ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ
شٌبهات وردود
المكتبة المرئية
خَــيْـرُ جَــلـيـسٌ
المتواجدون الآن
حرس الحدود
مجتمع المبدعين
البحث
عرض المادة
موقف الإسلام من العلمانية
تقديم:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد...
فإن الساحة العالمية تموج في هذه الأيام بالعديد من الاتجاهات والمذاهب الفكرية، ولكل اتجاه من هذه الاتجاهات رموزه وأقلامه وإعلامه، ومن وراء ذلك حشود من القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية، ولا يخفى على المتأمل في وقائع هذا المعترك الفكري أنه يوشك أن يسفر عن مواجهة محتومة ينحاز فيها الناس إلى فسطاطين:
- فسطاط للإسلام ينحاز إليه دعاة الإسلام وحملة الشريعة ومن بقي على وفائه لدينه من الأمة.
- وفسطاط للعلمانية ينحاز إليه دعاة التغريب وعبدة الهوى وخصوم الشريعة من كل ملة.
- وإذا كانت المواجهة الوشيكة تتشكل على هذا النحو فقد بات من الضروري أن يستفيض البلاغ بحقائق الإسلام وقواطعه التي تشكل مفترق الطرق بينه وبين هذه العلمانية الغازية التي تحشد اليوم أجنادها وتستجمع فلولها لترمي أمة الإسلام عن قوس واحدة!
لقد تعبدنا الله -عز وجل- باستبانة سبيل المجرمين، وجعل ذلك هدفًا من أهداف التفضيل القرآني للآيات كما قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الأنعام: 55].
فسفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح، وإنشاء اليقين الاعتقادي بالحق في عالم الضمائر وقوة الاندفاع به في عالم الواقع لا ينشأ فقط من شعور صاحب الحق أنه على الحق، بل ومن شعوره كذلك بأن الذي يحاربه على الباطل.
من أجل هذا فإن الحديث عن العلمانية وبيان نقضها لأصل الدين، وخروجها عما أجمع عليه السابقون واللاحقون من المسلمين يعد حلقة في سلسلة استبانة سبيل المجرمين، ونرجو أن يكون خطوة جادة على طريق استعادة الهوية واستئناف هذه الأمة لمسيرتها الحضارية.
ولما كان الحكم على الشيء فرعًا من تصوره فإننا نبدأ بالتعرف على هذا المذهب: مصطلحًا، ونشأة، وتغلغلا، وآثارًا، لنوطئ بذلك للحديث عن موقف الإسلام منه، وما يجب على أمة الإسلام تجاهه.
ملاحظة: يجب التحرز عند الكلام في هذا الموضوع من تكفير المعين إلا بشروط بابه
أولاً: مفهوم العلمانية:
تعبير العلمانية تعبير محدث لم يرد له ذكر في المعاجم العربية القديمة، وقد ورد هذا التعبير لأول مرةٍ في قاموس ثنائي اللغة [فرنسي- عربي] ألفه أحد تراجمة الحملة الفرنسية واسمه لويس بقطر المصري، وقد طبع جزؤه الأول في مارس 1828م، ثم دخلت الكلمة بعد ذلك إلى اللغة العربية، وأول معجم في اللغة العربية ورد فيه هذا التعبير هو المعجم الوسيط الصادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
فقد جاء في طبعته الأولى الصادرة سنة 1960م: (العلماني): نسبة إلى العلم، بمعنى العالم، وهو خلاف الديني، أو (الكهنوتي)، وبقي الأمر كذلك في الطبعة الثانية الصادرة سنة 1979م، أما في الطبعة الثالثة، التي صدرت سنة 1985م، فقد وردت الكلمة فيه مكسورة العين، بعد أن ظلت مفتوحة في الطبعتين الماضيتين.
والعلماني (مفتوحة العين) نسبة إلى العلم (بفتح العين وسكون اللام) بمعنى العالم، أي الخلق كله.
والعلماني (بكسر العين) نسبة إلى العلم التجريبي، الذي انتصر على الكنيسة، بعد صراع مرير، سالت فيه دماء، وأزهقت فيه أرواح؛ لأن الكنيسة كانت بالمرصاد لكل رأي علمي يعارض التفسير الديني للكتاب المقدس.
جناية المصطلحات:
بيد أن استعمال هذا المصطلح بالكسر استعمال ينطوي على قدر كبير من الخطأ والتلبيس.
- أما انطواؤه على الخطأ فلأن الكلمة في جذورها الأوربية لا علاقة لها بالعلم، فهي في اللغة الإنجليزية (ykqlou`.h,)، وهذا التعبير لا صلة له بالعلم؛ فالعلم في كل من الإنجليزية والفرنسية ز ذ ف ض ذ ا، والمذهب العلمي يطلق عليه ن ض ه ف ز ض ذ، أما هذه الكلمة (غ ن ض م خ و ذ ز ا) فهي اللا دينية أو الدنيوية، فنسبتها إلى العلم نسبة خاطئة؛ لانبتات الصلة بين العلم وبين هذا التعبير في جذوره الأوربية.
- وأما انطواؤه على التلبيس والإيهام فلأن في نسبة هذا التعبير إلى العلم ما يحجب حقيقة المعنى الذي يتضمنه هذا التعبير، ويدخله في دائرة القبول العام، خاصة أن مجرد الانحياز إلى العلم لا يعني نبذ الإيمان أو استبعاد الدين بالضرورة، بل لابد لإبراز هذا المعنى من التحليل والتوضيح، الأمر الذي تأباه طبيعة المصطلحات.
وعلى هذا فإن المعنى الصحيح لهذا التعبير هو الفصل بين الدين والدولة، بل بتعبير أدق الفصل بين الدين والحياة، وعدم المبالاة بالدين أو الاعتبارات الدينية، ونزع القداسة عن المقررات الدينية والتعامل معها كمواريث بشرية بحتة وقصر الدين على جانب الشعائر التعبدية الفردية البحتة باعتباره علاقة خاصة بين الإنسان وخالقه.
وهذا المعنى نجده مقررًا في دائرة المعارف الغربية، ولا يثير إدراكه عندهم على هذا النحو حساسية ولا التباسًا.
يقول معجم أكسفورد شرحًا لكلمة (م خ ع و ذ ز ا):
1- دنيوي أو مادي، ليس دينيًّا ولا روحيًّا: مثل التربية اللادينية في الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة.
2- الرأي الذي يقول إنه لا ينبغي أن يكون الدين أساسًا للأخلاق والتربية.
ويقول قاموس (العالم الجديد) لوبستر شرحًا للكلمة نفسها:
1- الروح الدنيوية، أو الاتجاهات الدنيوية، ونحو ذلك وعلى الخصوص نظام من المبادئ والتطبيقات (ن ز ذ ض ه ذ خ م ) يرفض أي شكوى من أشكال الإيمان والعبادة.
2- الاعتقاد بأن الدين والشئون الكنسية لا دخل لها في شئون الدولة خاصة التربية العامة.
ويقول المعجم الدولي الثالث الجديد كلمة (غ ن ض م خ و ذ ز يا):
اتجاه في الحياة أو في شأن خاص يقوم على مبدأ أن الدين أو الاعتبارات الدينية يجب ألا تتدخل في الحكومة، أو استبعاد هذه الاعتبارات استبعادًا مقصودًا، فهي تعني مثلاً السياسة اللادينية البحتة في الحكومة.
وهي نظام اجتماعي في الأخلاق مؤسس على فكرة وجوب قيام القيم السلوكية والخلقية على اعتبارات الحياة المعاصرة والتضامن الاجتماعي دون النظر إلى الدين.
نشأة العلمانية:
لم تنشأ العلمانية في بلاد الإسلام، ولم تعرفها أرض المشرق بصفة عامة، وإنما كانت نشأتها في أوروبا الصليبية في أعقاب صراع طويل بين الكنيسة وبين السلطة الزمنية؛ حيث سيطرت الكنيسة على كل شيء، فالعلم والتربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد والحكم والأدب والفن مرده إلى سلطان الكنيسة، وكل ما خالف تفسيرات الكنيسة ومقولاتها فهو باطل، وكل من اعتنق شيئًا مخالفًا لما تقول به الكنيسة وجبت محاكمته، وربما وصل الأمر بهم إلى إعدامه حرقًا، ولقد بلغ الذي صدرت ضدهم أحكام من الكنيسة 340 ألفًا حتى سنة 1801م، وأحرق مائتان أحياء، ولم يكن هذا الأمر محتملاً لا من جمهور الناس ولا من العلماء والمفكرين.
فكان التمرد السياسي على الكنيسة من قبل بعض الملوك كما فعل فريدريك الثاني الذي أقام إمارة علمانية في جنوب إيطاليا وكان جريئًا ثائرًا على القديم في جميع مناهجه وآرائه، ولهذه نعته معاصروه بأنه أعجوبة العالم.
ثم كان التمرد العلمي من قبل كثير من العلماء الذين أعلنوا إيمانهم بحقائق العلم التي تخالف مقررات الكتاب المقدس، والذين ووجهوا بالحرمان الكنسي، وبأحكام مختلفة انتهت ببعضهم إلى الإعدام حرقًا.
ثم تتابعت صور التمرد ضد الطغيان الكنسي تتصاعد حينًا وتخبو حينًا آخر حتى انتهى الأمر بأطراف هذا الصراع إلى هذه المثنوية التي تمثلها هذه العبارات الكنسية الشائعة: (أعط ما لقيصر لقيصر، وما لله لله).
موقف الإسلام من العلمانية:
العلمانية والإيمان نقيضان، فإن الإيمان يقتضي الانقياد والإذعان لما جاء من عند الله، والعلمانية تقتضي التمرد على الوحي، والكفر بمرجعيته في علاقة الدين بالحياة، وإطلاق العنان للأهواء البشرية بلا حدود.
الإيمان يقتضي تعظيم شعائر الله وتقديس كتابه والتعبد بطاعته، والعلمانية تقتضي - كما سبق - نزع القداسة عن جميع المقررات الدينية، والتعامل معها باعتبارها مورايث بشرية بحتة تخضع لما تخضع له سائر المفاهيم البشرية من النقد والتعديل أو الإلغاء بالكلية في ضوء ما تقتضيه المصلحة البشرية البحتة.
والعلمانية بهذا النحو لا تجتمع مع أصل دين الإسلام، بل إن شئت الدقة لا تجتمع مع أصل دين سماوي بوجه من الوجوه، فهي شرك في التوحيد ونقض للإيمان المجمل، وهي ثورة على النبوة، وهدم لأصل الدين وحقيقة الإسلام.
وليس هذا التقرير من مجازفات الأقوال ولا من شطحات الأقلام بل هو الحقيقة التي تحتشد لإثباتها حقائق الكتاب والسنة، وفيما يلي تفصيل القول في ذلك:
العلمانية شرك في التوحيد:
العلمانية شرك في التوحيد في جانبي الربوية والألوهية:
أما كونها شركًا في التوحيد في جانب الربوبية؛ فلما تتضمنه من منازعة الرب -جل وعلا- في جانب الهداية والأمر الشرعي؛ ذلك أن الذي تفرد بخلق هذا الكون تفرد كذلك بحق هدايته وتوجيه الخطاب الملزم إليه.
فالخلق والأمر من أخص خصائص الربوبية وأجمع صفاتها، كما قال تعالى: ﴿أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54].
والأمر في لغة الشارع يأتي بمعنيين:
الأول: الأمر الكوني وهو الذي به يدبر شئون المخلوقات، وبه يقول للشيء كن فيكون، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ﴾ [القمر: 50].
الثاني: الأمر الشرعي: وهو الذي به يفصل الحلال والحرام، الأمر والنهي وسائر الشرائع، ومنه قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ [السجدة: 24].
وإذا كانت البشرية لم تعرف في تاريخها من نازع الله في عموم الخلق أو الأمر بمفهومه الكوني فقد حفل تاريخها بمن نازع الله في جانب الأمر الشرعي وادعى مشاركته فيه، فقد حكي لنا القرآن الكريم عن من قال: ﴿سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللهُ﴾ [الأنعام: 93]، ومن قال: ﴿مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر: 29]، ورأينا في واقعنا المعاصر دعاة العلمانية وهم يقولون: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة! بل من اجترأ على ربه وقال: إن القوانين الوضعية خير من الشريعة الإسلامية؛ لأن الأولى تمثل الحضارة والمدنية، والثانية تمثل البداوة والرجعية!!
ولا يتحقق توحيد الربوبية إلا بإفراد الله -جل وعلا- بالخلق والأمر بقسميه: الكوني والشرعي، وإفراده بالأمر الشرعي يقتضي الإقرار له وحده بالسيادة العليا والتشريع المطلق، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، ومن سوغ للناس اتباع شريعة غير شريعته فهو كافر مشرك.
وقد اتفق الأصوليون أجمعون على أن الحاكم لجميع أفعال المكلفين إنما هو الله -عز وجل- فهو وحده مصدر جميع الأحكام الشرعية؛ ولذلك اشتهر من أصولهم: (لا حكم إلا لله).
حتى هؤلاء الذين قالوا باستقلال العقل بمعرفة بعض الأحكام الشرعية لم ينازعوا في هذا الأصل السابق، وإنما كان نزاعهم حول كيفية التعرف على حكم الله -عز وجل-، فدور العقل عندهم هو دور التعرف على حكم الله الكاشف عنه أحيانًا، مع اتفاق الجميع على أن الحاكم الذي يصدر الأحكام وينشئها إنما هو الله -عز وجل-، ومن هنا كان اتفاقهم على تعريف الحكم الشرعي بأنه: (خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين طلبًا أو تخييرًا أو وضعًا).
وقد كانت ربوبية الأحبار والرهبان في بني إسرائيل في باب التشريع؛ فقد أحلوا حرام الله وحرموا حلاله، فتابعهم الناس على ذلك، فلم تكن الربوبية فيهم في جانب الخلق أو الأمر الكوني، بل كانت في جانب الهداية والأمر الشرعي.
عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي × يقرأ: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾ [التوبة: 31]، فقلت: إنا لسنا نعبدهم، قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟"، فقلت: بلى، قال: "فتلك عبادتهم"، رواه أحمد والترمذي.
فحقيقة الإقرار بالربوبية لا تتمثل في إفراد الله -جل وعلا- بالخلق والتدبير الكوني فحسب بل تمتد لتشمل إفراده تعالى بالأمر والقضاء الشرعي، وقبول ما جاء به رسوله × من الهدى والشرائع؛ وذلك لأن المنازعة في الأمر الشرعي كالمنازعة في الأمر الكوني ولا فرق، فإن الذي أوجب الرضا بقدره هو الذي أوجب التحاكم إلى شرعه، وهو القائل: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ [يوسف: 40]، والقائل: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21].
والإقرار المقصود في هذا المقام هو الإقرار الانقيادي الذي يعني إنشاء الالتزام، وليس مجرد الإقرار الخبري الذي لا يتجاوز دائرة التصديق والإخبار، فلو أن رجلاً أقر بصدق ما جاء به النبي × ولم يتبعه على ذلك بل حاربه وعاداه فإنه لا يكون موحدًا بحال من الأحوال.
أما كونها شركًا في التوحيد في جانب الألوهية؛ فلما تمهد في حقائق التوحيد من أن توحيد العبادة ينتظم جانبين رئيسين: توحيد الإرادة والقصد وتوحيد الطاعة والاتباع.
أما توحيد الإرادة والقصد فيراد به إفراد الله بالشعائر التعبدية كالصلاة والحج والدعاء والنذر والذبح ونحوه.
وأما توحيد الطاعة والاتباع فيراد به إفراد الله بكمال الخضوع والطاعة وإخراج المكلف عن داعية الهوى حتى يكون عبدًا لمولاه، وذلك بتحكيم شرعه وحده، والقبول التام لكل ما جاء به نبيه × والبراءة من كل ما سوى ذلك من الأهواء البشرية.
وإلى هذين الجانبين يشير قوله تعالى في سورة الأنعام: ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 161: 163].
فالآية الأولى تشير إلى توحيد الطاعة والاتباع، فلا يتلقى الهدى إلا من الله، والآيتان اللتان بعدها تشيران إلى توحيد الإرادة والقصد، فلا يتوجه بالأعمال إلا إلى الله.
فالانقياد لله -عز وجل- والتزام طاعته هو أحد ركني العبادة، فمن زعم حب الله -عز وجل- وتصديقه ولكنه رفض الطاعة له وأبي الانقياد لأمره، ورسم لنفسه طريقًا آخر مضادًّا للصراط المستقيم الذي أمر الله به واتخذ ذلك منهجا ثابتًا وديدنًا مضطردًا فقد كفر بألوهية الله عليه، وجعل نفسه ندًّا للذي خلقه، فإذا ما انضم إلى هذا أن والى على ذلك وعادى على ذلك، وشرح بهذا التمرد صدرًا، وأقسم على احترامه والتمسك به، وصب ويله وبطشه على كل من دعا إلى خلافه من إقامة الدين والتزام شرائعه كما ديدن الطواغيت في واقعنا المعاصر فقد شهد على نفسه بما لا ينبغي أن يختلف عليه من الإشراك والردة.
قال تعالى: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].
- وقد روى الحافظ ابن كثير عن سعيد بن جبير قال: خاصمت اليهود النبي × فقالوا: نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله هذه الآية.
- وروي أيضاً عن ابن عباس قال: لما نزلت: ﴿وَلاَ تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمدًا وقولوا له: فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال، وما ذبح الله -عز وجل- بشمشير من ذهب يعني الميتة فهو حرام؟! فنزلت هذه الآية: ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121].
- قال ابن كثير: ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ أي: حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم غيره عليه فهذا هو الشرك، كقوله تعالى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ﴾ [التوبة: 31].
والمقصود في هذا المقام: أن الله -عز وجل- قد جعل عُدولهم إلى غير شريعة الله يعد إشراكًا بالله.
العلمانية ثورة على النبوة:
لا يخفى أن الإيمان بنبوة محمد × هو المدخل إلى الإسلام، فإن الشهادة لله بالوحدانية ولمحمد × بالرسالة هما أول واجب المكلف، وأول ما يخاطب به الناس عند الدعوة إلى الإسلام، كما قال × لمعاذ بن جبل عندما بعثه إلى اليمن: "إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ..." الحديث.
وحقيقة الإيمان بنبوته يتمثل في تصديق خبره جملة وعلى الغيب، والتزام هديه جملة وعلى الغيب، فما آمن بمحمد - × وما ارتضى نبوته من كذب بخبره أو رد عليه شرعه؛ لأن حقيقة الإيمان هي التصديق والانقياد، ومن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم.
يقول ابن القيم رحمه الله: (وأما الرضى بنبيه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد له والتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا من مواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيره البتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواق حقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه. لا يرضى في ذلك بحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه) [مدارج السالكين 2/ 172].
قال تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
قال ابن كثير رحمه الله: "يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة أنه لا يؤمن أحد حتى يحكِّم الرسول × في جميع الأمور، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطنًا وظاهرًا، ولهذا قال: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم فلا يجدون في أنفسهم حرجًا مما حكمت به وينقادون له في الظاهر والباطن، فيسلمون لذلك تسليمًا كليًّا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة كما ورد في الحديث: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به" [تفسير ابن كثير: 1/ 520].
ويقول الجصاص رحمه الله: "وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئًا من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله × فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي × قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان" [أحكام القرآن للجصاص: 3/ 181].
فأين هذا من ترك التحاكم إلى شريعته ابتداء، واتهامها بالبداوة والرجعية؟ أو الجمود وعدم الصلاحية للتطبيق؟
لقد نُهي الصحابة في القرآن عن أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته ×، وأن يجهروا له بالقول كجهر بعضهم لبعض، وجعل من هذا الفعل - الذي قد يبدو يسيرًا - سببًا لحبوط الأعمال، وسبيلا قاصدًا إلى الردة عن الإسلام، فقال تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات: 2].
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فإذا كان رفع أصواتهم فوق صوته سببًا لحبوط أعمالهم، فكيف تقديم آرائهم وعقولهم وأذواقهم وسياساتهم ومعارفهم على ما جاء به ورفعها عليه؟ أليس هذا أولى أن يكون محبطًا لأعمالهم؟" [أعلام الموقعين لابن القيم: 1/ 51].
فكيف إذا كان الأمر إهدارًا لشريعته، واجتراء على هديه، وتطاولاً على سنته، ونبذًا لما جاء به من شرائع الإسلام بالكلية؟!!
العلمانية نقض لعقد الإيمان المجمل:
فقد تمهَّد في أصول أهل السنة والجماعة أن الإيمان قولٌ وعملٌ يزيد وينقص، وأن أصله تصديق الخبر والانقياد للأمر، وإن لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر بالله العظيم.
فلا يثبت عقد الإيمان بمجرد التصديق الخبري، بل لابد من التكلم بالإيمان على وجه الإنشاء المتضمن للالتزام والانقياد؛ ولهذا لما جاء نفر من اليهود إلى النبي × وقالوا: (نشهد أنك لرسول) لم يكونوا مسلمين بذلك؛ لأنهم قالوا ذلك على سبيل الإخبار عما في أنفسهم فحسب، أي نعلم ونجزم أنك رسول الله، قال: "فلم لا تتبعوني؟" ، قالوا: نخاف يهود!
يقول ابن القيم رحمه الله: "ونحن نقول: الإيمان هو التصديق، ولكن ليس التصديق مجرد اعتقاد صدق المخبر دون الانقياد له، ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانًا لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدًا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين، فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق، والثاني: محبة القلب وانقياده" [الصلاة لابن القيم: 19 - 20].
ويقول القسطلاني في تعريف الإيمان: "وهو لغةً التصديق، وهو كما قال التفتازاني: إذعان لحكم المخبر وقبوله، فليس حقيقة التصديق أن يقع في القلب نسبة التصديق إلى الخبر أو المخبر من غير إذعان وقبول، بل هو إذعان وقبول لذلك؛ بحيث يقع عليه اسم التسليم" [إرشاد الساري: 1/ 82].
ولا يخفى أن العلمانية بردِّها لشريعة الله، وامتناعها عن قبول ما أنزل الله قد أسقطت ركن الانقياد من حقيقة الإيمان، فتكون نقضًا للإيمان المجمل الذي لا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، ولا يبقى معها من الإيمان - إن بقيت على ادعائه - إلا التصديق الخبري المحض كالذي كان مع أحبار اليهود الذين شهدوا لرسول الله × بالرسالة لما أجابهم عن أسئلتهم بما يعلمون من كتبهم فقال لهم × : "فما يمنعكم من اتباعي؟" قالوا: نخاف قومنا يهود!
أو الذي كان مع هرقل الذي أعلن تعظيمه للنبي × ولكن امتنع عن اتباعه خشيةً على ملكه.
أو الذي كان مع أبي طالب الذي أعلن بأن دين محمد من خير أديان البرية، والذي ظل عمره كله يحوط رسول الله × ويمنعه، ولكن امتنع عن اتباعه خشية الملامة ومسبة العرب له بأن استه تعلو رأسه!!
وإننا لو أثبتنا إيمانًا أو صححنا توحيدًا لمن كان حظه من الشرائع السماوية مجرد اعتقاد صدقها وأنها منزلة من عند الله لحكمنا بإيمان أغلب من في الأرض!!
ذلك أن آيات الله مبصرة، فلا يملك القلب البشري تجاهها إلا الإذعان والتسليم، لاسيما إذا ما عرضت خالية من التشويه والتحريف، ولكن يختلف الناس بعد ذلك في الموقف العملي: أهو الإخبات والطاعة؟ أم الإباء والاستكبار؟!
فالإيمان - كما سبق- ليس مجرد التصديق، ولكنه الإقرار والطمأنينة وذلك لأن التصديق إنما يعرض للخبر فقط، فأما الأمر فليس فيه تصديق من حيث هو أمر، وكلام الله خبر وأمر، فالخبر يستوجب تصديق المخبر والأمر يستوجب الانقياد له والاستسلام، وهو عمل في القلب جماعه الخضوع والانقياد للأمر، وإن لم يفعل المأمور به، فإذا قوبل الخبر بالتصديق والأمر بالانقياد فقد حصل أصل الإيمان في القلب وهو الطمأنينة والإقرار، فإن اشتقاقه من الأمن الذي هو القرار والطمأنينة، وذلك إنما يحصل إذا استقر في القلب التصديق والانقياد.
العلمانية استحلال للحكم بغير ما أنزل الله:
إن العلمانية بما تقوم عليه من تبني الكفر بمرجعية الشريعة في علاقة الدين بالحياة، وامتناعها عن الالتزام بشرائع الإسلام، واتهامها لمن ينازعها في ذلك بالرجعية والتطرف والإرهاب..إلخ، تعدُّ استحلالاً للتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله، وتسويغًا للخروج على شريعة الإسلام في كل ما يتعلق بشئون الحياة، وكل ذلك من الكفر الصراح الذي لا يجتمع مع أصل الإسلام بحال، فقد اتفقت الأمة على أن استحلال المحرمات القطعية كفر بالإجماع، لم ينازع في ذلك - فيما نعلم – أحد، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرًا ومرتدًّا باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ أي هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله" [مجموع فتاوى ابن تيمية: 3/ 367].
إن في الامتناع عن الالتزام بشرائع الإسلام أو بالحكم بها، استباحة لما حرم الله ورسوله ×، وذلك أن الاستحلال ليس مجرد عدم الاعتقاد بأن الله حرم هذا الشيء، بل يكون أيضًا مع اعتقاد حرمته وعدم التزام هذا التحريم.
فللاستحلال صورتان:
الأولى: عدم اعتقاد الحرمة، ومرده حينئذ إلى خلل في الإيمان بالربوبية والرسالة، يؤدي إلى كفر التكذيب.
الثانية: اعتقاد الحرمة والامتناع عن التزام هذا التحريم، ومرده في هذه الحالة إما إلى خلل في التصديق بصفة من صفات الشارع -جل وعلا- كالحكمة والقدرة، وإما لمجرد التمرد واتباع هوى النفس، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"وبيان هذا أن من فعل المحارم مستحلاًّ لها فهو كافر بالاتفاق، فإنه ما آمن بالقرآن من استحل محارمه، وكذلك لو استحلها من غير فعل، والاستحلال: اعتقاد أن الله لم يحرمها وتارة بعدم اعتقاد أن الله حرمها، وهذا يكون لخلل في الإيمان بالربوبية، ولخلل في الإيمان بالرسالة، ويكون جحدًا محضًا غير مبني على مقدمة.
وتارة يعلم أن الله حرمها، ويعلم أن الرسول إنما حرم ما حرمه الله، ثم يمتنع عن التزام التحريم ويعاند المحرم فهذا أشد كفرًا ممن قبله، وقد يكون هذا مع علمه أن من لم يلتزم هذا التحريم عاقبه الله وعذبه، ثم إن هذا الامتناع والإباء إما لخلل في اعتقاد حكمة الآمر وقدرته فيعود هذا إلى عدم التصديق بصفة من صفاته، وقد يكون مع العلم بجميع ما يصدق به تمردًا أو اتباعًا لغرض النفس، وحقيقته كفر هذا؛ لأنه يعترف لله ورسوله بكل ما أخبر به، ويصدق بكل ما يصدق به المؤمنون، لكنه يكره ذلك ويبغضه ويسخطه لعدم موافقته لمراده ومشتهاه، ويقول أنا لا أقر بذلك ولا ألتزمه، وأبغض هذا الحق وأنفر عنه، فهذا نوع غير النوع الأول، وتكفير هذا معلوم بالاضطرار من دين الإسلام" [الصارم المسلول لابن تيمية: 521 - 522].
فلا يشترط إذن في الاستحلال أن يكون دينيًّا، أي يعتقد حل المحرمات دينًا، بل يكفي ألا يلتزم بهذا التحريم وإن كان مقرًّا به لكي يكون مستحلاًّ كافرًا بإجماع الأمة.
فمن امتنع عن التزام الحكم بشرائع الإسلام، وتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله، وشرع للناس من الأحكام ما لم يأذن به الله فإنه يكون مستجيزًا مخالفة حكم الله، مستحلاًّ للحكم بغير ما أنزل الله، وتكفيره معلوم بالاضطرار من دين الإسلام.
العلمانية منازعة في أصل دين الإسلام:
فالإسلام كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "يتضمن الاستسلام لله وحده، فمن استسلم له ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له كان مستكبرًا عن عبادته، والمشرك به والمستكبر عن عبادته كافر، والاستسلام له وحده يتضمن عبادته وحده وطاعته وحده، وهذا دين الإسلام الذي لا يقبل الله غيره، وذلك إنما يكون بأن يطاع في كل وقت بما أمر به في ذلك الوقت" [مجموع فتاوى ابن تيمية: 3/ 91].
ولا شك أن العلمانية بما تتضمنه من رفض الاستسلام لله وحده، وإعلان الكفر بمرجعية وحيه في علاقة الدين بالدولة، ورفض الدخول ابتداء تحت دائرة التكليف فإنها بهذا تكون منازعة لدين الإسلام في أصله، ومناقضة له في أساسه ولبه.
ولكي تزداد هذه الحقيقة جلاء لابد أن نتعرف على حقيقة الدين وما يندرج تحته من شرائع وتكليفات؛ ذلك أن كثيرًا من الناس في هذا العصر يخطئ في فهم حقيقة الدين الذي أنزله الله على محمد × ويظنه لا يتجاوز ما يقام فينا من شعائر العبادات، وما يهتف به الوعاظ والخطباء من الدعوة إلى مكارم الأخلاق، أما ما وراء ذلك من شئون الحياة فلا علاقة للدين به طبقًا لمقولة: دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله! أو لمقولة: لا دين في السياسية ولا سياسة في الدين، ولا يخفى أن من كانوا كذلك إنما يتصورون دينًا آخر ويسمونه الإسلام.
فالدين هو جملة ما جاء به محمد × من عند الله من عقائد وعبادات وشرائع، كل ذلك داخل في مسمى الدين، مقصود بقوله تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ﴾ [آل عمران: 19]، وقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
ولا يخفى أن في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة أحكامًا كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والدين والإشهاد وأحكام الزواج والطلاق واللعان والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقذف المحصنات وجزاء الساعي في الأرض فسادًا... بل في القرآن آيات حربية و.. إلخ. وهذا يدلنا على أن من يدعو إلى العلمانية أو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور دينًا آخر وسماه الإسلام.
هذا ولا يخلو حال الداعين إلى هذه النحلة من أحد أمرين:
- إما أن ينكروا كل هذا الحشد الهائل من الأحكام، ويكذبوا بما جاء فيها من الآيات والأحاديث، وحكم هؤلاء معلوم بالضرورة من الدين.
- وإما أن يقروا بوجود هذه الأحكام في الكتاب والسنة، وينكروا صلاحيتها للتطبيق وكفالتها بالمصالح في هذا العصر، وفي هذا المسلك من الزندقة والكفر ما فيه، فإن عيب هذه التشريعات عيب للمشرع -جل في علاه- وقد استحق إبليس لعنة الخلد ونار الأبد؛ لأنه رد على الله حكماً واحداً من أحكامه، فكيف بمن يرد على الله أحكامه كافة متهمًا لها بعدم الصلاحية، ويعد الدعوة إلى تطبيقها لونًا من ألوان الردة الحضارية؟!!
لقد عرفت الأمة من قبل - ولا تزال - خلافات فقهية كثيرة تمحورت إلى أربعة مذاهب رئيسية عدا ما اندثر من المذاهب الأخرى، كما عرفت خلافات عقائدية كثيرة تمحورت إلى قرابة ثلاث وسبعين فرقة وقفت على رأسها الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة وبقى من عداهم من أهل الوعيد.
إلا إن هذه المذاهب وتلك الفرق، قد التقت في الجملة على أصل الإيمان بالله ورسوله، واتفقت على الإقرار المجمل بالتوحيد والرسالة، فاعتقدوا جميعًا بتفرد الله وحده بالخلق والأمر، ودانوا جميعًا بأن الحجة القاطعة والحكم الأعلى هو الوحي المعصوم، وكل ما نشأ بينهم بعد ذلك من الاختلافات فقد كان داخل هذا الإطار، فالطاعة للتكليف واتباع النبي × لم تكن موضع مماراة من أحدٍ منهم؛ ولهذا صح وصف هذه الفرق بأنها فرق إسلامية.
أما منازعة العلمانيين اليوم فهي منازعة في أصل الدين، ومشاقة بينة لله ولرسوله وللمؤمنين، إنهم يجادلون في حجية الوحي الأعلى المعصوم، وينازعون في مبدأ الدخول في دائرة التكليف، ويكفرون بصلاحية الشريعة كل الشريعة للتطبيق.. إنها ثورة على الإسلام... وانقلاب ضد النبوة... إنها حريق حول الكعبة!!
العلمانية طاغوت تعبد الله عباده باجتنابه والكفر به:
لقد جعل الله الكفر بالطاغوت قسيم الإيمان بالله، وتعبد أولياءه بالكفر بالطاغوت واجتنابه في مواضع شتى من القرآن الكريم.
فقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36].
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 256].
وبين أن ادعاء الإيمان لا يصح مع إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فقال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيدًا﴾ [النساء: 60].
وتمدح الذين اجتنوا الطاغوت، وجعل لهم البشرى في كتابه الكريم فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ﴾ [الزمر: 17].
والطاغوت: هو ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله" [أعلام الموقعين: 1/ 52].
والعلمانية بما تعنيه من رفض الدخول في إطار التكليف، وخلع ربقة العبودية فيما يتعلق بأمور الدولة وسائر أمور الحياة العامة، وتعبيد أتباعها للأهواء المجردة، وعقد الولاء والبراء على ذلك، لاشك أنها من أظهر أنواع الطواغيت التي أمرنا بالكفر بها واجتنابها.
العلمانية حكم الجاهلية وعبودية للهوى:
لقد جعل الله طريقين للحكم لا ثالث لهما: حكم الله أو حكم الجاهلية، قال تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50].
وجاهلية الحكم لا تختص بزمان بعينه، ولكنها وضع تنظيمي يأبى التحاكم إلى ما أنزل الله، وهذا الوضع قد وجد بالأمس، ويوجد اليوم، وسيوجد غدًا، وحيثما وجد فهو حكم الجاهلية وإن توارى خلف لافتات من ادعاء التقدمية والاستنارة والتحضر.
وقال تعالى: ﴿فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ﴾ [القصص: 50].
وقال تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [الجاثية: 18].
فلا مقابل لشريعة الله وما جاء به رسول الله × إلا أهواء الذين لا يعلمون، ولا توجد منطقة وسطى بينهما، ومتى خرج العبد من شريعة الله فقد دخل في عبادة الهوى من دون الله.
قال تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً﴾ [الفرقان: 43، 44].
قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ [الجاثية: 23].
والإنسان في هذه الحياة على مفترق طريقين لا ثالث لهما، فإما أن يختار العبودية لله، وإما أن يرفض هذه العبودية فيقع لا محالة في عبودية لغير الله، والعلمانية بما تقوم عليه من رفض الشريعة، تعبيد البشر إلى غير ما أنزل الله، فهي ترجع بهم إلى الجاهلية وتدخلهم في عبادة الهوى من دون الله.
الفرق بين العلمانية وبين انحرافات التطبيق الجزئية
لا يعرف خلاف بين أهل العلم أن من التزم الحكم بشرائع الإسلام في الجملة، فكانت هي مرجعهُ الدائم الذي يرجع إليه في كل أمر، ويحتكم إليه في كل قضية، ثم زلت به القدم في موقف عارض، فحكم فيه بغير ما أنزل الله ميلاً مع الهوى لشهوة أو لقرابة أو غير ذلك فإنه لا يخرج بذلك من الملة إلا بالاستحلال أو الجحود، وأن فعله هذا يلتحق بسائر الكبائر وإن كان من أعتاها وأغلظها، وإلى هذه الصورة وأشباهها ترجع عبارات السلف: كفر دون كفر، ليس بالكفر الذي تذهبون إليه، كفر لا ينقل من الملة .....إلخ هذه العبارات التي أثرت عن كثير منهم عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة 44].
وإنما وقع الالتباس مؤخرًا في ظاهرة الامتناع عن التزام الحكم بشرائع الإسلام والتحاكم ابتداء في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله، ورد مرجعية الشريعة في علاقة الدين بالدولة، وهي الصورة التي وفدت إلى بلاد الإسلام في ركاب المستعمر، وينظر لها باسم العلمانية والفصل بين الدين والدولة.
وقد تمهد من العرض السابق أن العلمانية والإيمان نقيضان، وأن اعتقادها أو الدعوة إليها أو العمل بها نفاق لا يجتمع مع أصل الإيمان بحال، ولقد ظل هذا المعنى بدهيًّا في حس الأجيال السابقة، فلم يحفظ التاريخ خلافًا يذكر حول تفرد الله -جل وعلا- بالحكم، وانعدام المشروعية عن كل قول أو فعل ترده النصوص الشرعية، وأن من ترك الشرع المحكم المنزل على محمد × ، وتحاكم إلى غيره ولو إلى شريعة منسوخة فإنه يكون قد حادَّ الله ورسوله وخلع بذلك ربقة الإسلام من عنقه؛ لأنه يكون بذلك قد جعل لله ندًّا في الطاعة والاتباع!
ولكن غاشية الفتن المعاصرة كادت أن تطمس جلاء هذه الحقيقة الناصعة فارتاب فيها المرتابون، وأصبح الناس فيها فريقين يختصمون، ومن هنا كان لزامًا علينا أن نتناول هذه القضية بشيء من التفصيل، آملين في عودة الأمور إلى نصابها، مبتدئين في ذلك بتحرير النزاع. وسوف نبدأ بتجلية الفرق بين الانحراف العارض عن الحكم بما أنزل الله، وبين العلمانية إحكامًا للأمر، وزيادة في البيان والإيضاح فنقول وبالله التوفيق:
إن الحجة القاطعة والحكم الأعلى في حال الانحرافات الجزئية هو الشرع لا غير، فلا حلال إلا ما أحله الله ورسوله، ولا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا دين إلا ما شرعه الله ورسوله، ولا سيادة إلا لكتاب الله وسنة نبيه ×، فإذا ما أشكل على الولاة أمر رجعوا إلى المأثور من أقوال الصحابة والتابعين، أو إلى الراجح من فقه أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من الفقهاء؛ ليتعرفوا على حكم الله فيما عرض لهم، وأما ما يحدث من خلل فهو انحراف عارض في أمور جزئية، لا تبدل فيه الشرائع، ولا تغير فيه القواعد الكلية، فالأصل في هذه الصورة أن الولاة خاضعون لحكم الله -عز وجل- فهو دينهم الذي به يدينون، وقانونهم الذي به يقضون وإليه يحتكمون.
أما الحكم الأعلى في صورة العلمانية فهو المصالح البشرية البحتة التي لا تتقيد بدين، ولا ترجع إلى هدى ولا كتاب منير، بل محض الهوى وما يوحي الشيطان إلى أوليائه من ضلالات وأباطيل يسمونها نظمًا وتشريعاتٍ وقوانين! فإذا ما أشكل على الولاة أمر رجعوا فيه إلى المذاكرات التفسيرية لهذه الشرائع الوافدة، أو إلى الراجح في الفقه الفرنسي أو الألماني أو الإيطالي ليستلهموا من خلاله الحكم في محل النزاع! فالولاة في ظل هذه الصورة قد ردوا مرجعية الشريعة في علاقة الدين بالدولة، وخلعوا ربقة الأحكام الشرعية في كل ما يتصل بشئون الحياة العامة.
إن تحري مقصود الشارع هو معيار العدل والإصابة في الصورة الأولى، أما معيار العدل والإصابة في الصورة الثانية فإنه يتمثل في مدى تحقيقه للمصالح البشرية البحته، ومدى موافقته للقوانين الوضعية الوافدة نصًّا وروحًا بحيث يعد الحكم بما أنزل الله في ظل هذه الصورة نقضًا للعهد، وهتكًا للمواثيق وخروجًا على الأعراف القضائية السائدة، بل جريمة جنائية تستوجب تقديم صاحبها إلى محكمة الجنايات! فلو أن قاضيًا في ظل العلمانية حكم بقطع يد سارق أو برجم زان فإنه يكون قد حكم بما يخالف الصواب، وخرج على مقتضى القانون الواجب الاتباع، فينقض حكمه، وينظر في أمره ليجري عليه ما يستحقه من جزاءات وعقوبات! أما الذين يسعون في تنفيذ مثل هذا الحكم فإنهم يقدمونهم ومن أعانهم على ذلك إلى محاكمة جنائية بتهمة إحداث عاهة مستديمة! أو بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد! وما ذلك إلا لأن القانون لا يقر هذه العقوبات، ولا يعترف بهذه التشريعات، فهذا فارق جوهري لابد أن ينتبه إليه، فحكم الله في الصورة الأولى هو الحق والصواب، وأما في الصورة الثانية فهو باطل وخروج على الشرعية، بل هو في بعض صوره جريمة تستوجب العقاب!
خلاصة القول في شبهة التسوية بين العلمانية وبين انحرافات التطبيق الجزئية:
لقد تمهد في محكمات الأدلة أن توحيد الألوهية يقتضي إفراد الله بالطاعة والانقياد، وأن الإيمان المجمل هو التصديق والانقياد، وأن الكفر هو عدم الإيمان، سواء أكان معه تكذيب أو استكبار أو إباء أو إعراض، وأن من لم يحصل في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر.
وعلى هذا يمكن تفصيل القول في قضية الحكم بغير ما أنزل الله، وفي التفريق بين العلمانية وبين انحرافات التطبيق الجزئية، ذلك أن تعبير الحكم بغير ما أنزل الله، قد يقصد به عمل القضاة والمنفذين، وقد يقصد به عمل الأصوليين المشرعين، وعلى حسب الدقة في تحديد المناط تكون الدقة في سلامة الحكم وموافقته لمراد الشارع:
فإن قصد به عمل القضاة والمنفذين نظر: فإن كان مرده إلى تكذيب الحكم الشرعي أو رده فهو كفر أكبر يخرج من الملة، وإن كان مرده إلى عارض من هوى أو رشوة أو نحوه مع بقاء التحاكم ابتداء إلى الكتاب والسنة أو ما حمل عليهما بطريق الاجتهاد فهو من جنس الذنوب والمعاصي، وأصحابه في مشيئة الله إن شاء الله عذبهم وإن شاء غفر لهم.
وهذه هي صورة الحكم بغير ما أنزل الله، التي عرفت في تاريخ الإسلام، والتي قال فيها علماء الإسلام ما قالوا وفصلوا فيها من الأحكام ما فصلوا، إذ لم تعرف الدولة الإسلامية في تاريخها الطويل نبذًا كاملاً لأحكام الله واطراحًا مجملاً لشريعة الله، وتحاكمًا من حيث المبدأ إلى كتاب غير القرآن وإلى دين غير الإسلام، اللهم إلا مرة واحدة في أيام التتار، ولقد جزم أهل العلم يومها بأن هذه الصورة المستحدثة لا تكييف لها إلا الكفر، وأن أصحابها كفار بلا خلاف، وأنه يجب قتالهم حتى يرجعوا إلى حكم الله ورسوله.
قال ابن كثير -رحمه الله- عما كان يحكم به التتار من السياسات الملكية: "فمن فعل ذلك منهم فهو كافر، يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله، فلا يحكم سواء في قليل ولا كثير" [تفسير ابن كثير: 2/ 67].
ويقول في البداية والنهاية: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل فقد كفر بإجماع المسلمين" [البداية والنهاية لابن كثير: 13/ 119].
أما إن قصد به المعنى الأصولي التشريعي الذي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على سبيل الاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وأريد به إصدار قواعد تشريعية عامة تبدل بها شرائع الإسلام وتكون لها السيادة في الأمة بدلاً من سيادة الكتاب والسنة وتصبح هي المرجع في الحكم عند التنازع، ويقدم العمل بها على العمل بأحكام الشريعة المطهرة فلا جدال في أن هذه الصورة مناط واحد وتكييف واحد وهو الكفر الأكبر المخرج من الملة الذي لا تبقى معه من الإيمان حبة خردل، كما قال تعالى: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ﴾ [الشورى: 21].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه أو حرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتدًّا باتفاق الفقهاء" [مجموع فتاوى ابن تيمية: 3/ 267].
وقد سبق قول ابن كثير: "فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين".
ولقد أدى اللبس في هذه القضية وعدم تحديد مناطات الحكم في صوره المختلفة إلى اضطراب كثير من أهل العلم من منتسبي الحركة الإسلامية وغيرهم في تقريرها مما أتاح للمبطلين أن يجدوا من بين فرجات اختلافهم مدخلاً لهم يلبسون به على العامة، ويسبغون به الشرعية على هذه العلمانية الغازية التي تقوم على رد شرائع الإسلام، واستباحة الحكم بغير ما أنزل الله، وإهدار سيادة الشريعة الإسلامية، وحمل الأمة كلها على تحكيم القوانين الوضعية وذلك بإشاعة القول بأن الكفر الوارد في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ هو الكفر الأصغر الذي لا ينقل عن الملة، ويسوقون في ذلك بعض الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين في بيان أنه كفر دون كفر، وليس كمن كفر بالله وملائكته، فنصبح بذلك أمام خلل جزئي أو انحراف فروعي لا يبرر انعدام الشرعية ولا سقوط واجب الطاعة.
ولقد نبه الشيخ محمود شاكر -رحمه الله- في تعليقه على الطبري إلى هذا الخلل، وفصَّل القول في مثل هذه الآثار عند تعليقه على ما أورده الطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ من قول أبي مجلز وهو تابعي ثقة لمن سأله من الإباضية عن معنى هذه الآية وأرادوا أن يلزموه الحجة في تكفير الأمراء؛ لأنهم في معسكر السلطان، ولأنه ربما ارتكبوا بعض ما نهاهم الله عن ارتكابه، فأجابهم أبو مجلز بقوله: "إنهم يعملون بما يعملون - يعني الأمراء - ويعلمون أنه ذنب! قال: بينما أنزلت هذه الآية في اليهود النصارى، قالوا: أما والله إنك لتعلم مثل ما نعلم، ولكنك تخشاهم! قال: أنتم أحق بذلك منا، أما نحن فلا نعرف ما تعرفون! قالوا: ولكنكم تعرفونه ولكن يمنعكم أن تمضوا أمركم من خشيتهم!".
يقول الشيخ محمود شاكر -رحمه الله- تعليقاً على ذلك: "فلم يكن سؤالهم عما احتج به مبتدعة زماننا من القضاء في الأموال والأعراض والدماء بقانون مخالف لشريعة أهل الإسلام، ولا في إصدار قانون ملزم لأهل الإسلام، بالاحتكام إلى حكم غير حكم الله في كتابه وعلى لسان نبيه × فهذا الفعل إعراض عن حكم الله، ورغبة عن دينه وإيثار لأحكام أهل الكفر على حكم الله سبحانه وتعالى، وهذا كفر لا يشك أحد من أهل القبلة على اختلافهم في تكفير القائل به والداعي إليه.
والذي نحن فيه اليوم هو هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء، وإيثار حكم غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في شريعة الله، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة، وادعاء المحتجين بذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان غير زماننا ولعلل وأسباب انقضت، فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.
فأين هذا مما بيناه من حديث أبي مجلز، والنفر من الإباضية من بني عمرو بن سدوس!!" [راجع تفسير الطبري بتحقيق أحمد شاكر: 10/ 349].
ويقول في موضع آخر: "ولو كان الأمر على ما ظنوا في خبر أبي مجلز، أنهم أرادوا مخالفة السلطان في حكم من أحكام الشريعة، فإنه لم يحدث في تاريخ الإسلام أن سن حاكم حكماً وجعله شريعة ملزمة للقضاء بها، هذه واحدة، وأخرى أن الحاكم الذي حكم في قضية بعينها بغير حكم الله فيها، فإنه إما أن يكون حكم بها وهو جاهل، فهذا أمره أمر الجاهل بالشريعة، وإما أن يكون حكم بها هوى ومعصية فهذا ذنب تناله التوبة وتلحقه المغفرة، وإما أن يكون حكم به متأولاً حكمًا يخالفه به سائر العلماء، فهذا حكمه حكم كل متأول يستمد تأويله من الإقرار بنص الكتاب، وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
وأما أن يكون في زمن أبي مجلز أو قبله أو بعده حاكم حكم بقضاء في أمر، جاحدًا لحكم من أحكام الشريعة، أو مؤثرًا لأحكام أهل الكفر على أحكام أهل الإسلام، فذلك لم يكن قط فلا يمكن صرف كلام أبي مجلز والإباضيين إليه.
فمن احتج بهذين الأثرين وغيرهما في غير بابهما، وصرفهما إلى غير معناهما رغبة في نصرة سلطان، أو احتيالاً على تسويغ الحكم بغير ما أنزل الله وفرض على عباده، فحكمه في الشريعة حكم الجاحد بحكم من أحكام الله: أن يستتاب، فإن أصر وكابر وجحد حكم الله، ورضي بتبديل الأحكام، فحكم الكافر المصر على كفره معروف لأهل هذا الدين" [تفسير الطبري بتحقيق محمود شاكر: 10/ 358].
والذي نخلص إليه من ذلك كله، أن قول بعض السلف كفر دون كفر في تفسير هذه الآية، لا ينصرف مناطه إلى مناط العلمانية التي ترد مرجعية الشريعة، وتهدر سيادتها في علاقة الدين بالدولة، وتجعل من التحاكم إليها خروجاً على الشرعية وسببًا قاطعًا من أسباب بطلان الحكم ونقضه!
شبهة وجوابها:
ولكن تبقى بعد ذلك شبهة: وهي أن هذه النصوص السابقة إنما هي في قوم رفضوا الدخول في الإسلام من البداية، وأبوا أن يذعنوا له رغم معرفتهم بأنه حق من عند الله، أما هؤلاء الممتنعون عن التزام الشرائع أو الحكم بها فقد أعلنوا قبولهم للإسلام في الجملة.
ويجاب عن هذا بأنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه لا فرق بين من يدفع جميع ما أنزله الله على عباده، ومن يدفع شيئًا واحدًا من ذلك، كما لا فرق بين من يكذب بالقرآن كله ومن يكذب بسورة واحدة من سوره أو حتى آية واحدة من آياته، ولا بين من يجحد الإسلام من البداية ومن يجحد حكمًا واحدًا من أحكامه القطعية، فمن أعلن قبوله للإسلام والتزامه بشرائعه جملة، ثم رد شيئًا من أحكامه القطعية فقد خرق بذلك قاعدة الخضوع والتزام الطاعة، وهي التي تمثل إحدى دعامتي التوحيد كما سبق القول.
ولكن سؤالاً يرد في هذا المقام:
هل مجرد التحاكم إلى الشرائع الوضعية والتزامها يعد خلعًا للربقة وتحللاً من الالتزام بشرائع الله؟ وفي الجواب على هذا تفصيل لا غنى عن ذكره.
أولاً: لا شك أن الإقدام على نقض أحكام الله وتبديل شرائعه، وإحلال أهواء البشر محلها طواعية واختيارًا بلا عارض من تأويل أو إكراه، وحمل الأمة على ذلك بقوة السلطان، يعد شركاً بالله العظيم وكفرًا بربوبيته وألوهيته.
ثانيًا: أما من توراث ذلك عمن سبقه من الولاة ولم يبتدئ جريمة التبديل والفصل بين الدين والدولة، فلا يخلو حاله من صورة من هذه الصور:
- أن يرضى بهذه العلمانية، ويعلن التزامه بها، ويسعى للتمكين لها، ويعقد ولاءه وبراءه عليها، فهذا لا شك في كفره، لأن الرضا بالكفر والتزامه كفر بالاتفاق.
- أن يعلن الكفر بها والعزم على تغييرها، ويتخذ بهذا الصدد خطوات حقيقية تبين صدقه في دعواه، فهذا قد برئ من الرضا والمتابعة، وذلك هو المسلم الذي له ذمة الله ورسوله، ويجب على الأمة عونه وتأييده، وقد يستغرق استكمال التغيير مددًا تطول أو تقصر، ولكن هذا لا يقدح في صحة إسلامه ما صدَّقت أفعاله أقواله.
- أن يروغ في مواقفه، فلا يعلن صريح الرضا والمتابعة، ولا صريح الانخلاع والبراءة وإنما تتذبذب مواقفه بين الفريقين لا إلىهؤلاء ولا إلى هؤلاء، فهذا هو النفاق الذي ما فتئت تواجهه الدعوات على مدار التاريخ، وعلى الأمة أن تتابع مواقفه، وأن تلجئه إلى التزام أحد المنهجين لتفوت عليه ما يريده من الخداع والتلبيس، فإذا ما أظهر نفاقه بيقين فقد زالت شرعيته وسقطت طاعته.
والحق أن هذا الموقف الأخير هو أخطر ما يواجه الدعوة إلى إقامة الدين في هذا العصر؛ لأنه يجعل الناس في هؤلاء المارقين فئتين.
- فئة تحسن الظن بأقوالهم، فتلقي إليهم السلم، وتشايعهم بالقول والعمل، وتتهم الآخرين بالغلو والشطط!
- وفئة أخرى حاكمت أقوالهم إلى أعمالهم، فتبين لها كذب المقالات وزيف الشعارات، فلم تقم لها وزنًا وحكمت عليهم بما أسفر عنه استقراء واقعهم، ورصد حقيقتهم.
وإن المعركة الحقيقة في مثل هذه المواقع لابد أن تكون على محورين:
- الأول: بيان حقيقة التوحيد وتبليغها للناس كافة حتى يستفيض العلم بأنه لا حكم إلا لله، وأن العلمانية والإسلام نقيضان، وأن تحكيم القوانين الوضعية لا يجتمع مع أصل الإيمان بحال من الأحوال.
- الثاني: بيان حقيقة الواقع ورصده بمنتهى الموضوعية والدقة، حتى يتبين للناس الحقيقة والدعوى في هذه المزاعم والادعاءات.
ذلك أن من الناس من يجهل حقيقة التوحيد وعلاقته بتحكيم الشريعة ووجوب إفراد الله بالطاعة، ومنهم من يجهل حقيقة الواقع تحت تأثير أبواق التضليل والدعاية، وخبراء الخداع والتلبيس!
وهؤلاء يمثلون في الواقع نسبة عالية لا يستهان بها، وفيهم الدعاة والهداة من حملة القرآن والسنة ممن يقرون بالقضية في جانبها العلمي، وتعتبر عند كثير منهم من البدهيات والمسلمات، ولكنهم فتنوا بالشعارات والتصريحات التي تطلقها أبواق العلمانية فشوشت عليهم الرؤية وجعلتهم في أمر مريج!
بقيت مسألة في غاية الأهمية وهي أن موقف الدعوة من العلمانية موقف عقيدي ثابت، فالعلمانية والإيمان نقيضان، وهي من الطواغيت التي تعبَّد الله عباده بالكفر بها واجتنابها، ومهما تفاوتت اجتهادات الدعاة في أشخاص القائمين عليها من طواغيت البشر، فلا علاقة لذلك بالقضية الأصلية وهي رفض هذا المنهج وعدم مشايعة سدنته بقول أو عمل.
مقارنة بين تطبيق العلمانية في الغرب وتطبيقها في بلاد المسلمين:
إن قياس الشرق الإسلامي على الغرب الصليبي في هذه القضية خطيئة فادحة، لا تقل في فداحتها عن خطيئة قياس القرآن الكريم على أناجيل القوم المزيفة! ودين الإسلام الخاتم على ديانات القوم المحرفة! فإن ما في هذه الأناجيل والديانات من باطل أضعاف أضعاف ما فيها من حق، وما كان فيها من حق فهو منسوخ بالقرآن الكريم!!
ولنتأمل في هذه المقارنة بين تطبيق هذا الفصل في الغرب والمجتمعات المسيحية وبين تطبيقه في الشرق والمجتمعات الإسلامية، ليدرك مدى جسامة التزييف الذي يمارسه المفتونون بهذه الدعوة في قياس الشرق على الغرب في هذه القضية:
1- أن المناداة بفصل الدين عن الدولة في تاريخ المسيحية عود بها إلى وضعها الأول المذكور في أناجيل القوم، وأن انحرافها عن هذا المبدأ جرَّ عليها وعلى شعوبها البلاء والشقاء، أما في الإسلام فإن المناداة بفصل الدين عن الدولة انحراف به عما ورد في القرآن الكريم، وأن وقوع هذا الفصل في بعض مراحل التاريخ هو الذي جر على الإسلام وعلى المسلمين البلاء والشقاء.
2- أن علاقة الدين بالدولة - في تاريخ القرون الوسطى - جعل من رجال الدين طبقة تمثل السيطرة والاستعلاء والاضطهاد والتعصب، ولكن علاقة الدين بالدولة- في عصور الإسلام الزاهرة لم تخلق مثل هذه الطبقة؛ إذ الإسلام نفسه لا يعترف بوجودها، فكيف يعترف بحقها في السيطرة والاستعلاء؟
3- أن ربط الدولة بالدين - في أوروبا - أدى إلى اضطهاد الفكر، وخنق الحريات وقيام الحروب الدينية المفجعة، وخضوع الناس لكابوس الخرافة والجهالة والبؤس، أما ربط الدولة بالدين- في عصور الإسلام الزاهرة - فقد أدى إلى انطلاق الفكر وحماية الحريات الدينية، وإشاعة السلام، وتحرير الناس من أوهام الخرافات والشعوذة، وتحقق الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية بين أبناء الشعوب.
4- إن فصل الدين عن الدولة في تاريخ أوروبا، كان في عصر نهضتها الكبرى، ولقد سارت من بعده حرة طليقة تسيطر على شئون العالم وتتحكم في مصائره، أما في الإسلام فإن أزهى عصور حضارته، وأحفلها بالقوة والمجد وأجداها على الإنسانية هي العصور التي قامت فيها دولته على مبادئ شريعته، وما حدث الجفاء بين الدين والدولة إلا في عصور الضعف والجمود والفوضى.
وحسبنا مثلاً على ذلك أن نقارن بين تركيا في ظل الدين وتركيا في ظل العلمانية لندرك مدى البون الشاسع والظلم الفادح في قياس الشرق على الغرب في هذه القضية: لقد فصل الدين عن الدولة في تركيا، فماذا جنت من المكاسب؟ لقد ألقى بتركيا في أحضان الغرب غارقة بديونها مثقلة بالتزاماتها وأصبحت سوقًا لتصريف المنتجات الغربية، ومركزًا للقواعد الحربية، وهدفًا للعدوان الشيوعي والإفناء الجماعي، وعندما كان (الدين) سيد الدولة كانت تركيا إمبراطورية تملأ عين الدنيا وسمعها، وكانت باسم الإسلام تخيف جارتها روسيا، بل ظلت عدة قرون تدير رحى الحرب في أرض روسيا نفسها، وعندما أصبحت (الدولة) سيدة الدين، أصبحت تركيا مستعمرة لا هيبة لها، ولا وزن، فعادت دويلة تقبع مرعوبة في أقل من 10% من حدودها الأولى، وتتسول سلاحها من هنا ومن هناك، وصار أقصى ما تتطلع إليه قيادتها العلمانية، أن تصبح عضوًا في السوق الأوربية المشتركة، وأوروبا تضن عليها بذلك، ولكن تركيا اليوم كما تسمعون وتشاهدون قد أخذت تخلع عنها أسمال العلمانية الغاوية، وتحث الخطى على طريق استعادة الهوية الإسلامية، واستئناف مسيرتها الحضارية، وإننا لنرجو لها في ذلك التوفيق والغلبة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
خاتمة:
بقيت لنا كلمة في ختام هذا اللقاء، نتوجه بها إلى أمة الإسلام في مشارق العالم الإسلامي ومغاربه.
إن العلمانية نبات نكِد خرج من تربة خبيثة، ورد فعل خاطئ لدين محرَّف، وأوضاع خاطئة وظروف غير طبيعية، إنه لم يكن حتمًا على مجتمع ابتلى بدين محرف أن يخرج على كل دين، بل الافتراض الصحيح أن يبحث عن الدين الصحيح.
وأولى من ذلك بالصحة أن ينأى المجتمع الذي هُدي إلى الدين الصحيح وعُوفي من بلاء الأديان المحرفة عن التردي في مثل هذا المستنقع الذي تردى إليه هؤلاء البائسون! وأن يظل على وفائه لدينه واستمساكه بشريعته!
إن العلمانية - كما سبق القول - ثورة على الشرائع السماوية، وخلع لربقة العبودية، واختراق صليبي للعقل السليم، وامتداد سرطاني في جسد الأمة، وأتباعها هم صنائع المستعمر وطلائعه على بلاد الإسلام! وهي لا تقل خطرًا عن القواعد العسكرية التي انتهكت بها سيادة أمة الإسلام على أرض الإسلام، ولا عن النهب الاقتصادي الذي بددت به ثروات الأمة، وتضخمت به الحسابات السرية في البنوك السويسرية لحساب حفنة من السراق الذين يلتهمون زاد الأمة مع الوحش، ويقتسمون مالها مع المغير، ويغتنمون ضلالها مع الحوادث!
فإلى أمة الإسلام في المشارق والمغارب!
إن تحكيم الشريعة هو معقد التفرقة بين الإيمان والزندقة، وإن العلمانية نقيض الإيمان، فلا يضلنك دعاتها المارقون، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون!
وإلى شباب الصحوة الإسلامية في مختلف المواقع.
لقد يئس خصوم الإسلام من تجفيف منابعه، وقد رضوا بالتحريش فيما بين أبنائه ودعاته، فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، واستنفروا كل طاقاتكم لاستفاضة البلاغ بحقائق الإسلام والتصدي لأباطيل خصومه في إطار من الحكمة والبصيرة، واحذروا أن تخرجكم استفزازات الخصوم إلى أعمال ارتجالية لا تصلح بها الدنيا ولا يقام بها الدين، ولا يفيد منها في نهاية المطاف إلا هؤلاء الخصوم!
وإلى كل من استخفته هذه الدعوة الضالة وتورط في الانحياز لمعسكرها أو الترويح لأباطيلها:
بادروا إلى التوبة إلى الله والإنابة إليه، فإن الله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، جدِّدوا إيمانكم بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا وبمحمد × نبيًّا ورسولاً.
فإن الإيمان بالله ربًّا يقتضي الإقرار بتفرده بالأمر والهداية كما يقتضي تفرده بالخلق والإبداع، مع ما يعينه ذلك من تحكيم وحيه، والتزام الطاعة لأمره ونهيه.
والإيمان بالإسلام دينًا يقتضي الإيمان به عقيدة وشريعة، وأن شريعته هي الحاكمة على كل أفعال العباد حكامًا ومحكومين، أفرادًا وجماعات.
والإيمان بمحمد × نبيًّا ورسولا يقتضي الانقياد لشرعه كما يقتضي التصديق بخبره، وقد أقسم الله على نفي إيمان من لم يتحاكم إلى هدى نبيه × ويسلم له تسليمًا.
ومن قبل ذلك ومن بعده نتوجه إلى الله -جل وعلا- أن يبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعته، ويذل فيه أهل معصيته، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، وأن يقيض لها من يقود مسيرتها إلى الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه...آمين.
-
الخميس PM 06:35
2021-08-19 - 2590