بلغتها الهجين، وحددت عدد المساجد، وأقفلت كثيراً منها أو حولته إلى ما لا يتفق وقداسته كما فعلت بجامع أيا صوفيا، وألغت وزارة الأوقاف، وفرضت بقوة السلاح المسخ الفكري وحتى المظهري على الأمة لاسيما معركة القبعة الأوروبية التي سالت لأجلها الدماء، وألغت الأعياد الإسلامية، وحطمت بصورة استبدادية مظاهر الحشمة والحياء الإسلاميين، فأكرهت النساء على تقليد المرأة الغربية في كل شيء وحاربت بشدة صارمة كل من اعترض طريقها من المتورعين وحتى المعتدلين شيئاً ما من الكماليين (23).
ولذلك فإن حكومة تركيا العلمانية الكمالية - هي كما وصفها الأمير شكيب أرسلان - ليست حكومة لادينية من طراز فرنسا وإنجلترا فحسب، بل هي دولة مضادة للدين كالحكومة البلشفية في روسيا سواء بسواء، إذ أنه حتى الدول اللادينية في الغرب بثوراتها المعروفة لم تتدخل في حروف الأناجيل وزي رجال الدين وطقوسهم الخاصة وتلغي الكنائس (24).
والحقيقة المرة أن مصطفى كمال قد خلق نموذجاً صارخاً للحكام في العالم الإسلامي، وكان لأسلوبه الاستبدادي الفذ أثره في سياسات من جاء بعده منهم، كما أنه أعطى الاستعمار الغربي مبرراً كافياً للقضاء على الإسلام، فإن فرنسا مثلاً بررت تنصير بلاد المغرب العربي وفرنجتها بأنه لا يجب عليها أن تحافظ على الإسلام أكثر من الأتراك المسلمين أنفسهم!!
وليس أعجب من هذا الرجل وزمرته إلا من ينادون اليوم - من الزعماء - بإقامة حكومات علمانية في بلادهم، ويقولون: إن مصطفى كمال هو قائدهم الروحي.
في مصر:
يقول توينبي: إن مصر بدأت تتجه نحو الاصطباغ بالصبغة الأوروبية منذ أيام محمد علي متفوقة على تركيا، (25) كما يرى جب أنها سبقت تركيا في ذلك (26).
وكان الخديوي إسماعيل مفتوناً بالغرب، وقد مهدت سياسته الفاشلة لتدخل بريطانيا في شئون مصر ثم احتلالها نهائياً.
ومع الاحتلال جاء كرومر بمخططه الخبيث، وبدأت القوى العالمية تشرف على حركة إلغاء الإسلام أو عزله عن شئون الحياة كلها.
والحق أنه لم يكن لكرومر ولا لغيره أن ينجح لولا الزعماء والعلماء الذين تطوعوا بخدمته، فالحزب الوطني -أول حزب سياسي في مصر- يعلن برنامجه الرسمي سنة 1882م ونجد فيه:
الحزب الوطني حزب سياسي لا ديني؛ فإنه مؤلف من رجال مختلفي العقيدة والمذهب، وأغلبيته مسلمون لأن تسعة أعشار المصريين من المسلمين، وجميع النصارى واليهود، وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها منضم إليه، لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع إخوان، وأن حقوقهم في السياسة والشرائع متساوية (27)
والثورة العرابية لو قدر لها أن تنجح فربما كانت سبقت مصطفى كمال بأشياء كثيرة فها هو أحد زعمائها يقول:
كنا نرمي منذ بداية حركتنا إلى قلب مصر جمهورية مثل سويسرا، ولكنا وجدنا العلماء لم يستعدوا لهذه الدعوة؛ لأنهم كانوا متأخرين عن زمنهم، ومع ذلك فسنجتهد في جعل مصر جمهورية قبل أن نموت (28) ولهذا فما الذي يمنع كرومر بعد ذلك أن يقول:
إن الإسلام ناجح كعقيدة ودين ولكنه فاشل كنظام اجتماعي، فقد وضعت قوانينه لتناسب الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي ولكنه مع ذلك أبدي لا يسمح بالمرونة الكافية لمواجهة تطور المجتمع الإنساني (29).
ثم إن كرومر قد حرص على أن يؤكد للمصريين أن المسلم غير المتخلق بأخلاق أوروبية لا يصلح لحكم مصر، كما أكد أن المستقبل الوزاري سيكون للمصريين المتربين تربية أوروبية (30) ومن هنا كانت رغبة المحتلين الشديدة في تعاون العلماء (المتنورين) معهم، وهي الرغبة التي تجلت في تشجيعهم للحركة الإصلاحية واحتضانها.
كان زعيم الإصلاح في مصر هو الشيخ محمد عبده الذي أثاره تقدم الغرب وتخلف المسلمين في كل ميدان، فهب يدعو إلى الإصلاح متأثراً بفكر جمال الدين الأسد أبادي الشهير بالأفغاني، وكان أمل المخطط اليهودي الصليبي -كما أوضح كرومر وجب وغيرهما- أن تكون حركة الشيخ مماثلة تماماً لحركة سير أحمد خان مؤسس جامعة علي قره بالهند التي تسمت المعتزلة الجدد وكانوا مفتونين بحضارة الغرب منبهرين بها إلى أقصى حد.
ولكن ظروف مصر غير ظروف الهند، كما أن الشيخ وإن كان اعتزالياً متطرفاً (31) لم يستطع أن يصدم المشاعر الإسلامية بأكثر مما فعل حيث قامت ضد بعض تصرفاته ضجة في كثير من أنحاء العالم الإسلامي (الفتوى الترنسفالية، فتوى إباحة صناديق التوفير .. ).
وليس ثمة شك في أن مصر الحديثة التي يريدها كرومر هي دولة لا دينية لا صلة لها بالإسلام وحكومتها ستكون على الشرط الذي مر آنفاً، أما محمد عبده فلم تكن لديه كما يبدو صورة واضحة، وإنما كان يهدف إلى الإصلاح الذي ينشده في ظل الاحتلال الإنجليزي، ولهذا فإن التعاون بين كرومر والشيخ يعني تقديم تنازلات من الأخير للأول، أما العدو المشترك لهما، فهم العلماء غير الأحرار الذين كانوا - رغم ما فيهم - ينفرون من المحتل والعمل معه في أية صورة!
وابتدأ محمد عبده عمله الإصلاحي بمهاجمه الأزهر ونقد المحاكم ونقد الحياة الاجتماعية، وكرومر من ورائه يقطف الثمار.
لقد كانت بريطانيا - كعادتها - عازمة على إلغاء الشريعة الإسلامية فور تمكنها في البلاد، غير أن كرومر رأى أن أفضل وسيلة لذلك هو تفريغ المحاكم الشرعية من محتواها، بأن يتولاها علماء ذوو طابع تحرري، تتم تربيتهم بإشرافه هو والشيخ في معهد خاص لقضاة الشرع، وقوى عزمه على ذلك المعلومات التي يذكر أنه حصل عليها عن الكلية التي أنشأتها في سراجيفو حكومة النمسا والمجر (32) لتخريج قضاة الشرع المسلمين، والتي يقول عنها: إنها كلية أثبتت نجاحها من كل الوجوه، ويتحدث عن ذلك في تقريره السنوي لحكومته عام 1905:
وقد وضعت هذه المعلومات تحت تصرف لجنة ذات كفاية ممتازة يرأسها المفتي الأكبر السابق (محمد عبده) بقصد وضع خططه مشابهة تلائم ظروف مصر وحاجاتها، وقد أتمت اللجنة عملها في شهر يونيه السابق ووضعت النظم المقترحة تحت تصرف الحكومة ... وهذه النظم تزود الطالب ببرامج ثقافية ذات طابع تحرري لا تحصر الطالب في الدراسات الدينية الخاصة (33)
والعجيب حقاً أن محمد عبده لم يكن يرى حرجاً من اقتباس القوانين التشريعية الغربية، ما دام ذلك يحقق (الإصلاح في نظره)، بل يقول العقاد وهو من المعجبين به: إنه علم أن المراجع العربية لهذه القوانين لا تعطيه الإحاطة الواجبة بتلك المبادئ في أصولها المأثورة عند فلاسفة التشريع الغربيين، فشرع في تعلم اللغة الفرنسية (34) كما أن إعجابه بالثقافة الغربية هو الذي جعله يبالغ في انتقاص الأزهر مطلقاً عليه لفظ الإصطبل أو المارستان أو المخروب، ويحاول إصلاحه وإصلاح التعليم كله على الطريقة الغربية ويقول:
إن كان لي حظ من العلم الصحيح ... فإنني لم أحصله إلا بعد أن مكثت عشر سنين أكنس من دماغي ما علق فيه من وساخة الأزهر وهو إلى الآن لم يبلغ ما أريد له من النظافة (35)
لا شك أن الأزهر كان بحاجة إلى الإصلاح، ولكن الإصلاح الذي يريده الإنجليز - ومعهم الشيخ - كان من نوع آخر، لا سيما وأن شبح سليمان الحلبي يهدد كرومر كل حين (36).
وكان من أعظم خطط الإنجليز للقضاء على الشريعة الإسلامية إنشاء مجلس شورى القوانين الذي كانوا يحكمون مصر من خلاله، والذي قدم الشيخ له خدمات جليلة مما دفع المستشار القضائي الإنجليزي إلى رثائه في تقريره عن المحاكم لعام 1905 قائلاً:
((ولا يسعني ختم ملاحظاتي على سير المحاكم الشرعية في العام الماضي بغير أن أتكلم عن وفاة مفتي الديار المصرية الجليل المرحوم الشيخ محمد عبده في شهر يوليه الفائت، وأن أبدي أسفي الشديد على الخسارة التي أصابت هذه النظارة بفقده ... )).
إلى أن يقول: ((وفوق ذلك فقد قام لنا بخدمة جزيلة لا تقدر في مجلس شورى القوانين في معظم ما أحدثناه أخيراً من الإصلاحات المتعلقة بالمواد الجنائية وغيرها من الإصلاحات القضائية، إذ كان يشرح للمجلس آراء النظارة ونياتها، ويناضل عنها، ويبحث عن حل يرضي الفريقين كلما اقتضى الحال ذلك (!) وإنه ليصعب تعويض ما خسرناه بموته نظراً لسمو مداركه وسعة إطلاعه وميله لكل ضروب الإصلاح والخبرة الخصوصية التي اكتسبها أثناء توظفه في محكمة الاستئناف وسياحاته إلى مدن أوروبا (!) ومعاهد العلم ... )) (37).
وقد يكون أخطر آثار محمد عبده التي تعد ركيزة من ركائز العلمانية في العالم الإسلامي إضعاف مفهوم البراء والولاء، ودار الحرب ودار الإسلام إذ كان الشيخ أعظم من اجترأ عليه من المنتسبين للعلماء، لا بتعاونه مع الحكومة الإنجليزية الكافرة فحسب، ولكن بدعوته الصريحة إلى موالاة الإنجليز وغيرهم - بحجة أن التعاون مع الكفار ليس محرماً من كل وجه - ودعوته إلى التقريب بين الأديان.
حقيقة أن الرأي العام الإسلامي قد ثار على بعض فتاوى الشيخ التي أباح بها موالاة الكفار، ولكن تأثيرها في الأمة لا شك فيه، لا سيما في تلك الفترة الحرجة التي تتميز بغبش الرؤية واختلاط المفهومات.
ويليها في الخطورة فتواه حول إباحة الربا بطريق صناديق التوفير معتمداً - كما يرى العقاد - على مفهوم الآية من أنه لا يحرم من الربا إلا الأضعاف المضاعفة!
وأخيراً فإن الشيخ - بقصد أو بدون قصد - قد أوجد القاعدة التي ارتكز عليها من يسمون دعاة الإصلاح (38) للتعلق بأذيال الغرب وإقصاء الإسلام عن توجيه الحياة، إذ ظلوا ينقضون عرى الإسلام عروة عروة، حتى أن المعركة الآن أصبحت تدور ضد قانون الأحوال الشخصية، وهو البقية الضئيلة من آثار الشريعة الإسلامية والميزة الاجتماعية التي تميز المسلم من غيره.
لم يكن محمد عبده علمانياً، ولكن أفكاره تمثل بلا شك حلقة وصل بين العلمانية الأوروبية والعالم الإسلامي، ومن ثم فقد باركها المخطط اليهودي الصليبي، واتخذها جسراً عبر عليه إلى علمانية التعليم والتوجيه في العالم الإسلامي وتنحية الدين عن الحياة الاجتماعية بالإضافة إلى إبطال العمل بالشريعة والتحاكم إلى القوانين الجاهلية المستوردة، واستيراد النظريات الاجتماعية الغربية، وهو ما تم جميعه تحت ستار الإصلاح أيضاً (39).
أما الجماهير الإسلامية فقد اتخذت أفكار الشيخ الإصلاحية مبرراً نفسياً لتقبلها للتغيير العلماني المتدرج في الدول العربية.
وقد صور محمد المويلحي في عمله الرائع حديث عيسى بن هشام شيئاً من ذلك على لسان أبطال الرواية، إذ يسأل أحدهم متعجباً: كيف ساغ للمصريين أن يأخذوا بقانون نابليون المخالف للشريعة؟ فيجيب الآخر بأن المفتي أقسم بالله أنه موافق للشريعة (40).
هذا وقد عاصر محمد عبده رجل آخر من دعاة الإصلاح أيضاً هو عبد الرحمن الكواكبي (ت1902) يحق لنا أن نقول: إنه أول من نادى بفكرة العلمانية حسب مفهومها الأوروبي الصريح فهو يقول:
يا قوم وأعني بكم الناطقين بالضاد من غير المسلمين أدعوكم إلى تناسي الإساءات والأحقاد، وما جناه الآباء والأجداد، فقد كفى ما فعل ذلك على أيدي المثيرين، وأجلكم من ألا تهتدوا لوسائل الاتحاد وأنتم المتنورون السابقون، فهذه أمم أوروبا وأميركا قد هداها العلم لطرائق الاتحاد الوطني دون الديني، والوفاق الجنسي دون المذهبي، والارتباط السياسي دون الإداري ...
دعونا ندبر حياتنا الدنيا، ونجعل الأديان تحكم الأخرى فقط (!) دعونا نجتمع على كلمات سواء، ألا وهي فلتحيى الأمة، فليحيى الوطن، فلنحيى طلقاء أعزاء (41).
واقتفى هذين عدد من الكتاب والصحفيين المشبوهين - من أدعياء الإسلام وغيرهم، يطالبون بضرورة فصل الدين عن السياسة وإبعاده عن واقع الحياة، وأن ذلك هو الحل الوحيد لمشاكل الشرق، وكان لسموم المستشرقين ودسائس المبشرين أعظم الأثر في ذلك.
وقد هوجمت الشريعة الإسلامية بكاملها، وتوالت حملات التشكيك معلنة عدم ملاءمتها لمقتضيات العصر وظروف التطور، ومن أبرز الموضوعات التي هوجمت:
1 - الجانب الاقتصادي: فقد حرص المغرضون على تضخيم فتوى محمد عبده ليبتروا هذا الجانب بكامله عن الشريعة، وممن استخدموا لذلك حفني ناصف الذي قال: إن الربا بفائدة ليس من أنواع الربا المحرم، وأن سبب تخلف مصر هو عدم فتح بنوك على الطريقة الغربية (42) ثم تلاه من تلاه حتى استصدرت فتوى من أحد شيوخ الأزهر البارزين بإباحته، ولا يزال هذا هو رأي من يسمون أصحاب الاتجاه العصري (43).
وقد تم عملياً عزل الشريعة عن هذا المجال المهم منذ زمن بعيد إلا أن المغرضين ما يزالون حريصين على اختلاق ما يبرره.
2 - الجانب الاجتماعي: إذ كانت أفكار محمد عبده أيضاً منطلقاً للهجوم على موقف الشريعة من المرأة، وسيأتي لهذا الموضوع فصل مستقل بإذن الله.
أما الموضوع الأساسي: وهو الحكم بغير ما أنزل الله في السياسة والقضاء، فقد كان له بعد محمد عبده تأريخ آخر.
لقد أتم المستعمرون - عملياً - إقصاء الشريعة بل إسدال الستار على هذا الموضوع من أساسه، وزرعوا الأحزاب السياسية المتباينة التي تتفق جميعها في عدم رفع شعار الإسلام أو الدعوة إلى تحكيمه.
وعقب إلغاء مصطفى كمال للخلافة سنة 1343هـ، وفيما كان الرأي العام في العالم الإسلامي مأخوذاً بهول الصدمة طلع رجل أزهري بفكرة غريبة مريبة يقول المستشرق شمتز (44): إنها كان لها الفضل في تخفيف وطأة ما فعله أتاتورك على مشاعر المسلمين ذلك هو علي عبد الرزاق صاحب كتاب الإسلام وأصول الحكم!
جمع عبد الرازق في كتابه بين أسلوب المستشرقين في تحوير الفكرة واقتطاع النصوص وتلفيق الواهيات، وبين طريقة الباطنية في التأويل البعيد، وسرد نبذاً من سير الطواغيت ونتفاً من أقوال متملقيهم، وعمد إلى مغالطات عجيبة - كل ذلك ليدلل على أن الإسلام كالمسيحية المحرفة علاقة روحية بين العبد والرب لا صلة لها بواقع الحياة.
ولم يفت الشيخ أن يدلنا على أحد مراجعه الرئيسية لنستكمل ما قد يكون فضيلته عجز عن بيانه فهو يقول في الكتاب نفسه:
وإذ أردت مزيداً في البحث فارجع إلى كتاب الخلافة للعلامة (!) السير تومس آرنولد ففي الباب الثاني والثالث منه بيان ممتع ومقنع (45) ثم يقول:
تكلم عيسى ابن مريم عليه السلام عن حكومة القياصرة، وأمر بأن يعطي ما لقيصر لقيصر ... وكان ما جرى في أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة الخ لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر (46) ويقول: إن يكن الفقهاء أرادوا بالإمامة والخلافة ذلك الذي يريده علماء السياسة بالحكومات كان صحيحاً ما يقولون من أن إقامة الشعائر الدينية (الشعائر فقط) وصلاح الرعية يتوقفان على الخلافة بمعنى الحكومة في أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع، مطلقة أو مقيدة، فردية أو جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو إشتراكية أو بلشفية، لا ينتج لهم الدليل أبعد من ذلك، أما إن أرادوا بالخلافة ذلك النوع الخاص من الحكم (يعني الحكم الإسلامي!) فدليلهم أقصر من دعواهم، وحجتهم غير ناهضة (47)
هذا ولسنا بصدد استعراض ذلك الكتاب المريب، ولكن تجدر الإشارة إلى أنه كان له آثار بعيدة، فقد ترجم إلى اللغات الأجنبية، وأصبح مرجعاً معتمداً لدراسات الإسلامية هناك، وقام بتقريظه والثناء عليه كل المهتمين بهذه الدراسات في الغرب، وظهرت آثاره في كتاباتهم (48) وهلل له سماسرة الاستعمار من الكتاب والصحفيين باعتبار مؤلفه عالماً متحرراً متنوراً، ووضعه البعض على رأس مرحلة فكرية عصرية ... إلخ.
ووجدت الأحزاب السياسية فيه ضالتها المنشودة، فلم تعد تتحرج من إعلان انتمائها للاتجاهات السياسية اللادينية شرقيها وغربيها، وبراءتها من الدين والمتدينين، أما الكتب التي ألفت في الرد عليه، فقد حاصرتها الدوائر الاستعمارية، وأهملتها وسائل الإعلام حتى لم يكد يظهر لها صدى عند غير القلة المخلصة.
وفي الفترة التي أعقبت إلغاء الخلافة كانت معظم أجزاء العالم الإسلامي خاضعة للاستعمار، وكانت مخططاته الماكرة تنفذ بدقة وعناية، وكانت حركات الجهاد الإسلامي في كل قطر تسعى للخلاص من براثنه هادفة إلى بعث إسلامي جديد، لكن الاستعمار والأحزاب السياسية غير الإسلامية كانت ترمي إلى عكس ما تهدف إليه تلك الحركات.
وفيما كانت مصر مؤهلة لقيادة العالم الإسلامي من جديد، وكان الاستعمار يلم شعثه لمغادرتها ثارت زوبعة حول صلة الإسلام بالحكم، تزعمها كتاب نصارى أمثال: سلامة موسى، ولويس عوض، وأناس يدعون الإسلام:
من بين هؤلاء: خالد محمد خالد الذي كتب كتابه من هنا نبدأ هادفاً إلى ما قصده علي عبد الرزاق من قبل، ولكن بأسلوب أذكى وأحدث (49).
ومن قبله كان الشيخ عبد المتعال الصعيدي يحاول هدم الحدود الإسلامية المستقرة في الكتاب والسنة زاعماً أن الأمر بها للندب لا للوجوب وأن الأمر لا يقتضي التكرار الدائم، إلى آخر هذا اللغو المتهافت (50) ..
ثم ظهرت أفكار كثيرة تبرز انتهاج الطوائف الغربية في الحكم والعمل بالقوانين الجاهلية، وأسهمت وسائل الإعلام - لا سيما الصحافة - في نشر وتعميم تلك الأفكار، حتى استحكمت غربة الشريعة، وخفت صوت المكافحين عنها، بل أصبح - في نظر الغالبية العظمى - رمزاً للرجعية والتأخر (51).
واكتفى البعض بالقول بأن الدين للواقع وأن التفكير السياسي الإسلامي في أزمة، وأنه لا بأس من اشتقاق القوانين والتشريعات من الفقه والقوانين الغربية سواء (52).
هذا من الوجهة الفكرية، أما من الناحية العملية فإن واقعنا المشاهد اليوم لهو خير دليل على ما بلغته العلمانية من التغلغل في الحياة الإسلامية، فعلى الرغم من فشل التجارب الديمقراطية وإخفاق المحاولات الاشتراكية، فإن الرقعة الإسلامية العريضة ما تزال تتخبط وتضطرب بين شعارات وأنظمة ومناهج الغرب اللادينية، أما الشريعة الإسلامية فقد غابت، لا من الواقع فحسب، بل من الشعور والوجدان، على النحو الذي صوره جب بدقة إذ يقول:
إن التعليم عن طريق المدارس العصرية والصحافة قد ترك في المسلمين من غير وعي منهم أثراً جعلهم يبدون في مظهرهم العام علمانيين إلى حد بعيد، وذلك هو اللب المثمر في كل ما تركته محاولات الغرب من أجل حمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار، فالواقع أن الإسلام كعقيدة لم يفقد إلا قليلاً من قوته وسلطانه، ولكن الإسلام كقوة مسيطرة على الحياة الاجتماعية فقد مكانته، فهناك مؤثرات أخرى تعمل إلى جانبه، وهي في كثير من الأحيان تتعارض مع تقاليده وتعاليمه تعارضاً صريحاً، ولكنها تشق طريقها إلى المجتمع الإسلامي في قوة وعزم.
فإلى عهد قريب لم يكن للمسلم اتجاه سياسي (يخالف الإسلام) ولا أدب إلا الأدب الديني، ولا أعياد إلا الأعياد الدينية، ولم يكن ينظر إلى العالم الخارجي إلا بمنظار الدين، وكان الدين هو كل شئ بالقياس إليه.
أما الآن فقد أخذ يمد بصره إلى ما وراء عالمه المحدود ...
وصار يقرأ مقالات في مواضيع مختلفة الألوان لا صلة لها بالدين، بل إن وجهة نظر الدين فيها لا تناقش على الإطلاق، وأصبح الرجل من عامة المسلمين يرى أن الشريعة الإسلامية لم تعد هي الفيصل فيما يعرض له من المشاكل، ولكنه مرتبط في المجتمع الذي يحيا فيه بقوانين مدنية لا يعرف أصولها ومصادرها، ولكنه يعرف على كل حال أنها ليست مأخوذة من القرآن.
وبذلك لم تعد التعاليم الدينية القديمة صالحة لإمداده في حاجاته الروحية فضلاً عن حاجاته الاجتماعية، بينما أصبحت مصالحة وحاجاته الدنيوية هي أكثر ما يسترعي انتباهه، وبذلك فقد الإسلام سيطرته على حياة المسلمين الاجتماعية، وأخذت دائرة نفوذه تضيق شيئاً فشيئاً حتى انحصرت في طقوس محدودة، وقد تم معظم هذا التطور تدريجياً عن غير وعي وانتباه، وكان الذين أدركوا هذا التطور قلة ضئيلة من المثقفين، وكان الذين ساروا فيه عن وعي وتابعوا طريقهم فيه عن اقتناع قلة أقل، وقد مضى هذا التطور إلى مدى بعيد، ولم يعد من الممكن الرجوع فيه، وقد يبدو الآن من المستحيل -مع تزايد الحاجة إلى التعليم ومع تزايد الاقتباس من الغرب- أن يُصدّ هذا التيار أو تعاد إلى الإسلام مكانته الأولى من السيطرة التامة التي لا تناقش على الحياة السياسية والاجتماعية.
وينتهي جب إلى القول: إن العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة جداً علمانياً في كل مظاهر حياته (53).
ويقول في موضع آخر وكأنما هو يستدرك على ما أوردنا:
وكان طبيعياً أن يبقى الإسلام ... وقد يكون الدين الرسمي للدولة، ولكنه سلب الحقوق التشريعية، ونزل إلى مكانة الديانة المسيحية في الدول الأوروبية، وقد اختلف تطبيق هذا المبدأ بطبيعة الحال وفق ظروف كل إقليم (54).
(1) ستودراد، حاضر العالم الإسلامي: (4/ 41).
(2) تاريخ الدولة العلية العثمانية: (254).
(3) المصدر السابق: (298 - 299).
(4) راجع ما ذكرناه في الفصل الأول عن هذه القسمة (ص:512).
(5) ترجمه للعربية: أحمد فتحي زغلول.
(6) القومية والغزو الفكري، جلال كشك: (262 - 263).
(7) انظر: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، الندوي: (54)، وفيما يتعلق بحركة الإصلاح التركي والأثر الأوروبي فيها يحسن الإطلاع على كتاب (أربري): الدين في الشرق الأوسط، فصل Religion and anti religion- الجزء الثاني: (605 - 616).
(8) ليس في هذا أي مبالغة فقد توقع سرجي نيلوس ناشر البروتوكولات الروسي القضاء على حكم القياصرة في روسيا وعلى الدولة العثمانية تنفيذاً لمخططات اليهود وحدث ذلك بعد موته بسنين.
(9) أخرج فرديناند وإيزابيلا اليهود من الأندلس بعد سقوطها في أيديهما فالتجأوا إلى الدولة العثمانية.
(10) هو مصطفى صبري-انظر: الاتجاهات الوطنية (78/ 2) وما بعدها مع الهوامش.
(11) القومية والغزو الفكري، جلال كشك: (262 - 263).
(13) انظر: فصل صناعة الزعيم من كتاب: عندما يحكم الطغاة، د. جريشة. وفي ظلال القرآن: (8/ 86) الغربية: (16)، والدبلوماسية والميكافيللية، محمد صادق: (149).
(14) عنوان كتاب ألفه: جوفار ولخصه الأمير شكيب أرسلان في حاضر العالم الإسلامي.
(15) الأبطال الحقيقيون لحرب الاستقلال ذكرهم مؤلف كتاب الرجل الصنم وعلى العموم فإن شجاعة المجاهدين الأتراك هي التي مكنت من ركوب الموجة، انظر: الفصل الرابع من الكتاب المذكور.
(17) الصراع بين الفكرة الغريبة والفكرة الإسلامية: (16).
(19) الإسلام والخلافة: على الخربوطلي: (285).
(20) حاضر العالم الإسلامي: (3/ 343).
(22) الرجل الصنم: (205).
(24) حاضر العالم الإسلامي: (3/ 336).
(25) مختصر دراسة التاريخ: (3/ 113).
(27) الاتجاهات الوطنية: (1/ 154).
(28) المصدر السابق: (1/ 159).
(30) المصدر السابق: (1/ 261).
(31) لعل هذا هو أقرب ما يصح أن يوصف بها الشيخ من الانتماءات المذهبية وإن كان في الواقع له اتجاه مستقل أحياناً، وتظهر اعتزاليته أو عقلانيته في تأويلاته المشهورة للملائكة والجن والطير الأبابيل وخلق آدم. الخ وربما كانت هذه التأويلات هي التي دفعت كرومر إلى قوله أشك في أن صديقي عبده. كان في الحقيقة لا ادرياً نقلها عنه جب، (ص:399) دراسات في حضارة الإسلام.
(32) انظر: كيف اتفق المخطط الصليبي هنا وهناك، والكفر ملة واحدة.
(33) الفكر الإسلامي دراسة وتقويم، غازي التوبة: (30).
(34) محمد عبده - سلسلة أعلام العرب: (109).
(35) الفكر الإسلامي الحديث، غازي التوبة: (27).
(36) انظر (ص:533) من هذا الكتاب.
(37) الفكر الإسلامي: (25).
(39) انظر: حول آثار الفكر الإصلاحي: غازي التوبة: (54) والاتجاهات الوطنية: (1/ 355) وأساليب الغزو الفكري: (201 - 205)، وقول جب عنه (كان تلاميذه الحقيقيون من صفوف العلمانيين) دراسات في حضارة الإسلام: (330).
(41) طبائع الاستبداد: (112 - 113).
(43) انظر مجلة الدعوة المصرية عددي محرم وصفر سنة (1399هـ).
(45) الإسلام وأصول الحكم: (41) المطبوع مع نقد وتعليق ممدوح حقي.
(46) المصدر السابق: (45).
(48) انظر: مثلاً ما كتبه جب عن الخلافة في كتابه: دراسات في حضارة الإسلام.
(50) من هنا نعلم: (13).
(51) انظر ما كتبه مصطفى أمين في أخبار اليوم تاريخ (27/ 8/1397هـ).
(52) من هؤلاء فتحي عثمان وعبد الرازق السنهوري والمدرسة العصرية.
(53) عن مذكرة المذاهب الفكرية للسنة الرابعة بكلية الشريعة -الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة- علماً بأنني لم أعثر على النص فى الترجمة المتداولة لكتاب وجهة الإسلام، لكن تأكد لدي بإيراد الدكتور محمد محمد حسين له مع اختلاف ضئيل انظر: الاتجاهات الوطنية (2/ 218 - 220).
(54) وجهة الإسلام: (51)، ويستحسن الاطلاع على ما كتبه جان مينو في القوى "الخفية": (142).
-
الخميس PM 07:21
2022-06-16 - 1271