المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 414014
يتصفح الموقع حاليا : 262

البحث

البحث

عرض المادة

upload/upload1628083912669.jpg

تجييش العواطف لتغييب العقول وعبادة الرمز

ليس من الطبيعي أن يتوجه إنسان إلى حـجــــر أو شجر أو قبر أو أي مخلوق آخر بأشكال التقديس والتقرب، ولذا: فإن الصورة الساذجة المباشرة لهذه الأعمال لا يتصور أنها تنطلي من أول وهلة وبصورتها الساذجة على المخلــــوق المكرم بعقله، المميز بفطرته؛ إذ لا بد من وجود حجج وحيثيات تزين هذا الانحراف وتسـوغــــه له، أي: لا بد من وجود (فلسفة) لهذا الأمر حتى ولو لم تظهر مصاحبة له، فهي في كثيـر من الأحيان تظهر في صورة أشبه ما تكون بالاتجاه النفسي لدى المبتلين بهذا الداء، وهـنا تكمن الصعوبة في هذا الجانب من البحث؛ لأننا نريد دخول منطقة (اللاوعي) عند القـبـوريـيــن للخروج بالوعي الكامن الذي يحركهم ويدفعهم إلى هذه الأفعال التي من المفترض ألا يـقـبـلـهــا عـقـــل راشد، ولا تستسيغها فطرة سليمة، ولا تسمح بها شريعة منزلة.. فكيف فعلها هؤلاء؟ بل كيف تمسكوا بها ودافعوا عنها؟

عودة إلى الوراء:

الأمــــر يستدعي منا أن نعود إلى الوراء لننظر: كيف كان يُدعى الناس من خلال (الحكمة والفلسفة) إلى الانحراف العقدي؟

في الـبـــدء كان التوحيد، ولم يكن شرك على وجه الأرض، وكان في الناس بعض المميزين بصلاحـهــم المبرزين بعبادتهم، ثم طالت فترة الناس عن نور الوحي فقلّ فيهم عدد هؤلاء المميزين، ولـكــــن يبقى الناس مجلين هؤلاء الصالحين، متمسكين بشعاع التقوى والعبادة يريدون عدم الانـســلاخ منه، وهنا يبرز الشيطان مزيناً بداية خط الانحراف: (لو صوّرتم صورهم، فكنتم تنـظـرون إليهم)، و (أرى جزعكم على هذا، فهل لكم أن أصور لكم مثله، فيكون في ناديكم فتذكــرونه بـــــــه)، فقط اتخاذ (الرمز)؛ للتذكرة بالعبادة والصلاح..!، فصوروا، ثم ماتوا.. فنشأ قوم بعدهم فقال لهم إبليس: (إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها) فعبدوها.. إنه (التقليد)..

فباتخاذ (الرمز) واحترامه وتعظيمه، ثم بـ (التقليد) الـذي قــــاد إلى التقديس حدث أول شرك، وهذا ما حدث في قوم نوح ـ عليه السلام ـ. فكيف كانت (فلسفة) الشرك في قوم إبراهيم ـ عليه السلام ـ؟!

نشأت عبادة الكواكب عندهم من التعلق بالملائكة، واعتقاد أنهم (وسطاء) بين الله وخلقه، وأنهم موكول إليهم تصريف هذا العالم، ثم اعتقدوا أن الأفلاك والكواكب أقرب الأجسام المرئية إلى الله ـ تعالى ـ، وزعموا أنها أحياء ناطقة مدبرة للعالم، وأنهــا بالنسبة للملائكة كالجسد للروح، فهي الهياكل، والملائكة الأرواح، وأنها مـتـصـفـــة بصفات مخصوصة، ولوجود هذه الصفات استحقت أن تكون آلهة تعبد.. فكانوا يتقربون إلى الهياكل تقرباً إلى الروحانيات، ويتقربون إلى الروحانيات تقرباً إلى الباري ـ تعالى ـ، وهؤلاء يسمون (أصحاب الهياكل).

ولما كانت هذه الكواكب يختفي أكثرها في النهار وفي بعض الليل لما يـعـــرض في الجو من الغيوم والضباب ونحو ذلك رأوا أن ينصبوا لهذه الكواكب أصناماً وتماثـيــل عـلـى هيئة الكواكب السبعة (الشمس، والقمر، والزهرة، والمشتري، وعطارد، والمريخ، وزحل) حينما تصدر أفعالها عنها ـ كما يزعمون ـ، كل تمثال يقابل هيكلاً... واعتقدوا أن التقرب إلى هذه الأصنام هو (الوسيلة) إلى الهياكل التي هي وسيلة إلى الروحانيات، التي هي وسيلة إلى الله ـ تعالى ـ.. وهؤلاء يسمون (أصحاب الأشخاص).

مرة أخرى: إنه (الرمز)، ولكن يظهر هنا جليّاً دور قدسية (الأرواح) التي نسبوها إلى الملائكة، وعقيدة (الواسطة) و(الوسيلة).

ويعيد إبراهيم ـ عليه السلام ـ إرساء عقيدة التوحيد صافية نقية، وينشر إسماعيل ـ عليه السلام ـ ملة أبيه إبراهيم بين العرب، ويظل أبناؤه على ذلك التوحيد، معظّمين أول بيت وضع للناس الذي جدده خليل الله مع ابنه إسماعيل.. إلى أن بعدت الفترة بين العرب ونور النبوة، ثم اندرس كثير من آثار العلم، فقلّت حصانتهم ضد الانحراف، وأصبحت الفرصة مواتية للتحريف، وهنا برز عمرو بن لحيّ الخزاعي آتياً بالأصنام إلى مكة، فنصبها وأمر الناس بعبادتها وتعظيمها، فعبدوها، ولكنهم لم يعبدوها لمجرد كونها حجارة أو أخشاباً، بل عبدوها (معتقدين أنها منازل الأرواح ـ كما بيّن الإخباريون ـ).. مرة أخرى: إنه (الرمز) و (الأرواح).. ثم: بسبب (التقليد) وبسبب ضعف تمثل تعاليم الملة الحنيفية في نفوس الناس ـ بل ربما كانت تفاصيل هذه التعاليم قد ضاعت ـ استمرت فيهم هذه الوثنية مع شعائرها وعاداتها واعتقاداتها عقوداً متتابعة، ووصل الولع بـ (تقديس الرمز) إلى هاوية سحيقة، حيث روى أبو الرجاء العطاردي: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير (!) ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..).. ومع ذلك قالوا: ((مَا نَعْبُدُهُمْ إلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى)) [الزمر: 3]، وقالوا أيضاً: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّه)) [يونس: 18]... إنها: (الواسطة) و (الوسيلة).

ونفترض هنا سؤالاً مهماً: لو كان عمرو بن لحي خرج في صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعوهم إلى عبادة الأوثان تقرباً إلى الرحمن، أكان يجد من يتبعه منهم؟ بداهة: لا، وإذا كان الأمر كذلك: فلماذا لم يرفض العرب ما جاء به عمرو من تحريف دين إبراهيم وعبادة الأصنام من أول وهلة؟..

يوضح الإجابة على مثل ذلك كلام لابن القيم ـ رحمه الله ـ حيث يقول: (قبول المحل لما يوضع فيه مشروط بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه في الذوات والأعيان فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات، فإذا كان القلب ممتلئاً بالباطل اعتقاداً ومحبة لم يبق فيه لاعتقاد الحق ومحبته موضع... وسر ذلك: أن إصغاء القلب كإصغاء الأذن، فإذا أصغى إلى غير حديث الله لم يبق فيه إصغاء ولا فهم لحديثه، كما إذا مال إلى غير محبة الله لم يبق فيه ميل إلى محبته...).

لم يكن عمرو بن لحيّ أول من ألقى إلى العرب مفهوم تقديس الرمز وإن كان هو أول من جسده في صورة أوثان وأصنام، لقد كان العرب ـ بسبب ضعف آثار علم النبوة الذي أشرنا إليه، وبذريعة (تقديس الرمز) ـ وصلوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه: (حالة القابلية للشرك)، فلقد ذكر ابن الكلبي في كتابه (الأصنام) وابن إسحاق في سيرته (أنهم كانوا لا يظعن من مكة ظاعن إلا حمل معه حجراً من حجارة الحرم؛ تعظيماً للحرم وصبابة به، فحيثما حل وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة؛ تيمناً منهم بها، وصبابة بالحرم، وحباّ له).

فتقديس (الرمز) ذريعة إلى الشرك، (وهذه العلة ـ التي لأجلها نهى الشارع ـ هي التي أوقعت كثيراً من الأمم: إما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك؛ فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين، وبتماثيل يزعمون أنها طلاسم الكواكب، ونحو ذلك، فلأن يُشْرَك بقبر الرجل الذي يعتقد نبوته أو صلاحه.. أعظم من أن يشرك بخشبة أو حجر على تمثاله؛ ولهذا تجد أقواماً كثيرين يتضرعون عندها، ويتخشعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يعبدونها في المسجد، بل ولا في السّحَر..).

حقيقة القبورية:

وهنا نأتي إلى القبوريين وكيف تبدأ علاقتهم بالقبر أو الضريح؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك ـ حسب تعبير ابن تيمية ـ رحمه الله ـ؟.. تبدأ العلاقة بتقديس (الرمز).. رمز الصلاح والتقوى والمنزلة الرفيعة عند الله،

ومن ثم: تستحب زيارة تلك البقاع، ليس لتذكر الموت والآخرة، بل لتذكر (الرمز) والاعتبار به، ولأن هذه الأماكن (مباركة)، ولأن الملائكة و (الأرواح) تنتشر حولها ـ كما يزعمون ـ، فإن دعاء الله يحسن عندها، فهو أرجح منه في البيت والمسجد وأوقات السّحَر، كما أن البركة (تفيض) على كل شيء حول القبر، فمن أراد التزود منها فليلمس، ويقبّل، ويتمسح، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة تالية: من دعاء الله عنده إلى الدعاء به والإقسام على الله به، أي: اتخاذه (واسطة) و (وسيلة) للاستشفاع به عند الله؛ فصاحب الضريح طاهر مكرم مقرب له جاه عند الله، بينما صاحب الذنب ـ أو الحاجة ـ يتلطخ في أوحال خطيئته، غير مؤهل لدعاء الله، فإذا تقرر ذلك هبط إلى دركة أخرى: فما دام هذا المقبور مكرماً فليس بممتنع أن يعطيه الله القدرة على التصرف في بعض الأمور التي لا يقدر عليها طالب الحاجة، فيُدعى صاحب القبر، يُرجى ويُخشى، يستغاث به، ويطلب المدد منه، ولِمَ لا؟!؛ فهو صاحب (السر) الذي توجل منه النفوس، وترتجف له القلوب، وتتحير فيه العقول!، فإذا تقرر ذلك هبط دركة ـ ليست أخيرة ـ، حيث (يتخذ قبره وثناً، يعكف عليه، ويوقد عليه القنديل، ويعلق عليه الستور، ويبني عليه المسجد، ويعبده بالسجود له، والطواف به، وتقبيله، واستلامه، والحج إليه، والذبح عنده، ثم ينقله [الشيطان] درجة أخرى: إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، وأن ذلك أنفع لهم في دنياهم وآخرتهم...).

هذا هو الواقع: ليست المسألة مظاهر وطقوساً مجردة، بل هي أعمال جوارح، نتجت عن أعمال قلوب، تحركها تصورات واعتقادات رسخت في النفوس وتخللتها وذابت فيها إلى الحد الذي لم تعد فيه بارزة منفصلة عن تلك المظاهر والطقوس.. هذا هو التصور المقنع لما يعمله أي إنسان عاقل؛ (فمبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار، فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة. فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار، وفسادها بفسادها).

فالحقيقة أن: (من يدعو الأموات ويهتف بهم عند الشدائد ويطوف بقبورهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله ـ سبحانه ـ، لا يصدر منه ذلك إلا عن اعتقاد كاعتقاد أهل الجاهلية في أصنامهم، هذا إن أراد من الميت الذي يعتقده ما كان تطلبه الجاهلية من أصنامها من تقربهم إلى الله، فلا فرق بين الأمرين. وإن أراد استقلال من يدعـوه من الأمـوات بأن يطلبـه ما لا يقـدر عليه إلا الله ـ عز وجل ـ، فهذا أمر لم تبلغ إليه الجاهلية...).

فالمسألة في حقيقتها: تقديس (الرمز) واتخاذه (واسطة) أو (وسيلة) لقضاء الحاجات وللشفاعة عند الله..

هكذا هي في أدبيات القبوريين: (جاء في الرسالة (42) من رسائل إخوان الصفا (4/21) قولهم: من الناس من يتقرب إلى الله بأنبيائه ورسله وبأئمتهم وأوصيائهم أو بأولياء الله وعباده الصالحين، أو بملائكة الله المقربين والتعظيم لهم ومساجدهم... فإن قصر فهمه ومعرفته بهم فليس له طريق إلا إتباع آثارهم والعمل بوصاياهم والتعلق بسننهم والذهاب إلى مساجدهم ومشاهدهم والدعاء والصلاة والصيام والاستغفار، وطلب الغفران والرحمة عند قبورهم وعند تماثيلهم المصورة على أشكالهم، لتذكار آياتهم وتعرف أحوالهم من الأصنام والأوثان وما يشاكل ذلك، طلباً للقربة إلى الله والزلفى لديه...)..، ومما نقله الشيخ محمد رشيد رضا عن كتاب لأحد دعاة القبور: (وكل ما في الأمر أنه [اي: المتوسّل بغير الله] يرى نفسه ملطخاً بقاذورات المعاصي، أبعدته الغفلات عنه [اي: عن الله] أيما إبعاد، فيفهم من هذا أنه جدير بالحرمان من تحقيق مطالبه وقضاء حاجاته، وله الحق في هذا الفهم...).

وهكذا هي في مكنون تراثهم الشعبي؛ فإذا استطلعنا الأمثال الشعبية المصرية ـ كنموذج لهذا التراث في العالم الإسلامي ـ نجد منه قولهم: (من زار الاعتاب ما خاب) أي: من زار الأضرحة والأعتاب (المقدسة) قضيت حاجته ونال مراده، (فالاعتقاد الشعبي في الأولياء يتلخص في أن الله قد منح بعض عباده المقربين (امتيازات) لا حدود لها.. يكوّنون حول الرسول ديواناً سماوياً ينشر قدرته).

ونجد في هذا التراث أيضاً: (يوضع سره في أضعف خلقه)، والمفهوم من كلمة (سره) أنها القدرة المستندة إلى أسباب غيبية ومحيرة، وأضعف خلقه مقصود بهم: المجانين والمجاذيب والأطفال...

ولعل من دقيق فقه الإمام محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في دين الله، وإحاطة فقهه بواقع الناس وحالهم.. ما جاء في معرض تعريفه للإلوهية والإله؛ حيث قال: (فاعلم أن هذه الإلوهية هي التي تسميها العامة في زماننا: السر، والولاية. والإله معناه: الولي الذي فيه السر، وهو الذي يسمونه: الفقير، والشيخ، وتسميه العامة: السيد، وأشباه هذا، وذلك أنهم يظنون أن الله جعل لخواص الخلق منزلة يرضى أن الإنسان يلجأ إليهم، ويرجوهم، ويستغيث بهم، ويجعلهم واسطة بينه وبين الله) ، ويقول أيضاً: (... هذا الذي يسميه المشركون في زماننا: الاعتقاد، هو الشرك الذي نزل فيه القرآن..).

وكذلك هي في واقعهم؛ يقول أحدهم: (إن الوهابيين يقولون: إن أولياء الله لا يستطيعون دفع الذباب عن قبورهم، ولكنهم لا يعلمون أن لهم قدرة أن يقلبوا العالم كله، ولكنهم لا يتوجهون إلى ذلك)، ونقلوا عن محمد الحنفي أنه قال في مرض موته: (من كانت له حاجة فليأت إلى قبري، ويطلب حاجته أقضها له) ، (فالاعتقاد السائد: أن البركة إنما تسري من الولي إلى الضريح إلى المناديل والملابس التي مسحت بها، والأغرب من ذلك: ما يحدث عند تغيير كسوة الضريح وعمامة الولي الخاصة، هنا يسعى الجميع للحصول على قطع من هذه الكسوة أو العمامة مع استعدادهم لسداد أي مبلغ يطلب منهم...).

وذكر المؤرخ الحضرمي صلاح البكري: أن بعض المرضى يأكلون من تراب بعض تلك القبور طلباً للشفاء، وتقول إحدى الفرق في قبر شيخها: (إن قبره ومزاره دار الشفاء للمرضى، وأنه حلاّل المشاكل، ومسهّل الأمور، وقاضي الحاجات) و (إن المرضى كانوا يستشفون من عيسى، ولكن أحمد رضا يحيي الأموات!).

والمسألة في حقيقتها: اعتقاد في تأثير (الأرواح)؛ (فإنهم قالوا: الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله ـ تعالى ـ لا يزال تأتيه الألطاف من الله ـ تعالى ـ وتفيض على روحه الخيرات؛ فإذا علق الزائر روحه به وأدناه منه: فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوهما على الجسم المقابل له).

ويقول الشيخ أخلاق حسين القاسمي، أحد أبناء طائفة الديوبندية الصوفية: (إن أرواح المؤمنين ـ وخاصة أرواح الأولياء والصالحين ـ قادرة على التصرف في هذا الكون بعد مفارقة الأجساد...).

وهذا ما يشهد به واقعهم: فأعراب شرق الأردن يسمّون المقام ولياً؛ لأن أرواح الصالحين تقطن في ذلك البناء، بل يزعمون (أن أرواح الأولياء تسكن في القبور حيث يرقد جثمانها، وهي كالبشر في جميع احتياجاتهم من أكل وشرب، فيدّعون أن الرياح والثلوج تؤثر بهم، والجوع يفنيهم).

وينقل الشيخ محمد رشيد رضا عن أحد دعاة القبورية قوله: (إن الدعاء والاستغاثة بالموتى وبالأحياء من هؤلاء الأحباب سواء؛ لأن الموتى منهم أحياء في قبورهم يفعلون أفعال الأحياء فيها وفي خارجها) ، ويقول آخر: (إن تصرف الأولياء يزداد بعد وفاتهم).

فالقبوريون (أمام قبر الولي يركعون ويبكون ويتوسلون إليه، معتقدين أن الولي ينظر إليهم ويراهم، وأن روحه الطاهرة تحوم حولهم).

ومما يؤكد اعتقاد القبوريين في تأثير أرواح (الأولياء) بالتصرف أن كثيراً من هؤلاء المقبورين كانوا في معظم حياتهم (غير فعالين) في الخوارق، ووجد القبوريون فيهم ذلك بعد مماتهم؛ فالشيخ عبد الله في معان بالأردن عاش بالصلاح والتقوى وكان خطيباً ينذر القوم بالوعد والوعيد، فلم يجد في عشيرته من يعي كلامه ويحفظه، فلما استوفى أيامه أظهر الله كراماته بشفاء كثير على ما زعموا...

بل وصل الأمر إلى حد (أن الأكراد عظموا شريفاً صالحاً مر عليهم في سفره، ولحبهم فيه أرادوا قتله ليبنوا عليه قبة يتوسلون بها). الله أكبر هل يوجد سخف وقلة عقل أعظم من هذا ؟!!

وهكذا هي في التراث الشعبي، فمن الأمثال الشعبية المصرية: (بعد ما راح المقبرة بقى سكّره) أي: أصبح مرغوباً فيه مثل السكر.. فما الفرق بين الحياة والممات إلا في انفصال (الروح) عن الجسد؟!.

والمسألة في حقيقتها: تعلق القلوب بالضريح وصاحبه والتوجه إليه بمشاعر الإجلال والمهابة..

هكذا يشهد حالهم: (فإن عباد القبور يعطونها من التعظيم والاحترام والخشوع ورقّة القلب والعكوف بالهمة على الموتى ما لا يفعلونه في المساجد، ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريب منه).

ولعل السبب في ذلك أن (غرّهم الشيطان، فقال: بل هذا تعظيم لقبور المشايخ والصالحين، وكلما كنتم أشد لها تعظيماً، وأشد فيهم غلوّاً، كنتم بقربهم أسعد، ومن أعدائهم أبعد).

وهذا ما يقرره أحد مشايخ القبوريين، الذي يقول: (إن صاحب هذا القبر شيخنا محمد إلياس يوزع النور الذي ينزل من السماء في قبره بين مريديه حسب قوة الارتباط والتعلق به).

فكلما توغل القبوري في غيّه كلما حرص على إبراز قوة الارتباط والتعلق بالضريح وشدة تعظيمه وغلوه فيه، وفي ذلك قال ابن الرومي في (شرح المختار): (قد قرر الشيطان في عقول الجهال أن الإقسام على الله بالولي والدعاء به أبلغ في تعظيمه، وأنجح لقضاء حوائجه، فأوقعهم بذلك في الشرك) ، وعلى ذلك (فقد يقسم الأعرابي بالله دفعات متوالية على أنه يخشى أن يذكر اسم (شعيب) بالكذب مرة واحدة؛ لأنه (مظهر الأسرار وموضح الخفيّات)) ، وعندما سئل أحد التجار: لماذا يقسم بصندوق ضريح القرية، ولا يقسم بالله عندما يحاسب زبائنه؟ أجاب: (إنهم هنا لا يرضون بقسم الله، ولا يرضون إلا بقسم صندوق نذور الضريح أو سور الضريح لسيدنا فلان).. فهل هذا إلا للتعظيم والإجلال والرهبة وتعلق القلب بالضريح وصاحبه؟

وأحوالهم في ذلك عديدة: فمقام (النبي هارون) بالأردن: (يهجع الزائر (المؤمن) تحت ظله فيشعر بما لا يوصف من المسرة والحبور)، وتزور المرأة العاقر مقام (النبي يوشع) (حافية خاشعة، وتجثو أمام الضريح وتقبله بدموع وتضرع.. ومنهن من يرقدن الليالي الطويلة بين أسواره بالصوم والصلاة ثم يغادرنه وفي أنفسهنّ الآمال والمسرات).. ويلخص هذا التعلق أبو الثناء الآلوسي عندما يصف موقفاً مر به في إحدى زياراته للأضرحة والمزارات، فيقول: (حتى أتينا قرية يقال لها (قارحين) وهناك قبر عليه قبة ثلجية قد زرناه فلم نحس منه (بروحانية)).. ويقول البريلوي أحمد رضا المسمي نفسه بعبد المصطفى: (إنني لم أستعن في حياتي بأحد ولم أستغث بغير الشيخ عبد القادر، وكلما أستغيث أستغيث به، ومرة حاولت أن أستغيث وأستعين بولي آخر، وعندما أردت النطق باسمه للاستغاثة والاستعانة ما نطقت إلا بـ (يا غَوْثاه)، فإن لساني يأبى أن ينطق الاستعانة بغيره).. وهذا الموقف النفسي يرصده شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ عندما يتحدث عن تفرق القبوريين حسب تمسك كل منهم بالضريح الذي تتوق نفسه إليه، فيقول: (ولهذا كان المتخذون القبور مساجد لما كان فيهم من الشرك ما فيهم قد فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فتجد كل قوم يعظمون متبوعهم أو نبيهم، ويقولون: الدعاء عند قبره يستجاب، وقلوبهم معلقة به دون غيره من قبور الأنبياء والصالحين وإن كان أفضل منه، كما أن عباد الكواكب والأصنام كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، فهو يعبد ما يألهه وإن كان غيره أفضل منه).

وهكذا هي في تراثهم الشعبي، فيقول المثل الشعبي: (الشيخ البعيد سره باتع)، أي: صاحب الضريح البعيد سره مؤكد مقطوع به، والبعد: مسألة نسبية، فالبعيد بالنسبة إلى هؤلاء قريب لغيرهم، والقريب إليهم الذي لا يرغبونه بعيد عن غيرهم، فما الذي يجعل الضريح البعيد مرغوباً أكثر من غيره؟.. إنه شوق القلب وحنينه الذي يساعد البعد في تولده، وهذا ما يعبرون عنه في مثل آخر يقول: (ابعد حبة (بعض الشيء) تزيد محبة).. فتعلق القلب رغبة ورهبة ومحبة تجعل (آمال وآلام الزائرين لا تمضي إلى أي ضريح بالمصادفة، ولكن شهرة الولي واختصاصه بالشفاعة، والبعد المكاني، لهم تأثير كبير في قصد الزيارة؛ فالضريح الذي نتكبد إليه مشاق السفر يصبح أكثر جذباً ورهبة من ذلك الضريح القريب المتاح زيارته في أي وقت).

وتبقى التساؤلات:

- ما الذي يدفعهم للاعتقاد في الأضرحة أنها قوة قاهرة وسلطة نافذة ـ وإن اعتبروها (واسطة) و(وسيلة)؟

- وما الذي يدفعهم لإسناد ذلك إلى الأرواح، أو ـ بتعبير أدق ـ إلى سرّ غيبـي محيّر؟

- وما الذي يدفعهم إلى التوجه بمشاعر قلوبهم نحوها لجلب رضاها أو دفع مضرتها، أو للتمتع بالمسرة والحبور في أنفسهم؟

- لماذا تحولت العلاقة بالرمز من ذكرى واحترام إلى تقديس واعتقاد إلى تعلق وانجذاب؟

إن الذي حملهم على كل ذلك وحمل غيرهم على نظيره هو إشباع (التأله) لدى قلوبهم المحرومة من التأله للإله الحق؛ وهذا ما يقرره الإمام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ حين يقول: (ومن لم يكن محبّاً مخلصاً لله، عبداً له، قد صار قلبه معبّداً لربه وحده لا شريك له، بحيث يكون الله أحب إليه من كل ما سواه، ويكون ذليلاً له خاضعاً، وإلا استعبدته الكائنات واستولت على قلبه الشياطين... وهذا أمر ضروري لا حيلة فيه؛ فالقلب إن لم يكن حنيفاً مقبلاً على الله معرضاً عما سواه، كان مشركاً).

ويقرر ذلك أيضاً تلميذه الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ، حين يقول: (العبد لا يترك ما يحبه ويهواه إلا لما يحبه ويهواه، ولكن يترك أضعفهما محبة لأقواهما محبة).

وهذا ما تقرره أيضاً الدراسات الإنسانية الحديثة، فقد (أيدت دراسات الأنثربولوجيا [علم الإنسان] وعلم الأديان أن الحاجة إلى الدين موجودة عند جميع الناس في كل العصور وفي جميع المجتمعات، فالإنسان منذ القدم وهو يبحث عن إله يعبده، ويتوسل إليه، يعتقد أنه قوي مسيطر على الكون، خالق كل شيء، حي لا يموت) ، (هذه الفطرة حقيقة أجمع عليها الباحثون في تاريخ الأمم والأديان والحضارات، فقد وجدوا الإنسان منذ أقدم العصور يتدين ويتعبد ويؤمن بإله، حتى قال أحد كبار المؤرخين: لقد وُجدت في التاريخ مدن بلا قصور، ولا مصانع، ولا حصون، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد).

وهذه الغريزة هي التي أضفت على (الرمز) ـ حتى عند أهل الإلحاد ـ أشكال المهابة و(القداسة)، فـ (في ظل نظام كالنظام الشيوعي الذي لا مكان للدين في فكره العلمي، اصطبغ الإيمان بالمادية الديالكتيكية بصبغة الحماس الديني، واتخذت الاجتماعات والاستعراضات سمة الاحتفالات والمواكب الدينية، وأحيط واضعو النظرية ومؤسسو الدولة بهالة دونها هالة القديسين والرسل؛ فهم يوصفون بالخالدين، أو بالشمس التي لا تغرب، وها هي تماثيلهم الضخمة وصورهم ـ وقد حلت مكان التماثيل الدينية والأيقونات ـ تطل على الجماهير في الساحات وكافة المباني العامة، وعلى الأفراد في مساكنهم الخاصة، وها هي قبورهم وقد تحولت إلى مزارات مقدسة تحج إليها الملايين، وتصطف الصفوف خارجها لساعات من أجل إلقاء نظرة، أما كتبهم فهي بمثابة الكتب المقدسة، من قبيل التجديف أن ينسب إلى فكرة فيها الخطأ، بل ويبيت البعض ليلهم (كالحرس الأحمر في الصين) وهي إلى جوارهم أو تحت وسائدهم حتى تصرف الشرور عنهم!).

ويؤيد القول بأن دافع إشباع التأله هو الذي يحرك القبوريين عدة أمور، منها:

أولاً: إن بعض طقوس القبوريين تعتبر امتداداً لعادات وثنية كانت سائدة في أجدادهم قبل الإسلام، (وأول هذه العادات: تقديس الأولياء، تلك العادة التي لقيت رواجاً سريعاً وعميقاً في نفوس المصريين لارتباطها بطبيعتهم منذ فجر التاريخ، ففكرة تشييد المساجد الجميلة فوق أجساد الموتى وتقديسهم تتصل بجذور الفكر الديني المصري منذ العصر الفرعوني، ولا سند لها في القرآن والسنة..).

وعلى ذلك نرى أن الطقوس التي كانت تقام داخل معبد الأقصر للإله (آمون) في عصر الفراعنة هي الطقوس ذاتها التي تتبع في مولد (أبي الحجاج الأقصري) والذي يقع ضريحه داخل معبد الأقصر نفسه، وأهم ظاهرة في هذا المولد: تلك المراكب التي يجرها جموع المريدين وسط صيحات التكبير والتهليل، مما يلقي بظلاله على ما كان يحدث في المهرجانات الدينية في عصور الفراعنة؛ حيث كان لمعظم الآلهة عدد من القوارب التي تلعب دوراً رئيساً في طقوس الاحتفالات الدينية، وإلى الآن يستمر هذا التقليد في مولد (أبي الحجاج الأقصري)، على الرغم من تأكيد أهالي الأقصر على أن هذه القوارب مرتبطة بمجيء أبي الحجاج من مكة، أو بحجه إليها، كما يتماثل أيضاً في مولد (عبد الرحيم القنائي) الذي أقيم قبره على طلل معبد إله من آلهة قدماء المصريين..

ولعل منشأ كل ذلك عائد إلى التقديس الخاطئ للرموز الإسلامية إضافة إلى القياس الفاسد على من كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فقد يبدأ الأمر بالرغبة في تعظيم الرمز الإسلامي والزعم بأن الأولياء ليسوا بأقل من الذين كانوا يعظمونهم في جاهليتهم، فيعظمونهم بمثل ما كانوا يمارسونه مع معبوداتهم الوثنية.

ومن أمثلة ذلك أيضاً: ضريح الشيخ (هلال) المقام على قبر مزعوم قرب دمشق، حيث كان القدماء يعبدون (القمر).. وكذلك: فإن عبادة الأشجار معروفة في الوثنيات القديمة و(الحديثة)، وقد ظهر التأثر بهذا الانحراف الوثني عند القبوريين إما في صورة شجرة قائمة إلى جوار الضريح، وإما بزعم أن روح الولي المقبور تسكن فيها، وكثيراً ما يحظر قطع الأشجار المحيطة بقبر الولي.

ثانياً: إن بعض هذه الطقوس تعتبر طقوساً مشتركة بين القبوريين وأصحاب الديانات الأخرى، يقول الشيخ محمد رشيد رضا معقباً على ما ادعاه أحد مشايخ القبورية في تسويغ اتخاذ القبور والأضرحة واسطة للشفاعة: (هذا عين ما كان يحتج به المشركون الأولون وحكاه الله ـ تعالى ـ عنهم... وهو ما يفعله بعض النصارى عند قبور القديسين)، ويقول أيضاً: (ولا تظنوا أن الهندوس ليس عندهم كهنة يتأولون لهم بدعهم الوثنية كما تأول هذا العالم الأزهري... واحتج لهم بأنهم كأنجاس الهند المنبوذين، ليس لأحدهم أن يتقرب إلى الله ـ تعالى ـ بنفسه، بل لا بد له من أحد هؤلاء المعتقدين ليقربه إليه زلفى) ، ويقول الشيخ أبو الحسن الندوي: (وكل ما كان يدور حول قبور الأولياء والمشايخ كان تقليداً ناجحاً للأعمال والتقاليد التي كانت تنجز في معابد غير المسلمين وقبور المقدسين عندهم؛ فالاستغاثة منهم والاستعانة بهم، ومدّ يد الطلب والضراعة إليهم، كل ذلك كان عاماً شائعاً بينهم...) ، ويذكر الشيخ محمد رشيد رضا صورة من هذا التشابه، فيقول: (في بنارس [في الهند] قبر أبي البشر آدم ـ عليه السلام ـ وقبر زوجه وقبر أمه! (ويقال: إنهم يعبرون بأمه عن الطبيعة) وقبور قضاته، وهي تحت قباب مصفحة بالذهب كقبة أمير المؤمنين علي في النجف وقباب غيره... وجميع هذه القبور تعبد بالطواف حولها والتمسح بها وتلاوة الأدعية والأوراد عندها كغيرها من تماثيل معبوداتهم، مع الخشوع وبذل الأموال والنذور لها ولسدنتها وكهنتها، فلا يحسبن الجاهل بالتاريخ وبعقائد الملل والنحل أو التعبدات فيها أن علماء وثنيي الهند يعتقدون أن هذه الأشياء تنفع وتضر بنفسها، وأنهم ليس لهم فلسفة في عبادتها).

ومن الطرائف ذات المغزى في هذا المعنى أن شريف مكة (الشريف عون) عندما استجاب للشيخ أحمد بن عيسى في هدم جميع القباب بالحجاز، اعترض القناصل الأجانب في جدة على هدم قبر حواء، بحجة أن حواء أم لجميع الناس وليست أمّاً للمسلمين فقط.

فحقيقة الأمر: أن ما يفعله القبوريون عند القبر والضريح هو بعينه الذي تفعله الجاهلية الوثنية (وإنما كانوا يفعلونه لما يسمونه وثناً وصنماً، وفعله القبوريون لما يسمونه ولياً وقبراً ومشهداً، والأسماء لا أثر لها ولا تغير المعاني).

ثالثاً: إن الاهتمام بالقبور والتوجه إليها تجاوز حواجز الملل والمذهبيات والفرق ليشكل طقساً مشتركاً من طقوس التدين (الباطل) يجتمع عليه القبوريون مع إخوانهم في التأله للمقبورين؛ ففي كثير من الأحيان يمارس القبوريون هذه الطقوس بالاشتراك مع غيرهم ممن أشرنا إليهم.

ولأن النصارى يعيشون بين المسلمين أكثر من غيرهم من أهل الديانات الأخرى فقد ظهر هذا الاشتراك جليّاً منذ القِدَم، فقد ثبت أن منشأ الأضرحة الموهومة والمكذوبة كان واحداً عند النصارى و القبوريين، وهو (أضرحة الرؤيا)، إلا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل أخذ شكل الاشتراك العملي في ممارسة الطقوس والعبادات؛ فشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يذكر أن كثيراً (من جهال المسلمين ينذرون للمواضع التي يعظمها النصارى، كما قد صار كثير من جهالهم يزورون كنائس النصارى ويلتمسون البركة من قسيسييهم ورهبانييهم ونحوهم).

وكثير من (موالد) النصارى ليست مقصورة عليهم، بل يشارك فيها كثير من جهلة المسلمين (وهذا أمر ليس بمستغرب، فهم يذهبون أيضاً لبعض القساوسة ليخلصوهم من الأرواح الشريرة!.. وكما تتردد بعض القبطيات على أضرحة الأولياء؛ لتحقيق أمنية بالحمل، وتنذر نذراً إن تحققت أمنيتها..) ، وأيضاً فإن بعض النصارى يشارك جهلة المسلمين في الاعتقاد في ضريح الشيخ أبي الحجاج الأقصري.

ومثل ما توضع الرسائل في أضرحة الأولياء ـ وخاصة ضريح الإمام الشافعي ـ توجد أوراق وأقلام على قبر البابا كيرلس السادس وغيره، لمن يرغب في تحقيق أمنية أو رجاء منه، ويوضع في مدخل الكنيسة أو الدير صندوق للنذور، كذلك توهب الأضاحي التي تذبح هناك.

والأهالي على اختلاف مللهم ومذاهبهم وطبقاتهم يزورون مقام (النبي يوشع) في أكبر الأعياد الإسلامية وأيام المصائب والنكبات.

ويحكي الأستاذ عبد المنعم الجداوي عن تجربة شخصية له كيف أن إحدى قريباته عندما مرضت أصر أهلها على الطواف بها على بعض الأضرحة والكنائس أيضاً.

فما الذي جعل هؤلاء يشاركون أولئك إلا أنهم جميعاً وجدوا في القيام بتلك المظاهر إشباعاً لدافع واحد يجمعهم هو: التدين، أو (التأله)؟

رابعاً: من أوضح الأمور التي تدل على أن الدافع لدى القبوريين هو إشباع التأله في قلوبهم: تعلقهم بمشخصات لا علاقة لها بالأولياء مطلقاً، بل هي أنصاب وأوثان صريحة، يصرفون إليها مشاعر المحبة والخوف والرهبة والرجاء.. فإضافة إلى ما زعمه القبوريون من القبور المكذوبة على أصحابها، والقبور المنسوبة إلى صحابة وأولياء مزعومين ليس لهم وجود في السيرة والتاريخ.. هناك القبور الموهومة التي ليس بها أي دفين، فلقد (وُجِدت بعض الأضرحة الوهمية التي لا يوجد بها جثمان لأحد المشايخ، بل عبارة عن هيكل أو كوم من الطوب تحت قبة توارث الناس الاعتقاد فيها، وتفيد محافظ المجلس الصوفي عن حالة كهذه... واتضح أنه ليس هناك شيخ، بل هناك كوم تراب يدعونه الناس سيدي فرج).

ولأن أمر هذه القبور المكذوبة والموهومة أصبح شائعاً، ولأن الأمر ليس في حقيقته إلا إشباع التأله في القلوب، فقد قرروا ذلك في صراحة، فقال أحدهم: (ولا يحتاج أن يطلب دليل وسند لصحة نسبة هذه الآثار إلى أصحابها، ويكفي أن تكون نسبتها مشهورة بين الناس) ، وقال الآخر: (وعلى كل حال: فلا بأس من زيارته [اي: القبر] على من توهم من وجوده) ، فالمهم أنه (يجب علينا التسليم في ذلك كله، واعتقاد تعظيم القبور المذكورة بما يعد تعظيماً، وبكل ما يليق من الاحترام، ولو على تقدير توهم الصحبة...) ، ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر إلى أَضْرَحة (دواب الأولياء)، ففي اللاذقية بسورية حضرة يقال إنها مدفن الفرس التي كان يركبها الولي المغربي، لا تزال حتى اليوم تزار وتبخر، فالقبوريون عباد كل ضريح حتى لو ثبت عدم صحة نسبة الضريح إلى صاحبه أو كان الضريح لدابة أو ثبت عدم وجود قبر أصلاً.

وما دام الأمر كذلك، فما الفرق بين كوم تراب وحجارة أو أخشاب أو نحاس... أو أي شيء من المخلوقات؟.. لا فرق.. المهم وجود (السر) والتوجه إلى صاحبه!..

وهذا ما أوقع القبوريين في وثنية صريحة لا خفاء فيها ولا مواربة.

ففي الهند (يأخـذون قليلاً من التراب من مكـان ما، ويعطونـه حكم نعـش الإمام الحسين ، ويضعونه على مكان مرتفع كصُفّة وغيرها، ثم يقدمون له كل يوم أنواعاً من الشراب والحلاوة، والزهور والعطور وغيرها، ولا يسمحون لأحد أن يمر بتلك الصفة متنعلاً، ويسجدون لذلك التراب الذي أعطوه حكم قداسة جنازة الحسين ، ويطلبون منه المال والأولاد...).

ولـقــد شاهد الشيخ محمد رشيد رضا بعض الرجال والنساء من العامة في مسجد (الحسين) بالقاهــــرة (يطـوفـــون بعمود من الرخام، ويتمسحون به التماساً للبركة وتقرباً إلى (السيد البدوي)! معتقدين بأنـــه يجلس بجانب هذا العمود عند زيارة جده الحسين، ومنهم من يزعم أن روح السيد ترفــــرف دائماً هناك..) ، وفي نابلس بفلسطين عمود حجري كان مقدساً قبل الإسلام فوجد من يطلق عليه بعد انحراف الناس عن دينهم الحق: قبر الشيخ العمود.

وفي أوزبكستان أوقع الفراغ الروحي الذي خلفته الشيوعية الناس هناك في التعلق بأي شيء (مقدس)، وهذا ما دعاهم إلى ترتيب عملية سطو منظمة للظفر بقطعة من كسوة الكعبة، ومن ثم: جلبوها إلى بلادهم ووضعوها في إطار زجاجي علق في فناء المسجد؛ ليأتي الناس للتمسح والتبرك بها، كما يتبركون ويتمسحون هناك أيضاً بصورة الكعبة!.

بل ويتزاحم الناس في مولد البدوي بمصر (حول حمار يأتي به دراويش الطريقة الـشـناوية إلى قبر السيد، فيتسابقون لنزع شعرات من جسمه يصنعون منها الأحجبة، وهذا بالضبط ما كان قدماء المصريين يفعلونه بهذا الحيوان!).. إلى غير ذلك من مظاهر لا يقبلها عـقـل رشيد ولا دين صحيح.

هـذا مـا تيســر ذكــره حـســـــب المصادر المتاحة لي، وهي تعتبر عينة عشوائية لما يحدثه القبوريون في معظم أنحاء العالم الإسلامي..

فما الذي دعاهم إلى هذا الاعـتـقـــاد وتقديم هذه القرابين والطقوس غير إغواء الشيطان لهم بالتأله لغير الله؟.. وإلى أي مدى تـأخــــذ الخـرافـة والوهم والدجل من يريدون أن يضيئوا حياتهم بقبس من الظلمات؟

  • الاربعاء PM 04:31
    2021-08-04
  • 1055
Powered by: GateGold