المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 413716
يتصفح الموقع حاليا : 299

البحث

البحث

عرض المادة

مذاهب فكرية معاصرة ( العلمانية )

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

((العلمانية)) هي الترجمة العربية لكلمة ((Secularism , Secularite )) في اللغات الأوروبية . وهي ترجمة مضللة لأنها توحي بأن لها صلة بالعلم بينما هي في لغاتها الأصلية لاصلة لها بالعلم . بل المقصود بها في تلك اللغات هو إقامة الحياة بعيداً عن الدين، أو الفصل الكامل بين الدين والحياة .

تقول دائرة المعارف البريطانية في تعريف كلمة (( Secularism )) .

(( هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس عن الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بالحيـاة الدنيا وحدها . ذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا والتأمل في الله واليوم الآخر. ومـن أجـل مـقاومة هـذه الرغـبة طـفقت   الـ (( Secularism )) تعرض نفسها من خلال تنمية النـزعة الإنسانية ، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية البشرية ، وبإمكانية تحقيق طموحاتهم في هذه الحياة القريبة . وظل الاتجاه إلى الـ ((Secularism )) يتطور باستمرار خلال التاريخ الحديث كله باعتبارها حركة مضادة للدين ومضادة للمسيحية)) (1).

وهكذا يتضح أنه لاعلاقة للكلمة بالعلم ، إنما علاقتها قائمة بالدين ولكن على أسـاس سلبي  أي على أساس نفي الدين والقيم الدينية عن الحياة . وأولى الترجمات بها في العربية أن نسميها (( اللادينية )) بصـرف النـظر عـن دعـوى (( العلمانيين )) في الغرب بـأن (( العلمانية )) لاتعادي الدين ، إنما تبعده فقط عن مجالات الحياة الواقعية: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية .. إلخ

ولكنها تترك للناس حرية (( التدين )) بالمعنى الفردي الاعتقادي ، على أن يظل هذا التدين مزاجاً شخصياً لادخل له بأمور الحياة العملية .

_____________________________________________

* أصل هذا الكتيب فصل من كتاب (( مذاهب فكرية معاصرة )) للشيخ محمدقطب وراينا نشره مستقلا تعميما للفائدة . وقد أذن لنا الشيخ بذلك

(1) Encyc Britanica v. ixp. 19

 

بصرف النظر عن هذا الاعتراض الذي سنناقش مدى حقيقته بالنسبة للـحياة الأوروبية ذاتها ،كما سنناقشه بالنسبة للإسلام لنتبين مدى تطابقه أو عدم تطابقه مع المفاهيم  الإسلامية   فإن (( اللادينية )) هي أقرب ترجمة تؤدي المقصود من الكلمة عند أصحابها  ولكن مع ذلك سنظل نستخذم المصطلح المعروف عند الناس _ مع بيـان بعـده عن الـدقة _ حتى يتفق الكتاب على نبذ هذا المصطلح المضلل ، واستخدام اللفظة الأدق.

 

 *           *            *                                      

 

                نبذ الدين وإقصاوه عن الحياة العملية هو لب العلمانية .

وتبدو نشأة العلمانية في أوروبا أمراً منطقياً مع سير الأحداث هناك، وهذا راجع إلى عبث الكنيسة بدين الله المنـزل ، وتحريفه وتشويهه ، وتقديمه للناس في صورة منفرة ، دون أن يكون عند الناس مرجع يرجعون إليه لتصحيح هذا العبث وإرجاعه إلى أصوله الصحيحة المنـزلة ، كما هو الحال مع القرآن المحفوظ _ بقدر الله ومشيئته _ من كل عبث أو تحريف خلال القرون .

فمن المعلوم أن الإنجيل المنـزل من عند الله لم يدون على عهد المسيح عليه السلام ، إنما تلقاه عنه حواريوه بالسماع ، ثم تشتتوا تحت تأثير الاضطهاد الذي وقع على أصحاب الرسالة الجديدة سواءً من اليهود أو من الرومان ، فلما بدئ تدوينه بعد فترة طويلة من نزوله كان قد اختلط في ذاكرة أصحابه كما اختلطت النصوص فيه بالشروح ، ثم غلبت الشروح على النصوص . . ووقع الاختلاف والتحريف والتصحيف الذي يشير إليه كتاب التاريخ الأوروبي ومؤرخو الكنيسة على السواء ، واستبد رجال الدين بشرح ما سمي الأناجيل ( مع أن المنـزل من عند الله إنجيل واحد لامعنى للتعدد فيه ) ثم استبدوا أكثر بالاحتفاظ بعلم (( الأسرار )) التي نشأت من التحريف والتصحيف والتي لاأصل لها في دين الله المنـزل ، ثم زاد استبدادهم فصار طغياناً شاملاً يشمل كل مجالات الفكر والحياة . طغياناً روحياً وفكرياً وعلمياً وسياسياً ومالياً واجتماعياً . . وفي كل اتجاه .

 

 

 

 

فحين يحدث نفور من الدين مثل هذا الجو فهذا أمر منطقي من سير الأحداث ، وإن لم يكن منطقياً مع (( الإنسان )) في وضعه السوي . فإذا كان الإنسان عابداً بفطرته ، وكان الدين جزءاً من الفطرة أو طبيعة الفطرة ، فإن الإنسان الراشد في مثل الوضع الذي وجدت فيه أوروبا كان ينبغي عليه أن ينبذ ذلك الذين الذي تحوطه كل تلك التحريفات في نصوصه وشروحه ، وكل تلك الانحرافات في سلوك رجاله ، ثم يبحث عن الدين الصحيح فيعتنقه . وقد فعلت أوروبا الأمر الأول فنبذت ذين الكنيسة بالفعل ، ولكنها لم تفعل الأمر الثاني حتى هذه اللحظة إلا أفراداً متناثرين لم يصبحوا بعد (( ظاهرة )) ملموسة . ومن هنا نقول إن الظروف التي أحاطت بالدين في أوروبا تفسر ولاتبرر . . تفسر شرود الناس في أوروبا عن الدين ولكنها لاتبرره . . فإنه لا شيء على الإطلاق يبرر بعد الإنسان عن خالقه ، ونبذه لعبادته على النحو الذي افترضه على عباده ، سواءً بالاعتقاد بوحدانيته سبحانه ، أو بتوجيه الشعائر التعبدية إليه وحده ، أو بتنفيذ شريعته . فهذا التصرف المنحرف من الإنسان الذي نبذ الدين وابتعد عن الله هو الذي قال الله فيه : }  بل الإنسان على نفسه بصيرة . ولو ألقى معاذيره{ (1) أي أنه لايقبل منه عذر فيه !

على أن الذي يعنينا الآن ليس هو محاسبة أوروبا على انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة  فالخلق صائرون إلى ربهم وهو الذي يحاسبهم :

}  فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر . إن إلينا إيابهم ، ثم إن علينا حسابهم{ (2).

ولكن الذي يعنينا هو شرح هذه الانحرافات وبيان الصورة التي حدثث عليها ، والظروف التي أحاطت بها منذ مبدئها حتى صارت إلى ماصارت إليه .

ونخطئ _ من وجهة نظرنا الإسلامية _ إن قلنا إن ( العلمانية ) حدثت فقط بعد النهضة . فالحقيقة من وجهة النظر الإسلامية أن الفصل بين الدين والحياة وقع مبكراً جداً في الحياة الأوروبية ، أو إنه _ إن شئت الدقة _ قد وقـع منذ بـدء اعتناق أوروبـا للمسـيحية  

 

 

 

____________________________________________

(1) سورة القيامة (14-15)      (2) سورة الغاشية (21-26)

 

 

 

 

لأن أوروبا كما أسلفنا قد تلقت المسيحية عقيدة منفصلة عن الشريعة ( بصرف النظر عما حدث في العقيدة ذاتها من تحريف على أيدي الكنيسة ) ولم تحكم الشريعة شيئاً من حياة الناس في أوروبا إلا (( الأحوال الشخصية )) فحسب ، أي أنها لم تحكم الأحوال السياسية ولا الأحوال الاقتصادية ولا الأحوال الاجتماعية في جملتها .وهذا الوضع هو علمانية كاملة من وجهة النظر الإسلامية (1) ولكن الذي تقصده أوروبا بالعلمانية ((Secularism  )) ليس هذا ، لأنها لم تألف الصورة الحقيقية للدين أبداً في يوم من الأيام ! إنما الذي تقصده أوروبا حين تطلق هذه الكلمة هو إبعاد مافهمته هي من معنى الدين عن واقع الحياة ، متمثلاً في (( بعض )) المفاهيم الدينية ، وفي تدخل (( رجال الدين )) باسم الدين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والعلم والأدب والفن . . وكل مجالات الحياة ، ثم إقامة هذا كله بعيداً عن نفوذ الكنيسة من جهة وبعيداً عن مـفاهيم الدين كلها من جـهة أخـرى   بصرف النظر عن وجود الكنيسة أو عدم وجودها .

بعبارة أخرى نقول إن مانبذته أوروبا حين أقامت علمانيتها لم يكن هو حقيقة الدين فهذه كانت منبوذة من أول لحظة , إنما كان بقايا الدين المتناثرة في بعض مجالات الحياة الأوروبية أو في أفكار الناس ووجداناتهم . فجاءت العلمانية فأقصت هذه البقايا إقصاءً كاملاً من الحياة   ولم تترك منها إلاحرية من أراد أن يعتقد بوجود إله يؤدي له شعائر التعبد في أن يصنع ذلك كله على مسئوليته الخاصة ، وفي مقابلها حرية من أراد الإلحاد والدعوة إليه أن يصنع ذلك كله بسند الدولة وضمانتها !

 

 

                                             *         *         *

 

 

 

___________________________________

(1) سنتحدث في هذه النقطة تفصيلا  في نهاية الكتاب

 

 

                                                                  

 

   كيف نشأت هذه العلمانية في أوروبا ؟

أي كيف أقصيت بقايا الدين من الحياة الأوروبية وصارت الحياة (( لادينية )) تماماً في كل مجالاتها العملية ؟

نحتاج أن نتذكر أولاً أنه في الوقت الذي لم يكن للدين الحقيقي وجود في أوروبا _ سواءً في صورة عقيدة صحيحة أو صورة شريعة حاكمة _ كان هناك نفوذ ضخم جداً يمارس باسم الدين في مجال العقيدة وفي مجالات الحياة العملية كلها من قبل رجال الدين ، ويتمثل في حس الناس هناك على أنه هو (( الدين )) .

أى أن الصورة الواقعـية للدين في أوروبـا كانت تتـمثل أولاً في عـقيدة مأخـوذة من (( الأناجيل )) وشروحها تقول إن الله ثالث ثلاثة وإن الله هو المسيح ابن مريم ، وتتمثل ثانياً في صلوات وقداسات ومواعظ واحتفالات تقام في الكنائس يوم الأحد بصفة خاصة ، وتتمثل أخيراً _ وليس آخراً _ في نفوذ لرجال الدين على الملوك وعلى عروشهم إلا بإذن البابا ومباركته ، ولايتولون سلطانهم على شعوبهم إلا بتولية البابا لهم ، وإذا غضب عليهم البابا   غضباً شخصياً لا علاقة له البتة بتحكيم شريعة الله , نبذتهم شعوبهم ولم تذعن لأوامرهم . وأما نفوذهم على عامة الناس فيتضمن أنهم لا يصبحون مسيحيين إلا بتعميد الكاهن لهم   وليس لهم صلاة إلا بحضور الكاهن أمامهم في مكان محدد هو الكنيسة ، ولا يموتون موتاً صحيحاً إلا بإقامة قداس الجنازة لهم على يد الكاهن ، ولايعتقدون إلا مايلقنهم إياه رجال الدين من شؤون العقيدة ، ولايفكرون إلا فيما يسمح لهم رجال الدين بالتفكير فيه ، وعلى النحو الذي يسمحون لهم به ، ولايتعلمون إلا مايسمح لهم رجال الدين بتعلمه ، ولرجال الدين فوق ذلك نفوذ على أموالهم وعلى أجسادهم وعلى أرواحهم .

هذا الدين _ بهذه الصورة _مخالف للدين المنـزل من عند الله في أكثريته . . ولكنه ليس خلواً بالمرة من حقائق الدين ، وهذا شهادة الله فيهم : } ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظاً مما ذكروا به { (1) .

 

 

____________________________________________

(1) سورة المائدة (14)

 

 

ففيه من حقائق الدين أن الله هو الذي خلق الكون كله ، وهو الذي خلق الإنسان على هذه الصورة الإنسانية وجعله عاقلاً مفكراً مريداً ، وكفله الأمانة ، وكفله عمارة الأرض والهيمنة عليها ، وعرفه أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وثواباً وعقاباً يوم القيامة ، وأن هناك جنة وناراً أبديتين يصير الناس إليهما كل بحسب عمله . وفيه من حقائق الدين كذلك أن الله حرم القتل والسرقة والزنا والربا والكذب والغش والخيانة . . وأوجب على الناس في حياتهم أخلاقيات معينة يتقيدون بها في تعاملهم بعضهم مع بعض ، وأن الله شرع الزواج وحرم علاقات الجنس خارجه ، وشرع الأسرة وأوجب صيانتها وجعل للرجل القوامة عليها . . إلى آخر ما يجري هذا المجرى من حقائق الدين .

ولكن الدين المنـزل من عند الله ليس فيه أن الله هو المسيح ابن مريم وأن الله ثالث ثلاثة   وليس فيه أن يشرع رجال الدين ( الأحبار والرهبان ) من عند أنفسهم فيحلوا ويحرموا بغير ما أنزل الله ( كما أحلوا الخمر والخنـزير وأبطلوا الختان ) وليس فيه أن يطلب رجال الدين لأنفسهم سلطاناً يرهبون به الناس ويفرضون عليهم ما أحلوا هم وماحرموا من دون الله ، كما يفرضون عليهم الحضوع الكامل لأهوائهم في الوقت الذي لا يستخدمون فيه سلطانهم الرهيب في فرض شريعة الله على الأباطرة والملوك ليحكموا بها بدلاً من القانون الروماني ، ويكتفون بجعل هذه الشريعة مجرد مواعظ خلقية وروحية من شاء أن يتقيد بها تقيد ومن شاء أن يتفلت منها فلا سلطان لأحد عليه في الأرض ، بينما القانون الروماني يعاقب المخالفون له بالقتل أو الحبس أو ما سوى ذلك من العقوبات !

وليس فيه أن يفرض رجال الدين لأنفسهم _ لا للفقراء والمساكين _ عشور أموال الناس ، ولا السخرة المجانية في أرض الكنيسة .

وليس فيه كل ما فعله رجال الدين من فضائح ومخازٍ ودناءات . . كصكوك الغفران والفساد الخلقي بكل أنواعه ومناصرة الكنيسة للمظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والواقعة على الشعوب!

ولكن أوروبا حين أنشأت علمانيتها نبذت الدين كله ، لم تفرق بين أباطيل الكنيسة وبين حقائق الدين !

 

 

 

وصحيح أن الدين الكنسي _ بحقائقه وأباطيله _ لم يكن صالحاً للحياة ، ولم يكن مقبولاً عند الله } قل ياأهل الكتاب لستم على شيءٍ حتى تقيموا التوراة ولإنجيل وماأنزل إليكم من ربكم  { (1) .

ولكن أوروبا _ كما أشرنا من قبل _ حين نبذت دين الكنيسة الفاسد لم تبحث عن الدين الصحيح ،  الذي يصدق الحقائق ويبطل الأباطيل .

 

                                      *            *           *  

كان الدين الكنسي ذا سطوة عنيفة على كل مرافق الحياة في أوروبا في قرونها الوسطى المظلمة . وكان ذلك أمراً سيئاً شديد السوء ، لا بسبب سيطرة (( الدين )) على الحياة كما خيل لأوروبا بغباء في جاهليتها المعاصرة ، ولكن بسبب سيطرة الفساد الكامن في ذلك الدين الكنسي على كل مرافق الحياة !

ولكي نستيقن من الحقيقة في هذا الأمر ما علينا إلا أن نراجع فترة مقابلة (( وموازية ))   من التاريخ ، كان فيها الدين الصحيح ذا سيطرة عظيمة على كل مرافق الحياة . تلك هي الفترة الأولى من حياة المسلمين التي أمتدت حوالى سبعة قرون من الزمان . فكيف كانت ؟ ! كان الهدى . وكان النور . وكان العلم . وكانت الحضارة التي عرفت أوربا طرفاً منها في الأندلس والشمال الأفريقي . وكان كل جميل من الأفكار والمشاعر وأنماط السلوك برغم كل الانحرا ف الذي طرأ على حياة المسلمين في تلك القرون ، سواء من جانب الحكام أو من جانب المحكومين !

فلم يكن (( الدين )) في ذاته إذن هو مـصدر السوء في الحـياة الأوروبيـة في تـلك الفترة ( ولنذكر أن أسبانيا _ وهي جزء من أوروبا _ كانت مزدهرة في نفس الوقت بتأثير الدين الصحيح ، كما كانت صقلية وغيرها من الأصقاع الأوروبية التي دخل فيها الإسـلام ) إنما كان (( فساد الدين )) هو السبب في ذلك الظلام الذي أكتنف أوروبا في قرونها الوسطى المظلمة الحالكة السواد .

 

___________________________________________

  • سورةالمائدة (68)

 

 

وأوربا لاتحب أن تصدق هذه الحقيقة في جاهليتها المعاصرة _ مع أنها حقيقة موضوعية بحتة يشهد بصحتها كل ما كتبه مؤرخوهم المنصفون عن الحضارة الإسلامية _ لأن مجرد تصديقها معناه أنهم كانوا مخطئين في نبذهم (( الدين )) كله بحجة فساد الدين الذي قدمته الكنيسة لهم ، وأنهم ما زالوا مخطئين إلى هذه اللحظة للسبب ذاته . . وهم لا يريدون أن يرجعوا إلى الدين بأي وسيلة من وسائل الرجوع !

مرة أخرى لانريد أن نحاسب أوروبا على انحرافاتها في مجال الدين والعقيدة ، إنما نشرح فقط خطوات ذلك الانحراف .

كانت سيطرة الدين الكنسي على الحياة الأوروبية في قرونها المظلمة أمراً سيئاً كـما قـلنا _ برغم سيطرة بعض الفضائل الدينية على الحياة وخاصة في الريف الأوروبي _ لأن الدين _ بما حواه من انحرافات جذرية في العقيدة من ناحية ، وفي فصل العقيدة عن الشريعة من ناحية أخرى ، وفي فساد ممثليه من رجال الدين وجهالتهم من ناحية ثالثة _ كان مفسداً  للحياة ومعطلاً لها عن التفكير السليم .

لذلك كان نبذ ذلك الدين والانسلاخ منه أمراً ضرورياً لأوروبا إذا أرادت أن تتقدم وتنحصر وتعيش .

ولكن البديل الذي اتخذته أوروبا بدلاً من دينها لم يكن أقل سوءاً إن لم يكن أشد ، وإن كان قد أتاح لها كل العلم والتمكن المادي الذي يطمح إليه البشر على الارض ، تحقيقاً لسنة من سنن الله التي تجهلها أوروبا وتجهل حكمها ، لأنها لا تؤمن بالله ومانزل من الوحي :

}فلما نسوا ماذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيءٍ، حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون { (1).

نعم ! لم تكن العبودية للأحبار والرهبان من البابوات ورجال الدين أمراً صالحاً للحياة ولو كانوا هم أنفسهم من الصالحين ، لأن العبودية لاتصح إلالله وحده ، ولاتصلح الحياة إلا إذا كانت لله وحده .

 

_________________________________________

(1) سورة الأنعام (44)

 

فكيف وهؤلاء الأحبار والرهبان على ما كانوا عليه من الفساد والجهالة والبعد عن حقيقة الدين ؟!

} اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلاهو سبحانه عما يشركون {(1).

ولم يكن الدين الذي يحوي كل ذلك القدر من الأساطير ، ويحارب العلم ويحجر على الفكر   ويفصل بين الدنيا والآخرة فيهمل الدنيا وينبذها من أجل الخلاص في الآخرة ، ويحتقر الجسد ويعذبه من أجل خلاص الروح ، ويبيح في الوقت نفسه للإقطاعيين أن يمتصوا دماء الفلاحيين ويكتنـزوا بها ويترفوا ويفسدوا، ويخذل الفلاحين عن الثورة على هذا الظلم بحجة الحصول على رضوان الله وجنته في الآخرة إن رضوا بالمذلة والظلم في الحياة الدنيا … لم يكن ذلك الدين ليسمح للحياة بالتقدم ، وهو يلفها بأغلفة سميكة من الظلام.

ويقول التاريخ _ الذي تكره أوروبا الاعتراف به إلا القلة المنصفة إن أوروبا بدأت تخرج من ظلمات الوسطى المظلمة حين احتكت بالمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، سواء في الحروب الصليبية أو البعوث التي بعثتها للتعلم في مدارس المسلمين في الأندلس بصفة خاصة، وفي صقلية وغيرها من البلاد التي نورها الإسلام .

بل تقول الروايات التاريخية إن رجال الدين المسيحي أنفسهم كانوا يتعاطون الثقافة الإسلامية في تلك المدارس ، أوفيما ينقل منها إلى اللغات الأوروبية ، وإنهم كانوا يترقون في مناصب الإكليروس بقدر ما يحصلون عليه من تلك الثقافة (2).

ويقول روجر بيكون ( في القرن الثالث عشر الميلادي ): (( من أراد أن يتعلم فليتعلم العربية لأنها هي لغة العلم )) .

ولقد وجدت أوروبا حين احتكت بالمسلمين عالماً عجيباً بالنسبة إليها ، ليس فيه بابوات ولارجال دين ! وليست فيه أسرار عقيدية يختص بعلمها فريق من الناس دون فريق  . .

 

 

__________________________________________

 (1) سورة التوبة (31)          (2) أنظر كتاب (( المستشرقون)) لنجيب العقيقي، ج1 ص113-120

 

وليس فيه (( نبلاء! )) يستعبدون الناس دون فريق . . وليس فيه حجر على العقول أن تفكر ، ولاحجر على العلم أن يبحث ويجرب وينشر أبحاثه على الناس .

يقول (( راندال )) في كتابه (( تكوين العقل الحديث )) ( ترجمة جورج طعمه ج1 ص314 من الترجمة العربية ):

وبنوا ( يقصد المسلمين ، وإن كان يستخدم لفظة (( العرب )) تحاشياً لذكر المسلمين !) في القرن العاشر في أسبانيا حضارة لم يكن العلم فيها مجرد براعة فحسب ، بل كان علماً طبق على الفنون الصناعات الضرورية للحياة العملية ، وعلى الإجمال كان العرب يمثلون في القرون الوسطى التفكير العلمي والحياة الصناعية العلمية اللذين تمثلهما في أذهاننا اليوم ألمانيا الحديثة )).

ويقول ليوبولد فايس ( محمد أسد ) في كتابه (( الإسلام على مفترق الطرق)) ( ترجمة عمر فروخ ص39-40 من الترجمة العربية ):

إن العصور الوسطى قد أتلفت القوى المنتجة في أوروبا . . كانت العلوم في ركود  وكانت الخرافة سائدة ، والحياة الاجتماعية فطرية خشنة إلى حد من الصعب علينا أن نتخيله اليوم   في ذلك الحين أخذ النفوذ الإسلامي في العالم _ في بادىء الأمر بمغادرة الصليبيين إلى الشرق   وبالجامعات الإسلامية الزاهرة في أسبانيا المسلمة في الغرب ، ثم بالصلات التجارية المتزايدة التي أنشأتها جمهوريتا جنوة والبندقية _ أخذ هذا النفوذ يقرع الأبواب الموصدة دون المدينة العربية )).

(( وأمام تلك الأبصار المشدوهة ، أبصار العلماء والمفكرين الأوروبين ، ظهرت مدنية جديدة ، مدنية مهذبة راقية خفاقة بالحياة ، ذات كنوز تقافية كانت قد ضاعت ثم أصبحت في أوروبا من قبل نسياً منسياً . ولكن الذي صنعه العرب كان أكثر من بعث لعلوم اليونان القديمة . . لقد خلقوا لأنفسهم عالماً علمياً جديداً تمام الجدة . . لقد وجدوا طرائق جديدة للبحث وعملوا على تحسينها ، ثم حملوا هذا كله بوسائط مختلفة إلى الغرب . ولسنا نبالغ إذا قلنا إن العصر العلمي الحديث الذي نعيش فيه لم يدشن في مدن أوروبا النصرانية ، ولكن في المراكز الإسلامية : في دمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة )).

 

 

 

وتعلمت أوروبا كل العلم الذي وجدته عند المسلمين ، كما أخذت كثيراً من الأصول الحضارية التي وجدتها عندهم (1) ولكنها لأمر ما رفضت أن تأخذ الإسلام ، رغم السماحة الهائلة التي لمسها المسيحيون من المسلمين في الأندلس ! وارتدت من جاهلية الدين الكنسي المحرف إلى جاهلية ماقبل ذلك الدين ، الجاهلية الإغريقية الرومانية Greco-Roman لتنشئ على أساسها جاهلية جديدة متقدمة كل التقدم في العلم والتكنولجيا ( على أساس العلم الذي أخذته من المسلمين ، والمنهج التجريبي في البحث العلمي الذي استمدته منهم ) ومنتكسة أشد الانتكاس فيما عدا ذلك من جوانب الحياة .

من الإغريق أخذت عبادة العقل وعبادة الجسد في صورة جمال حسي .

ومن الرومان أخذت عبادة الجسد في صورة متاع حسي ، وتزيين الحياة الدنيا بكل وسائل العمارة المادية إلى أن يستغرق الإنسان في المتاع وينسى (( القيم )) التي تكو الإنسان . كما أخذت شهوة التوسع الحربي واستعباد الأمم الضعيفة لحساب الدولة (( الأم )) في صورة إمبراطوريات .

والمهم _ بالنسبة لبحثنا الحاضر _ أنها بدأت تنبذ الدين !

 

 

                               *             *             *

 

 

قامت النهضة على أسس معادية للدين من أول لحظة .

قامت على أصول (( بشرية )) بدلاً من الأصول الدينية أو الإلهية كما كانت تصورها لهم الكنيسة .

كان الدين الذي قدمته لهم الكنيسة على أنه الدين الإلهي ديناً  لا يقيم وزناً للحياة الدنيا   بل يحتقرها ويزدريها ويدعو إلى إهمالها وعدم الالتفات في سبيل الحصول على (( الخلاص ))

 

انظر كتاب (( شمس الله تشرق فوق الغرب )) تأليف الكاتبة الالمانية زيجريد هونكة ، وانظر فصلاً بعنوان ( المسلمون في أسبانيا) فنونهم وصناعتهم وما كان لهم من فضل في ثقافة أوروبا في العصر الحديث بقلم ج.ب.ترندG.B.Trend من 729-760 من الترجمة العربية لكتاب (( تاريخ العالم )) نشر وزارة التربية والتعليم المصرية  .

خلاص الروح ، الذي لا يمكن الوصول إليه إلا بالتجرد من متاع الأرض ، والاستعلاء على مطالب الجسد ، والتطلع إلى ملكوت الرب الذي يتحقق في الآخرة ولاسبيل إلى تحقيقه في الحياة الدنيا . ومن ثم فإن (( حركة التاريخ )) ومحاولة تصحيحها بتصحيح حـركة المجتمع

كـما يقـول ولفـلرد كانـتول سميت Wilfred Cantwell Simth td   في كتاب ( الإسلام في التاريخ الحديث Islam in Modern History  ) : (( لم تكن في حساب الكنيسة المسيحية لا أيام ضعفها في القرون الأولى ولاحين أصبح لها السلطان))(1). إنما يسعى كل إنسان إلى خلاصه الشخصي ، كالذي يسير على معبر دقيق كل همه أن يشمر ثيابه ويلتفت إلى مواقع قدميه حتى لا ينـزلق أو يتلطخ بالوحل ، لا يهمه أن يصحح مواضع أقدام الآخرين أو يقيهم من الانزلاق .

ومن هنا فإن هذا الدين في صورته الكنسية تلك لم يكن يسعى إلى تحسين أحوال البشر على الأرض ، أو إزالة المظالم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تقع عليهم ، وإنما يدعو إلى الزهد في الحياة الدنيا برمتها ، وترك كل شيء على ما هو عليه ، لأن فترة الحياة الدنيا أقصر وأضأل وزناً من أن يحاول الإنسان تعديل أوضاعه فيها . إنما يسعى جاهداً إلى الخلاص منها دون أن يعلق بروحه شيء من الآثام . والمتاع ذاته هو من الآثام التي يحاول المتطهرون النجاة منها بالرهبنة واعتزال الحياة .

بل أكثر من ذلك : إن احتمال المشقة في الحياة الدنيا ، واحتمال ما يقع فيها من المظالم هو لون من التقرب إلى الله يساعد على الخلاص . ومن ثم دعت الكنيسة الفلاحين للرضا بالمظالم التي كانت تقع في ظل الإقطاع وعدم الثورة عليها لينالوا رضوان الله في الآخرة  وقالت لهم : (( خدم سيدين في الحياة الدنيا خير ممن خدم سيداً واحداً ))!

ومن جهة أخرى كان هذا الدين يحصر كيان الإنسان في نطاق محدود محصور أشد الحصر   ليبرز جانب الألوهية في أكمل صورة .

_________________________________________

(1) ص30- الطبعة الاولى ،سنة 1957م

 

 

 

 

ألوهية الله في ذلك الدين معناها السلبية الكاملة للإنسان ، وحصر دوره _ لا في العبادة بمعناها الواسع ،أي على النحو الذي قرره الإسلام ، والذي يشمل عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني _ إنما في الخضوع لقدر الله القائم ، وعدم العمل على تغيير شيء من الواقع المحيط بالإنسان ، لأن محاولة التغيير _ ولو إلى الأحسن _ تحمل في طياتها (( عدم الرضا )) بالأمر الواقع ، وهو لون من التمرد على إرادة الله لا يقره ذلك الدين .

ومن ثم فإن فاعلية الإنسان محصورة في الطاعة للأوامر الإلهية _ كما تعرضها الكنيسة  بالحق أو الباطل _ لا تتعداها إلى الإنشاء لأنه ليس للإنسان أن ينشئ شيئاً من عند نفسه ، ولو كان يلتزم في هذا الإنشاء بالهدى الرباني . ومن ثم كذلك كان ثبات الأوضاع في أوروبا في العصور الوسطى لفترة طويلة من الزمان بكل ماتحمل من ألوان الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري والروحي . . على أساس أنها قدر الله الذي لا يجوز للناس تغييره إنما ينبغي الخضوع له والمحافظة عليه تقرباً إلى الله !

 

*            *               *                                       

هذا الـدين بصورته تلك لم يكن هو الدين المنـزل من عند الله ، ولم يـكن _ كما أسـلفنا _ صالحاً للحياة . كان لابد من نبذه والانسلاخ منه لكي تسير دفعة الحياة في خطها الصحيح .

ولقد كان على مقربة من أوروبا _ بل في جزء من أرضها _ دين آخر يقدم المنـهج الصحيح للحياة . فلا هو دين أخروي بحت بمعنى إهمال الحياة الدنيا ، ولا هو الدين الذي يفرض السلبية الكاملة على الإنسان ، ويفرض عليه الخضوع (( للأمر الواقع )) وعدم التفكير في تغييره .

إنه دين يعمل للآخرة من خلال العمل في الدنيا (( الدنيا مزرعة الآخرة )).

 

 

 

 

 

ويبين أن العمل للآخرة لايعنى إهمال الحياة الدنيا }  وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا { (1) . } قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصةً يوم القيامة {( 2) .

وهو دين يعمل لإصلاح الحياة الدنيا بإقامة المنج الرباني الذي يأمر بالعدل والقسط ، كما يدعو إلى الجهاد لإقامة هذا المنهج ومنع الانحراف عنه، ذلك الانحراف الذي يؤدي إلى فساد الحياة وإلى وقوع الظلم على الناس :

} لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط ، وانزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس ، وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز{ (3).

وهو دين يجعل للإنسان إيجابية واسعة في الأرض .

فقد خلقه الله ابتداءً ليكون خليفة في الأرض :

}وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة { (4).

ومن شأن الخلافة الهيمنة على الأرض والسيطرة عليها ، والإنشاء والتعمير فيها ، واستغلال الطاقات المذخورة في السماوات والأرض ، التي سخرها الله للإنسان من أجل عمارة الأرض ، والمشي في مناكب الأرض لاستخلاص الأرزاق المكنونة فيها الظاهرة :

}  وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه { (5).

} هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه { (6).

بل إن المنهج الرباني ذاته يستدعي إيجابية الإنسان لتنفيذه ، فهو لا ينطبق انطباقاً آلياً على الأحداث والأشياء ، بل الإنسان المستبصر بالهدي الرباني هو الذي يطبقه ويجتهد بفكره ليضع تفصيلات تنفيذه ، خاصة وهو منهج حياة كامل ، يشمل الثابت والمتغير في حياة الإنسان ، فلابد أن يجتهد على الدوام ليضع للمتغير حلاً مستمداً من المبائ الثابتة في هذا المنهج .  .

______________________________________________

(1) سورة القصص77             (2) سورة الأعراف32      (3) سورة الحديد25        (4) سورة البقرة 30

 (5) سورة الجاثية 13              (6) سورة الملك 15

 

 

ومن ثم يعمل الإنسان بإيجابيته الكاملة في التنفيذ ، سواءً إيجابية العزيمة اللازمة لإقـامة المنهج والجهاد لإقراره في الأرض ، أو إيجابية التفكير في الوسيلة المثلى لإقامته .

بل إن قدر الله ذاته يجرى من خلال أعمال الإنسان بالخير والشر سواء :

} ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون {(1).

} وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون {(2).

} ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون {(3).

}إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا مابانفسهم{(4).

وهذا الدين الذي يعطي التوازن الصحيح بين الدنيا والآخرة وبين فاعلية قدر الله وفاعلية الإنسان وبين العبودية الكاملة لله والإيجابية السوية للإنسان ، هو الدين الصحيح الذي تصلح به الحياة في الأرض ، وتستقيم به خطى البشر في الحياة الدنيا (5).

ولكن أوروبا _ بدافع العصبية الصليبية _ أعرضت عن هذا الدين واتجهت إلى الجاهلية الإغريقية الرومانية ، تنتقم بها من الكنيسة ودينها الفاسد الذي يهمل الحياة الدنيا ويلغي الوجود الإيجابي للإنسان.

وإذ كانت النهضة في مجموعها (( رد فعل )) للكبت الواقع على (( الإنسان )) بفعل التصور الكنسي للدين ، والممارسة الكنسية له ، وإذ كان الغالب على ردود الفعل هو الاندفاع لا التعقل ولا التبصر ولا الروية ولا الاتزان . . فقد اندفعت أوروبا في نهضتها تنـزع من طريقها كل معلم من المعالم الإلهية ( سواءً كانت إلهية حقاً أومدعاة من قبل الكنيسة ) وتضع مكانها معالم بشرية من صنع الإنسان ، كما تنـزع من طريقها كل ما يتصل بالآخرة لتضع بدلاً منه ما يتصل بالحياة الدنيا . . وكانت هذه هي بداية (( العلمانية )) بالتعريف الأوروبي.

___________________________________________

 (1) سورة الروم 41 (2) سورة النحل112 (3) سورة الأعراف96 (4) سورة الرعد11 (5) أنظر فصل التوازن في كتاب خصائص التصور الاسلامي

 

 

*           *             *

لقد أصبح الطابع المميز للفكر الأوروبي منذ النهضة هو التمرد على الدين والتمرد على الله ، وكان ذلك نابعاً من تأثيرين في آن واحد. التأثير الأول هو روح الفعل الذي قام ضد الدين والكنيسة ، والثاني هو تأثير الجاهلية الإغريقية في هذا الشأن بالذات . فأما رد الفعل فقد أخذ صورة الخروج علىكل ماكان سائداً من قبل في فترة السيطرة الكنسية . كان السائد هو ألا يفكر الإنسان لنفسه في شيء من الأشياء إنما يأخذ الأفكار جاهزة من الكتب المقدسة وشروحها عن طريق رجال الدين ، سواءً كانت الأفكار متصلة بالعقيدة أو بأمر من أمور الدنيا ، أوحتى أمور العلم كقضية شكل الأرض .

وغني عن البيان أن هذا ليس الموقف الصحيح للإنسان في ظل الدين الصحيح ، ولكن هكذا كانت الممارسة الدينية في ظل الجاهلية الكنسية المنحرفة ، والتي من جرائها كان لرجال الدين كل ذلك النفوذ على عقول الناس وأرواحهم ، فهم الوسطاء بين الناس وبين الدين ومفاهيمه ، بل هم الوسطاء بين الناس وبين الله ، والناس _ علماء أوغير علماء _  لا يبحثون في أي شأن من الشؤون ليكونوا فيه رأياً أوموقفاً . إنما يسألون رجال الدين ليدلوهم على الرأي أو الموقف الذي ينبغي عليهم اتخاذه . هذا بالإضافة إلى أن الأمور التي يسألون عنها هي أولاً وقبل كل شي أمور (( الخلاص )) , الخلاص من أدران الحياة الدنيا للحصول على رضوان الله في الآخرة .

وكان رد الفعل أن الإنسان هو الذي ينبغي أن يستشار في الأمور كلها وليس الدين ، وأن العقل البشري هو الذي ينبغي أن يكون صاحب القرار وليس الله . . ولو كان الأمر متعلقاً بالعقيدة أو الأمور الأخروية . وبمقدار ما كان العقل مكبوتاً ومحجوراً عليه ، انطلق هذا العقل يريد أن يقتحم كل ميدان ولو كان خارجاً عن اختصاصه ! يقتحمه بروح أنه هو صاحب الحق الذي كان ممنوعاً من حقه فهو يريد أن يؤكد هذا الحق . ويقتحمه بروح الشك ، أو روح المحو لكل ما كان موجوداً من قبل ولم يشترك فيه ، فهو يريد أن ينشئه من جديد، سواء وافق ما كان موجوداً من قبل أوخالفه ، والأجدر به أن يخالفه لكي يثبت وجوده.

 

 

 

بهذه الروح بدأ الكتاب و(( المفكرون الأحرار )) يهاجمون فكرة الألولهية وينفون الرسالات والوحي ، وينفون الحياة الآخرة والجنة والنار. . ويقولون إن هذه كلها أوهام تبنتها البشرية في غيبة من العقل، والآن وقد صحا العقل فقد آن الأون لنبذها وتركها للهمج المتأخرين . وربما كان خير ممثل لهذا الاتجاه هو (( فولتير )) الكاتب الفرنسي الملحد المشهور .

أما التاثير الثاني الذي أشرنا إليه فهو تأثير الجاهلية الإغريقية التي تصور العلاقة بين البشر والآلهة علاقة صراع وخصام لا يفتر :

الآلهة تريد أن تقهر الإنسان وتكبته وتحطمه لكي لا يطمح في أن يكون مقتدراً مثلها، فلا تفتأ كلما حقق نجاحاً أن تصب الكوارث فوق رأسه لكي لا يستمتع بثمرات نجاحه، وهو من جانبه دائم التحدي للآلهة ، كلما وقع في حفرة من حفائرها عاد يستجمع قواه ليصارعها من جديد . وتكفي أسطورة بروميثيوس الشهيرة لبيان هذا المعنى بصورة مباشرة ، إذ تزعم تلك الأسطورة أن (( زيوس)) إله الآلهة خلق الإنسان من قبضة من طين الأرض ثم سواه على النار المقدسة ( التي ترمز إلى المعرفة ) ثم وضعه في الأرض محاطاً بالظلام ( الذي يرمز إلى الجهل ) فأشفق عليه كائن أسطوري يسمى بروميتوس ، فسرق له النار المقدسة لكي ينير له ماحوله ، فغضب زيوس على الإنسان وعلى بروميثيوس كليهما . فأما بروميثيوس فقد وكل به نسراً يأكل كبده بالنهار ثم تنبت له كبد جديدة بالليل يأكلها النسر بالنهار في غذاب أبدي !

وأما الإنسان فقد أرسل له زيوس (( باندورا )) ( التي ترمز إلى حواء ) لكي تؤنس وحشته ( في ظاهر الأمر ! ) وأرسل معها هدية عبارة عن علبة مقفلة ، فلما فتحها إذا هي مملوءة بالشرور التي قفزت من العلبة وتناثرت على سطح الأرض لتكون عدواً  دائماً وحزناً للإنسان !

ويشير جوليان هكسلي إشارة صريحة إلى هذه الأسطورة في كتاب (( الإنسـان في العـالم الحديثMan in the modern world   ))

فيقول إن موقف الإنسان الحديث هو ذات الموقف الذي تمثله هذه الأسطورة فقد كان الإنسان يخصع لله بسبب الجهل والعجز .

 

 

والآن بعد أن تعلم وسيطر على البيئة فقد آن له أن يأخذ على عاتق نفسه ماكان يلقيه من قبل في عصر الجهل والعجز على عاتق الله ، ويصبح هو الله !!

من هذين التأثيرين معا انطلق الفكر (( المتحرر)) يهاجم الدين ، ويصفه بأنه الأغلال التي تغل الفكر عن الانطلاق ، والتي ينبغي أن تحطم لكي يثبت الإنسان وجوده ، ويقوم بدوره الذي يجب أن يقوم به في الأرض !

*           *            *                                         

وفي نفس الوقت اتجه الفكر المنسلخ من الدين إلى البحث عن مصدر آخر للقيم الإنسانية غير الدين ! ذلك أن أوروبا لم تكن قد انسلخت بعد من القيم ذاتها كما حدث فيما بعد   حين امتد الخط المنحرف فازداد بعداً وانحرافاً ، أو لم تكن قد سنحت الفرصة للشريرين أن يعلنوا الحرب المنظمة على كل مقومات (( الإنسان )) كما سنحت لهم بعد ظهور الداروينية وإعلان حيوانية الإنسان !

ففي تلك الفترة وجد (( الفكر الحر ! )) أنه إن أقر بأن الدين هو مصدر القيم الإنسانية فقد وجب عليه أن يحافظ عليه ولا يهاجمه ولا يسعى إلى تحطيمه ! فينبغي إذن أن يبحث ذلك الفكر عن مصدر آخر يستمد منه القيم ويسندها إليه، لكي لا يقول أحد إنه لا يمكن الاستغناء عن الدين ! وعلى هذا الضوء يمكننا فهم فلسفة (( أوجست كومت )) من ناحية , وأفكار جان جاك روسو من ناحية أخرى .فكلاهما يجهد نفسه ليقول للذين يقفون مدافعين عن الدين : ها قد وجدنا مصدراً آخر تنبع منه القيم الضرورية لحياة الإنسان غير الدين   وجدناه في (( الطبيعة)) وفي (( النفس البشرية )) وهو مصدر أفضل _ في إثبات القيم وترسيخها _ من الدين . . فدعونا إذن من الدين ، وتعالوا معنا إلى تلك المصادر (( الحرة )) التي يقبل عليها الإنسان إقبالاً(( طبيعياً )) (( وذاتياً )) دون أن يحس بالقهر المفروض عليه من قوة أعلى منه !

وفي الوقت ذاته اتجه هذا (( الفكر المتحرر)) إلى عبادة الطبيعة بدلاً من عبادة الله ، ونسبة الخلق إليها بدلاً من الله .

 

 

 

وفي ذات الوقت كذلك اتجه الفن إلى مناجاة الطبيعة بدلاً من مناجاة الله وتأليهها بدلاً من تألية الله (1).

*            *           *

ومضى الزمن في خطواته ، وجاءت الثورة الصناعية . . وجاء مزيد من إبعاد الدين عن الحياة .

ففي العهد الزراعي _ أو الإقطاعي كما يسمونه _ كان ما يزال للدين نفوذ كبير في حياة الناس.

كان الملوك قد استقلوا عن سطان البابا، وقامت (( علمانية الحكم )) بفصل الدين عن السياسة ( أي إقصاء رجال الدين عن التدخل في شؤون السياسة ) ولكن الكنيسة كان ما يزال لها سطان ضخم على أخلاق الناس وعاداتهم وأفكارهم رغم كل الصراعات وكل الاعتبارات .

ولكن الثورة الصناعية أحدثت _ أو أريد لها أن تحدث _ هزات عنيفة في حياة الناس . فقد عملت هذه الثورة على إخراج المرأة إلى العمل وإفساد أخلاق الرجل معها ، واستغلال قضية المساواة مع الرجل في الأجر لبث روح الصراع في نفس المرأة وإحراج صدرها من قوامة الرجل والعمل في البيت والتفرغ للأمومة ، ومانتج عن ذلك كله من تحطيم الأسرة وتشريد الأطفال والفوضى الجنسية . . إلخ ونسبة ذلك إلى التطور الذي يهدم ما يشاء من القيم ويلغي ما يشاء !

وكانت الطامة العظمى هي الداروينية وإبعاد الإنسان ذاته من عالم الإنسان وإلحاقه بعالم الحيوان ! فعندئذ لم تعد هناك حاجة إلى القيم أصلاً . . لا الدين ولا الأخلاق ولا التقاليد المستمدة من الدين .

 

_______________________________________________

ليست مناجاة الطبيعة في ذاتها انحرافاً عن السلوك القويم في عالم الفن . بل العكس هو الصحيح . فالفن السليم لا بد أن يلتفت إلى الطبيعة ويتفاعل معها . ولقد لفت القرآن الكريم حس المسلمين لفتاً شديداً إلى الطبيعة  في شتى مظاهرها من الجبال والأنهار والوديان والزروع والرعد والبرق والسحاب والمطر والريح والسماء والارض .. ولكن المناجاة شيء والتألية الذي مارسته الفنون الأوروبية العلمانية شيء آخر.

 

 

 

 

 

فما حاجة الإنسان إلى شيء من ذلك وهو عريق في الحيوانية مستقر في عالم الحيوان ؟!

ثم أتى على الإنسان حين من الدهر لم يعد حتى حيواناً ! بل هبط عن ذلك دركات فأصبح جزءاً من عالم المادة الصماء !

*          *             *                                     

 

لم نكن هنا نستعرض خطوات العلمانية بالتفصيل ، فسيأتي شيء من ذلك فيما بعد حين نتحدث عن علمانية السياسة وعلمانية الاقتصاد والاجتماع والعلم والأخلاق والفن . . ولكن أردنا فقط أن نلفت النظر إلى حقيقة واقعة هي استمرار (( الإنسان )) في الهبوط كلما أمعن في السير على الخط العلماني .

وأياً تكن الأسباب التي أدت بأوروبا إلى العلمانية فهي كما قلنا من قبل تفسر العلمانية ولاتبررها ، ولا تبرر بالطبع نتائجها التي أدت إليها ، والتي بدأ المفكرون الغربيون أنفسهم يتنبهون إليها وينذرون نتائجها ، ولكن دون أن يعرجوا على السبب الحقيقي ولا العلاج الحقيقي !

ولئن كانت الكنيسة هي المعتدية على الملوك والعلماء في بادئ الأمر ، مما أسفر عن العداء بين الدين والسياسة وبين الدين والعلم ، فلم تكن هي المعتدية ولا المتسببة حين أقامت الثورة الصناعية اقتصادياتها على الربا ولجت فيه ، وحين سقطت (( الأخلاق )) واحداً إثر الآخر حتى الأخلاق التي أقرها (( المفكرون الأحرار)) في مبدأ عهدهم وهم يناصبون الكنيسة العداء ، ويبحثون عن مصدر آخر للقيم غير الدين !

إنما استمرأ القوم الفوضى الخلقية وأمعنوا فيها لا للـدوافع القديمة التي دفعتهم للخروج على الدين أول مرة ، ولكن لأن هذه هي طبيعة السير على المنـزلق . . كل خطوة تصبح أشد هبوطاً من السابقة .  وهذه طبيعة الحياة حين يكف الناس عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . . يزداد المنكر وينتفش ويستفحل حتى يصبح هو الأصل ، أو حتى يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم . . ومن أجل ذلك لُعِنَ الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان دواد وعيسى ابن مريم :

 

} لعن الذين كفرو من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون {(1).

ويجدر بنا الآن على أي حال أن نستعرض الصورة الراهنة للعلمانية في أوروبا في مجالات الحياة المختلفة ، لا على أنها الصورة الأخيرة التي ستقف عندها ! فقد لا تقف عند هذا الحد من السوء ، وإن لم يكن في وسع الخيال أن يتصور ما هو أسوأ، ولكن لنقيس المسافة بين الأصل الذي كان ينبغي وبين ما وصلت إليه الأمور حين قال الإنسان لنفسه : لقد شب الإنسان عن الطوق ولم يعد في حاجة إلى وصاية الله !

1_ في السياسة :

لم تكن السياسة من أول عهدها في الإمبروطورية الرومانية محكومة بالشريعة المنزلة من عند الله ، وإن وقعت لفترة من الوقت تحت سلطان البابوات ورجال الدين ، يفرضون على المملوك أن ينـزلوا على إرداتهم على أعتبار أن إرداتهم من إرادة الله .

فقد بينا من قبل أن الفصل بين الدين والسياسة كان قائماً من أول اعتناق الدولة الرومانية للمسيحية ، إذ اعتنقتها عقيدة فقط ، ولم تأخذ من الشريعة إلا ما يتعلق بالأحوال الشخصية   وبقيت الأمور الجنائية والأمور المدنية وعلاقة الحاكم بالمحكوم وغيرها من شؤون الحياة الواقعة يحكمها القانون الروماني ولا تحكمها الشريعة المنـزلة في التوراة والمعدلة تعديلاً جزئياً بالإنجيل :

(2).{ ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم }  

 }وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ،ومـن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هـم الفاسـقون {(3)

ولكن الكنيسة مع رضاها بهذا الأمر _ المخالف لأمر الله _ في أيام ضعفها ، لم تحـاول في أيام سلطانها وسطوتها أن تعود إلى الموضع الديني الصحيح ، فتلزم الملوك والأباطرة أن يحكموا بما أنزل الله ، وهي تمارس عليهم من السلطان ما لا يستـطيعون معه مخالفـتها أو

_______________________________________________

(1) سورة المائدة 78-79        (2) سورة آل عمران 50     (3) سورة المائدة 47

 

 

 

الخروج على أمرها ، بل استغلت سلطانها في إخضاعهم لأهوائها الخاصة ، بينما تركتهم يحكمون بغير ما أنزل الله وهي راضية عنهم كل الرضا ماداموا يخضعون لأوامرها ، وهذا هو الذي تسميه أوروبا الحكم الديني أو الثيوقراطي وما أبعده عن الدين !

صحيح أن إخضاع الكنيسة الملوك والأباطرة لأهوائها الذاتية كان يتم باسم الدين وتحت شعاراته , ولكن هذا لايكفي لاعتباره حكماً دينياً مادام لايحكم بما أنزل الله . ولكن الحس الأوروبي المضطرب يخلط بين الدين ورجال الدين نتيجة اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله ، واعتبار أعمالهم وأقوالهم أعمالاً دينية وأقوالاً دينية ولو كانت بعيدة كل البعد عن حقيقة الدين !

مهما يكن من أمر فقد استطاعت الكنيسة بنفوذها أن تجعل الملوك والأباطرة طوع إرادتها . وأعلن البابا (( نقولا الأول )) (858-867م) بياناً قال فيه : (( إن ابن الله أنشأ الكنيسة بأن جعل الرسول بطرس أول رئيس لها . وإن أساقفة روما ورثوا سلطات بطرس في تسلسل مستمر متصل . . ( ولذلك ) فإن البابا ممثل الله على ظهر الأرض يجب أن تكون له السيادة العليا والسلطان الأعظم علىجميع المسيحيين حكاماً كانوا أو محكومين )).

وأعلن البابا جريجـوري السابع ( تولى البابوية 1073-1085 م ) (( إن الكنيسة بوصفها نظاماً إلهياً خليقة بأن تكون صاحبة السلطة العالمية ، ومن حـق الـبابا وواجـبه   – بصفته خليفة الله في أرضه – أن يخلع الملوك غير الصالحين وأن يؤيد أو يرفض اختيار الحكام أو تنصيبهم حسب مقتضيات الأحوال)).

ولم يكن ذلك كلاماً في الهواء ، إنما كان واقعاً عاشته أوروبا عدة قرون . .

وأبرز الأمثلة التي يرويها التاريخ الأوروبي ما حدث بين (( جريجوري السابع )) هذا والإمبراطور الألماني (( هنري الـرابع )) إذ أن خـلافاً نشـب بينـهما حـول مسـألة (( التعيينات )) أو مايسمى (( التقليد العلماني )) فحاول الإمبراطور أن يخلع البابا ، ورد البابا بخلع الأمبراطور وأصدر قرار حرمان ضده ، كما أحل أتباعه وأمراء مملكته من ولائهم له وألبهم عليه . فعقد الأمراء مجمعاً قررو فيه أنه إذا لم يحصل الإمبراطور على المغفرة لدى وصول البابا إلى ألمانيا فإنه سيفقد عرشه إلى الأبد ، فوجد الإمبراطور نفسه مضطراً إلى استرضاء البابا، ولم يستطع أن ينتظر حتى يصل البابا إلى ألمانيا فسافر إليه في (( كانوسا )) وظل واقفاً في الثلج في فناء القلعة ثلاثة أيام في لباس الرهبان متدثراً بالخيش حافي القدمين عاري الرأس حتى تعطف عليه البابا ومنحه مغفرته !

وفي بريطانيا حصل نزاع بين الملك (( هنري الثاني)) وبين (( توماس بكت)) رئيس أساقفة كنتربري بسبب دستور رسمه الملك يقضي علىكثير من الحصانات التي يتمتع بها رجال الدين ، ثم إن رئيس الأساقفة اغتيل فثارت المسيحية على هنري الثاني ثورة عنيفة ، فاعتزل الملك في حجرته ثلاثة أيام لايذوق فيها الطعام، ثم أصدر أمره بالقبض على القتلة وأعلن للبابا براءته من الجريمة وألغي الدستور ، ورد إلى الكنيسة كل حقوقها وأملاكها ومع ذلك لم يحصل على المغفرة حتى جاء إلى كنتربري حاجاً مظهراً ندمه ، وسار الأميال الثلاثة الأخيرة من الطريق على الحجر الصوان حافي القدمين حتى دميت قدماه ، ثم استلقى على الأرض أمام قبر رئيس الأساقفة المقتول وطلب من الرهبان أن يضربوه بالسياط ، وتقبل ضرباتهم وتحمل كل الإهانات في سبيل استرضاء البابا وأتباعه))(1).

ولكن الملوك والأباطرة أخذوا آخر الأمر يتمردون على ذلك السلطان القاهر الذي تستذلهم به الكنيسة ، ويطالبون (( بالسلطة الزمنية)) خالصة لهم على أن تقتصر الكنيسة على السلطة الروحية فحسب وكان مستندهم في ذلك نظرية الحق الإلهي المقدس .

يقول رندال ( ج1-ص277 من الترجمة العربية لكتاب (( تكوين العقل الحديث)) :

(( نشأت نظرية الحق الإلهي للملوك في أول عهدها كمحاولة لتحرير الحكومة المدنية ، أوالعلمانية من رقابة البابا والكهنة . كما أنها كانت رداً على دعواه أن له حقاً إلهياً في السيطرة على الأمور الزمنية )).

ونظرية الحق الآلهي تستند بدورها إلى نظرية رومانية قديمة تعرف بنظرية العقد الاجتماعي .

يقول راندال ( ج1-ص281 من الترجمة العربية من المصدر السابق ) :

(( تعود أصول فكرة العقد الاجتماعي إلى الفكر الروماني وفكر القرون الوسطى معاً .

 

 

 

__________________________________________

 

(1) عن كتاب (قصة الحضارة) لول ديورانت ترجمة محمد بدران ج15- ص194-197

 

 

 وقد كانت الإمبراطورية الرومانية – كما ضمنت في مجلة الحقوق المدنية – على القول بأن كل السلطة وكل حق في وضع القوانين يعودان للشعب الروماني ، غير أن الشعب تنازل بموجب قانون شهير هن هذه الحقول للإمبراطور ، وهو تفسير طبيعي لمجرى التاريخ الروماني   فجميع حقوق الشعب الروماني وجميع سلطاته انتقلت إلى الإمبراطور ، وله وحـده حـق (( إصدار)) القوانين وحق تفسيرها . وعندما تم إحياء القانون الروماني في القرون الوسطى  انتبه الإمبراطور إلى هذه النظرية واتخذها سلاحاً ضد سيطرة الكنيسة ، ثم تبعه في ذلك جميع الأمراء . وهكذا نشأت نظرية العقد الاجتماعي القائلة بأن كل سلطة مدنية ترتكز في أساسها على الشعب ، وأن الشعب قد حولها إلى الحاكم ليمكنه من القيام ببعض الوظائف الضرورية . ومن الواضح أنها نظرية ذات حدين . . فقد تفسر لتأكيد سلطة الحاكم الشاملة باعتباره مصدر جميع السلطات، أو لتأكيد سيادة الشعب الأساسية باعتباره المصدر الأخير لتلك السلطة . . . )) .

وكان (( مكيافيللي )) و (( هوبز )) من أشهر المدافعين عن الحق الآلهي المقدس ، وعن استبدادية الحكام .

ويهمنا مكيافيللي هنا أكثر ، لأنه علم على اتجاه معين في السياسة الأوروبية نلاحظ آثاره بشدة في أوروبا العلمانية المعاصرة .

هناك حقيقة أكدناها مراراً أن الحكم بما أنزل الله لم تعرفه أوروبا المسيحية في أي يوم من الأيام ، وأن علمانية الحكم – بهذا المعنى – قائمة في أوروبا منذ اعتنقت المسيحية. ولكن هذا لم ينف- كما بينا مراراً كذلك – أنه كان للكنيسة ورجالها نفوذ شخصي على الملوك والأمراء طيلة اجتماع السلطة الزمنية والسطلة الروحية في يد الكنيسة . وفي تلك الفترة لم يكن الحكم دينياً بالمعنى الصحيح – وإن سمته أوروبا كذلك – لأنه لم يكن يحكم بما أنزل الله لامن قبل الملوك والأمراء ولا من قبل الكنيسة المسيطرة عليهم . ومع ذلك فقد كان هذا النفوذ الديني الذي تمـارسه الكـنيسة على الحاكم يـلزم هـؤلاء الحـكام بشيء مـن (( أخلاقيات )) المسيحية رضوا أم كرهوا ، عن إيمان حقيقي أم عن ملق للروح المسيحية ونفاق .

 

 

وليس معنى ذلك أن الحكام التزموا دائماً بتلك الأخلاقيات المسيحية ، فكثيراً ماكانوا يخالفونها ، ولكنهم كانوا يحسون بالحرج من مخالفتها ، ويعتذرون دائماً عن المخالفة بشتى المعاذير .

فالذي صنعه مكيافيللي هو تعريه (( السياسة )) من ذلك القناع الأخلاقي المستمد من الدين ، وكشفها عارية من كل أثر للدين أو الأخلاق!

جاء يشرع الجريمة السياسية ويجعلها أصلاً ينبغي للحكام أن يتبعوه !

ولقد كان الحكام – إلا من رحم ربك – يسيرون في سياستهم على أساس أن الغاية تبرر الوسيلة ، والغاية طبعاً هي غايتهم هم ! ولكنهم كانوا – حين يستخدمون الوسائل غير النظيفة لتحقيق غايتهم غير النظيفة – يستترون وراء عبارات براقة تحوى كل نبيل من القيم والمبادئ والأخلاقيات ، أما مكيافيللي فإن الجديد الذي أتى به- وهو خطير في ذاته أنه أعطى الوسائل الخسيسة في السياسة شرعية صريحة لامواربة فيها ولا إنكار.

ولقائل أن يقول : وماذا أضاف مكيافيللي من عنده إلى الواقع ؟ ألم يكن الواقع خسيساً في غايته ووسائله ؟ فكل ما فعل مكيافيللى أنه كان صريحاً بالدرجة التي كشف بها القناع عن الواقع المزيف وجعله حقيقة واقعة !

نعم : ولكن الفارق- العملي – كبير!

وقد لا يتضح الفرق في البداية لأن البداية تكون مجرد مطابقة النظرية للواقع الموجود . ولكن الفارق يتبين – ويزداد – مع التطبيق .

حين ترتكب المنكر وأنت شاعر بأنه منكر ، فستقتصد في ارتكابه فلا تلجأ إليه إلا تحت ضغط قاهر ، وستقف في ارتكابه عند الحد الذي ترى أنه لا يطيح بسمعتك كلها أمام الناس وقد تحاول الرجوع عنه في يوم من الأيام , أما حين يكتسب المنكر في حسك الشرعية فلماذا تقتصد في ارتكابه ، ولماذا تقف عند حد من الحدود ؟!

إنها هي ذاتها حكمة وقوع اللعنة على الذين لا يتناهون عن منكر فعلوه . . لأنهم لا يقـفون في ارتكاب المنكر عند حد معلوم .

وحقيقة إن كتاب ((الأميرة )) الذي ألفه مكيافيللى وأعطى فيه الشرعية للوسائل الخسيسة التي يستخذمها الحاكم من كذب وغش وخديعة وقتل وسفك دماء . . قد قوبل باستنكار

 

عنيف وقت ظهوره ، لأن أوروبا – كما أسلفنا – كانت نافرة من الدين منسلخة منه   ولكنها ماتزال تعترف (( بالقيم )) وتحاول الحفاظ عليها، ولكن بشرط العثور على منبع آخر لها غير الدين . . ومن ثم ظهرت عدة نظريات تحاول أن تجعل للحكم (( أخلاقاً )) ولكنها غير مستمدة من الدين ، كما فعل جان جاك روسو في حديثه عن نظرية العقد الاجتماعي وأوجست كومت في فلسفته الوضعية .

ولكن المنـزلق (( العلماني )) كان لابد أن يأخذ طريقة . . فمنذ استقلت السياسة عن الدين واستقلت عن الأخلاق المستمدة من معين الدين ، لم يكن من الممكن أن تظل لها أخلاق!

والقرن – الجاهلي العشرون خير نموذج لما نقول ، فقد قامت في هذا القرن أبشع دكتاتوريات التاريخ!

ونظرة إلى ما وقع في أيام موسولينى وهتلر ، وما وقع في الدول الشيوعية منذ الثورة الشيوعية حتى اليوم ، كفيلة بأن ترينا إلى أي مدى انحدرت السياسة (( العلمانية )) في تبرير الوسيلة بالغاية ، وكلتا الوسيلة والغاية ما أنزل بها من سلطان !

في فاشية موسولينى ونازية هتلر كانت الغاية هي التجمع القومي والعزة القومية وإحلال قومية كل منها مكانها (( تحت الشمس ))!

وفي سبيل هذه الغاية ( التي قد تكون مشروعة في ذاتها إذا خلت من العدوان عـلى الآخرين ) استباح كل من الرجلين أن يقتل ألوفاً ومئات الألـوف من المعـارضين باسـم (( حركات التطهير )) و((وحدة الصف )) (( والقضاء على الثورةالمضادة )) و(( القضاء على الطابور الخامس )) وما أشبه ذلك من التعلات ، وفتحت معسكرات التعذيب ، وذاق الشعب كله ويلات الجاسوسية والإرهاب.

وفي الثورة الشيوعية كانت الغاية إزالة الظلم (! ! ) الذي يقع على الناس من جراء الملكية الفردية والصراع الطبقي واستئثار الطبقة المالكة بالحكم والسلطان والمنافع على حساب الطبقة الكادحة ! وإقامة العدل(!) بالوسائل النبيلة (!) التي تدعيها هذه الثورة ، ومن بينها

 

 

 

ذبح ثلاثة ملايين ونصف مليون من المسلمين في عهد رجل واحد . . وإخضاع الشـعب كله لألوان من الإرهاب نادرة في التاريخ!

أما الديمقراطية الليبرالية الرأسمالية فهي التي تبيح احتراف المعارضة واحتراف التأييد بحسب موضع كل حزب من الحكم :هل هو بداخله أم خارجه ، بصرف النـظر عن الحق والعدل والمصلحة الوطنية أو القومية . . وتوبيح الكذب من الساسة على شعوبهم في الدعاية الانتخابية ( وغير الانتخابية ) وتبيح استخدام وسائل استراق السمع بحجة المحافظة على الأمن ، وهي تقوم أساساً  على مساندة الطبقة الرأسمالية في امتصاص دماء الكادحين وإن أخرجت ذلك كله في مسرحية طريفة أسمها (( الحرية والإخاء والمساواة ! وهذا كله في السياسة الداخلية . .

أما في السياسة الخارجية فالأمر أدهى وأمر .

فالقرن الجاهلي العشرون هو الذي شهد أبشع حالات قانون الغاب : القوي يأكل الضعيف!

في حربين عالميتين متتاليتين شهد الناس أفظع فنون العدوان في التاريخ ، من غازات سامة وقنابل محرقة وتدمير جماعي وقتل للنساء والأطفال والشيوخ والمدنيين غير المحاربين . . إلى أن كانت القمة قنبلتى هيروشيما ونجازاكي الذريتين ، اللتين ما تزالان حتى اليوم بعد أكثر من أربعين سنة من إلقائها تنتجان أجنة مشوهة بفعل الإشعاع الذري السام ، وذلك غير الخراب المدمر الذي أحدثتاه وقت إلقائهما في مساحة كبيرة من الأرض قتلتا فيها كل من عليها من الأحياء من البشر والدواب والشجر ، وحرمتا الحياة فيها لأجل غير معلوم !

والقنبلة الذرية لعبة صغيرة إلى جوار المدمرات التي اخترعت بعد ذلك والتي تهدد الحياة في أي حرب تالية تقوم بين الوحوش ويصلاها الآدميون !

وذلك إلى إباحة الكذب الدولي والخيانة على أنها عملة (( شرعية )) في عالم السياسة الدولية! 

تبرم المعاهدات لكي تنقض! ويعلم المبرمون جميعاً أنها حبر على الأوراق ! وأنه لن يتقيد بها أي طرف إلا ريثما يجد الفرصة السانحة للخروج عليها وإلقائها طعمة للنيران !

 

 

 

وتتكون عصبة للأمم وهيئة للأمم كلتاهما ستار للسياسة العدوانية التي تتخذها (( الدول العظمى )) ضد الدول الصغار! وأنظر موقف هيئة الأمم (( الموقرة )) من أية قضية يكون المسلمون طرفاً فيها أمام غير المسلمين ! يقع العدوان على المسلمين في أي مكان في الأرض فتمرره الهيئة الموقرة باحتجاج شفوي على أقصى تقدير لا يغير شيئاً من الواقع ولايسمن ولايغنى من جوع!

ويقع الدفاع من المسلمين ضد أي عدوان واقع عليهم فتجند هيئة الأمم قواتها لتأديب المدافعين! لأنهم تجرءوا فردوا على المعتدين!

وذلك بخلاف الوسائل الفردية التي تستخدمها (( الدول العظمى !)) بطريقها المباشر لتنفيذ (( غاياتها )) النبيلة !

حين قامت ثورة المجر سنة 1956 ميلادية وجدت روسيا في نفسها من (( النبل )) ماتحرك به الدبابات الشاهقة تهدم به البيوت على أصحابها أحياء وتردمهم في الركام لأنهم تجرءوا فطلبوا أن يمنحوا حرية التصرف بأنفسهم في أمر أنفسهم دون وصاية الدولة الروسية عليهم. . فهل تقاوم الردة إلا بالقتل الجماعي ؟! إلا أن تكون ردة عن دين الله! فما أشد همجية المقاتلين يومئذ إذا قاموا يقاتلون المرتدين ويدعونهم إلى الرجوع في دين الله !

كذلك حين قام الأفغانيون يقولون نريد أن تكون لنا الحرية في أن نكون مسـلمين ! فـما (( أنبل )) الجيوش الروسية التي تصب فوقهم القنابل السامة وقنابل النابالم والتدمير الجماعي للقرى وتحريق المزروعات من الجو وحرب الجراثيم وكل محرم في عرف (( الإنسان)) . .

أما المخابرات الأمريكية فالأرض كلها مجال لمؤامراتها بغير حساب. .

نريد انقلابا هناً . . ونريد تغيراً هناك ! وسرعان ما تنقلب الأرض وتتغير الأحوال وكل الوسائل حلال ! الكذب والغش والتصفية الجسدية وشراء الضمائر بالمال ! المهم أن تنفذ الغاية . . والغاية والوسيلة كلتاهما غارقة في الأوحال !

يقول كاتب غربي مشيراً إلى هذه الحقائق بلسان ساخر:

 

 

 

 

(( بعض الناس يقض مضاجعهم ما يقترفه العالم الرأسمالي من جرائم وآثام ، فيظلون عمياً لايرون جرائم البلشفية وإفلاسها . . وكثير منهم يستغلون نقائض العالم الغربي ليصرفوا الانتباه عن فظائع موسكو البشعة . . أما أنا فأقول : لعن الله كليهما )) (1).

 

2- في الاقتصاد:

لم يكن النظام الإقطاعي متمشياً مع الدين الرباني في صورته ومضمونه ولاكانت فـيه أي ذرة من العدل ، وإن كانت الكنيسة أوهمت الناس أنه هو النظام الرباني الدائم الثابت الذي لايتغير، لأن أوضاع الناس فيه هي الأوضاع التي قدرها الله منذ الأزل ورضي عنها   واقتضت مشيئته أن يظل الناس عليها إلى الأبد ! وأنه من رضي بما فيه من هوان ومذلة وشظف ومشقة فقد استحق من الله الجنة والرضوان!

ولكن الناس حين خرجوا من الدين على خط العلمانية لم يستبدلوا بالإقطاع ماهو خير منه ، سواء في الرأسمالية أو الشيوعية ، بل ظلوا ينتقلون من جاهلية إلى جاهلية حتى هذه اللحظة ، وكلما حاولوا أن يصلحوا الظلم جاءوا بظلم جديد . وهذا هو شأن البشر دائماً حين يشرعون لأنفسهم ويرفضون الهدى الرباني ، ينقسمون أولاً إلى سادة وعبيد، سادة في أيديهم المال والسلطان ، يشرعون وحين يشرعون فإنهم يضعون القوانين التي تضمن مصلحتهم وتسخر الآخرين لهم ، وعبيد ليس في أيديهم مال ولا سلطان ، فلا يشرعون ، إنما يقع عليهم ما يضعه السادة من تشريعات ، ويسخرون – رضوا أم أبو- لمصلحة أصحاب السلطان . . ومن جهة أخرى يصيبهم الخبل والاضطراب والتخبط نتيجة القصور البشري والجهل البشري والعجز عن الإحاطة والعجز عن رؤية المستقبل الذي ينبني على الحاضر ، نعم ولكنه مع ذلك غيب لا يمكن التنبؤ به عن يقين .

 

 

____________________________________________

(1) من كلام (( لويس فيشر )) في كتاب (( الصنم الذي هوى )) ( ترجمة فؤاد حمودة) ص274 من الترجمة العربية ، عن كتاب العلمانية تأليف : سفر عبدالرحمن الحوالي.

 

 

 

 

 

ولم يكن الإقطاع نظاماً ربانياً ، ولاكانت فيه ذرة من عدل . . ولكن النفوذ الذي كان للدين على القلوب – مع كل ماكان في ذلك الدين من تحريفات ، وفي أهله فساد- كانت له جملة من الآثار في أهل الريف الأوروبي الذي يعيش في ظل الإقطاع . فمن جهة كان عند الناس (( أخلاق يتعاملون بها ، مستمدة من تعاليم ذلك الدين ، وكانت هذه الأخلاق أبرز ما تكون في قضية العفة الجنسية وقدسية الرباط المقدس بين الزوجين ، وكانت كذلك تشمل حسن الجوار وترابط أفراد المجتمع عن طريق التزاور والمجاملات الاجتماعية ، ومن جهة أخرى كان في نفوس الناس رضى وقناعة تجعل الحمل العصبي الذي يعانونه محتملاً في النهاية رغم سوء الأحوال الاقتصادية إلى أقصى حد . . وما بنا أن ندافع عن الظلم المتمثل في الإقطاع، ولاحتى عن الرضى الذليل الذي كانت الكنيسة تطلبه من الفلاحين مقابل الوعد بنعيم الآخرة ، فإن الدين الصحيح يطلب ألا يقبل الناس أن يحكموا بغير ما أنزل الله . ولكنا نقرر واقعاً تاريخياً كان قائماً بالفعل بخطئة وصوابه ، لنقيس به الواقع التاريخي الذي تلاه على خط العلمانية حين خرج الناس من نفوذ ذلك الدين. . فقد بقي الظلم – من حيث المبدأ - كما هو ، ولكن ذهبت الأخلاق ، وذهب الرضى من نفوس الناس! وأصبح الحمل العصبى الذي يعانونه أبشع من أن يطاق! فانتشر الجنون والقلق والانتحار والحالات العصبية والنفسية وإدمان الخمر والمخدرات والجريمة .

لم تكن (( المكيافيللية )) في الحقيقة مقصورة على عالم السياسة , إنما كانت ديناً جديداً حـل محل الدين المخلوع ! الغاية تبرر الوسيلة . لا في السياسة فقط ، ولكن في الاقتصاد والاجتماع كذلك . . في كل شيء تدخل فيه الوسائل والغايات . .

يقول (( سول )) في كتاب (( المذاهب الاقتصادية الكبرى )) ( ترجمة الدكتور راشد البراوي ،ص50-51 من الترجمة العربية ) عن الفترة التي نبذ فيها الدين ولكن ظلت بقايا القيم – قبل اندثارها – يبحث الناس لها عن سند غير الدين :

(( سيطرت فكرة الآخرة على المذاهب السائدة خلال العصور الوسطى وإن لم تسيطر على العادات والتقاليد ، والمجال الدنيوي بما فيه الحياة الإنسانية نفسها ليس سوى مكان يستعد فيه الناس للحياة بعد الموت بما تشتمل عليه من ثواب وعقاب فكان على المرء أن يتحمل

 

 

الألم وهو عالم أنه ليس إلا مقدمة لما يتوقع في حياة مستقبلية .. أما الدافع الفكري على تقويم العادات الاجتماعية أو زيادة الرفاهية الدنيوية فكان ضئيلاً ، اللهم إلا من حيث الفائدة الروحية التي يمكن اجتناؤها.

 والآن تحول الاهتمام فأصبح محصوراً في تحسين الحياة على الأرض وكشفت العلوم والمخترعات عن إمكانات الأرض لذاتها ، لقد كانت المكاسب المادية ظاهرة في كل شيء   وكان لا حد لها من حيث وجود أساليب أفضل وأيسر لإنتاج الأشياء ، وسرت روح المغامرة .

(( وهنا برز السؤال التالي : أليس في وسع الفلسفة أن تعالج النظم البشرية بنفس الطريقة التي تدرس بها الأشياء المادية ؟.

(( وكان الجواب بالإمكان . ذلك أن المطلوب إنما هو تطبيق العقل على الأساليب التي يستخذمها الناس كيما يعيشوا ( في الأصل : كيما يعيشون ) معاً ، وراح الكثيرون يصوغون الخطط والمشروعات التي تكفل قيام الحياة المثالية أو اليوتوبيا.

وصار لزاماً على الذين نبذوا الإيمان بالله كلية أن يبحثوا عن بديل لذلك ، ووجدوه في الطبيعة .. أما الذين ضلوا على استمساكهم بالدين ولو باللسان – وإن لم يكن في الواقع كما هو أغلبهم – فقد اعتقدوا أن الله يعبر عن إرادته عن طريق الطبيعة وقوانينها وليس بوسيلة مباشرة . وبذلك لم تعد الطبيعة مجرد شيء له وجود فحسب ، وإنما هو شيء ينبغي أن يطاع ، وصارت مخالفتها دليلاً على نقص في التقوى والأخلاق)).

ويقول واندال في كتاب (( تكوين العقل الحديث)) (ج2، ص468 من الترجمة العربية ) عن الفترة التالية التي تم فيها الانسلاخ من القيم كلها بعد فقدان معينها الحقيقي وهو الدين:  

(( هكذا كان العلم ( يقصد علم الاقتصاد السياسي ) يبدوا في الظاهر محاولة مجردة عن المصلحة ، للوصول إلى فيزيا اجتماعية للثورة لكنه كان في الحقيقة تبريراً منظماً للمطالب التي تهدف إلى زيادة حرية جمع المال وتستعين بالعلوم الجديدة البشرية والطبيعية )).

 

 

 

ويقول (( روبرت داونز )) في كتاب (( كتب غيرت وجه العالم )) ( ترجمة أحمد صادق وزميله ، ص73 من الترجمة العربية ):

(( النظرية الأساسية في كتاب ثروة الأمم (1) نظرية ذات نزعة مكيافللية ، وهي أن العامل الأول في نشاط الإنسان هو المصلحة الشخصية ، وأن العمل على جمع الثروة ماهو إلا مظهر من مظاهرها . وبذلك قرر أن الأنانية والمصلحة الشخصية تكمن وراء كل نشاط للجنس البشري . وصارح الناس باعتقاده أنها ليست صفات ممقوتة يجب الابتعاد عنها ، وإنما هي على العكس عوامل تحمل الخير إلى المجتمع برمته . وفي رأيه أنه إذا أريد توفير الرفاهية للأمة فلابد من ترك كل فرد يستغل أقصى إمكانياته لتحسين مركزه بشكل ثابت منظم دون تقيد بأي قيود . فللحصول على غذائنا لا نعتمد علىكرم الخمار(2) أو الخباز أو الجزار وإنما هم يقدمونه لنا بدافع من مصلحتهم الشخصية ، وإنا عندما نخاطبهم لا نتجه إلى ما فيهم من دوافع إنسانية ، وإنما نتجه إلى مصلحتهم المادية ولا نكلمهم عن احتياجاتنا ، بل عما يعود عليهم من نفع وفائدة )) .

هذه الصورة المادية البحتة هي التي شكلت روح الرأسمالية ورسمت سمات الحياة في ظلها ففقد الناس آدميتهم بالفعل وصاروا إلى ذلك المسخ الذي يعيش اليوم في الغرب الرأسمالي .

ينقل كنث لن في كتابه (( تطور المجتمع الأمريكي )) ( ترجمة نعيم موسى –ص112 من الترجمة العربية ) من كلام جورج فيتزهيو ، أحد الذين ساءهم وضع الرأسمالية في نهاية القرن الماضي مما يلي :

(( إننا جميعاً في الشمال والجنوب نعمل في تجارة الرقيق الأبيض . وبقدر نجاح الشخص فيها يزداد احترامه . . وهذه التجارة أشد قسوة من تجارة الرقيق الأسود لأنها تفرض المزيد من العمل على عبيدها . . وفي الوقت الذي لا تحميهم فيه ولا تسوسهم برفق تفاخر بأنها تفرض المزيد ( أي من العمل )

 

 

 

 

 

  • كتاب ثروة الأمم من تأليف (( آدم سميت )) فيلسوف الرأسمالية وإمامها الفكري وقد كان له دور هائل في الغرب
  • لاحظ أثر الجاهلية في اعتبار الخمار واحداً من مقدمي الغذاء .. بل في مقدمتهم !

 

 (( نعم إنه ( أي العامل ) بعد انتهاء عمل اليوم يصبح حراً ، إلا أنه يظل يرزح تحت عبء العناية بعائلته وبيته ، مما يجعل حريته سخرية جوفاء باطلة ، في حين يبقى رب العمل حراً بالفعل، ويستطيع أن يتمتع بالأرباح التي جناها من عمل الآخرين دون اهتمام بمصلحتهم ورفاهيتهم )).

أما ما تلى تلك الفترة حتى اليوم في العالم الرأسمالي فمعروف لا يحتاج إلى بيان . . ففوارق الدخل بين العمال وأصحاب رؤوس الأموال فوارق بشعة إلى حد مذهل . . ولايأتي هذا الربح المتضخم إلا من الوسائل الخسيسة التي تستخدمها الرأسمالية لتحقيق غاياتها الخسيسة  وكلها محرم في دين الله :

  • الربا..
  • أكل مال الأجير وعدم توفيته حقه ..
  • إفساد فطر الناس وأخلاقهم ليقبلوا على منتجات ليس فيها فائدة حقيقية لهم ولكنها تدر على الرأسماليين أرباحاً طائلة لا تدرها المنتجات الجادة التي يحتاج إليها الناس حقاً في حياتهم النظيفة المستقيمة .
  • وأخيراً الاحتكار .

والنتيجة الأخيرة التي تحققها الرأسمالية العلمانية من طرفيها المتمثلين في أصحاب رؤوس الأموال والعمال ، هي الفساد الخلقي الفاحش ، والقلق العصبي الذي يؤدي إلى الانتحار والجنون والخمر والمخدرات والجريمة وتفكك الأسرة وتشريد الأطفال والهبوط المستمر بالإنسان إلى عالم الآلة وعالم الحيوان . .

أما الشيوعية فربما كانت أسوأ بديل عرفته البشرية إلى اليوم . .

حقيقة إن الشيوعية هي النظام الجاهلي الوحيد – حتى اليوم - الذي فرض على الدولة كفالة كل فرد يعيش في ظلها ، ولكن ذلك لم يكن كرماً إنسانياً منها ، فهي تأخذ مقابل ذلك جهد الفرد كله  (( ومن لا يعمل لا يأكل )) على الحقيقة لاعلى المجاز . ثم إن الدولة

 

 

 

 

 

تستذل الناس بلقمة الخبز على نحو غير مسبوق في كل النظم التي مرت بها الجاهلية البشرية على الأقل في التاريخ الحديث .

وربما كان من الحق أن الناس كانوا دائماً في جاهليات التاريخ مستذلين بلقمة الخبز   يبيعون مقابلها بعض كرامتهم ، أو كلها وبعض إنسانيتهم أو كلها . ولكن النظام البوليسي الصارم الذي يحكم الناس بالحديد والنار والتجسس ، ويمنع الناس بالرعب والإرهاب أن يفتحوا أفواهم بكلمة نقد واحدة ضد الدولة أو الزعيم المقدس أو المذاهب أو النظام . . إنه ليفرض على الناس – مقابل لقمة الخبز – قدراً من الذل ومن ضياع الكرامة الإنسانية لا مثيل له – في نوعه ودرجته – في كل النظم التي تزعم أنها نظم (( حضارية )) على مدار التاريخ !

وهذا فوق التفرقة الضخمة في كل جانب من جوانب الحياة بين أن يكون الإنسان مجرد فرد في القطيع ، وبين أن يكون عضواَ في الحزب ولو في أسفل درجاته فضلاً على الدرجات العليا.

يقول (( ميليوفان دجيلاس )) نائب الرئيس (( تيتو)) في كتاب (( الطبقة الجديدة )):

(( إن الطبقة البيروقراطية الشيوعية الجديدة صاحبة الامتيازات الضخمة تستخذم جهاز الدولة كستار وأداة لتحقيق مآربها وأغراضها الخاصة . . وإذا ما عدنا لدراسة الملكية فإننا سنجدها ليست أكثر من حقوق الربح وحرية السيطرة . وإذا ما اتجه المرء إلى تحديد ربح الطبقة من خلال هذه الحقوق في إطار تلك الحرية فإن الدولة الشيوعية تتجه في النهاية إلى خلق شكل جديد من أشكال الملكية وخلق طبقة حاكمة مستثمرة جديدة .

 (( إن الطغيان الشيوعي والإرهاب في أساليب الحكم هما الضمانة لامتيازات طبقة جديدة تبرز على المسرح السياسي .

(( لقد سبق أن أعلن ستالين عام 1936م مع صدور الدستور الجديد للاتحاد السـوفيتي أن الطبقة المستثمرة قد تم القضاء عليها نهائياً . . وفي الحقيقة لقد تم في  المعسكر الشيوعي القضاء التام على قوى الرأسمالية الوطنية التي استؤصلت تماماً من الجذور ولكن مع زوالها بدأت تبرز في صلب المجتمع الشيوعي طبقة جديدة لم يسبق للتاريخ أن رأى لها مثيلاً .

 

 

(( ولقد أكدت هذه الطبقة أنها أكثر تسلطاً في الحكم من أي طبقة أخرى ظهرت على مسرح التاريخ ، كما أثبتت في الوقت نفسه أنها تحمل أعظم الأوهام ، وأنها تكرس أعتى أساليب الظلم في مجتمع طبقي جديد .

(( لقد تم تأميم المقدرات المادية إلا أنه لم يجر توزيعها على أبناء الشعب ، بل أصبحت ملكاً مكتسباً للطبقة الحاكمة وللأعضاء القياديين للحزب والبيروقراطيين السياسيين .

(( لقد حاز الأعضاء الكبار من أفراد النخبة الممتازة أفضل المساكن والبيوت كما شيدت لهم الأحياء الخاصة ومنازل الاصطياف ، وحصل أمناء سر الحزب ورؤساء البوليس السري ليس على السلطة العليا وحسب ، إنما على أجمل المساكن وأفخم السيارات وسواها من مظاهر الأبهة والعظمة والامتيازات ، أما بقية الأعضاء من دونهم فقد حازوا امتيازات متناسبة مع مراكزهم الحزبية .

(( وليس هناك أية طبقة أخرى في التاريخ تشابه الطبقة الجديدة في وحدة تماسكها ووحدة الفكر والعمل في دفاعها عن نفسها ، وفي قدرتها على إحكام القبضة على كل ما هو واقع تحت سيطرتها من الملكية الجماعية حتى السلطة الاستبدادية المطلقة))(1).

وأما (( الأخلاق)) في ظل الاقتصاد العلماني الشيوعي فيقول عنها لينين : (( يجب على المناظل الشيوعي الحق أن يتمرس بشتى ضروب الخذاع والغش والتضليل . فالكفاح من أجل الشيوعية يبارك كل وسيلة تحقق الشيوعية )) (2).

ولسنا نقول : إن هناك (( أخلاقاً )) أفضل منها في ظل الاقتصاد العلماني الرأسمالي . كلاهما بلا أخلاق ، كلا المعسكرين يهبط بالإنسان إلى مرتبة الحيوان . فإذا كان هناك فارق بين الحيوانات السائبة والحيوانات المقيدة داخل الحظيرة فهو الفرق بين التسييب والتقييد . . وليس فارقاً في (( نوع )) الحيوان. .

 

 

 

 

 

  • مقتطفات من الكتاب من صفحات 51،54،78،81،83،84 ماخوذة من كتاب ( العلمانية ) لسفر عبدالرحمن الحوالي. وهو من أحسن ماكتب في موضوع العلمانية .
  • عن كتاب (( اشتراكيتهم وإسلامنا)) تأليف بشير العوف ( ص 37 ).

 

3- في الاجتماع :

كان الإقطاع ظالماً كما قلنا، ولكن بعض الجوانب الاجتماعية فيه كانت تحكمها أعراف مستمدة من روح الدين . . ومن ذلك كله الحفاظ على الأسرة ، والزواج المبكر  وقوامة الرجل وقيامة بالإنفاق ، واستقرار المرأة في بيتها وتفرغها للأمومة وتدبير المنزل ورعاية النشء ، ومحافظتها على عرضها قبل الزواج وبعده ، واعتبار ذلك جزءاً من مقومات الأسرة وركناً أساسياً من أركانها ، والتعاون بين أفراد المجتمع. . وما إلى ذلك من العلاقات الاجتماعية القائمة على وصايا الدين . .

ولكن ذلك كله لم يعجب المنسلخين من الدين فقرروا تغييره، وإنشاء بديل منه لا يقوم على أساس الدين !

كان التغيير في المبدأ هو تغيير (( السند )) أو (( المنبع )) مع محاولة المحافظة على شيء من الأخلاق أي البحث عن منبع آخر للـقيم الاجتـماعية غـير الـدين . . فليـكن هو (( الطبيعة )) أو يكن هو (( النفس الإنسانية )) ذاتها . . المهم ألايكون المنبع هو الدين   ولا يكون المرجع الذي تستمد منه القيم هو الوحي الرباني !

ولكن القيم لم تكن لتستمر في فاعليتها بعد أن تنقطع عن معينها الحقيقي وهو الدين والوحي الرباني .

ثم إن الهزات العنيفة التي أحدثتها الثورة الصناعية جاءت والقيم مهتزة بالفعل ، قائمة على غير أساس حقيقي يقيها من الهزات . فإذا  أنهارت هذه القيم سريعاً فلا عجب . . وإذا أفلح الشريرون في هدمها بوسائلهم الشريرة بعد أن استعصت عليهم خلال عدد متطاول من القرون فلا عجب كذلك . . فالجدار القائم على غير أساس ينتظر من يهزه ليسقط إذا لم يتداع من تلقاء نفسه ، بينما الجدار القائم على أساس متين لا يتزلزل إلا بالجهد الجهيد.

جاءت الثورة الصناعية (( فحررت المرأة )) أي استعبدتها (( والرجل كذلك )) لأغراضها الخاصة . وكانت (( أغراضها )) قدراً من الشر لا يخطر على بال إنسان .. تحررت المرأة فتحللت من القيود كلها ، وفي مقدمتها قيود الدين وقيود الأخلاق ، وطالبت بالمساواة

 

 

الكاملة مع الرجل فرفضت أن يكون قيماً عليها لأن القوامة لا تصلح بين الأنداد! واشتغلت فانشغلت عن مهمتها الأولى في تربية النشء . . وتفككت الأسرة وانحل البيت وتشرد الأطفال ، وتكونت منهم عصابات جانحة ترتكب الجرائم لمجرد سد الفراغ .

وانحلت روابط المجتمع فصار كل إنسان يعيش وحده .. حتى الأسرة .. الزوج له عمله ومغامراته ، والزوجة لها عملها ومغامراتها .. والأولاد يغادرون البيت في سن معينة ولا يعودون بعد ذلك ، ولا يربطهم بالأب والأم رباط ، إلا زيارات خاطفة في مناسبات متباعدة في أحسن الأحوال .. ويكبر الأبوان في تلك العزلة الباردة فلا يجدان من يطرق عليهما الباب .. فينشدان سلواهما في الكلاب !

وانتشر الشذوذ لأسباب كثيرة ، من بينها – كما يقولون هم بأفواهم – رفض المرأة للقوامة وضياع سيطرة الأب ..

وفي جانب آخر من الأرض قامت (( فلسفة )) بشرية مغايرة وإن كانت تشترك مع سابقتها في كثير من السمات ! تشترك معها في إخراج المرأة من البيت وشغلها عن الأسرة والأولاد . وتشترك معها في تحطيم كيان الأسرة . وتشترك معها في حل روابط المجتمع .

ولكنها تختلف عنها في الطريقة !

في الأولى يتم تحطيم المجتمع عن طريق تضخيم الفرد وجعله هو الأساس . فيتحطم المجتمع نتيجة المبالغة في إحساس الفرد بذاتيته الزائدة عن الحد .

وأما الثانية فتجعل المجموع هو الأساس لا الفرد ، فتسحق الفرد من أجل المجموع ، ثم تعود فتحطم المجتمع نتيجة تحويله إلى مجموعة من الأصفار كل منهم بلا مشاعر ولاكيان!

 4- في العلم:

بدأ الصراع بين الدين العلم حين هاجمت الكنيسة العلماء الذين قالوا بكروية الأرض وهددتهم بالحرق أحياء في الأفران وكانت الكنيسة هي المعتدية بلاشك ، وكانت حماقة شنيعة منها أن تقف هذا الموقف من أمور علمية بحتة ، يخطئ العلما ء فيها أو يصيبون ولكنها تظل في دائرة العلم لا يتدخل فيها (( رجال الدين )) لأن الدين الصحيح لم يحرم

 

 

البحث العلمي ، وإنما لفت نظر البشر إلى آيات الله في الكون ، وقال لهم تفكروا فيها وتدبروا لتعرفوا قدرة الخالق العظيم ، دون أن يقيدهم بنظرية معينة في تفسير ظواهر الكون  بل ترك ذلك للعقل البشري يحاول فيه بقدر ما يطيق ..

ولكن الاحتجاج بحماقة الكنيسة لفصل الدين عن العلم أو بذر بذور العداء بين الدين والعلم كان في ذاته حماقة أشد !

فلتكن الكنيسة حمقاء بقدر ما تكون .. ولكن الفطرة السوية لا تفصل بين الدين والعـلم  لأن كلا منهما نزعة فطرية سوية لازمة للكيان البشري ، ولازمة لمهمة الخلافة التي وجد الإنسان من أجلها في الأرض .

الإنسان عابد بطبعه ، رغب في المعرفة بطبعه ، ولا تعارض في الفطرة السوية بين نزعة العبادة ونزعة المعرفة ، ولا بين الإيمان بالغيب والإيمان بما تدركه الحواس .

ولقد خلق الله الإنسان لعبادته :

}وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون{ (1)

}هو أنشاكم من الأرض واستعمركم فيها {(2)

}هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه  {(3)

وجعل من الأدوات المعينة على عمارة الأرض العلم النظري في صورة (( معلومات )) عن الكون والعلم التطبيقي في صورة تسخير طاقات السماوات والأرض للإنسان .

}علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم {(4)

}وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة لتبتغوا فضلاً من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب وكل شيء فصلناه تفصيلاً {(5)

}وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه {(6)

 

 

 

_______________________________________

(1)سورة الذاريات 56                   (2) سورة هود 61                         (3) سورة الملك 15 

 (4) سورة العلق 4-5                   (5) سورة الإسراء 12                     (6) سورة الجاثية 13

 

 

 

 

ومن هنا يكون العلم ذاته جزءاً من العبادة المطلوبة من الإنسان يستوى في ذلك العـلم بأمور الدنيا والعلم بأمور الدين ، فإن عمارة الأرض بمقتضى المنهج الرباني تحتاج إلى هذا العلم وذاك .. العلم الدنيوي من أجل العمارة المادية ، والعلم الديني لجعل هذه العمارة المادية مستقيمة على المنهج الرباني، وتلك هي الخلافة الراشدة المطلوبة من الإنسان .

من أجل ذلك لا يوجد في الدين الصحيح ولا في الفطرة السوية تعارض ولا تنازع ولا خصومة بين الدين والعلم ! إنما تعمل نزعة العبادة ونزعة المعرفة في تناسق كامل في النفس السوية دون قلق ولا حرج ولا تصادم ولا نزاع ..

وكذلك قامت الحركة العلمية التي قامت في العالم الإسلامي في ظل العقيدة ، بل بدافع من العقيدة ! فمن المعلوم من التاريخ أن المسلمين لم يصبحوا أمة علم إلا بعد أن دخلوا في الإسلام! 

ولقد كان النموذج الإسلامي قائماً في أوروبا من الشرق والغرب والجنوب .. بـل إن أوروبا لم تعرف العلم الحقيقي إلا حين أرسلت أبناءها يتعلمون في مدارس المسلمين في الأندلس والشمال الإفريقي وصقلية الإسلامية ، فلئن كانت الكنيسة قد ارتكبت حماقتها بمعاداة العلم والعلماء فلقد كان الحل هو نبذ دين الكنيسة الفاسد لا نبذ الدين كله ، وقد رأوا نموذجاً مفلحاً ومثمراً منه في العالم الإسلامي .. ولئن كانت (( المكايدة )) قد أصبحت هي العملة المتبادلة بين الكنيسة من جهة والعلماء من جهة ، فلقد كان المقتضى السليم لذلك هو أن يرد العلماء للكنيسة إلهها الزائف الذي تعذب العلماء باسمه وتطاردهم , ويفروا إلى الله الحق الذي وجدوه معبودا عند أولئك العلماء الأفذاذ الذين تتلمذوا عليهم وتعلموا العلم على أيديهم ، والذي وجدوا العبادة الصحيحة له تخرج مثلا هؤلاء الأفذاذ ، وتتيح لهم حرية البحث العلمي بلا قيود . ولكن رد الفعل للحماقة التي ارتكبتها الكنيسة كان حماقة جديدة ارتكبها العلماء ! لقد كانوا معذورين في أن يتشككوا في كل حرف تقوله الكنيسة وتزعم أنه من عند الله ، وفي أن يبدأوا العلم كله من نقطة الصفر ، ويجربوا لأنفسهم ليثبتوا .. فهذا على أي حال هو المنهج العلمي الصحيح الذي تعلموه على أيدي أساتذتهم المسلمين . ولكنهم غير معذورين حين تصل بهم حقائق العلم إلى رؤية القدرة المعجزة للخالق ، فيلوون رؤوسهم في كبر ، أو يهزون أكـتافهم في استهتار (( غير علمي )) ! ويقولون إنه ليس الله ، ولكنه الطبيعة !

 

 

هنا الحماقة التي لا يبررها شيء .. لا الأمانة العلمية ولا الإنسانية الحقيقية للإنسان !

ولكن أوروبا بدأت من هذه الحماقة ثم لجت فيها إلى أبعد الحدود ..

مجرد ذكر اسم الله في البحث العلمي يعتبر إفساداً للروح العلمية ، ومبرراً لطرح النتائج العلمية كلها ولوكانت كلها صحيحة بمقياس العلم ذاته الذي جعلوه إلهاً من دون الله ‍‍‍!

بل مجرد الاعتقاد بوجود الله ، وأنه هو خالق الخلق وخالق الكون كفيل بإخراج العالم من دائرة العلماء الذين يعتد بهم ويؤخذ بآرائهم ولو كانت آراؤه صحيحة بمقياس البحث العلمي ، بل إنه يحيط ذلك العالم بالارتياب والشك في كل ما يقول ، ويجعله موضع الزراية من العلماء (( الحقيقييـن )) الذين لا بد أن يكونوا ملحدين لتكون آراؤهم موضع التسليم !

أي زراية بالعلم ذاته تؤدي إليها هذه الحماقة ؟!

بل أي روح (( غير علمية )) تلك التي تسيطر على العلماء في تلك الجاهلية التي تـقوم باسم العلم ؟

ما التعصب إذن ، وما فقدان ( الروح العلمية ) والأمانة العلمية ، إذا كان هذا عـلماً وأمانة وروحاً علمية ؟

وأي انتكاسة في عالم (القيم ) وعالم ( الإنسان) أكبر من تلك الانتكاسة الشنيعة التي ترفض (الحقائق) بمجرد الأهواء ؟!

وكيف- كما قلنا من قبل – كيف يكون الشيء ذاته صحيحاً ( وعلمياً ) إذا نسب إلى الطبيعة وغير صحيح وغير علمي إذا نسب إلى الله ؟! ويكون هذا هو الشرط الذي لا يقبل غيره للدخول في مجال العلم والعلماء ؟!

وكيف يتأتى لهذه الجاهلية أن تفصل _ في النفس الواحدة – بين نزعتين فطريتين : نزعة العبادة ونزعة العلم ، فتقول للناس : إذا أردتم الله فاتركوا العلم وإذا أردتم العلم فاتركوا  الله ، وتسمى هذا (علماً ) و( روحاً علمية ) ؟ وما الفرق بين هذه الحماقة وحماقة الكنيسة التي من أجلها حاربها العلماء ؟!

ألم تقل الكنيسة نفس المقولة ولكن من الجانب الآخر ؟! قالت : إذا أردتم الله فاتركوا هذا العلم ، وإذا أردتم هذا العلم فأنتم خارجون على الله !

وحين نستبدل حماقة بحماقة هل نكون راشدين ؟ وهل يحق لـنا أن نستعلي بحماقتنا علىحماقة الآخرين ؟!

على أن الحماقة البديلة لاتقف عند حد تمزيق البشرية بين نزعتها الفطريتين مما يشكل سبباً من الأسباب الكثيرة للاضطراب والقلق النفسي والعصبي الذي تعانيه الجاهلية المعاصرة   إنما يستخدم العلم عن قصد في إفساد العقيدة وإفساد الأخلاق ..

فبين الحين والحين تخرج ( أبحاث علمية ) كاذبة ويعلم أصحابها أنهم كاذبون تزعم أن الإنسان قد خلق الخلية الحية في المعمل ! وتسفر الحقيقة بعد الاستفسار والتقصي أنهم أعادوا تركيب خلية حية في المعمل من أجزاء حية أخذت من مجموعة من الخلايا الحية !!

ولكن هذا الدجل العلمي يراد به أن يقال للناس ها هو ذا الإنسان قد خلق فلم تعد هناك ضرورة للخالق ! أي يستخدم العلم الزائف لنشر الإلحاد في الأرض ، وتتقبله المجلات العلمية الرصينة التي ترفض أي بحث علمي يذكر فيه اسم الله !

}وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون{ (1).

وسيظل التحدي الرباني قائماً في وجه الملحدين :

} أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون {(2)

وكما يستخذم العلم الزائف لنشر الإلحاد تستخذم ثمار العلم لإفساد الأخلاق . وأوضح الأمثلة على ذلك حبوب منع الحمل التي يقول الأطباء ( الأمناء ) - وقليل ما هم – إنها ليست مأمونة تماماً وإنها قد تسبب أضراراً خطيرة ، وإنها ينبغي ألاتستخدم إلا بإشراف الطبيب .. هذه الحبوب تباع في الصيدليات بسعر مخفض يكاد يساوي سعر التكلفة ، ويباع لأي فتاة تطلبه- وتكرره دون تذكرة طبية .. لأنها كما لايخفى أداة جبارة لنشر الفاحشة في الأرض  لأن الفتاة التي تستطيع أن تأمن نتائج اتصالاتها الجنسية غير المشروعة أيسر انزلاقاً من التي تخشى حدوث المتاعب من هذه الاتصالات.

_____________________________________

(1) سورة الزمر 45                 (2) سورة الطور 35  

 

 

 

وذلك فضلاً عن صرف جهود كثيرة في أبحاث ( علمية ) بقصد اختراع المدمرات البشعة بغير موجب حقيقي ، فقد كان انتصار بعض البشر على بعض ممكناً بغير كل تلك البشاعة في أدوات التدمير.

وهذا الشر العميق كله قد نشأ من ( علمانية ) العلم .. أي من ذلك المبدأ الملوث الشرير:

مبدأ فصل الدين عن الحياة ..

 

5 -  في الأخلاق

ذلك أن الدين هو المنبع الطبيعي للأخلاق، فإذا جفف هذا المنبع أو جف بسبب من الأسباب فلابد أن يتبعه حتماً انهيار تدريجي في الأخلاق ينتهي إلى (( اللا أخلاق)).

ولقد كانت النهضة في أول عهدها تعتقد ربما بإخلاص وحسن نية أن في إمكانها أن تجد للأخلاق منبعاً آخر غير الدين , من الطبيعة أو من النفس البشرية أو من أي مكان آخر .. والواقع أنهم كانوا في أول مرحلة الفساد ، فكانوا هم أنفسهم لا يتصورون أن البشرية يمكن أن تعيش بلا أخلاق ، وأنه سيأتي وقت عليها تكون عارية من الأخلاق فكان المشكل بالنسبة لهم هو محاولة البحث عن منبع للأخلاق غير الدين ، حتى لا تتخذ تلك ثغرة يهاجمون منها من قبل ذوي الغيرة على الأخلاق وهم يومئذ غير قليل .. ولكن المنبع البديل – أياً كان هو - قد أثبت عجزه عن إنبات القيم التي يحتاج إليها الإنسان في حياته، ككل التصورات التي تخطر في بال الفلاسفة ولا تتعدى أذهانهم إلى واقع الحياة !

ثم جاءت أجيال أكثر علمانية من السابقة ، لأنها كانت قد بعدت أكثر عن المنبع الحقيقي للقيم فبذات تناقش مبدأ القيم ذاته : هل هي ضرورية حقاً للحياة البشرية ؟ وهل هي حقائق واقعية أم مجرد مُثُل خيالية معلقة في الفضاء غير قابلة للتطبيق ؟

أي بغير مثل وبغير قيم ؟!

وكانت هذه بداية موجة جديدة من الانحدار على المنـزلق .. فإننا إذا سلمنا بالواقع الموجود على أنه هو الواقع الذي لا يمكن أن يوجد أفضل منه ، فما الذي يمنع هذا الواقع أن ينحدر غذاً إلى هوة جديدة ، ثم ما الذي يمنعنا من مجاراته في الهبوط بحجة الواقعية ؟!

 

 

 

 

إن الذي يمنع من هذا شيء واحد ، هو القيم الأصيلة التي نقيس إليها أفعالنا ومستوانا  لنعرف على ضوئها أهابطون نحن أم مرتفعون .. فإذا وجدنا أننا هبطنا حاولنا أن نوقف هبوطنا ونصعد من جديد .. أما في غياب الميزان فما المعيار ؟ إن الواقعية ليست معياراً يقاس إليه أي شيء ، ما دامت تعتبـر الواقع هو المقياس ! والناس إذا أفلتت أيديهم من خيط الصعود الذي يشدهم إلى أعلى فلا بد أن تهبط بهم ثقلة الشهوات وجواذب الأرض فيزداد واقعهم هبوطاً على الدوام .. وما دام معيارنا هو الواقع فسيظل المعيار ذاته يهبط مع هبوط الانسان ! ونظل نحن – بحجة الواقعية – نتابع الهبوط .

لقد كان القرن التاسع عشر ( واقعياً ) فنبذ القيم التي سماها مثالية – بمعنى غير واقعية - واعتبرها ترفاً عقلياً لا تطيقه طبيعة الحياة .

وكانت نتيجة ذلك هي القرن العشرين ! قرن التفلت من القيود كلها ، والهـبوط إلى الحمأة التي يستعفف عنها الحيوان !

وذلك أمر معروف من التاريخ وإن جادلت فيه الجاهلية المعاصرة وهي ليست أول جاهلية تجادل في الحق وتنكر البديهيات! إن أي جيل من أجيال البشرية أنكر القيم الإنسانية لم يقف حيث كان يوم أنكرها ، إنما ازداد هبوطاً .. حتى أدركة الدمار‍

ولنستعرض خط العلمانية مع الأخلاق من أوله لنعلم مدى الهبوط ..

ولنبدأ بالمفهوم الحقيقي للأخلاق ، الذي كانت تؤمن به أوروبا ذات يوم ثم ظلت تتخلى عنه خطوة خطوة وهي تسير مع الشيطان.

إن الأخلاق ( ميثاق ) شامل .. يشمل كل أعمال الإنسان .

} إنما يتذكر أولوا الألباب، الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق. والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار{(1).

___________________________________________

(1) سورة الرعد 19-22               

 

 

والميثاق هو أصلاً ميثاق مع الله ، تتفرع منه وتندرج تحته جميع المواثيق :}إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل {(1)

وأول الأمانات هي الأمانة المؤداة إلى الله ، ثم تأتي بعدها جميع الأمانات التي أبرز سياق الآية منها الحكم بين الناس بالعدل .

وعلى هذا الأساس يكون للسياسة أخلاق ، وللاقتصاد أخلاق ،وللاجتماع أخلاق   وللعلم أخلاق ، ولكل شيء على الإطلاق أخلاق.. ولايكون هناك شيء واحد في حياة الإنسان بلا أخلاق..

ومنشأ الأخلاق ليس هو الفرض من الخارج .. في صورة أوامر ونواه وزواجر من عند الله أو من عند غيره ، إنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يحدد ما هو حلال وما هو حرام ، وما هو حسن وما هو قبيح وما هو خير وما هو شر .. إلخ فيتبعه المؤمنون التزاماً بما أنزل الله ، وأما غير المؤمنين فيستمدون ذلك كله من عند غير الله . وفي الحالين لا يكون هذا هو منـشأ ( الأخلاق ) عند هؤلاء وهؤلاء .. إنما يكون فقط هو منشأ ( المعايير التي تضبط الأخلاق ) .

إنما تنشأ الأخلاق من طبيعة الإنسان ذاته ، من أن له طريقين ، وأن له القدرة على التمييز والاختيار بين الطريقين :

}ونفس ومـاسواها ، فألهمها فـجورها وتقواها قـد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها {(2)

ومن ثم فالقيمة الخلقية لاصقة بأعمال الإنسان بحكم طبيعته.. وإنما تختلف القيم باختلاف مقررها : هل هو الله أم هو البشر . فإن كانت من عند الله فهذه هي القيم الحقيقية الصالحة   لأنها من عند خالق الإنسان العليم به وبما يصلح له ومايصلحه : } ألايعلم من خلق وهو اللطيف الخبير{(3)

وإن كانت من عند البشر فهي عرضة للأهواء وعرضة للاختلاف من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. وتاريخ البشرية في جاهليتها هو الدليل ، يستوي في ذلك أن يكون الجاهليون من الفلاسفة أو من عامة الناس ‍‍!

 

 

 

(1) سورة الرعد 19-22      (2) سورة النساء 58           (3) سورة الشمس 7-10

 

 

 

 

ولقد كان هذا كله واضحاً لأوروبا المسيحية في الفترة التي سيطر فيها الدين على قلوب الناس ، بصرف النظر عما في ذلك الدين الكنسي من انحرافات .. فقد سبق أن قلنا إن وجود الانحراف والتحريف فيه لم يمنع وجود بعض الحقائق لأنهم كما بقول الله عنهم :}فنسوا حظاً مما ذكروا به{

وبقي مما ذكروا به بعض أشياء .. وكانت القيم الخلقية من بعض هذه الأشياء .

ثم زحفت العلمانية شيئاً فشيئاً على الحياة الأوربية فأقصت الدين عن الحـياة بقدر ما تمكنت هي من الحياة .. ومع إقصاء الدين قضيت الأخلاق، لأنها أصلاً مستمدة من الدين.

وأول مجال أزيحت الأخلاق عنه هو مجال السياسة منذ قال مكيافيللي : إن الغاية تبرر الوسيلة . ومعناها بصريح العبارة إسقاط الأخلاق من مجال السياسة ، وممارسة السياسة بلا أخلاق!

ثم أزيحت الأخلاق من المجال الاقتصادي منذ الثورة الصناعية بتحليل الربا، وتحليل الغش والخذاع والكذب وسرقة أجر الأجير وشغل الناس بتوافه الأشياء من أجل الربح ، وتحليل شن الحروب والاستعمار من أجل إيجاد أسواق لتصريف البضائع .. إلى آخر ما قامت به الرأسمالية من حيل غير شريفة للاستزادة من المال على حساب البشرية .

ثم أزيحت الأخلاق من مجال العلم ، فلم يعد هدف العلم البحث عن الحقيقة المجردة – لله - إنما تصاحبه المصالح والأهواء والشهوات التي أسلفنا نماذج منها في إبعاد اسم الله عمداً من البحث العلمي مع وضع بديل مزيف هو الطبيعة ، لا لأن هذه حقيقة ولكن لأنها تخدم هدفاً معيناً في معركة معينة بين العلماء وبين الكنيسة ! ومن نشر أبحاث كاذبة بقصد نشر الإلحاد   ومن استخدام ثمار العلم لإفساد الأخلاق .. وغير ذلك مما كان مستحيلاً أن يحدث في ظل سيطرة الدين على مشاعر الناس، ومن ثم التزامهم بأخلاقيات الدين .. ولكنه يحدث بسهولة في ظل العلمانية التي تفاخر بإقصاء الدين عن كل مجالات الحياة !

ثم أزيحت الأخلاق من مجال الفكر . فلم يعد يحس المفكر أنه ملتزم بأمانة معينة هي في أصلها الأمانة المؤداة إلى الله .. فحفلت وسائل الإعلام جميعاً من أول الكتاب إلى التلفزيون  

مروراً بالصحيفة والمسرح والسينما والإذاعة ، بكل صنوف التضليل والكذب والخذاع والغش وإفساد العقيدة وإفساد الأخلاق.

ثم أزيحت من مجال العلاقات الجنسية بصفة خاصة – وهي أدق مجالات الأخلاق- فقيل إن الجنس مسألة (( بيولوجية )) لاعلاقة لها بالأخلاق ! أي مسألة ذكر وأنثى يجري بينهما ما يجري بين الذكر والأنثى .. بلا قيود ولا أخلاق ولا ضبط ولا تصعيد .. وكانت الحمأة الدنسة التي تردت فيها البشرية ، وكان السعار الجنسي المجنون الذي لا يشبع ولا يرتوي ولا يفيق .

وأخيراً أفرغت الأخلاق ذاتها من مضمونها حين قيل إنه ليس لها وجود ذاتي ، إنما هي انعكاس للأوضاع المادية والاقتصادية ، أو إنها من صنع العقل الجمعي ، وإنها تتغير على الدوام ولا تثبت على حال!

وسقط (( الإنسان )) بسقوط الأخلاق!

 

  • - في الفـن:

كان الفن في أوروبا في فترة الجاهلية الكنسية فناً دينياً بمعنى أنه موجه لخدمة الدين ، وكان يحمل كل مافي العقيدة الكنسية من انحراف ، إذ كان كله وجهاً لتمجيد (( الرب )) الذي ألهته الكنسية وهو المسيح عيسى ابن مريم ، أو تمجيد الأقانيم الثلاثة عامة : الأب والابن وروح القدس ، مع مريم البتول ومجموعة من القديسين ..

وقد لاحظت في كتاب (( جاهلية القرن العشرين )) ملاحظة خاصة بالفن الأوروبي ، وقلت إنها معروضة للدراسة لمن أراد أن يدرس , تلك هي أن الفن الأوروبي في جميع أدواره التاريخية كان مشغولاً بالمعبود .. فحين كان المعبود في الجاهلية الإغريقية مجموعة من الآلهة المختلفة توجه الفن الإغريقي إلى تلك الآلهة سواء في الأساطير أو المسرحيات أو التماثيل . وحين انتقلت أوروبا إلى المسيحية عني الفن بالإله كما صورته الكنيسة ، وحين كفرت أوروبا بإله الكنيسة وألهت الطبيعة اتجه الفن إلى المعبود الجديد وخاصة في الفترة الرومانسية ، وحين صار المعبود هو (( الإنسان )) أتجه الفن كله إلى دراسة الإنسان في جميع أوضاعه.

 

واليوم صارت المعبودات فوضى ، وتمثلت الفوضى كذلك في الفن الأوروبي الحديث!

وهذه نقطة فنية على أي حال ليس مجالها التفصيلي في هذا الكتاب إنما ينبغي أن تدرس دراسة نقدية متخصصة .

ثم إني ألفت كتاباً كاملاً هو (( منهج الفن الإسلامي )) لأبين العلاقة بين الفن الصحيح والدين الصحيح ، وكيف تكون مجالات الفن الملتزم بالدين ، وكيف أن ارتباط الفن بالدين لا يضيق مجالاته كما يفهم البعض ، ولا يحوله إلى مواعظ دينية كما يفهم البعض الآخر إنما يوسع مجالاته في الحقيقة ويعمقها ، ولكنه ينظفها فقط ويطهرها من الأرجاس . وليس هنا مجال إعادة الحديث في هذه الموضوعات ..

إنما نحن هنا نتحدث فقط عن آثار العلمانية في الفن الأوروبي ..

فأول آثارها – في التسلسل التاريخي – هو عبادة الطبيعة في الفترة الرومانسية .

وليس ثمة عيب – كما قلنا من قبل – في مناجاة الطبيعة والتفاعل معها والحفاوة بها ، فذلك كله أمر طبيعي في النفس السوية . ذلك أن الله خلق الكون جميلاً ثم جعل في النفس البشرية حاسة تلتقط الجمال وتنفعل به .. والقرآن يوجه الحس توجيهاً صريحاً لرؤية الجمال في الكون والإحساس به ، لا في الورود والأزهار والجبال والوديان فحسب بل في الأنعام كذلك ، التي هي مظنة الفائدة وحدها .

} والأنعام خلقها لكم فيها دف ومنافع ومنها تأكلون ، ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون{(1).

} وهو الذي أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به نبات كل شيءٍ فأخرجنا منه خضراً نخرج منه حباً متراكباً ، ومنه النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبهاً وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون {(2).

}أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماءً فأنبتنا به حدائق ذات بهجةٍ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ؟ أإله مع الله ؟ بل هم قوم يعدلون {(3).

 

 

 

 

(1) سورة النحل 5-6        (2) سورة الأنعام 99      (3) سورة النمل 60

 

 

ولكن رؤية هذا الجمال والتفاعل معه والانفعال به تحدث في النفس السوية توجهاً إلى الله بالعبادة لأنه هو خالق هذا الكون الجميل ومسخرة للإنسان ، وخالق هذه الحاسة الجمالية في تركيب الإنسان ليستمتع بهذا الجمال .

أما الكنيسة العلمانية في الحس الأوروبي المنسلخ من الدين فقد ذهبت في طريق آخر مخالف   فجعلت من هذا الحس الجمالي وثنية كاملة تعبد الطبيعة بدلاً من عبادة الله . وقد وردت كلمة الوثنية بالذات وروداً مكرراً في شعر الرومانسين كأنما هو أمر مقصود!

بل إن الرومانسية في الحقيقة هي التي يسرت للحس الأوروبي الانزلاق إلى تلك المغالطة المكشوفة التي جعلت الطبيعة إلها بدلا من الله , حتى سرت هذه المغالطة إلى ( العلماء) أنفسهم فتعاملوا معها كأنها حقيقة واقعة .. بل صاروا في النهاية يقبلونها وحدها على أنها هي العلم ، ويرفضون الحقيقة الأصلية وهي كون الله هو الخالق ، ويعتبرونها إفساداً لروح البحث العلمي!

ثم ذوت الرومانسية بعد فترة من الوقت وحلت محلها الواقعية رد فعل لها ، إذ كانت الرومانسية مغرقة في الخيال المغرب فجاءت الواقعية لترد الناس وترد الفن إلى الواقع ..

ولكن أي واقع هو الذي ارتد إليه الفن وارتد إليه الناس ؟‍!

إنه الواقع الصغير .. الهابط .. المنسلخ من الدين .. من القيم .. من الأخلاق!

ففي الفترة التي استغرقتها الرومانسية وارتدت بعدها إلى الواقع كان الناس قد ساروا خطوات على خط العلمانية المنسلخة من الدين فهبطوا ، فجاءت الواقعية لترصد واقعهم حيث هم .. ثم تقول : هذا هو الواقع البشري!

فأما كون هذا الواقع الذي كان عليه الناس وقتئذ فهذا حق لاشك فيه ، وأما أن هذا هو الواقع البشري على إطلاقه فأمر يكذبه التاريخ .. تكذبه فترات الهدى في حياة البشرية  التي ارتفع الناس فيها إلى قمم تبدو- في هذا الواقع المنحرف- كأنها خيالات ولكنها كانت واقعاً عاشه الناس بالفعل ، وينبغي أن يحاولوا على الدوام أن يعودوا إلى ذلك المستوى السامق أو يعودوا إلى قريب منه . وليس المطلوب من الفن الواقعي أن يداري على هبوط الناس ولا أن يصورهم في صورة غير واقعية من أجل إرضاء المثل العليا ! كلا ! فالفن المزور لا يستطيع أن يعيش , ولكن هناك فرقاً بين تصوير الواقع على أنه واقع نعم ، ولكنه منحرف عن الأصل الذي كان ينبغي أن يكون عليه، وبين تصويره على أنه هو الواقع  الإنساني الذي لايمكن تعديله أو لا ينبغي تعديله أو لا يعنينا تعديله! كلاهما تصوير للواقع . ولكن أحدهما يصور الواقع المنحرف بروح الإنكار، ويعدو إلى الارتفاع عنه ، والآخر يعطيه شرعية الوجود فتكون النتيجة الحتمية – دائماً مزيداً من الهبوط!

نموذج الواقعية الهادفة هو سورة يوسف في القرآن الكريم :

} وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك , قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لايفلح الظالمون . ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه . كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء . إنه من عبادنا المخلصين  {(1).

} فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن وأعتدت لهن متكئاً وآتت كل واحدةٍ منهن سكيناً ، وقالت اخرج عليهن ، فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن وقلن حاش لله ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم . قالت فذلكن الذي لمتننـي فيه ولقد راودته عن نفسه فاستعصم ، ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونا من الصاغرين  {(2).

ولكن هذه ليست اللقطة الأخيرة .. إنما اللقطة الأخيرة هي الأوبة والتوبة والترفع والارتفاع:

}قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوءٍ قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق ! أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين . ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب وأن الله لا يهدي كيد الخائنين .. وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي ، إن ربي غفور رحيم(3).

 

ونموذج الواقعية الهابطة هو الأدب الذي يدعى الواقعية وهو في الواقع يدعو إلى الهبوط ! وهبه صادقاً في ادعاء الواقعية فلماذا يصر على التقاط اللحظات الهابطة وحدها ويتجنب لحظات الارتفاع ؟!

 

 

 

 

 

___________________________________________

(1) سورة يوسف 22-24      (2) سورة يوسف 13-32     (3) سورة يوسف 51-53

ثم لماذا لايسمى الهبوط باسمه الحقيقي وهو الهبوط!

ثم .... تبعثرت الاتجاهات الفنية في الفترة الأخيرة .. ولكنها حافظت على طابع واحد .. هو الهبوط !

من السريالية إلى الوجودية إلى اللامعقول .. إلى أدب الجنس المكشوف..

أما السريالية فقد تتبعت التحليل النفسي الذي أنشأه فرويد وقال فيه إن حقيقة النفس الإنسانية ليست في النفس الواعية التي تتعامل مع الواقع الخارجي ، إنما هي في العقل الباطن الذي لا ترتيب فيه ولا منطق ! فحاولت في نماذج أقرب إلى الخبل منها إلى العقل أن تبرز (( حقيقة النفس الإنسانية ))! فلم تصنع شيئاً في الحقيقة إلا بعثرة هذه النفس إلى قطع متناثرة لا دلالة لها ولا معنى ولا طعم .

وأما اللامعقول فقد كان هروباً من (( المعقول )). هروباً من العقلانية التي طغت على الفكر والحياة الأوروبية ، ومحاولة للقول بأن الحياة ليست معقولة .. ليس لها هدف .. ليس لها نظام ..ليس لها منطق.. ليس لها غاية .. إنما تحدث فيها الأحداث لمجرد الحدوث! وحين تحدث فإنه يكون لها ثقل (الواقع ). ولكن حدوثها وعدم حدوثها سيان ! وحدوثها على هذه الصورة وحدوثها على صورة أخرى سيان ! لأن كل الصور تتساوى في عدم المعقولية وفي الافتقار إلى معنى واضح وغاية واضحة.

ولقد كان هذا تعبيراً باطنياً حقيقياً عن أن الحياة فقدت معناها وفقدت غايتها حين فقدت الخيط الذي ينظمها جميعاً وينظمها ويفسر غايتها ويفسر أحداثها ، وهو الدين .. ولكن الجاهلية لا تدرك ذلك ، وتأخذ الأمر على أنه مجرد فن ! وإن أدركت فإنها تدرك أن الحياة البشرية أصبحت في حاجة إلى (( فلسفة )) جديدة تعطيها معنى وتعطيها غاية ، بشرط ألا تكون هذه (( الفلسفة )) مستمدة من الدين !!

وأما الوجودية فهي أخبث من ذلك كله .. ولا تنس أن سارتر – (( الكاتب الإنسـاني العظيم )) – يهودي من أم يهودية .

 

 

 

 

تقول وجودية سارتر إن الكون والحياة لا هدف لها ولا غاية.. ولا عدل فيها ولا حق . إنما كله ضلال وعبث . وإن الوجود الإنساني ضياع كله ، ومن المستحيل أن يحقق الإنسان فيه وجوده!

وإلى هنا نستطيع أن نقول إن هذا أيضاً تعبير باطني صادق عن فقدان الحياة معناها وهدفها حين تفقد العنصر الذي يوجد الترابط بين أجزائها ويعطي أحداثها تفسيرها ومعناها وهو الدين .

ولكن وجودية سارتر لا تقف عند تسجيل الضياع والعبثية وفقدان المعنى والغاية .. ولكنها تقدم حلاً للمشكلة ! وياله من حل !

الحل أن يعيش كل إنسان وحده ، وأن يحقق وجوده بأن يفعل مايرى هو أنه حق وأنه واجب وأنه حسن !

في مسرحية ( الجحيم هو الآخرون ) يرسم الجحيم في نفس إنسان – إذا كان إنساناً!- يتعذب من أول المسرحية إلى آخرها من جود آخرين لا يكفون عن الوجود من حوله ، ويفرضون عليه أن يكونوا موجودين معه ، فيمنعونه أن يكون نفسه .. أن يحس بذاتيته .. أن يفعل ما يمليه عليه هواه الشخصي . فيظل ساكناً ساكتاً يتعذب . يتطلع إلى اللحظة التي يذهب فيها عنه (الآخرون) فينطلق بوجوده الذاتي ، ليحقق ذاته .. ولكنهم لا ينصرفون فيظل هو في الجحيم !

أما أدب الجنس المكشوف- إن كان يسمى (أدباً ) فهو أوضح من أن يحتاج إلى تعليق!

وفي تاريخ البشرية كله (آداب) تعالج الجنس بقصد الإثارة ، أو تعبـر عن تجارب هابطة لإنسان شهوان ..ولكنها كانت تأخذ في عالم الأدب مكاناً منـزوياً ، يتستر بها صاحبها في الظلام ، ويسقط عمن يتعاطونها رداء التوقير والاحترام ، ويقبل عليها ( المراهقون ) من أي عمر كانوا، فليست المراهقة فترة معينة من عمر الإنسان كما هي في اصطلاح علم النفس ، إنما هي حالة نفسية غير مستقرة وغير متزنة يمكن أن يصاب بها الفتى في إبان طيشه . ويمكن أن يصاب بها ابن السبعين .. فتخف أحلامه ويذهب وقاره وتذهب عنه قدرته على الحكم المتزن على الأشياء.

عظمات ( نفسية ) في وسط الماخور الكبير الذي يعيش فيه هؤلاء وهؤلاء من نقاد وفنانين!

لقد سقط الإنسان كله إلى السراديب ، وقرر المقام هناك ، وأضاء الأنوار على قاذوراتها وعرضها على أنها ( البضاعة الحاضرة ) لم تعد سراً يستخفى منه . لم تعد قذارة تستنكر ..لم تعد شيئاً يتقزز منه الناس.

 أرأيت إلى دودوة الأرض اللاصقة بالطين؟! إنها تستروح أنسام المستنقع الآسن الذي تعيش فيه ، وترى أنه بالنسبة لها هو الوضع الطبيعي.. هو الأصل الذي ينبغي أن تعيش فيه !

أرأيت لو أنك أردت أن ترفعها من الطين وتنظفها ؟

إنها تستنكر وترفض.. وتتفلت من بين أصابعك لتزداد لصوقاً بالطين !

وهكذا لم يعد أدب الجنس المكشوف قذارة يترفع عنها الفن . إنما صار هو الفن الذي يتفنن فيه الكتاب، يعرضون مفاتنه- أو بالأحرى مباذلة – في تفصيل دقيق مكشوف ، ويعرضونه على أنه قاعدة الحياة أوقمة الحياة !

هل هي عدوى ( فرويد ) في عالم الفن ؟

لاشك أن فرويد مسئول عن البداية التي ابتدأ بها هذا الفن الهابط . وقد كانت البداية هي قصة ( عشيق ليدي تشاترلي ((Chatterlys Lover Lady للقصاص الإنجليزي د.هـ.لورنس D.H .Lawrence  المتتلمذ على فرويد ، والذي يعتبر هو نفسه ( حالة فرويدية ) تلك القصة التي صودرت وصودرت وصودرت ثم أبيحت مع حذف الجزء الشديد الإفحاش منها . ثم أبيحت مع جزء منه .. ثم أبيحت كاملة كما هي.. عارية من كل حياء .. وطبع منها ملايين !

ولكن فرويد وحده لا يكفي لتفسير كل ذلك الهبوط..

إنه الانسلاخ من الدين ، الذي يسمى (( العلمانية )) !

ففرويد لم يكن يتصور – وإن تمنى – أن يأتي يوم تعرض فيه العملية الجنسية علىالمسرح بوصفها جزءاً من مسرحية فنية ! ثم ينقلها التيلفزيون على شاشته ليراها الأولاد والبنات في البيوت !

وذلك إلى آلاف وآلاف من المسرحيات القصص والأفلام والأغاني والصور والصحف والمجلات ، لاتعرض شيئاً إلا الجنس، ولاتعرضه إلا في وضع الحيوان .

 

*              *             *

 

 تلك هي العلمانية في مجالات الحياة المختلفة .. في السياسة والاقتصاد والاجتماع والعلم والأخلاق والفن .. وكل ذلك نشاط يمكن أن يصدر عن " الإنسان " إن كان قد بقي له بعد ذلك كله مكان في عالم " الإنسان " !

وتقول العلمانية – الغربية على الأقل - أنها لا تحارب الدين ! فمن شاء أن يتدين فليتدين ! وانظر حولك تجد متدينين بالفعل لا تتعرض لهم العلمانية من قريب ولا من بعيد !

أرأيت لو أن إنساناً أطلق حولك كل أنواع الجراثيم الموجودة في الأرض ، في الهواء الذي تتنفسه . في الماء الذي تشربه . في الطعام الذي تأكله . في الوجود الذي تلمسه . ثم قال لك إن أردت أن تظل سليماً معافى فكن كما شئت ، فنحن لا نتعرض لك ! كم يكون قوله مسخرة المساخر ، وكم يكون مغالطة مكشوفة ؟!

وذلك فضلاً عن أنه في عرف نفسه لا يعتبر ما يطلقه من حولك جراثيم .. بل يعتبرك أنت الجرثومة التي يخشى منها على كيانه، والتي لم يستطع أن يقضي عليها قضاءً كاملاً فتركها وهو يتمنى – من الشيطان – أن تزول !

}ودوا لوتكفرون كما كفروا فتكونون سواءً {(1).

إن الدين – حتى بمعناه الغربي المشوه – لم يعد له مكان في العلمانية المعاصرة .

فإذا كان قد أخرج من عالم السياسة ومن عالم الاقتصاد ومن عالم الاجتماع ومن عالم العلم ومن عالم الأخلاق ومن عالم الفن… فماذا بقي له من واقع الحياة وماذا بقي له من النفس الإنسانية ؟!

بقيت له ساعة في الكنيسة من يوم الأحد من كل أسبوع عند أفراد من الناس !

نعم .. ولكن ما الدين حتى بالنسبة لهؤلاء؟

هل له واقع في حياتهم ؟

هل يمنح قلوبهم الطمأنينة اللازمة لحياة الإنسان .. الطمأنينة التي تمنع التمزق النفسي وتمنع القلق والاضطراب ؟

هل يمنح وجودهم معنى يحميهم من الإحساس بالضياع ؟

 

_____________________________________

 

(1) سورة النساء 89

 

هل يمنحهم تصوراً للكون والحياة والإنسان غير التصور المادي الذي تقدمه العلمانية الجاهلية ؟

لو سألت أولئك الخارجين من سماع الموعظة يوم الأحد عن رأيهم الديني في التعاملات الاقتصادية الربوية التي تقوم عليها حياتهم فهل تجد عند أحد منهم تحريماً لها أو استنكاراً لقيامها ؟ أم يقول لك قائلهم : هذه مسألة اقتصادية .. ما علاقة الدين بالاقتصاد ؟!

ولو سألت أحداً منهم : ما رأيك في كذب الساسة بعضهم على بعض في السياسة الدولية  وعلى شعوبهم في السياسة الداخلية ؟ وما رأيك في الالتزام الحزبي الذي يلزم صاحبه بالمعارضة أو التأييد حسب وضع حزبه من السلطة ؟ وما رأيك فيما تكتبه الصحافة السياسية بقصد التشويش على الحقائق لا بقصد إظهار الحق ؟ ألا يقول لك على الفور إن هذه مسائل سياسية .. ولا دخل للدين بالسياسة ؟!

ولو سألت الفتاة وصديقها الخارجين من الصلاة ما قولكما في العلاقة القائمة بينكما ؟ أليس الدين يحرمها ؟ ألا يقولان لك إن الدين مسألة اعتقادية ولا علاقة له بالعلاقات الاجتماعية ؟! إن لم يقولا لك – كما يقول الكثيرون والكثيرات – إن الجنس مسألة بيولوجية بحتة لا علاقة لها بالدين ولا علاقة لها بالأخلاق ؟!

كلا ! ما يزيد الدين في ظل العلمانية على أن يكون مجرد وجدانات حائرة لا تلبث أن تتبدد وتضيع في الدوامة العاتية المعادية لكل مايأتي من عند الله !

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

العلمانية والإسلام

 

إذا صحت دعوى العلمانين في الغرب بالنسبة للدين الكنسي أنهم يتعايشون معه ويتعايش معهم دون تدخل من أحدهما في شؤون الآخر- وهي كما رأينا ليست صحيحة في الحقيقة - فإنها بالنسبة للإسلام لا تصح على الإطلاق !

لقد كان الدين الكنسي منذ اللحظة الأولى ديناً يهتم بالآخرة ويدير ظهره للحياة الدنيا  نتيجة ما دخل فيه من تحريف فصل الشريعة فيه عن العقيدة ، وجعله عقيدة صرفاً إلا فيما يتعلق بالأحوال الشخصية .. ومع ذلك فقد كان العمل من أجل الآخرة  يلقى أثره على الحياة الدنيا، قصد الناس أم لم يقصدوا ، ووعوا ذلك في إدراكهم أم لم يعوه ، فكان ذلك الدين – رغم التحريف الضخم في كل جوانبه – يعطي آثاراً واقعية في حياة الناس وسلوكهم ، وتصوراتهم ومشاعرهم ، وهي التي جاءت العلمانية لتزحزحها من مكانها رويداً رويداً حتى أَجْلَتْها إجلاء كاملاً فلم يعد للدين عند الأكثرية العظمى من الناس في الجاهلية المعاصرة مكان على الإطلاق ، وبقي عند الأقلية (المتدينة ) مجرد مشاعر ووجدانات ، وعلى الأكثر بعض ( العبادات ) ولكن هذه وتلك لا تحكم شيئاً في واقع الحياة . وبهذا وحده – أي بمسخ الدين على هذه الصورة المزرية - أصبحت العلمانية تتعايش على مضض مع الدين ! وقد كان هذا مسخاً بالنسبة للدين الكنسي ذاته ، الذي شوهته الكنيسة حتى قطعت صلته بالأصل السماوي .. فكيف يكون الأمر بالنسبة لدين الله الحق ؟!

إن الدين الحق لا يمكن ابتداء أن يكون عقيدة مفصولة عن الشريعة .. فالالتزام بالشريعة   - في دين الله الحق – هو مقتضى العقيدة ذاتها . مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله .. بحيث لا تكون الشهادة صحيحة وقائمة إن لم تؤد عند صاحبها هذا المعنى   وهو الالتزام بما جاء من عند الله ، والتحاكم إلى شريعة الله ، ورفض التحاكم إلى أي شريعة سوى شريعة الله  ,

}فلا وربك لايومنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً {(1).

____________________________________________

(1) سورة النساء 65       

يقول ابن تيمية في كتاب الإيمان ( ص 33 من طبعة دار الطباعة المحمدية بالقاهرة ) :

(( والمقصود هنا أن كل ما نفاه الله ورسوله من مسمى أسماء الأمور الواجبة كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك فإنما يكون لترك واجب في ذلك المسمى .. ومن هذا قوله تعالى } فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً { فلما نفى الإيمان حتى  توجد هذه الغاية دل ذلك على أن هذه الغاية فرض على الناس فمن تركها كان من أهل الوعيد)).

لقد نزل هذا الدين ليعطي التصور الصحيح لحقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، وليقيم في عالم البشر واقعاً محكوماً بهذا التصور ، منبثقاً عنه ، مرتبطاً متناسقاً معه في كلياته وجزئياته  لا يتصادم معه ولا ينحرف عنه .فالله الخالق البارئ المصور، الرازق المحيي المميت ، المدبر اللطيف الخبير ، عالم الغيب والشهادة .. بكل أسمائه وصفاته الواردة في كتابه المنزل ، هو المتفرد بالألوهية والربوبية ، وهو المستحق للعبادة وحده بغير شريك ..

وكل ما في الكون وكل من في الكون غيره سبحانه هم خلقه وعباده .. واجبهم عبادته وحده بغير شريك .

والإنسان واحد من خلقه .. متميز .. نعم .. مكرم..نعم .. ذو وعي وإدراك وإرادة وفاعلية .. نعم . ولكنه مخلوق من مخلوقات الله واجبه ككل خلقه الآخرين محصور في عبادة الخالق وحده بغير شريك .

ولقد كرمه الله بالوعي والإدراك والإرادة والفاعلية ، وأعطاه قدراً من الحرية في تصرفاته الأرادية يملك به أن يسير في طريق الطاعة وأن يسير في طريق العصيان .. ولكنه لا يرضى من عباده إلا أن يعبدوه :

}إن تكفرو فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم  {(1).

والذي يقرر العبادة المفروضة على كل كائن من الكائنات هو خالق الكائنات جميعاً ، الذي خلقها وحده بغير شريك ، ومن نفرده بالخلق ينشأ انفراده بالحاكمية :

 

 

 

____________________________________________

(1)  سورة الزمر 7

}ألا له الخلق والأمر {(1).

وبحق الحاكمية الناشئ من التفرد بالخلق أمر الإنسان أن يعبده وحده ويخلص العبادة له :

}إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه {(2).

}ألا لله الدين الخالص {(3).

}قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين  {(4).

وإخلاص العبادة يقتضى الاعتقاد بوحدانية الله سبحانه وتعالى ، ويقتضي توجيه الشعائر التعبدية له وحده ، ويقتضي كذلك التصديق بكل ما جاء من عنده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم ، والاحتكام إلى شريعته وحدها دون الشرائع الجاهلية التي يصنعها البشر من عند أنفسهم دون سلطان من الله . والإخلال بأي واحدة من هذه الثلاثة يوقع الإنسان في الشرك ويخرجه من دائرة الإيمان :

}وقال الذين أشركوا لوشاء الله ما عبدنا من دونه من شيءٍ نحن ولا آباونا ولا حرمنا من دونه من شيءٍ{(5).

كما قالوا : }أجعل الآلهة إلهاً واحداً ؟ إن هذا لشيء عجاب {(6).

فهذه هي الثلاثة التي أوقعتهم – أساساً – في الشرك : توجيه الشعائر التعبدية لغير الله ، والتحليل والتحريم من دون الله ، والاعتقاد بوجود آلهة مع الله ..

وكلها مجتمعة شرك ، وكل واحدة بمفردها شرك لا يستقيم معه إيمان ..

والمعاصي تقع من البشر جميعاً (( كل بني آدم خطاء)) (7).

ولكنها لا تخرجهم من الإيمان باتفاق علماء الأمة .

إلا أن يجعلوها شرعاً فعندئذ يكفرون بها. بل هم يكفرون بالتشريع ولو لم يرتكبوا المعصية بأنفسهم .. فالذي يقول – بلسانه أوبعقله – إن الله أمر بقطع يد السارق ولكني أرى أن العقوبة المناسبة للسارق هي السجن – وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية – فقد كفر بذلك وإن لم يسرق بنفسه ولم يفكر في السرقة .

 

_________________________________________

  • سورة الأعراف 54 (4) سورة الزمر 11             (7) رواه أحمد
  • سورة يوسف 40       (5) سورة النحل 35
  • سورة الزمر 3          (6) سورة ص 5

 

والذي يقول – بلسانه أو بعقله – إن الله أمر برجم الزاني المحصن وجلد الزاني غير المحصن   ولكني أرى أنه لا عقوبة على الزنا إذا كان برضى الطرفين البالغين الراشدين ( أى لم تكن الفتاة قاصراً ) ولم تقع شكوى من أحد الزوجين ، فإن كان هناك اغتصاب أو اشتكى أحد الزوجين فالعقوبة هي السجن – وهو ما تفعله العلمانية الجاهلية – فقد كفر بذلك وإن لم يرتكب الفاحشة بنفسه ولم يفكر في ارتكابها .

وكذلك كل شرع من شرع الله .

من اعتقد بأفضلية غيره عليه ، أو حتى مساواته معه ، فعدل عنه إلى غيره ، أو رضي بغيره ولم يجاهد بيده أو بلسانه أو بقلبه فقد خرج من دائرة الإيمان ، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم !

} ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين . وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون . وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين . أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون . إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون{  (1).

}فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك .. { (2)

(( إنه يستعمل أمراء فتعرفون وتنكرون . فمن كره فقد برئ ومن أنكر فقد سلم ولكن من رضي وتابع)) (3).

(( فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن . ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن . وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خرذل))(4).

فإذا كان هذا أمر الله ورسوله فأنى يقول قائل إن الإسلام يمكن أن يلتقى مع العلمانية التي تقول : لادين في السياسة ولا سياسة في الدين ؟!! أوتقول إن الاقتصاد لا علاقة له بالدين . أو تفصل بين حكم الدين وبين أي شيء في حياة الإنسان؟!(5)

 

_____________________________________

(1)سورة النور 47-51                   (2) سورة النساء 65                     (3) رواه مسلم                        (4) رواه مسلم               (5)  انظر تفصيلاً لهذه القضية في كتاب (( مفاهيم ينبغي أن تصحح )) .                      

  • الخميس PM 03:01
    2021-08-19
  • 1313
Powered by: GateGold