المتواجدون الآن

انت الزائر رقم : 415434
يتصفح الموقع حاليا : 246

البحث

البحث

عرض المادة

العالم الإسلامي منذ انتشار الإسلام حتى سقوط بغداد على يد المغول

العالم الإسلامي منذ انتشار الإسلام حتى سقوط بغداد على يد المغول
The Islamic World from the Spread of Islam to the Moghul Sack of Baghdad
قبل تَناول الجوانب الإدارية والاقتصادية لوجود أعضاء الجماعة اليهودية في الدولة الإسلامية، قد يكون من المفيد أن نقول إن الحضارة الإسلامية، شأنها شأن معظم الحضارات الشرقية القديمة، تقبل التنوع وعدم التجانس بدرجة أعلى من الحضارة الغربية. فالإمبراطوريات الشرقية كانت تسود فيها إحدى الجماعات الإثنية، ولكنها لم تكن تستوعب الجماعات الأخرى، وإنما كانت تحدِّد حقوقها وحدودها وواجباتها وحسب. وكانت الجماعة السائدة تُعرِّف هويتها، في العادة، من المنظــورين الإثني والديني. أما الجمـاعة السـائدة في الدولة الإسلامية، فقد عرفت نفسها (من الناحية النظرية) على أساس ديني وحسب، وهو أمر يشكل انفتاحاً كبيراً ويحقق فرصاً أكبر للحراك الاجتماعي وللانتماء. ومن المهم أن نشير إلى أن الإسلام أكد وحدة الأديان (على الأقل من الناحية النظرية والمثالية) وجعل إبراهيم أباً للموحِّدين، أباً لكل الأديان. ورغم الاصطدام الذي حدث بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) واليهود، فإن اليهود لم يتحولوا (في الرؤية الإسلامية للكون) إلى الآخر أو القتلة، كما حدث في المسيحية حين ارتبط اليهود بحادثة الصلب التي يشار إليها بعبارة «قتل الرب»، بل ظلوا أهل ذمة وأهل كتاب. بل يمكن القول بأن اليهود كانوا أحسن حظاً من المسيحيين إذ أن القوة المضادة للفتح الإسلامي كانت الدولة الفارسية (المجوسية) التي تم القضاء عليها بسرعة، ثم الدولة الرومانية الشرقية (المسيحية) التي استمرت الحرب معها سجالاً عدة قرون. ومعنى هذا أنه لم تكن هناك قوة يهودية دولية مضادة.

ويمكن القول أيضاً بأن مقدرة اليهود على التكيف مع الفتح الإسلامي كانت أعلى بكثير من قدرة الجماعات الأخرى. فلم يكن اليهود أغلبية، ولذا كانت عندهم المهارات المختلفة اللازمة للتعايش باعتبارهم أقلية داخل مجتمع تحكمه أغلبية منتصرة. وقد تَمكَّن فقهاء اليهود من تطويع القانون التلمودي حتى يتسنى لليهود التعايش بسهولة ويسر كأقلية ليس لها مركز ديني، وطوروا مقولة إن قانون الدولة هو القانون أو الشريعة، أي أن الأمور الدنيوية لا يحكمها القانون التلمودي وإنما قانون الدولة نفسها.

ولم يكن اليهود (ولا المسيحيون) عنصراً وافداً جديداً على المجتمع العربي الإسلامي، فجذورهم فيه قديمة حيث يعود تاريخ الجماعة اليهودية في بابل إلى أيام التهجير البابلي، كما انتقل مركز اليهود إلى بابل قبل الفتح الإسلامي بقرون.

وفي نهاية الأمر، لم يكن اليهود الأقلية الوحيدة في العالم الإسلامي مثلما كانوا في أوربا المسيحية، وقد عرف الشرق الأدنى القديم عشرات الأقليات الدينية والإثنية التي كان على الإمبراطوريات القديمة تنظيم التعامل معها. وقد استمر الإسلام في تقاليد التسامح وتَقبُّل التنوع، ولم يجد اليهود أنفسهم يلعبون دور الغريب أو الآخر الذي تحيط به هالات ميتافيزيقية.

ومما يجدر ذكره أن اليهود، عند الفتح الإسلامي، لم يكونوا عنصراً واحداً متجانساً فقد كان هناك يهود الرومانيوت الذين يتحدثون اليونانية (في الإســكندرية وفي أجـزاء أخرى من الدولة الرومانيـة الشرقية)، كما كان يوجد يهود يتحدثون الآرامية في الإمبراطورية الفارسية وفلسطين، وانضمت إليهم قبائل اليهود المستعربة التي طُردت من الجزيرة العربية ووُطنت خارجها. ومما له دلالته أن هذه القبائل لم تطلب توطينها في فلسطين أو في القدس. ومن المفارقات أن هذه المجموعة المستعربة كانت بمنزلة النواة العربية القوية التي ساعدت بقية الجماعات اليهودية على استيعاب اللغة والحضارة العربية. وعلى المستوى الديني، كانت اليهودية الحاخامية التلمودية قد فرضت سـيطرتها، وكانت المدرسـة البابليـة بالذات صاحبة السلطـة والشرعية. ولكن هذا لم يمنع وجود بعض الفرق اليهودية المختلفة، فيهود الجزيرة العربية كانوا لا يعرفون التلمود، ويبدو أنه كانت تُوجد بقايا للصدوقيين أو لفكرهم. كما كان هناك أيضاً اليهود السامريون (وقد شكل كل هؤلاء نواة حركة القرّائين فيما بعد). وكانت أغلبية يهود العالم يوجدون في المناطق التي فتحها المسلمون، ويشكلون نحو 1% من السكان في هذه المناطق، كما أن نسبتهم كانت أكبر في المدن.

ومع هذا، فمن الضروري إضافة أن التسامح والعدل كانا يسمان فترات الاستقرار والانتصار، كما كانت تتسم بهما سياسة الحكومات في وسط العالم الإسلامي. أما في فترات التراجع، حيث كان يخشى فيها المسلمون من الغزو الخارجي، وفي الأطراف (المغرب، إيران... إلخ) حيث كانت مهددة دائماً بالغزو؛ أي في الأمكنة والأزمنة التي تهتز فيها ثقة الأمة بنفسها وبمقدرتها، فإن التسامح لم يكن صفة ملازمة لسلوك الدولة، كما لم يكن العدل ديدنها بالضرورة، فكانت تَصدُر تشريعات خاصة للتمييز ضد الذميين في الزي وخلافه مما يتطلبه أمن الدولة. ولكن من المعروف أيضاً أن مثل هذه التشريعات صدرت في بعض الأحيان التي ازداد فيها التمازج والاندماج بين المسلمين والذميين، فكان الفقهاء الذين يخشون على الهوية الإسلامية أو على السلطة الإسلامية يطلبون استرجاع مثل هذه التشريعات، وكانت الدولة تؤيدهم في ذلك لأنه يسهّل عملية تسيير دفة الحكم، ولأسباب أخرى.

ويمكن القول بأن وضع اليهود السياسي والقانوني كان يشبه، من بعض الوجوه، وضعهم في الإمبراطوريات القديمة، وخصوصاً الإمبراطورية الفارسية الساسانية، في فترات ازدهارها. وقد استمرت المؤسسات الدينية والإدارية التي ظهرت إبّان عصر الإمبراطورية الساسانية حيث كان يتولى قيادة الجماعة رئيس يُسمَّى رأس الجالوت «المنفى» يختاره أعضاء الجماعة اليهودية بأنفسهم؛ له السلطة الكاملة على أبناء جماعته ويقوم بتنظيم العلاقات فيما بين أبناء الجماعة من ناحية وبينهم وبين الدولة من ناحية أخرى. وقد اعترف المسلمون بمنصب رأس الجالوت.

ومن الميزات الأساسية للجماعات اليهودية داخل المجتمعات الإسـلامية في تلك الفترة عدم وجـود تفرقة اقتصادية أو تمايز وظيفي مهم، بل كان اليهود يشاركون في معظم مجالات الحياة وفي كل المهن والحرف تقريباً. وكانت ملكية الأراضي مفتوحة أمامهم، كما أنهم تملكوا العقارات في كل أنحاء البلاد وتناقلوها عن طريق الوراثة أو عمليات البيع والشراء فيما بينهم وبين المسلمين دون أية مضايقات. وكان لهم مطلق الحرية في العمل التجاري بلا حدود. وكانت نقابات الحرفيين والمهنيين مفتوحة للجميع بغض النظر عن أي دين أو مذهب أو أصل. وقد شغل اليهود أعلى الوظائف الحكومية شريطة أن تكون الوظيفة ذات طابع تنفيذي ولا تعطي صاحبها سلطات تشريعية أو سياسية، ذلك أن الدولة الإسلامية كانت ترى أن مثل هذه الوظائف لابد أن يشغلها مسلم لاعتبارات أمنية.

ولكن، ورغم عدم وجود تمايز وظيفي، كان يجري استبعاد أعضاء الجماعات اليهودية في العالم العربي الإسلامي من بعض الوظائف الإستراتيجية بحكم انتمائهم إلى أقلية، فكان معظم الذميين يعملون في الدرجات الدنيا والوسطى، ولم يصل إلى الدرجات أو المراتب العليا إلا نسبة صغيرة، إذ كانت هذه الوظائف مقصورة على المسلمين أو على من اعتنق الإسلام من الذميين. وقد تَركَّز اليهود أيضاً في الوظائف والمهن التي تتطلب التعامل مع غير المسـلمين مثل التجـارة الدوليـة والجاسـوسـية والدبلوماسـية والترجمة. كما أن المجتمعـات التقليدية، رغبةً منها في تسهيل عملية الإدارة ونقل الخبرة، كانت تركز بعض الوظائف والمهن في أسر وأقليات معيَّنة، بحيث تصبح هذه الأسر أو الأقليات جماعات وظيفية. ويُلاحَظ تركز اليهود في التجارة والمال والحرف مثل: الصباغة والدباغة ونسج الحرير، وفي بعض الحرف الوضيعة مثل: جمع القمامة وتنظيف البالوعات وتجفيف مخلفات المجاري لاستعمالها كوقود. كما كانوا يعملون أيضاً جزارين ومنفذين لأحكام الإعدام. وكانوا يعملون في بعض الحرف المتميِّزة،مثل:الطب والترجمة والكتابة.وتبين وثائق جنيزة القاهرة التي تعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي أن اليهود كانوا يعملون في أربعمائة وخمسين مهنـة وحرفـة، منها مائتان وخمسـون حرفة يدوية لم تكن بالضرورة وضيعة.

وعند الفتح الإسلامي، كان أعضاء الجماعات اليهودية يشتغلون بالزراعة وتربية الماشية، وكانت أكثريتهم تمتهن الحرف اليدوية. ولكن، مع نهاية العصر الأموي وبداية العصر العباسي، تغيَّر الوضع تماماً نظراً لما يسميه بعض المؤرخين "الثورة التجارية في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين". وتعود هذه الثورة التجارية إلى أن الفتح الإسلامي قد وحَّد منطقة الشرق بعد أن تقاسمتها عدة إمبراطوريات ودويلات لمدة طويلة. وقد تم الاستيلاء على ثروات كبيرة كانت محبوسة في الكنائس والأديرة وقصور الملوك على هيئة تماثيل ذهبية ومعدنية تحوَّلت كلها إلى رأسمال كان من السهل انتقاله. وقد واكب ذلك ظهور عمالة رخيصة بسبب توحيد السوق، وسقوط الإطار الطبقي الهرمي القديم الذي كانت تعضده الديانة المجوسية والكنيسة الأرثوذكسية الرومانية، والهجرة من القرية إلى المدينة. وساهمت حركة البناء الضخمة التي أعقبت الفتح الإسلامي في تنشيط الحركة التجارية، وساهمت الطرق التي شُقَّت في تسهيل انتقال رأس المال والعمالة والخبرات والسلع.

والواقع أن كل هذه العناصر ما كانت لتسبب ثورة تجارية لو لم تكن النخبة العربية الحاكمة ذات أصول تجارية من قريش واضطلعت بالتجارة الدولية من قبل (رحلة الشتاء والصيف)، ولم تكن هذه النخبة تنظر إلى العمل التجاري أو المالي باعتباره عملاً وضيعاً. وقد غيَّرت الثورة التجارية وضع اليهود تماماً فعملوا بالتجارة المحلية والدولية والصيرفة والربا. ومع حلول القرن العاشر الميلادي، كانت المؤسسات المصرفية اليهودية تقوم بإقراض الدولة سواء في بغداد أو القاهرة. ومن أشهر التجار الدوليين في ذلك الوقت (القرنين السابع والتاسع الميلاديين) التجار الراذانية. وقد أدَّى كل ذلك إلى ظهور طبقة يهودية وسيطة (كبيرة وذات نفوذ) تشكل جزءاً أساسياً من المجتمع لا تضطلع بوظيفة اقتصادية محددة مقصورة عليها كما كان الحال في أوربا، وإنما تقوم بنشاط اقتصادي مشروع ومقبول من المجتمع ككل باعتباره نشاطاً مهماً وجوهرياً ورفيعاً. ولذا، لم يتعرض اليهود لمثل تلك المذابح أو الهجمات التي كانت تُدبَّر ضدهم في أوربا إما بإيعاز من النبلاء الذين كانوا يرون فيهم أداة الملك أو من تجار المدن الذين كانوا يرون فيهم منافسين لهم، بل قامت شركات تجارية بين المسلمين والذميين. والواقع أن الطبقة التجارية المحلية في العالم الإسلامي كانت قوية لا تخشى التجار الذميين بل تراهم مكملين لها. كما لم يكن اليهود عرضة للاستياء الشعبي بسبب ممارستهم الربا، فهذه وظيفة كان يضطلع بها أيضاً المسيحيون من جميع الجنسيات، بل بعض المسلمين. أي أن اليهود عاشوا في صلب المجتمع الإسلامي، لا في مسامه كما كان الحال مع بعض الجماعات اليهودية في أوربا في مرحلة تاريخية معيَّنة.

ويبدو أن المكانة الخاصة التي يشغلها التجار في الحضارة الإسلامية انعكست على الجماعات اليهودية، فكانت النخبة التجارية تشكل العمود الفقري للنخبة الدينية اليهودية وتتحكم فيها. وكثيراً ما كان يُجنَّد رؤساء الحلقات التلمودية في العراق من بين صفوف التجار حتى قبل الفتح الإسلامي. وقد ظهرت طبقة ثرية قائدة بين اليهود تشكل القيادة الحقيقية للجماعة (وهو وضع يشبه وضع اليهود في الولايات المتحدة حالياً). ولعبت هذه الطبقة من التجار والمموِّلين دوراً أساسياً في حياة الجماعة، فقد كانوا جهابذة وصيارفة بلاط أو صيارفة حكومة أو مموِّلين كباراً يتحكمون في تعيين رأس الجالوت. وبسبب نفوذهم، تمكَّن سعيد بن يوسف الفيومي (سعديا جاؤون) (882 ـ 941) من أن يبقى رئيساً لحلقة سورا لمدة عامين حتى بعد أن طرده رأس الجالوت. كما كان اليهود الراذانية مسيطرين على حلقة بومبديثا التلمودية. ويُلاحَظ أن طبقة التجار كانت تتحد دائماً مع الفقهاء ضد رأس الجالوت الذي كان يُقال إنه من نسل داود. وهذا التحالف يمثل النخبة التي تستند إلى المال والمقدرة الفكرية مقابل النخبة التي تستند إلى الميراث. وهذا يشبه من بعض الوجوه صعود الموالي في المجتمع الإسلامي مستندين إلى المال والمقدرة الفكرية، مقابل الأرستقراطية العربية التي تعتمد على الحسب والنسب.

ويمكن القول بأن الحلقات كانت في واقع الأمر شبكات تجارية أيضاً، فكانت المراسلات الدينية والتجارية ورأس المال والفتاوى تتنقل من خلال القنوات نفسها. وكثيراً ما كان رئيس الجماعة اليهودية (المقدَّم) يضطلع في منطقة ما بوظيفة الحاخام والوكيل التجاري لعديد من الشركات. وحتى بعد انفصال مصر ودول أخرى عن الدولة العباسية وظهور وظيفة النجيد أو رئيس اليهود، ظلت الشبكة التجارية الدينية دون تَغيُّر كبير. ويُلاحَظ أن هذه الشبكة لم تكن مقصورة على التجار والمموِّلين وحسب، وإنما استفادت من وجود آلاف الحرفيين والمهنيين اليهود كما استفادوا هم أيضاً منها. وهذا لا يعني أن الجماعة اليهودية كانت تمثل دولة داخل دولة أو أنها تمتعت بالاستقلال الاقتصادي أو كوَّنت بورجوازية يهودية مستقلة أو ما شابه من ادعاءات، فلقد كان اليهود جماعة صغيرة مدمجة تماماً في المجتمع. وتشكل أواصر القرابة والتضامن الديني في المجتمعات التقليدية عناصر أساسية تضمن الحد الأدنى من الثقة الذي ييسر عمليات الائتمان والتجارة. ولذا، كان التجار اليهود يستعينون بالمموِّلين والحرفيين اليهود، تماماً مثلما كان التجار المسيحيون يستعينون بالمموِّلين والحرفيين المسيحيين. وكان الجميع ينتمون إلى الإطار الحضاري الإسلامي الأكبر.

وقد أدَّى وجود الجماعات اليهودية داخل الإطار الحضاري الإسلامي الموحَّد إلى سهولة حركة اليهود برؤوس أموالهم وأفكارهم وإلى تمازجهم، فاندمجت الجماعة اليهودية إلى حد كبير في المجتمع العربي الإسلامي. وتتضح درجة الاندماج الاجتماعي والاقتصادي العالية في أن تركيب اليهود الطبقي لم يكن يختلف عن تركيب المجتمع ككل. ويظهر الاندماج الثقافي في أن لغة أعضاء الجماعة اليهودية، سواء في الحديث اليومي أو في أدبياتهم الدينية أو الدنيوية، هي العربية. وحينما قام سعيد الفيومي بترجمة التوراة في القرن العاشر الميلادي، أشار إلى الآرامية باعتبارها لغة الآباء. بل تأثرت نظرتهم إلى العبرية نفسها بمعرفتهم بالعربية، وهو ما أدَّى إلى بعثها وتجديدها، فاهتموا بمفرداتها ونحوهـا وصرفهـا ووضعوا لها المعاجم. وقد تأثر الأدب العبري، وخصوصاً الشعر، بالأدب العربي، فأخذوا الأوزان والقافية من الشعر العربي. كما تأثر التراث الديني اليهودي بالتراث الديني الإسلامي إلى درجة أعمق من تأثره بالهيلينية، فظهر أساطين الفكر العربي الإسلامي اليهودي مثل سعيد بن يوسف الفيومي وطائفة القرّائين (منتصف القرن الثامن)، وجمعت الهلاخاه (الشريعة) وصُنِّفت على طريقة المصنفات الفقهية الإسلامية، وأصدر علماء اليهود الفتاوى على نمط الفتاوى الإسلامية.

وقد يكون من المفـيد أن نميِّز بين اصطلاحي «مسـلم» و«إسلامي»، فالمسلم هو من يؤمن بالعقيدة الإسلامية، أما كلمة «إسلامي» فتشير إلى الخطاب الحضاري الإسلامي الذي يشارك فيه جميع أعضاء الأمة (بالمعنى الحضاري والسياسي) من مسلمين ويهود ومسيحيين.

ولا يمكن فَهْم التراث الديني اليهودي في هذه المرحلة إلا بالعودة إلى التراث الإسلامي؛ الفلسفي والديني. ويمكن القول بأن تَفاعُل أعضاء الجماعة اليهودية مع الحضارة الإسلامية أمر لا نظير له في أية حضارة أخرى. وتجب ملاحظة أن بروز اليهود في الحضارة الغربية الحديثة، وتفاعلهم معها، لم يتم إلا بعد أن تمت علمنتهم وتخلوا عن أية هوية دينية يهودية، على عكس النجاح الذي حققوه في إطار الحضارة العربية الإسلامية إذ حققوه باعتبارهم يهوداً ذوي هوية دينية مستقلة. ولكن ما تجدر الإشارة إليه أن يهود العالم الإسلامي لم تظهر منهم شخصيات فكرية يهودية ذات ثقل كبير، على عكس يهود الأندلس الذين ظهر منهم موسى بن ميمون (1135ـ 1204) ويهودا اللاوي (1080 ـ 1140) وغيرهما من مفكرين وشعراء. ولعل هذا يرجع إلى أن العراق كانت توجد بها تلك الحلقات التلمودية التي كانت تدور داخل إطار تقليدي لا يزال فيها التفكير الديني لليهودي ضيقاً محدوداً برغم تأثرهم بالتراث الديني الإسلامي. ويُلاحَظ أن الفكر القرّائي الذي عبَّر عن هذا التأثر جرت محاصرته ورفضه من قبَل أعضاء الجماعات اليهودية. وهذا على عكس ما بدا من يهود الأندلس الذين لم يؤسسوا مدارسهم الدينية إلا بعد أن تم تعريبهم وبعد أن أخذت نخبتهم تتشرب الحضارة العربية الإسلامية. وبالتالي، كانت التقاليد الفكرية داخل هذه الحلقات تسمح لهم بالانفتاح الكامل على الحضارة العربية الإسلامية، حيث أمكنهم الإبداع من داخلها فأنتجوا أهم كلاسيكياتهم الفكرية والأدبية التي ظلت تحتل مكان الصدارة حتى العصر الحديث.

وقد تدهور وضع اليهود بتدهور وضعهم في العالم الإسلامي ككل، وهو تدهور نجم عن انقسام العالم الإسلامي (في العصر العباسي الثاني وبعده) إلى دويلات وإمارات مختلفة، الأمر الذي أدَّى إلى انقسام اليهود أنفسهم. وقد تدهور حال الطبقة الوسطى في العالم الإسلامي ككل بعد أن توقفت الثورة التجارية وتآكلت نتيجة ظهور الجمهوريات البحرية الإيطالية التي أخذت تتحكم في التجارة الدولية. وقد نجم عن ذلك أن المصدر الأساسي للعوائد في الدولة أصبح متمثلاً في الضرائب والمكوس، وهو ما جعل الجزية أمراً مهماً للغاية تسعى الدولة إلى تحصيلها بشتى السبل.

وقد ازداد التراجع الإســلامي بعـد الهجـوم المسيحي المتمثل في حـروب الفرنجــة ثم الهجـوم على الأندلــس وصقلية، وهـو هجـوم صاحبـه تنكيــل بالجمـاعات الإسلامية التي وقعت تحت حكم المسيحيين. ثم كان هناك الغزو المغولي عام 1258 الذي أدَّى إلى الكارثة التي حاقت بالعالم الإسلامي وأجهضت كثيراً من إمكاناته. وقد تحسنت أحوال اليهود والمسيحيين تحت حكم المغول الذين كانوا وثنيين يضمون عناصر مسيحية وتعاونوا مع الذميين كعادة الغزاة. لكن استمرار تدهور العالم الإسلامي وتدهور الجماعات اليهودية فيه امتد حتى الفتح العثماني. ويُلاحَظ أنه، في القرن الثالث عشر الميلادي، كانت أغلبية اليهود، ولأول مرة في التاريخ، تعيـش في أوربا (وضمن ذلك إسبانيا) وليس في الشرق الأدنى.

  • الاحد PM 11:56
    2021-04-18
  • 867
Powered by: GateGold