المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415372
يتصفح الموقع حاليا : 244

البحث

البحث

عرض المادة

المســـألة الشـــرقية ورجــــل أوربـــا المريـــض

المســـألة الشـــرقية ورجــــل أوربـــا المريـــض
The Eastern Question and the Sick Man of Europe
«المسألة الشرقية» ترجمة للعبارة الإنجليزية «إيسترن كويستشن Eastern Question» وهي مصطلح غربي إمبريالي يُجسِّد وجهة النظر الغربية تجاه الدولة العثمانية (التي كان يشار إليها أيضاً باعتبارها «رجل أوربا المريض»)، والمصطلح يحدد النطاق الدلالي ومحيط الرؤية بشكل مدهش:


1 ـ فالدولة العثمانية عبارة عن مسألة ومشكلة تستدعي الحل، وهذا هو الإجماع الغربي.

2 ـ والدولة العثمانية رجل مريض، وهو ما يعني أن هناك تركة لابد من تقسيمها وأنه يمكن توظيف هذا الرجل المريض العاجز لصالح من يملك زمام الأمور.

3 ـ يخبئ المصطلح المشروع الإمبريالي الغربي أو ما نسميه «رجل أوربا النهم» الذي كان قد التهم معظم أنحاء العالم بعد أن انفتحت شهيته في أعقاب اندلاع نيران الثورة الصناعية الرأسمالية (والإنتاجية الاستهلاكية).
4 ـ يخبئ المصطلح أيضاً احتمالات الإصلاح من الداخل كما حدث مع محمد علي الذي كان بإمكانه إجراء عملية جراحية لرجل أوربا المريض لشفائه أو لتقسيمه على ورثته الحقيقيين،أي شعوب المنطقة.

5 ـ لا يبين المصطلح أن رجل أوربا النهم قد اكتشف أن مصيره (أو على الأقل امتلاء معدته التي لا قرار لها) يتوقف على مدى ضعف الرجل المريض ونهايته.

ويمكن تقسيم علاقة الرجل المريض بالرجل النهم إلى عدة مراحل، وما يهمنا هو أواخر المرحلة الأولى حينما وصلت القوات العثمانية إلى فيينا عام 1529. ثم وقعت معركة لبانتو (1571) بين الأسطول العثماني والأسطول الإسباني (تسانده الدويلات البابوية والمدن الإيطالية) وتَحطَّم الأسطول العثماني تماماً. وقد شعرت الجماهير في أوربا بمغزى ذلك النصر وأُقيمت الاحتفالات في لندن التي لم تكن طرفاً في الموضوع. وفقدت القوات العثمانية زخمها وقوة اندفاعها للمرة الثانية والأخيرة عام 1683 حينما حاصرت القوات العثمانية فيينا وتم صدها، ويرى البعض أن المسألة الشرقية بدأت منذ هذا التاريخ فبعد هذا التاريخ بدأ التراجع العثماني (والإسلامي)، وبدأ التقدم الغربي ومحاولة الاسـتيلاء على ممتلكات الدولـة العثمانية وتقسـيم العـالم الإسلامي. وقد أخذ هذا أربعة أشكال:

1 ـ محاولات الإمبراطورية الروسية والنمساوية توسيع نفوذها وسلطانها على حساب الدولة العثمانية.

2 ـ محاولات إنجلترا وألمانيا منع تفكك الإمبراطورية العثمانية حتى تبقى سداً أمام الأطماع الروسية التوسعية.

3 ـ ظهور القوميات المستقلة في شبه جزيرة البلقان وحولها ( العرب ـ اليونان ـ رومانيا ـ بلغاريا).

4 ـ محاولة استغلال الدولة العثمانية والنيل من سياستها عن طريق الامتيازات الأجنبية.

ومن منظور تَطوُّر الصهيونية، ما يهمنا في المسألة الشرقية هو مصير فلسطين. ومن ثم، فإن عام 1841 تاريخ حاسم تم فيه القضاء على محمد علي وفرض السلام الأوربي على الشرق!

مع ظهور محمد علي، طُرحت الإمكانية الحقيقية لإعادة العافية إلى رجل أوربا المريض أو لأن يقوم أصحاب المنطقة بحكمها (ملء الفراغ الناجم عن موت الرجل المريض)، وهو الأمر الذي لم يكن ليقبله رجل أوربا النهم. وقد تبلور المشروع الصهيوني غير اليهودي تماماً، وخرج من دائرة الديباجات الدينية المشيحانية ودخل عالم المشاريع الاستعمارية إذ اكتشف الاستعماريون الإنجليز أن بالإمكان توظيف المسألة الشرقية في حل المسألة اليهودية وتوظيف المسألة اليهودية في حل المسألة الشرقية. فقد اكتشف الإنسان الغربي أن من الممكن نقل المادة البشرية اليهودية (التي كانت تشكل المسألة اليهودية) إلى فلسطين لتصبح عنصراً منتجاً هناك، يشكل دولة وظيفية تابعة لإنجلترا تستوعب الفائض البشري وتساعد الدولة العثمانية على التماسك لتظل حاجزاً أمام الأطماع الروسية، فالحل الصهيوني للمسألة اليهودية هو نفسه الحل الغربي الاستعماري للمسألة الشرقية. وقد دارت المشاريع الصهيونية الغربية (غير اليهودية) في هذا الإطار.

ومن هذا المنظور، يمكن أن نرى أن التراجع المستمر للدولة العثمانية، واضطرارها لتقديم التنازلات القانونية الكثيرة (الامتيازات الأجنبية)، كان يعني اتساع الثغرة التي سمحت للفائض البشري اليهودي بالتسلل. ومن المعروف أن الدولة العثمانية كانت ترحب بهجرة اليهود إليها منذ عملية طردهم من إسبانيا. ومع تَزايُد تَدخُّل الدول الأجنبية، وتَزايُد الأطماع في فلسطين، بدأت الدولة العثمانية تحاول أن تمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين (مع استمرار فتح الأبواب خارجها). بل فتحت باب الهجرة أمام اليهود إلى فلسطين شريطة أن يتجنسوا بالجنسية العثمانية، أي شريطة أن يتحولوا من عنصر استيطاني (قتالي) غريب إلى عنصر وطني محلي (وكانت هذه هي السياسة الرسمية حتى عام 1914). وكانت الدول الكبرى تتدخل لحمل الدولة العثمانية على السماح لليهود بالاستيطان في فلسطين وملكية الأراضي فيها، فاضطرت الدولة العثمانية إلى إصدار قرار عام 1867 بمنح الأجانب حق ابتياع الممتلكات في فلسطين، وهو القرار الذي استفادت منه الجمعيات التبشـيرية المسـيحية والجماعات الاسـتيطانية المسيحية مثل فرسان الهيكل، كما استفاد منه المستوطنون الصهاينة في مراحل لاحقة. وحينما حاولت الدولة العثمانية منع اليهود من امتلاك العقارات في فلسطين (عام 1884)، ادَّعت الدول العظمى أن هذا خرق لنظام الامتيازات. وكان قناصل الدول الغربية يستخدمون نفوذهم لتسهيل عملية استيطان اليهود. وحين صدرت قرارات تحرِّم هجرة اليهود (غير العثمانيين) عام 1888 ثم عامي 1891 و1898، عبَّرت الدول الغربية عن استيائها وساعدت المهاجرين على التحايل على هذه القوانين.

ويمكن أيضاً أن نفهم كثيراً من تحركات الدول الغربية وموقفها من المشروع الصهيوني في ضوء علاقتها بالدولة العثمانية وتصورها لحل المشكلة اليهودية. وعلى سبيل المثال، كانت الدولة الألمانية ترى ضرورة دعم الدولة العثمانية في مواجهة الأطماع التوسعية الروسية، ولذا فإن حماس ألمانيا للمشروع الصهيوني كان فاتراً للغاية رغم التوجه الألماني القوي للمشروع الصهيوني، ورغم أن الزعماء الصهاينة الأوائل كانوا من الناحية الثقافية ألماناً (وهو على كلٍّ لا يختلف عن فتورهم تجاه المشروع الصهيوني الألماني غير اليهودي: مشروع فرسان الهيكل). ويمكن فهم سلوك إنجلترا في الإطار نفسه، فرغم تحمُّس إنجلترا للمشروع الصهيوني باعتباره آلية مهمة للتخلص من الفائض اليهودي، إلا أن الإمبراطورية الإنجليزية قدمت شرق أفريقيا للصهاينة في البداية (لا فلسطين) لأن السياسة الإنجليزية الرسمية كانت معارضة لتقسيم الدولة العثمانية. وحينما اتُخذ قرار التقسيم أثناء الحرب، اتخذ أيضاً القرار بتأييد تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين ومن ثم صدر وعد بلفور. وانتهت المسألة الشرقية مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية.

ولا تزال المسألة الشرقية مرتبطة تماماً في ذهن الإنسان الغربي بالمسألة اليهودية الصهيونية، ولا يزال رجل الغرب النهم يستخدم الدولة الصهيونية الوظيفية لحل مشاكله الشرقية. وقد قامت الدولة الوظيفية في مرحلة تَصاعُد المد القومي العربي بضرب النظم العربية التقدمية. وفي مرحلة النظام العالمي الجديد وتصاعد المد الديني، تطرح الدولة الوظيفية نفسها باعتبارها الآلية التي يمكن عن طريقها حل المسألة الشرقية (الإسلامية) الجديدة!

الامتيازات الأجنبية
Capitulations
«الامتيازات الأجنبية» اصطلاح يشير إلى المعاملة القضائية والقانونية الخاصة التي تقررت للأجانب الموجودين في أقاليم الإمبراطورية العثمانية بمقتضى مجموعة من المعاهدات، كانت من أوائلها المعاهدتان اللتان أبرمتا مع فرنسا (سنتي 1535 و1740) بقصد تيسير التجارة بين رعايا الدولتين وحماية الأجانب من الخضوع لأحكام الشريعة الإسلامية (التي تستند إليها قوانين الدولة العثمانية). ولم تكن هذه المعاهدات تعاقدية تبادلية، فقد كانت في واقع الأمر تعبيراً عن بداية ضمور الدولة العثمانية وتَحوُّلها بالتدريج إلى رجل أوربا المريض. وقد نشأت نتيجة معاهدات الامتيازات الأجنبية عدة مراكز أو مستعمرات تجارية تركزت فيها التجارة الدولية في عدة مناطق من الدولة العثمانية. وقد أسس الفرنسيون معظم هذه المراكز في بداية الأمر، ولكن لحق البريطانيون بهم في مرحلة لاحقة مع تَزايُد النفوذ البريطاني في الدولة العثمانية. وكانت أهم هذه المراكز التجارية (سالونيكا والقسطنطينية وسميرنا وصيدا وعكا والإسكندرية وحلب والقاهرة والرملة) وهي مدن تضم جماعات يهودية قام أعضاؤها بدور التجار الوسطاء والوكلاء بين البائعين والمشترين، وهو دور اضطلعت به أعضاء الأقليات الإثنية والدينية كافة وتوارثـوه أباً عن جد، وإن كان يُلاحَظ بـروز دور أعضاء الجماعة اليهودية. وكان الوكلاء التجاريون يحصلون على إذن خاص من الدولة العثمانية بممارسة هذه الوظيفة، وكانوا يُعفَون من الضرائب. ومن ثم اسـتفاد كثير من التجـار من هذه الامتيازات وحظوا بحماية الدول الأجنبية. وقد ساهم هذا ولا شك في عزلهم عن البيئة العربية الإسلامية المحيطة بهم حتى تحوَّلوا إلى جماعة وظيفية تدين بالولاء لقوة تجارية وعسكرية خارجية.


وكان من أوائل التجار اليهود الذين تمتعوا بالحماية الأجنبية التجار اليهود في حلب الذين كانوا يحملون اسم «الفرانكوس» (أي الفرنجة)، وقد كانوا تجاراً يهوداً أوربيين وفدوا إلى الشام في القرن السابع عشر واستقروا فيها، وكانوا جزءاً من الشبكة التجارية اليهودية الدولية الممتدة من بولندا (يهود الأرندا) إلى وسط أوربا (يهود البلاط) وغربها (كبار التجار السفارد) والتي غطت الدولة العثمانية وبعض أجزاء من أفريقيا وامتدت إلى العالم الجديد. وقد ظل الفرانكوس تحت حماية الفرنسيين إلى أن أصدر السلطان سليم الثالث خطابات تعيين لهم وأعطاهم مكانة تجار أوربيين تابعين له هو شخصياً.

ويُلاحَظ أنه ابتداءً من القرن التاسع عشر، ومع تعَاظُم النهم الاستعماري الغربي، بدأ قناصل الدول الأجنبية يضعون أعضاء الأقليات تحت حمايتهم لأسباب عديدة ليست بالضرورة تجارية. واتسع نطاق نظام الامتيازات بين يهود العالم العربي حتى أن غالبيتهم العظمى أصبحت تتمتع بها ومن ثم كانت موضوعة تحت حماية الدول الأجنبية، كما كان كثير من اليهود العرب يعملون قناصل للدول الغربية في بلادهم. وقد ورثت الدول العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية نظام الامتيازات.

ولعــب نظــام الامتيــازات دوراً أسـاسـياً في تسـهيل عمــلية الاستيــطان الصهيــوني التســللي. فيهــود فلسطين كانوا أساساً من السفارد المندمجين في محيطهم الحضاري الإسلامي، وقد حاولت عناصر من الإشكناز الاستفادة من نظام الامتيازات فقاوم السفارد هذه المحاولة في 1822 ـ 1823، وُكلِّلت جهود الإشكناز بالنجاح في عام 1840 بعد فتح قنصلية إنجلترا في الفترة 1838 ـ 1839، وبعد إعادة فتح قنصلية فرنسا عام 1843 (بعد أن أُغلقت 130 عاماً). ثم بدأت عملية تغريب اليهود المحليين وتَسلُّل اليهود الأجانب. ومما ساعد على تقوية نفوذ الدول الغربية على يهود فلسطين، مؤسسة الحالوقة وهي الأموال التي كان يدفعها يهود العـالم، الذين كانت غالبيتهم السـاحقة في الغرب، لمساعدة يهود فلسطين. وكان المستوطنون الصهاينة الإشكناز يتسللون إلى داخل فلسطين بأن يحصلوا على تأشيرة دخول كمواطنين أجانب يتمتعون بحقوق خاصة، ثم يستوطنون في فلسطين ولا يغادرونها. وقد سهل لهم القناصل الأجانب هذه العملية.

ويمكن القول بأن نظام الامتيازات الأجنبية هو المسئول عن تحويل يهود الدولة العثمانية والعالم الإسلامي ككل إلى جماعات وظيفية تابعة لدول أجنبية وتدين لها بالولاء وتتمتع بحمايتها. وحاولت الدولة العثمانية التخلص من هذا النظام أو تقليل أضراره دون جدوى إذ أن نظام الامـتيازات كان جزءاً لا يتـجزأ من الهجـمة الإمبريالية الغربيـة على الشرق، وساعد على إحكام قبضة الإمبريالية على دول العالم العربي وعلى تحويل بنيتها السياسية والاقتصادية إلى بنية تابعة. وقد أُلغي نظام الامتيازات في مصـر بمقتضـى معاهـدة مونتريه عام 1937 التـي نظمـت فترة انتقالية (بقيت خلالها المحاكم المختلطة) حتى عام 1949.

  • الاثنين AM 12:01
    2021-04-19
  • 1357
Powered by: GateGold