المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413612
يتصفح الموقع حاليا : 246

البحث

البحث

عرض المادة

مصطلح الأصولية بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي

منذ أن ظهرت الحركات الإسلامية على الساحة السياسية ، وأخذت تعمل للعودة بالاسلام إلى قيادة المجتمع ، أخذ الغرب ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية ينظر بعين الريبة والحذر إليها ، ولم يتوان عن استخدام أية طريقة ممكنة لكي يتخلص منها ، أو على الأقل أن يحتويها ، لذلك ظهرت كثير من الاتهامات الغربية والأمريكية الباطلة ، التي تتهم الاسلام والمسلمين ، فتارة يتهم الإسلام بأنه إرهابي ، وأصولي ، ومتطرف ، ومتعصب ، في محاولة لربط الحركات الإسلامية بالحركة الأصولية المسيحية المتعصبة ، التي خاضت صداما طويلا  مع الكنيسة ، انتهى بغلبة السلطة المدنية ، وتحديد دور الكنيسة ، وتحجيم دورها (1)
والأصولية المسيحية رفضت التجديد والعصرنة ، وحاربت االتقدم العلمي ، واضطهدت العلماء والمفكرين ، وظهرت من جراء هذه الأصولية: حركة التنوير ، والفلسفات المضادة لأفكار الكنيسة الغربية التي شوهت الدين نفسه ، وجعلته يضطهد ويقهر العقول ، ويعارض العلم ، ويحارب التقدم والتطور ، وأسهمت ردة الفعل هذه في زيادة الهوة بين الدين والعلم .
وقامت الكنيسة على ترسيخ هذا المصطلح في الوعي الأوروبي ، وأرادت تعميمه على كل دين وملة ، بهدف تشويه النظرة إلى العقائد ، بغض النظر عن الاختلاف والتنوع في أفكارها ومقاصدها .
وقد تداول الإعلاميون العرب هذا المصطلح - بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 -، ومن بعدهم الباحثون والمحللون الناطقون بالعربية، كما استعملته الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية في الغرب ، للإشارة إلى حالة اليقظة الإسلامية الراهنة في مختلف أرجاء العالم الإسلامي ..
والحقيقة أن هذا المصطلح بما يحمل من دلالات سياسية وفكرية ، لا يعبر تعبيرا دقيقا توحي به لفظة (الأصولية) الرائجة حاليا ، وخاصة لجهة ما يتضمنه هذا المصطلح من معاني الرجعية المعادية لكل تقدم ، بل أصبح النعت بالأصولية بمثابة شتيمة سياسية.
معنى الأصولية في اللغة :
لا نجد ذكرا لهذه الكلمة ( الأصولية ) في معاجم اللغة ، بل نجد جذرها اللغوي وهي كلمة :  ( أصل ) ، والنسبة إليها : ( أصولي ) .

قال في مختار الصحاح للرازي( محمد بن أبي بكر ) ( تـ 666هـ ) : [ الأصل : واحد الأصول . ورجل أصيل : أي ، محكم الرأي ](2)
وقال ابن منظور ( تـ711هـ) في لسان العرب : [ الأصل : أسفل كل شيء ، وجمعه : أصول ،
وأصل الشيء: صار ذا أصل . قال أمية الهذلي :
وما الشغل إلا أنني متهيب... لعرضك... ما لم تجعل الشيء يأصل .
وأصل الشيء : قتله علما فعرف أصله . ](3).
وقال الفيومي( أحمد بن محمد المقري )( تـ 770هـ) في المصباح المنير : [ أصل الشيء : أسفله ، وأساس الحائط أصله ، واستأصل الشيء :ثبت أصله وقوى . ثم كثر حتى قيل: أصل كل شيء : ما يستند وجود ذلك الشيء إليه . فالأب أصل الولد . والنهر أصل الجدول . والجمع : أصول .
وأصل النسب أصالة : شرف ، فهو أصيل . وأصلته تأصيلا : جعلت له أصلا ثابتا         يبنى عليه .
وقولهم : لا أصل له ولا فصل ، أي : الحسب والنسب ، والأصل : العقل . والأصيل : العشي، والجمع : أصل وآصال . والأصلة : من دواهي الحيات ، قصيرة عريضة . واستأصلته : قلعته بأصوله . ومنه قيل : استأصل الله الكفار : أهلكهم جميعا . ](4)
وقال في المعجم الوسيط : [ أصل الشيء أصلا : استقصى بحثه حتى عرف أصله . وأصل الشيء : جعل له أصلا ثابتا يبنى عليه . والأصالة في الرأي : جودته . وفي الأسلوب : ابتكاره . وفي النسب : عراقته .
وأصل الشيء : أساسه الذي يقوم عليه ، ومنشؤه الذي ينبت منه . والأصول : أصول العلوم وقواعدها التي تبنى عليها الأحكام والنسبة إليه أصولي . ]( 5)
وقال الشريف الجرجاني( تـ 816هـ ) في التعريفات : [ الأصل : هو ما يبتنى عليه غيره . والأصول : جمع أصل ، وهو في اللغة عبارة عما يفتقر إليه ، ولا يفتقر هو إلى غيره . وفي الشرع : عبارة عما يبنى عليه غيره ، ولا يبنى هو على غيره . والأصل ما يثبت حكمه بنفسه ، ويبنى عليه غيره ]( 6)
والتحقيق: أن المعنى الحقيقي في هذه المادة : هو ما يبنى عليه شيء ، سواء أكان في الجمادات ، أو في النباتات ، أو في الحيوان ، أو في المعقولات ، أو في العلوم .
يقال : أصل الحائط ، أصل الشجر ، أصل الإنسان ، أصل المعرفة ، الأصل في الألفاظ ، الأصل في المعاني ، وغير ذلك .
وقد جاءت كلمة أصل وما اشتق منها في القرآن الكريم في عشرة مواطن تقريبا (7) ، منها :
قوله تعالى : [ كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ] ( إبراهيم : 24) .
وقوله : [ ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها..] ( الحشر: 5) . وغير ذلك .
والفرق بين الأصل والأساس : أن الأصل ما يبنى عليه شيء ، وهذا المعنى إنما يتحقق بعد تحقق الفرع ، فهو أمر نسبي ، وليس بمفهوم مستقل .. وهذا بخلاف الأساس ، فهو مفهوم مستقل ، لا يحتاج إلى وجود غيره ، فيقال : إنه أسس أساس الظلم ، وأسس أساس البيت ، ولا يقال : أصله .( 8)
ومن كل ما سبق عرضه نخلص إلى أن مصطلح الأصولية اللغوي ، يدور حول معنيين : أساسه الذي يقوم عليه ، وجذوره ومنشؤه الذي ينبت منه .
وأصول العلوم ، هي : قواعدها التي تبنى عليها الأحكام .
فالأصولي إذن : هو مرجع القواعد دراية ، وفهما ، واستنباطا . (9)
مفهوم الأصولية في البيئة الغربية :
تقول موسوعة ( روبير اللغوية) إن كلمة [ fundamentalism ]صيغت عام 1920م من كلمة [fundamental ] ، وتعني تيارا لاهوتيا محافظا ، أصله بروتستانتي ، نشأ في الولايات المتحدة الأمريكية المتحدة ، أثناء الحرب العالمية الأولى ، ومتمسك بالتعريف الحرفي للنصوص الانجيلية..

وقد جاءت كلمة ( أصل وما يشتق منها ) في الكتاب المقدس ، في سبعة وخمسين موضعا (10)، منها : ما ورد في سفر حزقيال (11): [ فنبت وصار كرمة منتشرة قصيرة الساق . انعطفت عليها زراجينها ، وكانت أصولها تحته ، فصارت كرمة . وأنبتت فروعا وأفرخت أعصانا ](12) .
وجاء في إنجيل متى (13) [ والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر ..](14)
وجاء في إنجيل لوقا (15): [ والذين على الصخر هم الذين متى سمعوا يقبلون الكلمة بفرح ، وهؤلاء ليس لهم أصل ، فيؤمنون إلى حين ، وفي وقت التجربة يرتدون ](16)
أما كلمة ( الأصولي ) [ fundamentaliste ]فقد اشتقت عام 1966م، لتعني معنيين:
أولهما : معنى عام ، هو : من يقوم بأبحاث في الأصول .
والثاني : معنى ديني ، هو : من ينتمي إلى الأصولية . (17)
وأغلب الظن أن الذي سك المصطلح الإنجليزي [ fundamentalism ] أي : الأصولية هو رئيس تحرير مجلة [ نيويورك وتشمان ](18) في افتتاحية عدد يوليو 1920م ، حيث عرف الأصوليين بأنهم : أولئك الذين يناضلون بإخلاص من أجل الأصول .
وأغلب الظن كذلك أن الذي مهد لسك هذا المصطلح ، هو : سلسلة كتيبات صدرت بين عامي 1909-1915م ، بعنوان الأصول ، [ the fundamentalism ] بلغ عددها اثني عشر كتيبا ، وبلغ توزيعها بالمجان ثلاثة ملايين نسخة ، أرسلت إلى القساوسة ، والمبشرين ،واللاهوتيين ، ومدارس الأحد ، وسكرتيري الشبان المسيحية ، والشابات المسيحية .
ويمكن تصنيف الأفكار الواردة في الكتيبات على النحو التالي :
- أصول الإيمان مثل : حقيقة جهنم ، والمجيء الثاني للمسيح .
- مهاجمة تيار نقد الإنجيل ، وهو تيار يدور على أن الإنجيل تسجيل لتطور ديني .
- نقد النظريات العلمية ، وبالأخص الداروينية ، الناقدة لقصة الخلق الواردة في سفر التكوين. (19)
وقد وردت هذه الأفكار كرد فعل ضد علماء اللاهوت الليبراليين الذين دارت أفكارهم على مسألتين هما :
- التشكيك في قصة الخلق الوارد في سفر التكوين ، بسبب ما أحرزته علوم الجيولوجيا والبيولوجيا من تقدم .
- النظر إلى خطيئة الإنسان كما وردت في سفر التكوين ، على أنها مجرد تفكير بدائي وصبياني ، إذ ليس ثمة وجود لما يسمى : آدم .. وحواء ..
ثم تبلورت سمات الأصولية في بداية القرن العشرين على النحو التالي :
1- التسليم بأن ثمة حلولا قادرة على إحراز انتصار دولي ، وعلى حل المشكلات الاجتماعية ، وأن أي فشل يلحق بأي أصولي فمردود إلى مؤامرات الأشرار.
2- التسليم بأن المؤسسات السياسية للدول الرأسمالية جزءمن المؤامرة الشيوعية ، ومن ثم فقيادتها مشكوك في وطنيتها.
3- أي تنازل عن المبادئ الأساسية خيانة للحق .
4- رفض أي تأويل للنص الديني . (20)
وفي الغرب أطلق تعبير [fundamentalism ] على فرق إنجيلية برزت في مطالع القرن العشرين في الولايات المتحدة ، تدعو إلى العودة إلى أصول المسيحية ، والتمسك بالنص الحرفي ، تقول الموسوعة الكاثوليكية عن كلمة [fundamentalism ] : إنها ( اتجاه لبعض الأوساط البروتستانتية خاصة في الولايات المتحدة ، تحافظ بصرامة وتشبث على العقيدة التراثية ضد تيار الحداثة ، بل ضد أية محاولة تأخذ في الاعتبار بالوقائع التاريخية أو العلمية ، وقد تكونت هذه الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1918م، باسم : [ الجمعية الأصولية المسيحية العالمية ] .. وتشير إلى مذهب ديني تم التعبير عنه في وثيقة من خمس نقاط هي : اعتبار النصوص الإنجيلية نصوصا متزلة ، والإيمان بألوهية المسيح ، والإيمان بمولده العذري، والإيمان بمعنى وأهمية الفداء في وفاة يسوع ، والثقة يقينا في عودة المسيح قريبا ليحاكم البشر وانتشرهؤلاء الأصوليون عن طريق المؤسسات الإنجيلية ، في معظم البلدان الأنجلوسكسونية ، وعن طريق منظمة الشباب الدينية المسيحية ( واي..إم.. سي..إيه) (.a.c. m. Y ) ، وكل الحركات الإحيائية أصولية ، ومنها : حركة بيلى جراهام (21) ..
ويقول قاموس المورد في تعريف الأصولية : [ الأصولية – fundamentalism]- مذهب العصمة الحرفية – حركة عرفتها البروتستانتية (22) ، في القرن العشرين ، تؤكد على أن الكتاب المقدس ( العهد القديم والعهد الجديد ) معصوم عن الخطأ ، لا في قضايا العقيدة فحسب ، بل في كل ما يتعلق بالتاريخ ومسائل الغيب ، كقصة الخلق ، وولادة المسيح من مريم العذراء ، ومجيئه ثانية إلى العالم ، والحشر الجسدي ] (23)
وعرفتها الموسوعة الميسرة بأنها : [ حركة بروتستنتية ظهرت في الغرب في القرن التاسع عشر الميلادي ، بعد مؤتمر نياجرا عام 1895م ، لتحيي من جديد أفكار أصحاب عقيدة المجيء الثاني للمسيح مجيئا حقيقيا حرفيا . وقد ظهرت لهم كتيبات بعنوان ( الأصوليات ) دعوا فيها إلى التمسك بالتعاليم الدينية القديمة ، والقول بألوهية المسيح ، وعصمة الكتاب المقدس عن الخطأ ، ووجوب الأخذ به حرفيا ، وولادته - عليه السلام – من مريم ، كما دعوا إلى الفدية من الأعمال المنكرة ، وإلى الإيمان بقيامة المسيح من بين الأموات بجسمه ، وعودة تجسده ثانية ، بالاضافة إلى رفض كل النظريات العلميةالحديثة في علم اللاهوت ، وكذلك الدراسات التي تنتقده أو تناقض ما فيه - ولذلك عرقت بمذهب العصمة الحرفية – كما ترفض الفصل بين الدين والدولة ، مما يؤدي إلى زيادة اهتمامها بالجانب السياسي ، والسعي إلى تكوين الأحزاب السياسية ، والوصول إلى السلطة بغية سن القوانين والشرائع المؤيدة لمذهبهم ، ويمكن أيضا إضافة اعتقادهم بالنبوءات الانجيلية التي تقود حسب اعتقادهم إلى استيلاء اليهود على فلسطين ، والقدس ، شرطا للعودة الثانية للمسيح . ] (24)
وفي الفترة من عام 1895م إلى عام 1910م خَبَتْ حركة الأصوليين ، وإن ظلت حيوية في البعثات التبشيرية للبلدان غير المسيحية ، إلا أنها عادت للازدهار ثانية عقب الحرب العامة الأولى ،وخاصة في الفترة من عام 1920م إلى عام 1930م ، حين اتحدت مختلف التيارات المسيحية لتخليص المدارس والكنائس من المدرسين والرعاة الذين يدافعون عن التطور ، ولمحاربة تدريس الداروينية في التعليم العام .
ونخلص مما تقدم إلى أن كلمة الأصولية باللغة العربية ، هي مصطلح مرتبط بالكنيسة أولا وأخيرا ، وولد في البيئة الغربية ( اليهودية ، والمسيحية ) ، وليس له أصل قريب أو بعيد بالبيئة الإسلامية ، وأنه قد بدأ الزج به في أواخر سبعينات القرن المنصرم ، تمهيدا لعملية محاولة اقتلاعه ، بعد اقتلاع اليسار وفقا لما تم ترتيبه في المجمع الفاتيكاني المسكوني الثاني عام 1965م . أو كما قال الاستاذ وجيه كوثراني : [ فلما برزت الحركات الإسلامية في الشرق الإسلامي خلال السنوات العشرين الأخيرة ، استخدمت الدراسات الغربية المصطلح نفسه للدلالة عليها ..]. (25)
وسأتناول فيما يلي الأصولية في البيئة الغربية  بشقيها ( اليهودية ... والمسيحية) ..
أ- الأصولية اليهودية :
يتمثل مفهوم الأصولية اليهودية في :

1- تقديس النص .
2- تقديس الشخص .
فتقديس النص ، بتطبيقه حرفيا ، وإعطائه سلطة أعلى من أي سلطة أخرى .
وتقديس الشخص : بتقديس كلامه ، بل يعتبرون كلامه نصا ، وهذا متمثل في الحاخام(26)عند اليهود . ويلخص الدكتور عبد الله بركات الأصولية اليهودية بقوله : [ تجسد النصوص المقدسة عند اليهود ( الأسفار الكتابية ، والتلمود ) هذا المفهوم الأصولي من مصادمة للعلم ، والثوابت اليقينية ، والبدهيات العقلية ، وتعميق العنصرية والدموية ، والتهاون بمحرمات كل الأجناس غير اليهودية ، كل ذلك في نصوص لا تقبل المناقشة والجدل ، بينما تنفرد التعاليم الشفوية باعتبار الشخص المعتبر عندهم ( الحاخام ) أصلا تفوق أهميته وقداسته واعتباره ، النص ذاته . ومن هنا كانت المصادر اليهودية ( نصوصا وأشخاصا ) محور الأصولية الذميمة في المجتمع الغربي ](27)
ويقدس اليهود كثيرا من النصوص التي تصادم العقل ، وتناقض النقل ، من ذلك مثلا :
1 – ما جاء في سفر أشعيا : [ ويكون الملوك حاضنيك ، وسيداتهم مرضغاتك ، بالوجوه إلى الأرض يسجدون لك ، ويلحسون غبار رجليك ](28) فهم يتخذون من هذا النص وغيره أنهم : شعب الله المختار المفضل على جميع الخلق ..
2- وجاء في التلمود ( 29 ) : [ اقتل الصالح من غير الإسرائيليين ، ومحرم على اليهودي أن ينقذ أحدا من باقي الأمم من هلاك ، أو يخرجه من حفرة يقع فيها ، لأنه بذلك يكون قد حفظ حياة أحد الوثنيين ] (30)  هذه بعض النصوص التي تفوح منها رائحة العنصرية ، والقتل ، وغير ذلك من الصفات الذميمة .
واليهود يقدسون الشخص ( الحاخام ) ويرفعون مرتبته فوق مرتبة الأنبياء ، ومما يؤكد تقديس الشخص ( الحاخام ) عند اليهود ما ذكره صاحب كتاب ( الأصولية اليهودية ) على لسان المتحدث باسم إحدى المستوطنات اليهودية قوله : [ لو طلب منا حاخاماتنا الرحيل بهدوء فلن تجد الحكومة في مدينة يهوذا والسامرة (31) أسهل في الاخلاء من مدينتنا ، أما إذا طلبوا البقاء فسنناضل أكثر من أي مدينة ..](32)
وخلاصة القول : أن الأصولية اليهودية تعني : تقديس النص ، والأخذ بحرفيته ، والتمسك به . وكذلك تقديس أقوال الحاخامات ، وإعطائها سلطة أعلى من سلطة التوراة(33) ..

2 – الصهيونية المسيحية الأصولية:
ليس وجود اتجاهات صهيونية لدى بعض المسيحيين أمرا جديدا ، أو – حدث فقط – بعد قيام دولة إسرائيل الغاصبة في فلسطين ، كما يظن البعض ، بل قد وجدت مثل هذه النزعات الصهيونية – أي :المؤمنة بتوطين اليهود في أرض فلسطين – لدى بعض المسيحيين الأصوليين من مختلف المذاهب والطوائف ، خاصة بين البروتستانت ، منذ القرن السادس عشر الميلادي ، أي : بعد قيام حركة الاصلاح البروتستانتية ، ولم تتحول تلك الرغبات والأماني إلى تيار قوي إلا في القرنين الأخيرين ، حيث بدأت بعض الجماعات ، والجمعيات ، ورجال دين بارزين ، في أوساط المسيحيين الغربيين ، وخاصة بين الأصوليين من البروتستانت ، تطالب صراحة بلزوم عودة الشعب اليهودي إلى أرض الميعاد ، وأنها وطنه الأبدي ..؟
وفي العقدين الأخيرين من القرن العشرين نشأ تجمع لعدة منظمات مسيحية بروتستانتية أصولية ، أطلق أتباعه على أنفسهم اسم : ( الصهيونيون المسيحيون ) ، وأنشأوا لأنفسهم مركزا في القدس أسموه : ( السفارة المسيحية الدولية في أورشليم )(34 ) .وقد وصفهم الدكتور القس رياض جرجور- الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط – في كلمة تحت عنوان "صهيو مسيحية أم صهيو أميركية؟"، ألقاها في ندوة فكرية في مركز الإمام الخميني الثقافي – ببيروت، في 8 نيسان (أبريل) 2003 ، قال فيها : [ تم تعريف الصهيونية المسيحية على أنها "الدعم المسيحي للصهيونية". وقد قيل أيضاً: إنها "حركة قومية تعمل من أجل عودة الشعب اليهودي الى فلسطين وسيادة اليهود على الأرض". ويعتبر الصهيونيون المسيحيون أنفسهم كمدافعين عن الشعب اليهودي وخاصة "دولة إسرائيل" ويتضمن هذا الدعم معارضة كل من ينتقد أو يعادي "إسرائيل"... ثم يقول :
أما القس "جيري فالويل" مؤسس جماعة العمل السياسي الأصولي المسماة "الأغلبية الأخلاقية" وهو الذي منذ فترة تكلم واتهم دين الإسلام بأنه دين إرهابي، فإنه يقول: "إن من يؤمن بالكتاب المقدس حقاً يرى المسيحية ودولة إسرائيل الحديثة مترابطتين على نحو لا ينفصم، إن إعادة إنشاء دولة إسرائيل في العام ألف وتسعماية وثمانية وأربعين لهي في نظر كل مسيحي مؤمن بالكتاب المقدس تحقيق لنبوءات العهدين القديم والجديد". ثم قال : وفي ختام التعريفات أقول إن الصهيونية المسيحية في نهاية المطاف تعبر- وكما جاء في بيان اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط في نيسان ( إبريل) عام ألف وتسعماية وستة وثمانين (1986)- عن مأساة في استعمال الكتاب المقدس، واستغلال المشاعر الدينية في محاولة تقديس إنشاء دولة ما، وتسويغ سياسات حكومة مخصوصة.
إذن لا يوجد مكان للصهيونية المسيحية في الشرق الأوسط، ويجب أن تنبذ من قبل الكنيسة العالمية، إنها تشويه خطير وانحراف كبير عن الإيمان المسيحي الحقيقي المتركز في السيد المسيح ، كما أنها تدافع عن برنامج سياسي قومي يعتبر الجنس اليهودي متفوقاً. وبكلمات رجل دين فلسطيني محلي:  ( إنهم أدوات تدمير وخراب، وهم لا يعطون أي اعتبار أو أهمية للمسيحيين الأصليين في هذه البلاد ) .](35)
وتدعو الأصولية المسيحية للعودة إلى الأصول ، وتعتقد بالعصمة الحرفية للكتاب المقدس ، أي عصمته عن الخطأ والتحريف ، فالنص الانجيلي له السلطة العليا فوق الجميع ، وهو كلمة الله المعصومة من كل عيب ونقص ، وكل ما يعارض النص فهو مرفوض ..
وتفسر النص تفسيرا حرفيا، وتحصر فهمه في اللاهوتيين من رجال الكنيسة ، وتهتم اهتماما كبيرا بالنبوءات المستقبلية ، وتحاول تحقيقها تحقيقا حرفيا ، وخاصة ما يتعلق بإسرائيل ، والمجيء الثاني للمسيح - عليه السلام - ، فالأصولية المسيحية كمثيلتها الأصولية اليهودية ، تقوم على تقديس النص ، وتقديس الشخص . (36)
هل هناك أصولية في البيئة الاسلامية ..؟ :
اعتاد الكتاب الغربيون إطلاق تعبير الأصولية الإسلامية على حركة الصحوة الإسلامية ، في محاولات لربطها بالحركة الأصولية المسيحية المتعصبة ، التي ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية مع كل سلبياتها التي رسبتها في الضمير الأمريكي بصورة خاصة ، والغربي المسيحي بصورة عامة ، ومما يلفت النظر في هذا المجال، تركيز الخطاب الاتهامي على (الأصولية الإسلامية) دون غيرها من الأصوليات المعاصرة التي سبق ذكرها . والذي يهمنا هنا الأصولية ليس كمصطلح ، ولكن كمفهوم سائد متداول في وعينا العام ، وفي الخطاب العربي المعاصر ، ارتبطت به مفردات اشتق بعضها من فعل ( أصل ) أصالة ، فهو أصيل ، وتأصل : صار ذا أصل ، والتأصيل والأصالة ، والأصولية .
وصفة الأصولي تطلق – دون تحديد موقف فكري محدد – على المشتغل بأصول الدين ، أو أصول الفقه ، او المتهم بدراسة أصول القضايا والضواهر عامة .. (37)
أما الأصولية : فهي وإن تكن تعني الانتساب إلى الأصل ، أو إلى الأصول ، فإنها تعني شيئا مختلفا ومغايرا تماما ، على حد قول الاستاذ محمود أمين العالم ، حيث يقول :                [ الأصولية تختلف وتتمايز عن هذه المفردات جميعا ، وتشكل دلالة مذهبية وآيديولوجية خاصة ، بمعنى أنها الرؤية التي تتخذ من الأصل سواء أكانت نصوصا دينية ، أم مذهبا دينيا ، أم سياسيا ، مرجعا أساسيا وسندا مطلقا نهائيا في مفاهيمها وسلوكها . فليست كل مرجعية إلى أصل ثابت تتسم بالأصولية ، وإنما تصبح هذه المرجعية أصولية إذا تكررت هذه المرجعية ، واحتكرت وطغت بشكل مطلق ، وأصبحت منهجا مسيطرا ](38)
ويذهب الأستاذ فهمي هويدي إلى أنه يجب ضبط المصطلح ، ويقول :
[ ومشكلتنا مع الأصولية : أن هذا التعبير – أساسا – لا أصل له في اللغة العربية ، ولا أصل له في الخطاب الإسلامي ، ولذلك هو ترجمة لكلمة ( فندمنتاليزم ) التي لها أصولها المسيحية البروتستانتية المعروفة ، إن الحالة الإسلامية فيها درجات لا تستطيع أن تصفها كلها بأنها أصولية ، هناك معتدلون ومتطرفون ، وإن كان الانطباع الذي ساد هو أن كل من تحدث عن الإسلام كمشروع ، أو ما يسمى بالإسلام السياسي قد صنف أصوليا . ] (39)
وجاء في الموسوعة الميسرة أن مصطلح الأصولية في الاسلام [ مصطلح محمود غير مذموم ، فهو يطلق على العالم بأصول الفقه ، وأصول الدين ( علم العقيدة والتوحيد ) فيقال : عالم أصولي ، كما يقال : فقيه ، ومفسر ، ومحدث ](40)
ويرى الدكتور يوسف القرضاوي أنه لا مانع من قبول مصطلح ( الأصولية) باعتباره يعني العودة إلى الأصول ، والتي هي الكتاب والسنة ، والتمسك بهما عمليا ، ويقول : [ إن كان التمسك بالإسلام الصحيح عقيدة وشريعة ومنهاج حياة ، والدعوة إليه ، والاعتزاز به ، والدفاع عن مبادئه ، وحرماته ( أصولية) فليشهد الثقلان أننا أصوليون أقحاح ](41).
ومما سبق عرضه تجدر الإشارة إلى اختلاف معنى الأصولية في الثقافة العربية الإسلامية ، عنه في البيئة الغربية ، لاختلاف ظروف كل منها من حيث النشأة ، والفكر ، والعقيدة ، ولأنه في البيئة الإسلامية رمز لأهل الاجتهاد والاستنباط ، ويطلق على علمين هامين هما : علم أصول الدين ، وعلم أصول الفقه ، بينما في البيئة الغربية ، عنوان على أهل الجمود والتطرف والتدمير .(42)  بل إن هذا المصطلح غريب عن البيئة الإسلامية ، ومقحم عليها بقوة الإعلام الغربي ، ولأن الغرب عموما ، والولايات المتحدة خصوصا ، تحاول أن تلصق بالحركة الإسلامية ، وصف الحركة الأصولية بمدلولها الغربي ، الذي هو على النقيض تماما من دلالات هذا المصطلح في الفكر  الإسلامي . فالإسلام لا يعرف كلمة تدل على الأصولية بمفهومها الغربي ، فلا يبرر الإسلام الإكراه في الدين ، بل الواقع أن الإسلام يدعو إلى عقائده الخالصة ، ودعوته الشاملة بالحكمة والموعظة الحسنة ، فمن يجد في نفسه اقتناعا تاما ، فالباب مفتوح ليدخل فيه ، وإلا فله الحق بأن يبقى على ما هو عليه من دينه،فلا إكراه في الدين .. هذه أصوليتنا الرحبة، والتي لا بد من تمييزها عن أصولياتهم المتنوعة ، وتياراتها السياسية العنصرية ، الإقصائية.. الإمبريالية. لذلك فإن استعمال هذا المصطلح (Fundamentalism) في توصيف بعض الحركات الإسلامية، من قبل العقل الغربي وبعض المتأثرين به ليس صحيحاً، لأن هذا الاستخدام لم يأت في سياقه السياسي والاجتماعي والثقافي الذي نشأ فيه هذا المصطلح، ولأن الإسلام وحركاته السياسية لم يعرف هذا المصطلح، لا تاريخاً ، ولا شرائع ، أو فقهاً، وأي اتجاه مغالط عن الحقيقة إنما ينبىء عن تبعية فكرية، إن لم يكن أحد أوجه الاغتراب ، والتبعية الحضارية للأنموذج الغربي.(43)

===================================

1- انظر إشكالية الموقف الغربي من الأمة الإسلامية : ا.د. عمر سالم عبد الله العبيدي ، ص5-8 بتصرف.
2- مختار الصحاح ، للرازي : ص 32.
3- ابن منظور : لسان العرب : مجلد1: ص 155.
4- المصباح المنير: للفيومي ، ج1،ص 16.
5- المعجم الوسيط : مجمع اللغة العربية : ج1: ص 20.
6- الشريف علي بن محمد الجرجاني : التعريفات : ص 28.
7- انظر : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم : ص 34.
8- انظر التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، حسن المصطفوي : 94-95
9- الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية ، محمد إبراهيم الشربيني : ص 28-29 بتصرف.
10- فهرس الكتاب المقدس ، جورج بوست : ص 22-23.
11- عدد إصحاحاته (148) ، وكاتبه : حزقيال النبي من سنة 597- 577ق.م . ويتضمن دعوة حزقيال وتبليغه النبوة إلى بني إسرائيل . وفيه نبوات عن رجوع اليهود من السبي البابلي ، وإصلاح الهيكل . كما يتضمن إنذارات بالويل والخراب على يهوذا ، والويلات التي ستحل بالشعوب المجاورة لإسرائيل ويهوذا . انظر : إعرف كتابك المقدس : ص : 36.
12- حزقيال : 17/6.
13- عدد إصحاحاته 28 إصحاحا ، وكاتب هذا الإنجيل : القديس متى ، وهذا الإنجيل يتحدث عن نسب السيد المسيح ، وميلاده ، وموته ، وقيامته ، وغير ذلك . انظر : إعرف كتابك المقدس : ص 46-47.
14- انجيل متى: 3/10.
15- عدد إصحاحات إنجبل لوقا : 24إصحاحا . وكاتب هذا الإنجيل : القديس لوقا ، وتاريخ الكتابة : بعد البشارة حوالي سنة 75م. انظر : اعرف كتابك المقدس : ص 48.
16- إنجيل لوقا : 8:13.
17- انظر : أ.د. زينب عبد العزيز : هدم الإسلام بالمصطلحات المستوردة : ص 67.
18- الأصولية والعلمانية : مراد وهبة : ص 23
19- انظر المرجع السابق : ص 23.
20- المرجع السابق : ص 24.
21- بلى جراهام : أشهر واعظ أصولي في الولايات المتحدة الأمريكية ، انظر : البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي الصهيوني : د. يوسف الحسن ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، ط2، 1977م، ص: 10.
22- فرقة مسيحية ظهرت في القرن السادس عشر في أوروبا ، لإصلاح الكاثوليكية ، بقيادة مارتن لوثر . انظر : قاموس الأديان والمذاهب ، إعداد : د. حسين علي حمد ، ط1،1989م ، ص: 52.
23- قاموس المورد ، منير البعلبكي ، ط11، ص 383.
24- الموسوعة الميسرة : ج2، ص 974.
25- وجيه كوثراني : ( مستقبل المشروع السياسي الإسلامي :أصولية أم حزبية إسلامية ) ملف مستقبل الأصولية في العالم العربي ، معلومات ( بيروت ) العدد: 3/ أيار / مايو، 1993م. ص : 2-6.
26- الحاخام : كلمة عبرية معناها الرجل الحكيم ، أو العاقل . انظر الموسوعة اليهودية ، للمسيري مجلد:5 ص 151.
27- مفهوم الأصولية الإسلامية عند الغربيين ، عرض ونقد . ص: 24.
28- سفر اشعيا : 49: 23.
29- التلمود : كلمة مشتقة من الجذر العبري : لامد ، الذي يعني : الدراسة والتعليم . والتلمود من أهم الكتب الدينية عند اليهود . وهو الثمرة الأساسية للشريعة الشفوية ، أي : تفسير الحاخامات للشريعة المكتوبة ( التوراة) . انظر : الموسوعة اليهودية ، للمسيري : مجلد 5: ص 124.
30- انظر : من التلمود ، إعداد المجلس الأعلى للشئون الإسلامية : ص 62.
31- يهوذا والسامرة : هو الاسم الذي يطلقه اليهود على الضفة الغربية التي احتلوها في حرب الأام الستة . انظر الأصولية اليهودية ، إيما نويل هيمان : ص 123.
32- الآصولية اليهودية : إمانويل هيمان ، ص : 123.
33- الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية وعلافتها بالصهيونية ، إعداد : محمد إبراهيم الشربيني : ص 30-31.
34- انظر كل شيء عن أهدافها وأغراضها ونشاطاتها في موقعها على الانترنت ، وعنوانه : www.icej.org.il.//http:
35- نشرت مع كلمات ومحاور أخرى في كتيب خاص ضمن سلسلة الندوات الفكرية التي يصدرها وينشرها مركز الإمام الخميني الثقافي – بيروت، في 8 نيسان (أبريل) 2003.
36- الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية ( مرجع سابق ) : ص 31.
37- إشكالية الموقف الغربي من الأمة الإسلامية : بحث مقدم إلى مؤتمر ( الإسلام والتحديات المعاصرة ) المنعقد بكلية أصول الدين في الجامعة الإسلامية في الفترة : 2-3/4/2007م. إعداد : أ.د. عمر سالم سعد الله العبيدي.ص:9.
38- انظر مراد وهبة : أصوليات هذا الزمان ، سلسلة كتاب قضايا فكرية ، بإشراف محمود أمين العالم ، الكتاب الثالث ، والرابع عشر . 1993م . نقلا عن سليمان حريتاني ، توظيف المحرم ط1، دار الحصاد ، سوريا ، 2000م. ص: 356. وانظر : إشكالية الموقف الغربي من الأمة الإسلامية : ص: 9-10.
39- انظر : عمرو عبد السميع : المتطرفون ( ندوات ودوائر حوار ) ، دار نوبار للطباعة ، القاهرة ، 1993م. ص : 354.
40- انظر : الموسوعة الميسرة : ج2: ص 975.
41- انظر : مستقبل الأصولية الإسلامية : د. يوسف القرضاوي ، مكتبة وهبة ، ط1، 1997م. ص: 16.
42- انظر : الحركة المسيحية الأصولية ، محمد إبراهيم الشربيني ، ص : 40.
43- انظر : د.حميد حمد السعدون ـ الغرب والإسلام والصراع الحضاري ـ دار وائل للطباعة ـ عمان 2002م . ص:135

 

 

 

  • الاربعاء PM 05:45
    2022-01-12
  • 1907
Powered by: GateGold